عبد الرحمن منيف

عبد الرحمن منيف"جدار بين ظلمتين" (دار الساقي)، جزء من سيرة ذاتية لرفعة الجادرجي عن فترة السجن التي تعرض لها في نهاية السبعينات ومطلع الثمانينات من القرن العشرين. هذه السيرة تعتبر إضافة نوعية مهمة لأدب السجون، لأنها كتبت بكثير من الرهافة والشعور بالظلم، وصورت السجن من زوايا عديدة وفي أوقات مختلفة.
من مزايا هذه السيرة أيضاً أنها كتبت بقلمين ومن منظورين. وإذا استوحينا العنوان: "جدار بين ظلمتين" لوجدنا أن جزءاً من الوقائع والمشاعر كتبت من خلف الجدار. كتبها الجادرجي وصوّر خلالها ما عاناه في زنزانة المخابرات أولاً، ثم في السجن بعدما صدر عليه الحكم بالأشغال الشاقة المؤبدة.
أما الجانب الآخر من الجدار، وما شهده، فقد تولت كتابته بلقيس شرارة، زوجة رفعة الجادرجي، إذ صوّرت الفترة نفسها والأحداث نفسها، لكن من الخارج. وتعاقبت الوقائع والفصول لترسم مشهداً عريضاً لمرحلة من تاريخ العراق.
إن الكتابة عن السجون العربية أحد الحقول المهمة في الأدب العربي المعاصر. فقد كُتب حول هذا التجارب - المحن عدد غير قليل من السير الذاتية والروايات، ولاقت هذه الكتابة اهتماماً ملحوظاً من القراء، وخصوصاً أن ظاهرة السجن السياسي من أكثر الظواهر اتساعاً على امتداد المنطقة، وتتبارى الأنظمة العربية، من أجل الحفاظ على بقائها واستمرارها، لتطوير وسائل القمع وزيادتها، حتى ليمكن القول أن نسبة كبيرة من مواطني هذه المنطقة عانت، ولا تزال تعاني، بشكل مباشر أو غير مباشر، من هذه الظاهرة. فمن لم يسجن حتى الآن، معرّض لذلك في أي وقت، والأسباب دائماً موجودة أو يمكن تلفيقها. ومن يقدّر له أن يفلت شخصياً من هذه المحنة لا بد أن يكون له قريب أو صديق تعرّض لها. وبالتالي فإن هذا الوباء لحق الجميع بمقدار ما، في مرحلة ما، ومن لم يصبهم حتى الآن، لا بد أن يلحق بهم ويطالهم في وقت لاحق، وتحت أي عنوان، وخصوصاً أن الدولة الشمولية تزداد حضوراً وهيمنة، ويتراجع في المقابل حكم القانون ويغيب القضاء المستقل وتنعدم وسائل الرقابة والحماية بالنسبة إلى المواطن الفرد.

بلقيس شرارةوكما كتبت السير الذاتية والروايات حول السجن السياسي، فإن النقد واكب هذه الكتابات، واستخرج منها مجموعة من الصفات التي تميزها. فأغلب الأحيان تكثر مثل هذه الكتابات في أعقاب الأحداث الكبرى. وهكذا نلاحظ أن إحدى اكبر الموجات التي تناولت السجون العربية ظهرت بعد هزيمة حزيران، وتتالت بعد ذلك تبعاً لمدى الاحتقان والشعور بالإحباط، أو نتيجة ضعف الأنظمة بسبب ما لحق بها من هزائم.
من الصفات التي لفت النقد إليها، إن السجون العربية تكون، في أغلب الأحيان، في الصحراء أو على تخومها. وإذا صدف أن أقيمت بعيداً عن الصحراء، فإن المنطقة التي تقام فيها تتصحر وتكتسب مقداراً من الجهامة يجعلها غريبة منفّرة، أي تفقد في المطلق صفة المكان الأليف، أو الذي يمكن أن يتعوّد عليه الإنسان. وينعكس ذلك أيضاً على الرجال الذين ينتدبون للعمل في هذه الأمكنة، أي السجّانين ومن في حكمهم، إذ يكتسبون صفات تجعلهم مختلفين عن بشر العالم الخارجي، من حيث السلوك واللغة وطريقة التعامل.
ومن الصفات التي تميّز السجون العربية أيضاً، كما يشير النقد، أن تكون باللون الأصفر الترابي، أو بألوان أخرى مشابهة، بحيث تخلق انقباضاً في النفس لمن يعيش فيها أو لمن يراها، حتى من بعد. ولعل ذلك أمر مقصود، وهو نابع من الغرائز المريضة، أو من دهاة محترفين بهدف التأثير النفسي وكسر إرادة البشر.
هذه الصفات، وما يماثلها، طبعت تلك السجون بطابعها نتيجة للمناخ العام المسيطر، إذ تنتقل إلى داخل السجن أسوأ القيم والأساليب الموجودة خارجه، وتصبح هذه القيم والأساليب القانون السائد والسلوك الطبيعي. فغياب الديموقراطية وحقوق الإنسان مثلاً داخل المجتمع بصورة عامة، وغالباً ما يموّه هذا الغياب بإجراءات شكلية ومظاهر زائفة لإقناع العالم الخارجي، في الدرجة الأولى، فإن غياب أي مظهر من مظاهر الديموقراطية وحقوق الإنسان داخل السجن يعتبر أمرا بديهياً، بل ويعتبر مصدراً للقوة واثبات الوجود، ومجالاً للزهو والشعور بالتفوق.
إن اصغر سجان قادر على إهانة أي إنسان سجين. يفعل ذلك من دون شعور بالذنب أو بالخطأ، بحيث يتحول السجين رقماً، أولا، ثم إنسانا مكسوراً يستجدي الحد الأدنى من الوسائل للحفاظ على البقاء، ومن اجل المعاملة الرحيمة والتقليل من الأذى قدر الامكان. كما يعتبر السجان إن ما حصل عليه من موقع وطريقة تعامل، حقوق مكتسبة له لا يجادل فيها، وهو مستعد لان يحارب من اجل بقائها وتوسيعها، مستغلاً مداهنته لرؤسائه ورضاهم عنه لقدرته على انتزاع الاعترافات من المتهمين، ثم لقدرته على فرض النظام والهدوء في السجن.
إن المهانة التي يواجهها السجين، ومنذ البداية، مدروسة ومدبرة، وهي تهدف إلى كسر معنوياته وإذلاله قبل التعامل معه، إذ يُعرض لحظة وصوله، إلى مقدار كبير من المعاملة القاسية والمذلة والجارحة، بالكلمة والنظرة والتصرف، وحول ابسط المطالب الحياتية: حين يقدَّم له الأكل أو يحرم منه. حين يذهب إلى المرحاض. حين يسمح له بالاستحمام. حين يحشر مع كثيرين في مساحة ضيقة جداً تفتقر إلى الحد الأدنى من الشروط الصحية والنظافة. هذا عدا الصور والقصص الشائعة التي سمعها، وهي تملأ الذاكرة حول ما يلاقيه الإنسان إذا وقع بين أيدي المخابرات.
بعد أن يستوعب الموقوف هذه الدروس الأولية، يبدأ التحقيق معه، وغالباً ما يتم ذلك في الليل المتأخر، ويستمر ساعات طويلة بلا نوم، ووسط أجواء مشحونة بأصوات الذين يتعرضون للتعذيب، ووسط التهديد بالتصفية الجسدية إذا لم يُدل الموقوف باعترافات دقيقة وكاملة، وبإشعاره أن المحقق يعرف عنه وعن القضية التي يحقق فيها كل شيء، وهناك من شهدوا عليه ومستعدون لمواجهته!

رفعة الجادرجينتيجة هذا الجو يسقط الكثيرون، ويدلون بأقوال واعترافات كما يريد المحقق، علها تكون وسيلة لتخفيف تعذيبهم وإنهاء التحقيق معهم. لكن هذه الاعترافات غالباً ما تصبح سبباً لابتزازهم، وربما دليلاً للحكم عليهم في وقت لاحق، وخصوصاً أن المحاكمات تكون شكلية وسريعة، بحيث لا تتاح للمتهم الفرصة في محاكمة عادلة وعلنية. إما المحامون الذين يعّينون للدفاع عن المتهمين، فالعادة إن تعيّنهم المحكمة، وهم في معظم الأحيان عملاء لدوائر الأمن.
"جدار بين ظلمتين"، تصوير لما عاناه رفعة الجادرجي وأسرته طوال عشرين شهراً، وهي الفترة التي أمضاها وراء جدران السجن قبل أن يُفرج عنه. حتى الإفراج نفسه تم نتيجة الحاجة الماسة إلى جهده ومشاركته من اجل إعداد بغداد كي تكون مكاناً لائقاً لاستقبال رؤساء الدول في مؤتمر عدم الانحياز الذي كانت بغداد تنوي استضافته.
