فوزية السندي
(البحرين)

9

(1)

أهمس بكلمات مثقلة بالأسى : هل أكتب لأستضيف دمها المهدور، أم لأفضح معها عالماً شرسا،ً لم يعد يحتمل وداعة حروفها ؟ كلماتي ليست رثاء، بل سلاماً.. لذهابها الأخير، المندفع لحرية موت أكثر رأفة من حياة لم ترحمها.

(2)

الشاعرة الأفغانية "ناديا أوجمان"(25) عاماً، طالبة في كلية الآداب - جامعة "هيرات"، ما أن تفشت لها حرية البوح ذات ليلة، ما أن بدأت تكتب على الورق، ما ينتاب روحها من ضيم هذا الزمان، ما أن انتفضت على صمت حياتها.. حتى اقتادوها سريعاً للقتل.
بعد أن أصدرت كتابها الوحيد" غولي دودي" أي"الزهرة القرمزية"،الذي أضاء شهرتها الشعرية في أفغانستان وإيران، انقض زوجها الأفغاني ليشج رأسها ويضربها حتى الموت، لتتهاوى كريشة تحت أقدام زوج راعه كل هذا الشعر، زوج أفزعته موهبة "ناديا" العصية على الكتمان، قدرتها على فضح الكبت، حفر كلماتها على وريقات قليلة، دفاعاً عن كل حرف يقف الآن شامخاً.. ضد حرفة القتل.
اندلق الدم تحت جسد "ناديا" المترنح من عنف الضرب الذي شج أحلامها، توسدت التراب الأفغاني كغيرها من ضحايا العائلة، ارتمت لحنو موت شفيف ، لتراها طفلتها الممهورة بشهورها الستة، مدماة أكثر مما ينبغي لقتلها، تراها بعينين لن تنسى يوماً، كم قتلتها اليد، برعونتها الذكورية الطالبانية، بنزوعها المتسيد، ستتذكر بوضوح، كيف فقدت أمها راعية الخمسة و عشرين وقتاً من الكبت و النبذ، كيف ارتاح أخيراً.. أبيها المذعور من حروف "ناديا" الصغيرة.

(3)

حتماً، لم تمت "ناديا"، لم تذبل زهرتها القرمزية، بل تحولت إلى قربان شعري مبجل، يقف بصرامة على مذبح هذا الوقت الصعب، غصة هزت نهر الشعر، صرخة تداعت كعاصفة تنفض كل هذا الغبار، ألهبت " ناديا" قلوبنا بعنفوان جرأتها و هي تعلن هويتها على الملأ الرافض عورة صوتها، أذهلتنا بقدرتها على مواجهة الظلم المتحصن في غبار الكهوف، المتلفع بشريعة الذبح لكل امرأة تتعالى بكلماتها، لكل حنجرة تستجريء على البوح، لم يكن زوجها غير مستبد آخر، طال شيوعه ليس في أفغانستان فحسب، بل في كل واد يهيم به البغاة من أولياء الأمر،حماة الوهم، من يتحصنون بعنف القيد ضد بسالة اليد، ضد قدرة النساء على نحت الحرف، هؤلاء القتلة يتفقون على هذا الفعل، لكن بتلاوين لا تختلف كثيراً، منهم من يقتدي بضرورة الضرب، ومنهم من يستهويه التسلط بقوة الأمر، بنفوذ المنع، بمصادرة الحق الإنساني في التعبير الإبداعي.

(4)

ثمة مفارقة أليمة، تسنت لي، قبل أن أكتب عن "ناديا"، كنت أحاور قناعاً مستتراً- عبر فضاء الانترنت الأزرق- لموهبة بحرينية، شعرية واعدة، تكاتبني من خارج الوطن، سألتها: لماذا تخفين حقيقة أسمك.. حتى عني!؟، باحت لي بخوفها من الأهل الذين يرفضون بشكل قاطع أن تكتب أو تنشر، فلم تجد خياراً بين الصمت أوالصد، غير هذا الذبح العلني لهويتها، غير أن تختفي تحت بطش قناع آخر، أكثر رأفة منهم.
القتل هذه المرة ليس بشج الرأس، لكنه بمحو ملامح نبض القلب، كبح الذات، قسوته تتمثل في مراكمة الأقنعة على قلوب النساء، فالوجوه لم تعد تكفي.
هذه الظاهرة الأكثر انتشاراً في دول الخليج تحديداً،وأعني بها تدخل الوصاة من العائلة حتى الزوج، لمنع النساء من الكتابة، مما يضطرهن لنحت أسم مستعار، أما من تختار ذلك دون عسف يذكر، فهذا مناب آخر، ليس للمداولة الآن على الأقل، هذه الظاهرة تعبر عن حجم المصاب لمن تكتب من النساء، ظاهرة جليه بمفرداتها التي تشي بمصادرة التابو الاجتماعي بتلاوينه، لحرية الكتابة تحديداً، حيث من النادر ممارسة أي فن من الفنون الأخرى بتمويه الهوية، وحده الشعر..لكونه ينضوي على خطورة إعلاء الصوت، بلاغة الحرف، قدرته على الكشف و الفضح، ومما يضاعف الصد الحاصل له، صدروه عن امرأة مكانها البيت أو القبر.. حيث الصمت.
بقدر الألم الذي يكتنف هذه الظاهرة، بقدر التعاطف مع من تختار جرأة الكتابة تحت قناع مستعار على الخضوع للصمت التام،احترام خيار المواجهة بالكتابة، حقيقة نتجرعها على مهل، وعلى أمل أن يأتي ذلك اليوم، الذي ينتصر فيه الحرف، لحرية ينوعه تحت الضوء.

لم تمت ناديا حين القتل:
تلك العينين الصغيرتين لطفلتها، لم تزل تحدق فينا،
حروفها المضمخة بدمها تحيا على بتلات زهرتها القرمزية،
روحها لا تزال تجوب جبال أفغانستان مزدهاة بحريتها الوحيدة.

(5)

هكذا كتبت الشاعرة الأفغانية" زاهدة خاني":

بلا عُنوان
أين أنتهي أنا، وأين تبدأ أنتْ؟
وأين ننبثق في روح واحدة؟
ونذوب وننضفر مثل شجرتين عتيقتين
ضارية جذورنا في أعماق الأرض
ممزوجة بالوعد.
كل شيء أنتجه يأتي من عندك
وكل شيء تتلفّظهُ
له صدىً في أعماق صوتي الداخلي.
في الربيع يهطل المطر. .
كل طفل أحبل به
يولد في ضوئك أنت.
وكل نَفَسٍ تستنشقه
ينشر ندى الصباح
من أغصاني المهتّزة.


أقرأ أيضاً: