جمانة حداد

"لا أعلم أيّا من شخصياتي على حق. بلاهة الإنسان ناجمة عن أنه يملك إجابات عن كل شيء. أما حكمة الرواية، فتكمن في أنها تملك سؤالا عن كل شيء".

ميلان كونديرا

فليب روثقرّاء "بورتـنوي وعقدته" و"اللطخة" يعرفون بلا ريب أن الروائي فيليب روث هو الأكثر فضائحية والأقل "لياقة" بين أقلام بلاد العم سام. فكل أعمال هذا الكاتب الأميركي الكبير الموهبة تدور حول هاجس واحد تقريبا، هو "الضلال" الجنسي. كيف يعيش المرء حياته وطبيعته وخيالاته الجنسية، سواء كان شابا أو عجوزا، أميركيا أو فرنسيا، مجنونا أو عقلانيا؟ حول هذا  المحور، شيّد روث أسس مسيرةٍ هي من أبرز المسيرات الأدبية في زمننا المعاصر، مسيرة مربكة ومفاجئة ومزعجة وصادمة لكنها ضرورية وأساسية. وأحد أحدث عناصر هذه المسيرة، وأقواها ربما، كتابه "الحيوان المحتضر"، الصادر حديثا في فرنسا
(أواخر عام 2004) إنما الصادر في الولايات المتحدة منذ عام 2002  روايةٌ مكتوبة بطاقة عنيفة وديناميكية شرسة، لكي يقول لنا روث مجددا إنه من بين كل مآسي هذا العالم، الضياع الجنسي هو المأساة الأكثر هولا وتعذيبا.
ديفيد كيبيش ستيني أشيب صاحب ليبيدو فائر، شديد التعلّق بحريته واستقلاليته و"دون جوان" متطلب
(كنا التقيناه سابقا في كتابي روث "النهد" و"أستاذ الرغبة") يقدّم برنامجا ثقافيا على التلفزيون ويحاضر في إحدى جامعات نيويورك، وهو ذو كاريزما ونفوذ يكسبانه حظوة في عيون طالباته، مما يسهّل عليه تحقيق "رسالته" في الحياة، أي إيقاع الشابات واحدة تلو أخرى في فخ الإغواء الجنسي، إلى أن يلتقي الرجل المسنّ بكونسويلو كاستييو، فاتنة في الرابعة والعشرين ابنة مهاجرين كوبيين أثرياء، تظهر فجأة لتحوّل حياته إلى فوضى اروتيكية كاملة.   
لدى اندلاع ثورة الستينات الجنسية هجر كيبيش زوجته وابنه ليفلت العنان لمغامراته وتجاربه وشراهته الجنسية بلا رقيب ولا قيد ولا التزام عائلي أو عاطفي. لكن على مر السنين، نحت هذا الأعزب العنيد لنفسه حياة منظمة ومعقلنة تحرّر خلالها من عبودية إدمانه الجنسي الاعتباطي، محولا هذا الإدمان تدريجا حلبة يسيطر فيها على غرائزه الجامحة ويختار فرائسه في حكمة الذواقي وتمالكه وتروّيه. إلا أن كونسويلو ذات الجسد الساحر، وهي "تحفة من الشهوانية" كما يصفها البطل، تحطّم رباطة جأشه وتهدم كل قواعده وأنظمته المشيّدة في عناية، فيقع في قعر هاوية التملّك الجنسي المجنون والغيرة المشوِّهة. إذ سريعا ما يتجلى له أن تلك الشابة عاجزة عن اشتهائه، وهو نقصان أو انعدام توازن يدفعه تدريجا إلى الهستيريا، خاصة أنه يعاني منذ اللحظة الأولى عقدة الفارق الكبير في العمر بينهما، ويهجس بأن هذه سوف تكون على الأرجح قصّة حبّه الأخيرة. وعندما تدرك العلاقة بينهما نهايتها، يقع في نفق اكتئاب طويل. هكذا تتحول المغامرة الجنسية، التي بدأت لاهية وخفيفة مثل كل مغامرات كيبيش السابقة، تجربة فقدان وخسارة مؤلمة. ولا يكتفي فيليب روث بتناول الرابط بين الجنس والغيرة، بل يسلط الضوء في المقام الأول على مشاعر الرجل الذي يقع بين براثن وحش لا مفر منه، هو وحش التقدم في السن والعجز الجنسي وتمايل شبح الموت في الأفق. ذلك هو "الحيوان المحتضر" في مناجاة مؤثرة ودراماتيكية لملتهمٍٍ للحياة يشعر بأنه بات على طريق الرحيل عنها. كما أن هذه المعاناة القاسية والقدرية، إذ يرويها لنا البطل في شكل ذكريات بعد مرور ثمانية أعوام على حدوثها، هي أيضا فرصة يغنمها روث ليتحدى طهرانية الولايات المتحدة الخبيثة.
تتسلل فكرة الموت إذن إلى هذه العلاقة الانتهاكية غير المتكافئة لتزيدها لا تناغما وتخلخلا، من خلال السؤال الوجودي الآتي: "ما الذي يمكن المرء فعله عندما يكون في الثانية والستين من العمر وتكون رغبته الملحة في قطف ما يمكن قطفه أقوى من أي وقت مضى؟". الحياة بملذاتها واحتمالاتها الواسعة تهرب كالرمل من بين أصابع كيبيش، وينقلها لنا روث في كتابة موجعة وحادة هي أيضا مثل استكشاف جريء لمعاني الحرية والتعلّق والإروسية والغيرة والشغف والموت.
ويبدو أن هذا الاستكشاف، أو هذه التعرية للتابو، مهمة خاصة أخذها روث على عاتقه منذ البدء، وينجح فيها على نحو باهر على مر أعماله، ناخرا في شكل متزايد جدار المسلمات الذي يحول دون قبول وعي الإنسان المحدود تنوّع العالم المدهش. شخصيات فيليب روث، ونذكر منهم على سبيل المثال ناثان زاكرمان في "الحياة المضادة" و"اللطخة"، وديفيد كيبيش الذي تعرفنا إليه في ثلاث روايات مختلفة، وبورتنوي واعترافاته "الاستمنائية" التي بيع منها ما يزيد على ستة ملايين نسخة في العالم، هؤلاء وسواهم هم مقاومو الزمن الحديث، مقاومو الخبث الاجتماعي، مقاومو الطهرانية المتحجرة، مقاومو العفّة العقيمة، مقاومو الكذب والبرودة والخوف من الاستسلام لنيران الشغف. ولذلك فإن روث منتقدٌ في عنف في الأوساط الأميركية المتشددة، خاصة اليهودية منها لكونه يهوديا. فهو لا يكفّ عن طرح سؤال الحياة بلا جنس ورغبة، وجميع شخوصه تقريبا تواجه رعب الوصول إلى نقطة العجز الجنسي، لا بصفته نهاية مرحلة بل بداية موت، كما لو أن هذه المسألة هي الشرارة المولدة للأفكار لديه.
"الحيوان المحتضر" الذي اختير على لائحة أفضل عشرة كتب لعام 2004 في فرنسا، هو في المقام الأول، على ما عودنا فيليب روث، رواية مذهلة بلا تنازلات ومساومات وتسويات، يظهر فيها الكاتب في أوج موهبته اللغوية وذكائه الاستفزازي وحيويته المتطرفة. إنها رواية الانسحار، والإدمان الجنسي، والمواجهة لا مع الشيخوخة فحسب بل خاصة مع الموت الذي يطوف صامتا في كل منا، فنسمع كيبيش يقول: "أنت فقط عندما تمارس الجنس تنتقم، ولو للحظة واحدة، من كل ما تمقته وما فشلت فيه في حياتك. أكثر ما تكون حيا في صفاء، وتكون نفسك في صفاء، هو لحظة الجنس. ليس الجنس ما يفسد الإنسان، بل كل ما عداه. إنه ليس محض احتكاك، أو محض لذّة سطحية، بل هو أيضا انتقام من الموت. يجب ألا ننسى ذلك أبدا. كلا، ليست للجنس قدرة لا محدودة، أنا اعرف حدوده جيدا، ولكن هل من قدرة أعظم منه؟".
غالبا ما يردد فيليب روث، المولود في ضواحي نيويورك عام 1933 والذي أصدر لتوه كتابا عنوانه "المؤامرة على أميركا" أن كتابة كتاب تشبه إيجاد حلّ لمشكلة. وهو مترجم إلى لغات عديدة ويتردد اسمه خلال الأعوام الأخيرة بين المرشحين لجائزة نوبل للآداب. كتابه الأول "وداعا كولومبوس" نال الجائزة الوطنية للكتاب عام 1960، وفاز مرتين بالجائزة الوطنية لأوساط النقاد، عام 1987 لـ"الحياة المضادة" وعام 1992 لـ"الميراث"، كما حصل على جائزة بوليتزر المهيبة عام 1997. هذا الرجل المتحفظ والبعيد عن الأضواء والكاره للصخب والقليل الكلام، الذي يقيم في بلدة صغيرة في كونيكتيكت، يمثل أحد استثناءات الحياة الأدبية الأميركية القائمة غالبا على النجومية. وتنبأ كثر مرارا بأفول نجمه، وحكي الكثير عن نضوب موهبته، وعن فشله في تخطي النجاح الضخم الذي شهدته روايته الفضائحية "بورتنوي وعقدته" (1970) وعن وقوعه رهينة دوامة هذا الكتاب المغناطيسية. لكنه أثبت عملا وراء عمل، وخاصة بعد تجاوزه عتبة الستين، وبعد عودته من بريطانيا حيث عاش ردحا من الزمن، أنه قادر باستمرار على إعطاء المزيد والأفضل وعلى استثمار شياطينه على نحو أكثر جنونا وذكاء، لكي يصف الإنسان العالق في "الفخ" وهشاشته. إنه كاتب يحيا من "سمومه"، مثلما يصف نفسه، لكنه يحيا أيضا وخاصة من صراحة قلمه التي تدرك أحيانا حد الصلافة، وهو الذي يعتبر المجاز تزويرا، ويؤكد على أن البراعة الأدبية كامنة في غياب الالتباس وفي الاحتفاء بالحقيقة الواضحة والجميلة وإن كانت صعبة ومؤلمة.
"مهما تعلّمتَ، مهما فكّرتَ، مهما عرفتَ وخطّطتَ وتآمرت، لا يمكن أن تتفوّق على الجنس": هذا ما يعلنه "الحيوان المحتضر". عمل آخر يتناول العلاقة المباشرة بين إروس والموت في ذكاء وجرأة وشفافية، ولن يكون الأخير.

 (النهار).
www.joumanahaddad.com