لقد سجّل الجادرجي من وراء الجدار ليس ما عاناه فقط، بل ما رآه أيضا. وكان في ذلك يمارس الهواية التي شغلته طويلاً، ولا تزال، وهي هواية التصوير. فقد اصطحب معه في رحلته إلى داخل السجن أداة المصور الأساسية، عينيه، وكانت بمثابة الكاميرا، التي صوّرت الحياة داخل السجن لحظة بلحظة. لم يكتف بتسجيل معاناته الشخصية بل أضاف إليها التفاصيل المتعلقة بالآخرين. ولعل هذا الجانب ما كانت تفتقر إليه الكتابات التي تناولت السجون العربية سابقاً، إذ كانت تحصر النظر في زاوية. على شخص أو حالة. وتهمل الجوانب الأخرى، الأمر الذي جعل اغلب الكتابات في الموضوع تتشابه، مع فروق بسيطة بين سجن وآخر، بين مرحلة وأخرى.
هذه السيرة لم تهمل ما لاقاه السجين، من حيث الألوان والروائح والعتمة والأصوات. وصوّر شركاءه في هذه الزنازين، ثم السجانين والمحققين، والفروق التي لا تكاد تُلمح بين واحد وآخر، وكيفية التحقيق، والتي يظهر من خلالها أن الرجل بريء، لكن هناك قضايا، لعل مكانة والده، كامل الجادرجي، واحدة منها، إذ يراد الانتقام من الوالد بعدما غاب، عبر الانتقام من الابن. إن التحقيق الذي يفتقر إلى الأدلة والقرائن يدور في الحلقة المفرغة نفسها طوال فترة التوقيف في المخابرات، وينتهي هذا التحقيق بمحاكمة صورية خلال دقائق قليلة ليصدر الحكم المؤبد!
حين ينتقل السجين من زنازين المخابرات إلى السجن فكأنه انتقل إلى الحرية، لان ما يتاح له في المكان الجديد، من حيث استقبال الزوار، خاصة من الأهل والأصدقاء، ومن حيث تلقيه الكتب والأكل وبعض الملابس، وأيضا من حيث سعة المكان، والقدرة على تبادل الحديث مع الآخرين، وممارسة أنواع معينة من الرياضة، كل هذه "المزايا" بالمقارنة مع ما كان يلاقيه سابقاً في دوائر المخابرات، تجعله يحس الفرق، وبالفرق الهائل بين الأمس واليوم. هذا رغم عدد لا يحصى من المضايقات في المكان الجديد.
سلسلة طويلة من الوقائع والشخصيات في المكانين يصوّرها الجادرجي كأنه يرسم اسكتشات أو يلتقط الملامح التي تميزها عن غيرها، كما يفعل رسام الكاريكاتور. من خلال هذه الاسكتشات أو الملامح تنطبع الصور التي يراد لها أن تبقى، باعتبارها وحدها التي تميز واحداً عن آخر، حالة عن غيرها. وهكذا تبقى في الذاكرة التضاريس الأساسية للحياة والأماكن والبشر.

الظلمة تعمّ المكان فضح السجن السياسي بهدف تدميرهإن الكثير من هذه التضاريس كانت تفتقر إليها كتابات السجن السابقة، إذ غالباً ما تتركز الأضواء على فرد أو على عدد محدود من الأفراد، وتغيب التفاصيل الأخرى، مما لا يخصص السجن ولا يحدده، كما لا تُحدد المرحلة التاريخية التي جرت الوقائع خلالها، الأمر الذي يقلل من الشعور بالإدانة، بل ويجعلها قابلة للغفران، باعتبارها مسجلة ضد مجهول. إما أن نرى الوجوه والملامح والأسماء، وقد نعرف منها قسماً غير قليل، فعندئذ نقبض على الأشخاص والحالات بالجرم المشهود، ونتساءل مرات كثيرة لماذا كان هؤلاء هكذا؟ وما هي بواعث هذه السادية التي ميزت تصرفاتهم؟ أكثر من ذلك: يبقى هؤلاء الجلادون معرضين للمساءلة ذات يوم، ويمكن أن يكونوا عبرة لغيرهم، لان الحياة دولاب كما يقال، ومن كان جلاداً في الأمس يمكن أن يتحول إلى ضحية اليوم أو غداً، وقد يتعرض للتعذيب والأذى والانتقام إذا ظل القانون غائباً والقضاء معطلاً.
