"نرجو ان ترسلي لنا مختارات من قصائدكِ ونماذج من كتبكِ وفيديو كليباتكِ": قرأتُ هذه الجملة، الواردة في نص دعوة للمشاركة في مهرجان شعري أوروبي كبير، مرتين، قبل ان "استوعب" الفكرة. ظننت للوهلة الأولى ان ثمة خطأ ما، وان الأمر لا بد اختلط على مسؤولي المهرجان، الذي يشمل عروضا موسيقية كذلك، فمزجوا بيني وبين فنانة أو مغنية. لكني عند القراءة الثانية تأكدت أن لا لبس في الموضوع: لقد كتبوا بوضوح، وبطبيعية توحي أن الموضوع من البديهيات، "كتبكِ ويديو كليباتكِ".
فيديو كليباتي؟! فكّرتُ للوهلة الأولى مستغربة؛ ومنذ متى للشاعر فيديو كليبات؟
إنها "صرعة" جديدة في الغرب، انطلقت من ألمانيا وايطاليا تحديدا: إنتاج غير مكلف، تقنيات تصوير بسيطة، تنقذها سيناريوهات أوريجينال وسبل إلقاء غير تقليدية للقصائد. لكي تصل الكلمة اليوم، الصوت لم يعد كافيا (فكرة السي دي الشعري صارت على ما يبدو بائتة): الصورة أصبحت من ضرورات العصر. حتى في الشعر.
المهرجان المذكور أعلاه يُعنى في شكل خاص بالشعراء الشباب، المولودين بين عامي 1968 و1978، محوره الرئيسي كيف يمكن الشعر ان يعكس زمنه ومجتمعه، وان يجسّد الاتجاهات الأكثر تعبيرا عن بانوراما الحياة العصرية، وان يدرس مسألة تداخل الفنون والأنواع في ما بينها الى حد غياب مفهوم الاختصاص أحيانا. لا تشهد هذه الفيديو كليبات تسويقا تلفزيونيا واسع النطاق، لأن الشعر، حتى مصوّرا، "لا يبيع"، وينحصر عرضها في إطار أمسيات خاصة ومسابقات، قد تكون أبرزها مسابقة "دكتور كليب" التي يجريها مهرجان روما للشعر، و"جائزة فيلم الشعر" في برلين، حيث لجنة التحكيم مؤلفة من شعراء ومخرجين ونقاد على السواء.
عندما أخبرت احد الأصدقاء من الشعراء اللبنانييين عما يحصل، ضرب كفاً بكفّ وتنهّد: "لا حول ولا قوة! لقد فلت الشعر من بين أيدينا". آخر ضحك ساخرا وهزّ رأسه كمن يقول: "يا للغرب وصرعاته". ثالث انطلق في مرافعة طويلة ضد مرحلة ما بعد الحداثة، لم أحفظ منها سوى جملته الأخيرة: "إنه لأمر مخجل".
مخجلٌ لمن؟ ولماذا؟ من يمنح هذه الظاهرة فرصة للتأمل، قد يجد أنها لا تنطوي على استعراضية زائدة، وإلا يجب ان نعتبر الأمسيات هي ايضا شكلا من اشكال الاستعراض؛ لا بل اذا أردنا التطرّف، لقلنا إن قرار النشر في ذاته تعبير عن ميول استعراضية: فها ان الشاعر يفلش في الكتاب أفكاره أمام الآخر ويقول له: "إقرأ وتفرّج". الفرق الوحيد بين الاثنين غياب الصورة، وهو ليس بالفرق الحاسم بل محض تفصيل، لأن الشخص موجود كاملا في نصّه، وليست الصورة تاليا إلا جزءا من كل، وليست هي مادة الاستعراض "الأكثر خطورة"، بل الكلمات.
"عار أن يكون الشعر شعبويّا": كليشيه لم يزل ملتصقا بالشعر منذ ردح من الزمن. ليس المطلوب طبعا ان يتحوّل الشعراء أصحاب دكاكين - وإن كان بعضهم هكذا بلا "جميل" الفيديو كليب - ولكن ليس مطلوبا كذلك أن تكون "قوالب" الشعر أو ناقلاته في حال اغتراب عما يدور في العالم من تطوّر. هل يخدم الفيديو كليب النص الشعري؟ لا. لكنه، هو وظواهر مشابهة، قد يمثّل طريقة لتقريب الناس من الشعر، من دون ان ينتهك حرمته أو ينتقص من جوهره وهيبته. ومن نافل القول إن شرط كل عمل مماثل، أولا، أن يكون محميا بنص شعري حقيقي، لا ان يطلق موجة "طراطيق" شعرية.
قرأتُ دعوة المهرجان من جديد. هذه المرّة لم أستغرب. فيديو كليب شعري؟ تساءلت... لِمَ لا؟
Joumana333@hotmail.com
www.joumanahaddad.com
"النهار" الثقافية
2 نوفمبر- 2005