علي حسن الفواز
(العراق)

يوسف الصائغلايمكن لأحد ان يفقه كيف يختار الموت مريديه !! ولايمكن لأحد ان يباغب الموت بانتظاره !!
كل الموتى كانوا عاطلين عن التورط في لعبته الباردة ... الشعراء وحدهم يتلمسون أصابع الموت، يبصرونه من وراء حجاب ويبادولنه الشتائم، أو ربما يرمون عليه الحجر ..لأنهم الكائنات الأقرب الى الجدار السري للأرض، يعرفون ما تضجّ به الرؤيا وما تشفّ عنه العبارة ،يتحسسون أقدام العابرين لصوصا كانوا أم رؤساء حكومات أم من زوار الفجر!! لذا نجدهم يمارسون صحوهم بامتياز عند هبوطه المفاجئ والعجول !!!
وعندما تناهت أخبار موت يوسف الصائغ الشاعر والمغني والعاشق والرسام والمسرحي أدركت ان الموت قد جاء اليه بكامل أناقته وكامل عدته وفؤوسه وحتى بعض قداساته !! ليمارس معه لعبته الباهظة، يضحك على سنواته الشعرية وأوهامه التي كان يصدّقها لوحده...
لم يكن الصائغ حزينا لهذه الزيارة السماوية المريبة ،،، كان يحمل معه آخر قداسات بورخس ، وآخر قصائد كافافيس ، البرابرة الذين يأتون لأنهم آخر الحلول !!! وآخر أحلام الوطن/ البيت الذي أصبح بريدا في القطارات.....

الصائغ في لعبة الانتظار كان يموت ببطء كل يوم ، يموت حزنا وكمدا ووجعا وخرابا وإهمالا ،،،فقد بصره في سنواته الأخيرة ولم ير الاّ (خزائن صوره) القديمة المكسوة ببهاء الرؤيا و التي سحّ لأجلها آلاف الكلمات وآلاف الأغاني ،،، وفقد اطمئنانه الشخصي بعد ان غادره الجسد العصي والمرأة الأليفة، والأصدقاء العابرون !!

مات يوسف الصائغ في وطن يحسب أحزانه وأفراحه وجروحه وهزائمه مثلما يحسب البقالون ،،
أصحابه لا يغفروا لأحد خياناته الصغيرة ، ولا يمدّوا لأحد كفّ الاطمئنان ، ولا يشاطروه بعض البكاء ،،،،مات الصائغ ولم يزل يحلم بقصيدة لامرأة قد تأتي ، تشاطره الجسد الدائخ بالسنوات ،أو تحنو على أصابعه اليابسة من كثرة التحامها مع عصاه !!!رغم انه كان ينتظرها دوما عند(تخوم البحر)1
مات الصائغ وهو في نوبة بكاء، بكاء على الأمكنة الضاجة بأحلامه، وبكاء على العمر الهارب كاللصوص، وبكاء على الزمن الذي تأكل نصفه بين أوهام شعرية وأوهام حكومية وأوهام نسائية........
حين ماتت (سيدة التفاحات الأربع)2 ،اشتعل الرجل شعرا وخوفا وشيبا ،،،كانت امرأته الوحيدة التي تعرف طريق الحرير اليه ،،،تذكر انه كان عندها يمارس (اعترافات مالك بن الريب)3 لتشاطره أسرار أحزانه ومراثيه ونداءه،،إذ كان مالك بن الريب قناعه في واحدته وفي موته، اختلط بين يديه الموتان حتى صار الموت ربيبه الذي يبادله السكرة والصحوة والعبارة والرؤيا ،،،أخذ يشطب سنواته في أجندته اليومية العاطلة لصق حائطه ،، ،يلعن يساره القديم لأنه علمّه كيف يصير حالما ، ويلعن سجونه القديمة لأنها أباحت جسده للجلادين ،،ويعلن نساءه لأنهن اجتحنّ جسده النحيف بكل شغب اللذة وشطارة حفاري القبور،، ،يلعن الحكوميين لأنهم ورطوه بسكرة الخشخاش وأحلام الملك السعيد ،،ويلعن الأصدقاء لأنهم تركوه وحيدا عند حروب طاعنة بالخسارات ...ويلعن المدن لأنها أباحت دمه وطردته من جنتها المعدنية..
مات يوسف الصائغ كالغرباء ،ودفن في مقبرة الغرباء ،،وكأن هذا الموت كان آخر الانساغ الشعرية التي ستمدّ في عروقه الماء المقدس و النجيع الصافي مع أجساد البياتي والجواهري وهادي العلوي ...
مات يوسف الصائغ دون ان يأتيه السيّارة ، أو يبادله الذئب قميص سميّه !! مات دون خزائن العزيز ،ودون ان توافيه زليخا الوعد الأخير ، مات دون منفى أنيق وبارد مثلما يفعل الآخرون الهاربون والعاطلون عن الاشتعال ،،و الذين يشتمون البلاد والعباد عند حاناتهم وصباياهم وأوهامهم،
مات يوسف الصائغ دون ان يشتم أحدا !!!! لقد سرق حقا لعبة الموت الأثيرة في مباغتة الأحياء!! لقد كان بانتظاره مثلما يفعل الفرسان عادة !!!

