فوزية السندي
البحرين

- 1 -

فوزية السنديأثق كثيرا بدرس الطفولة، كمنهل أولي وقويم لتعلم ماهية الإبداع كهوية وجودية، وقلق إنساني تجاه غموض أسئلة الكون.
في غابر تلك الطفولة، كنا أحراراً بما يكفي، لننقاد لمقترحات جنة المخيلة، بل لنتحاور معها، نبالغ في هيمنتنا على مقدراتها اللعوبة والمبهجة، نعيد من خلالها صياغة عالمنا الصغير ليتحول الى فضاء أو حديقة أو نهر، كل ما نشتهي يتحقق في لمحة مكر طفيف، صغير لكنه ثري بمعطياته الحالمة والرحيمة بصغار يتحسسون عطف الهواء ليتعلموا كيف هو الطريق.
في ذاك العمر الوديع، كانت كل الأعضاء تشتغل معاً، لتصوير مدى قدرة المخيلة في إمتاع الجسد بما تختزنه من حركات وألعاب وخفة وتصاوير لا تنتهي، لم نكن حينها نكتب ما نراه، بل لم نكن نحتاج الى ذلك الفعل التدويني على الورق، لنثق بما نرى أو لنبلغ الآخر عنه، لأننا كنا نحياه بمتعة لا توصف، وهذا يكفي، أن نحيا الحياة بكل همسة فيها وحنو أيضاً.
كانت الحرية هي قدرتنا اللامتناهية لاستخدام وتطوير حواسنا البكر، وهنا نعني تحديداً تلك الحواس التي تفوق قدرة الخمس الحواس التي علمونا إياها في ما بعد، بل حتى هذه القليلة علينا تعمدوا تخريبها وتنضيدها وأسطرتها وتقويمها لتعمل وفق منظور محدد، شديد الثبات، هو الأصلح وهو الأكمل وهو المنجي من شرور الذات، للأسف العميق، ارتهنا- دون دراية تامة- لفتاوى علومهم وشروحاتهم وتربيتهم، لأنهم كانوا أكبر منا، أكثر خبرة في الحياة كما علمونا أيضاً، وأخيرا هم أهلنا الذين أصغينا لهم أكثر مما ينبغي، هم مدرسونا الذين لقنونا قيد الدرس، ونحن في طراوة الملائكة، نصغي لهم بخرس لا يطاق، كتبوا على اللوح، ببياض الطباشير لنحفظ الوصية: من علمني حرفا صرت له عبداً، هكذا تخرجنا عبيداً، لمن علمونا كيف نصغي لهم.. لا لذواتنا، علمونا كيف نشذب مخيلتنا، نحولها من حديقة إلى مقبرة.. نقهرها، لتتقلص وتعجز عن الفعل الإبداعي، تعلمنا كيف نحتكم لوهم حكمة العقل وحده، علمونا كيف نصير عقلاء، نعرف ما ينبغي وما لا ينبغي، صامتين على الدوام.. صاغرين، كالكبار، نتمتع بأهلية كاملة، مواطنين صالحين، نعمل ونحيا من أجل سيادة الآخرين على الكراسي، وقبلها على أعناقنا، نتحول الى رعايا منقادين لعصا الراعي بطاعة القطيع، نقضم تاريخ القمع العربي المتاح.. بصمت تام.

- 2 -

منذ البدء.. تحددت أوليات علاقتنا مع العالم عبر هتف الحواس، تلك الآليات المتصلة بمكامن الجسد الفاعلة، منذ سقطتنا الدموية من عنف الرحم، تعرفنا الى رائحة الأم ومذاق الحليب، تلمسنا حنو الأيادي، أنصتنا لنسيم الهواء ورأينا هبوب كل هذا البياض.. من المهد حتى شراشف الأحلام، كلما كبرنا تنامت حواسنا معنا، برفق غريب، كانت تراعي وتحمي انحدارنا الأول نحو الحياة، هناك حيث لا رقيب على ما نرى، في الحجرة ليس لنا أن نرى الأهل أو الأثاث، كنا نرى ما نريد، المتعة هي سيدة المكان، كل الأشياء تتحول إلى دمى ذات قدرات عجائبية بفعل سطوة وقوة المخيلة، كنا نصغي لذواتنا فقط، لحوار داخلي يحوك خطورة الحكايا المتخيلة، نرافق الحواس كلها وهي تترجم وتحور يباس المكان والوقت لحدائق نلهو في حناياها كل عمرنا الصغير.
عندما يجتهد المجتمع الإنساني لتثبيت نواميسه وقوانينه ويعمل على تعزيز مكامن سطوته عبر تابوات تنظيرية تتوالد وتتحكم في مصائر ناسه-لضمان دوام حكامه- لابد له من تقويم -كما يدعي- ذاك النسل الجديد المتفلت بحرياته، يبدأ في تمرينه وتدريبه وتربيته على حياة محددة سلفاً، يبدأ بقوة العصا لمن عصى، على تكسير جنوحه ومقاومة شغبه البريء، ترويضه بالفعل بسياسة العصا والجزرة، كما يتم ترويض الفرس الطليقة، العابئة بحرية المراعي وهي تقتحم بجرأة الحوافر نداوة العشب، وهي تنهدر نحو البراري، معلنة صراحة الصهيل الحر، ببطش بالغ.. تراهم يطاردون حريتها المستمدة من هبوب الريح، مطاردة عنيفة، لا تهدأ حتى يلجموا نواجذها الأليفة بكلابات حديد تنتهي بسرج جلدي صلد، تتدلى منه شرائط جلدية عديدة، لربط الصدر بإحكام، حتى تتحول شهامة الفرس أو جهامة الجواد الأصهب، الى عربة طيعة تنتهب الطرق.. تحت إمرة السوط الذي ينهب أعصاباً تصهل بالألم بدلاً من صرخة حنجرتها بحرية الصوت.

- 3 -

وحده الإبداع بجموح رؤاه الإنسانية، يقاوم تشذيب الحواس، يعمل جاهداً على استعادة نقاوتها، على تخليصها من شظف التقليم والسحن والتشطيب والقسر، نراه عبر الشكل التعبيري الذي لم يختره حقيقة بل تشبث هو به، عندما بدأ يشعر بحاجته الى التمرد على هذا اللجام الصعب، أراد أن يفر من ليله الطويل نحو موج البحر أو حرية المراعي أو هاوية المنحدر، أراد أن يتخلى أو يتخلع من صرامة القيد ويحيا حياته كما يراها أمامه لا كما يراها الآخرون تليق به.
تخريب الحواس مهنة صعبة، أصعب من الإبداع ذاته، لأنها تبدأ من صعوبة الصفر، تبدأ من إعادة الأسئلة والتريث كثيرا أمام حقيقة الأجوبة.

- 4 -

"ما الذي يمكن عمله مع شخص عنيد قد وقع في براثن هاجس معين استحوذ على فكره؟ كلما مر الوقت، ضاق صدره. مع ذلك، فحينما حلت ساعة الوداع الأخيرة لم يكن يتمالك دموعه، كان يعرف أن هذا هو الوداع الأخير، وأنه لن يرى أمه أو تلك المدينة الملعونة "روش" من جديد، والتي كان يترك فيها قطعة من روحه. قالت أمه: "أبق هنا. سنعتني بك"
فقال لها الشاعر (رامبو): "كلا.. يجب أن أحاول كي أشفي نفسي".

الخليج
2005-11-07


إقرأ إيضاً

أقرأ أيضاً: