علي السوداني
(العراق/الأردن)

عبد الوهاب البياتيستة أعوام، توقف عبد الوهاب البياتي عن ممارسة الحياة أو الجزء المقسوم له منها كما كان يراه الرائي الذي ربما خذلته الرؤيا هذه المرة وهو ينصت الى طقطقة خرزات مسبحة أيام ضاجة وممتلئة في وجه، وباردة ومقفرة وحزينة في وجه ثان تحت غواية القناع الذي ارتداه في غير مدونة ومعلقة.

في خرير أيامه المتأخرات، حججت اليه وشلت وجهي شطر دمشق التي فازت به كأنه قبر مؤجل يكاد يصيح من فرط نوره أو شال أيام وقصائد منثورات كما لؤلؤ صاف، يلملمها محمد جاسم مظلوم احد أوفى مريديه. كنت أمعن العين بعين مظلوم ــفي بلور باب توما ــ فأندهش وأنذهل وأغيب قبل ان يأكل ماء زمزم سبعا من دنان الراح. وفي لجة ذلك الغياب، يوقظني (أبو علي): إني لأكاد أنصت لخطوات الموت تنزل ثقيلة كاسحة!

بعدها بأقل من أشهر ثلاثة، مات البياتي ودفن في مقبرة الغرباء خارج أسوار ملهمه محيي الدين بن عربي.

قبل ذلك وفي الدهر الذي اقترح فيه عبد الوهاب البياتي الموت على نفسه، كنت عدت الى عمان وفي (عبي) جهشات وشهقات ونبوءات، وعند أعتاب مقهى (السنترال) سألني طراد الكبيسي عن حفنة من أيام دمشقيات وسلة من ليال بياتيات. قلت:

دمشق مدينة ماكرة تأكل وتشرب وتحترف سياسة، وتقلق وتذوب في تاريخ الحجر، لذا استجابت لنداء (المهنة) وهتاف الغواية فواصلت تأثيث مدفن الغرباء بجثامين عراقية مشعة ــ كان قبل ذلك مصطفى جمال الدين وهادي العلوي ومحمد مهدي الجواهري ــ حتى لتتسع مخيلتي فترى فيما ترى ليلة هروب سعدي يوسف وقد منح ظهره المستقيم أبدا دمشق شاردا ساريا بليل أبكم، قافزا فوق دكة مغسل كان تلبسه ومسه - بعد متوالية الغياب تلك ـ مسا كاد معه ان ينصت لقراءة سورة الفاتحة على مقترح موت مبكر .

أراني ــ أنا الولد التعبان من صباحات بغداد المفخخة ــ وقد شرعت من النهاية وكان الأجدى بي ان ألج باب الذاكرة من سنوات عمانيات صافيات بهيات بتاج الثلج ــ رأس البياتي كان شديد البياض ــ شاهقات بعطر الياسمين، سفحتها على مائدة البياتي ــ طاولته ان شئت ــ مريدا منصتا خاشعا مترنما مرددا مرتلا مرات، شابا عن الطوق، مشاكسا مقامرا، صانع قفشات ومقترح سعادات ومنتج أوهام في حضرة لا تقل فيها كلمة الا وتحس انك إنما تتوجس في حقل ألغام.

الكتابة هنا إذن ــ ما أوجعها وما ألذها ــ مشروع كتاب، سأنتف ريشه وابتسره وأعصر لغته واصفي حروفه وأقصقص جناح مخياله فأقول:
على مائدة البياتي أو طاولته ــ الطاولة تتبدل أحوالها وطقوسها، تصحو في غاليري الفينيق وتسكر في حانة الياسمين ــ اجتمعت كل التناقضات، الممكنات والمستحيلات. قطار بغداد الصاعد الى عمان المعبأ بأدباء وكتاب ومبدعي وكذابي البلد، كلهم ضيوف على تلك المائدة التي ما منعها ثلج منثور ولا عكرتها واقعة وقعت في بستان حسب الشيخ جعفر المزروع في خاصرة اللويبدة.

أدباء ينشدون المنافي فيسقطون عند منازل وليالي أبي علي في مشهد يتجاذبه التطهير والتعميد والقلق والتوجس حتى اذا أذنت الساعة وسكرت القوم من نقيع (حداد ذهبي)، لحظتها، لن تجد من يتحامق ويقامر فيخرج من باب الحانة قبل دقائق معدودات من زمن ذوبان القعدة ،هن كافيات لسحقه وهرسه ودرسه هو وقصيدته التي كنا قبل كأسين من الآن، قد رفعناها بصحة وعافية وألق وخلق ذلك الفتح المبين!

مائدة عجيبة. خلطة مسحورة من شعر وسياسة ورسم وقصة ورواية ونقد ونقود. طاولة مربعة ومستديرة صف على محيطها، أبناء معارضة وأبناء حكومة وغواة حكي ، شطار وعيارون ونسابة يحفظون أجمل القول وينثرونه في ليال حالكات، لكنها ظلت تصيح: هل من مزيد؟

البياتي يغربلها ويفلترها ويصفيها وقبل ان يجري ويسيح الذهب من مغطس غروب اليوم التالي يلح (أبو علي) في سؤالي عن اسم المرأة المذهلة التي فضت بكارة أو شال ليل الحانة وخلفت فوق جبينه قبلة .

أعلى درجات الوهم أو أقصى حالات الخصب ــ ساخنة طرية عذبة لذيذة كما (عائشة).

حكاية قصيرة جدا لهي جديرة في ان تنطبع عند ختام هذه الاستعادة بطلها رجل عماني كان عاصر سنوات البياتي السبع هنا . الرجل كان اسمه أبو باسم وكان تناهى الى مسمعه نبأ رحلتي الدمشقية فأتاني على جناح مساء موحش الى غاليري الفينيق طالبا مني تذكير أبي علي البياتي بوعده له ـ هو الشاكي الأزلي من رائحة الموت ـ بأنه سينحت له أجمل مرثية حال وصول موته الشائع في كتاب اليقين لكن أبا علي قد مات تاركا خلفه أمنية رجل طيب لا يدري بأي ارض يموت .

alialsoudani@hotmail.com

الرأي
الجمعة 16 ايلول 2005م


إقرأأيضا:-