ما هذا زمن الشعر
ولا هذا زمني
هذا زمن مسدود
يخرج منه الدود
صار الشعراء قرودا فيه
والعشاق يهود
باركني بيديك الحانيتين

وامنحني
غفرانك ياوطني

ان مايلفت النظر في قصائد الصائغ هو هيمنة الروح الغنائية ، ونزوعها دون لازمة الى تشكيل عناصر نغمية متعددة لاتنتمي الى جنس حسي محدد ولا تتمثل للروح المسيحية التي يتم استحضار طبيعتها العرفانية كمهيمن صوتي في المخاطبات ،والأناشيد،لكنها تنتمي الى توليفات لغوية ذات معان ودلالات ترتبط مستوياتها البنائية مع مقابلات صوتية تشكّل معا مناخا حسيا يعمد الى توظيف بنيات عروضية وتفعيلات هي أشبه بالحركة الدائرية الحافظة للصوت وإيقاعه وحيويته...وقد دأب الصائغ على تنمية هذه الميزة الصوتية في قصائده المبكرة والمتأخرة في سياق تعاطيه مع علاقات وصفية يتصاعد فيها النبر الشعري عبر متواليات واعية يكون فيها المستوى الصوتي حاضرا عبر علاقات التناظر والتشابه والمفارقة..

أنا لا انظر من ثقب الباب الى وطني
لكني انظر من قلب مثقوب
وأميز بين الوطن الغالب
والوطن المغلوب..

ومن المحاور المهمة في شعرية الصائغ ذات الطابع الحسي هو التوازي مابين المرأة/ الحبيبة كرمز لحيوية الشهوة والشوق والرحم وما بين الموت كعلامة للحلول والتجدد ،وبما يعطي لهذا التوازي دالات متحركة ومفتوحة على الاندماج بالكوني كما تقول (خالدة سعيد) إذ يتحول فعل الموت الى تبادل والى فعل مشاهدة....
ان هذا التوازي يستعير(بنيته الداخلية ) من توظيف كل مكونات المشهد الحسي وعلاقاته ومستوياته ،بدءا من لحظة الحب والشهوة ، وانتهاء بتوليدات الجسد عبر فعل اللذة ورمزيتها كنذر ايقوني أو كدال حسي ينسحب عبر تركيب لغوي ودرامي يحتفي برمزية الموت الذي لا يجعله شائعا ،وإنما يجعله لحظة للتكاشف و التقابل الحسي أو الرمزي ،،ولعل اغلب قصائد مجموعته (سيدة التفاحات الأربع) كانت تهجس بهذه التقابلات التي لاتلغي فعل الموت ،لكنها تجعله ايضا بعثا ومسافة لحيوات يمكن استعادتها عبر دينامية اللغة في مستوياتها الرمزية ..

حين صبّوا على القبر
ماء الوداع الأخير
فكرت،
لعبة الموت مضحكة،
وراحت تقارن
بين تابوتها والسرير

ان المجال اللغوي عند الصائغ هو مجال طقوسي ، وهذا المجال يجعله دائما أمام فضاء توليدي لايمكن حصره ، أو السيطرة على ترميازته ودهشته ،،ولعله إزاء هذه الخاصية يسعى الى دينامية خاصة تستجلي النص اللغوي كنص (جسداني ) مفعم بدلالات اللذة وحميمية البوح وفتنة التحول ،فضلا عن محاولاته الدائبة على استحضار (أناه) الفاعلة والثائرة والمهزومة والقلقة إزاء أزمة وجودية ،هي أزمة الإنسان ذاته ،ورغم انه لايعطيها بعدا أسطوريا أو تاريخيا كما دأب السياب وأدونيس وإنما يعطيها بعدا وجوديا حسيا متحركا في تفاصيله اليومية وحيز دلالاتها المكشوف ، وهو بهذا يصنع له فضاء خاصا تتلاقى عنده الكثير من التناقضات التي يتأملها بريبة الشاعر ويحاول القبض على توليداتها الصورية المكثفة الحاملة لأسئلته ،أسئلة إنسانه المباح والقلق وصانع المراثي المحاصر من أوهام الآخرين ..

لماذا
أيها الانتظار المرائي
اذا كنت حقا صديقي
كن الى جانبي في طريقي،
إنما
أيها الانتظار المرائي
لماذا تسيير ورائي..

لقد مات صاحب الأغنية ،،،وهو يبحث عبر لحظة موته الفارقة عن صداها ليغتني به ،ويشاركه لذة الإنصات الى صوت الأنثى وصوت الأرض ،لكي يعود الى رحمهما محفوفا بأغانيه ومراوداته التي تركته يهذي بمحبته عند حائط البلاد البعيدة !!!


ما تبقى من الحب
هذا رهاني الأخير
زهرتان على القلب
ذائبتان
وسبع سنين تنير الضمير
وانتم
خذوني لطيبة قلبي
فأن المحبة طيبة قلب
والشعر مغفرة
وزمان المحبين جدّ قصير

1،2،3 أسماء لثلاث من مجموعاته الشعرية

*****


إقرأ أيضاً:-