تنبع أهمية كتابات دوستويفسكي، وفي هذا المجال تحديداً، خاصة في "ذكريات بيت الموتى"، من خلال البساطة والتفاصيل التي سجّل بها حياة السجن. كان كل سجين قدّمه لنا يحمل اسماً وملامح ومجموعة من الصور الشعاعية لكي يتميز عن غيره. كيف يبيع بعض السجناء أشياء لا تخطر في بال، وكان هناك من يشتريها. كيف يصلّي بعض السجناء بإيمان وخشوع. ثم كيف يسرقون. كيف يبكون في الليل المتأخر ويستغفرون لأنفسهم ولسجانيهم، وعشرات التفاصيل الأخرى. لقد فعل دوستويفسكي ذلك بحيث أصبحت "ذكريات بيت الموتى" لا تفارق الذاكرة.
كانت رواية السجن العربي تحتاج إلى نموذج مماثل لكي تبقى في الذاكرة حتى آخر سجن عربي، وجاءت "جدار بين ظلمتين" لتفعل ذلك. صحيح أن رفعة الجادرجي وبلقيس شرارة لا يدعيان أنهما روائيان، لكن ما دوّناه في هذا العمل يعتبر عملاً فنياً وتوثيقياً في آن واحد. وهذا ما يعطي العمل أهميته وفرادته، وربما يساعد في هدم الزنازين والسجون، ويجعلها جزءاً من تراث الماضي.
إن تحشيد القوى من اجل فضح ظاهرة السجن السياسي، بهدف تدميرها، قضية تفوق في أهميتها أي ظاهرة أخرى، لان الوطن ليس مكاناً فحسب، إنما هو، وفي الدرجة الأولى، مواطن حر، مواطن غير خائف، مواطن مصونة كرامته وحقوقه. ومثل هذه الأمور ليست منة من احد، وإنما تولد مع الإنسان وتستمر إلى النهاية، من دون أن يستطيع احد انتزاعها أو التقليل منها، لأنها ثابتة بحكم القانون، والمجتمع ككل يدافع عنها ويحميها ويحاسب أي إنسان، مهما كان موقعه، إذا حاول أن يتجاوزها أو يجرحها.
بعد أن تستقر هذه القيم والحقوق بالقانون، بالعرف، بحرص المجتمع كله عليها وحمايتها، فعندئذ يصبح المكان جديراً باسم الوطن، ويصبح ارتباط الأفراد بهذا الوطن مصيرياً، وتصبح مسألة الدفاع عنه وحمايته غير خاضعة لطلب الحكومة أو تحريضها، وإنما نابعة من قلوب الناس وعقولهم. عند ذاك تكبر الأوطان بمواطنيها، وتشمخ بتعلق المواطنين بها، بحيث تصبح غير قابلة للسقوط، ولا يمكن اجتياحها أو احتلالها.

* * *

هذه السيرة في حاجة إلى أكثر من قراءة واحدة وبأكثر من أسلوب، لأنها بالإضافة إلى الوقائع والإحداث التي تجعل منها عملاً فنياً، تقارب قضايا كثيرة تسود في المجتمع. فالاستلاب الذي يعمّ معظم، أفراد المجتمع، إن لم يكونوا جميعهم، يعتبر ظاهرة جديرة بدراسات معمقة وواسعة بالاستعانة بعلم الاجتماع وعلم النفس. ظاهرة خوف الأبرياء تحوّل الجميع متهمين في نظر أنفسهم علاوة على نظر السلطة إليهم، بحيث يتطلب الأمر معرفة أسباب هذه الظاهرة وكيفية التخلص منها، ليكون الإنسان قادراً على الدفاع عن نفسه لأنه ليس مجرد فرد وإنما هو واحد من مجموع، وهذا المجموع مكلف الدفاع عنه. ثم هناك قناع الرضا في العلاقات الاجتماعية. ما دام الإنسان مرضياً عنه، فإن الكثيرين يضيفون إلى هذا الرضا رضاهم الخاص، من خلال الزيارات، من خلال التضامن، من خلال الدفاع عنه. إما أن يتوارى اغلب هؤلاء عندما يقع الإنسان، وخاصة في أيدي السلطة ويصل إلى المخابرات، فإن صفة التخلي والابتعاد، ظناً منهم أن ذلك ينجيهم ولا يعرضهم للمساءلة، فذلك عامل إضافي يقوّي السلطة ويجعلها تفرض شروطها وأساليبها من دون أن تجد من يعترض أو يقاوم، الأمر الذي يفترض معرفة جذر هذا التحسب، والذي يصل إلى حدود الجبن، في سلوك الأفراد والجماعات.
البانوراما التي رسمها رفعة الجادرجي اكتملت من خلال عدد غير محدود من الملاحظات والتصرفات التي سجلتها بلقيس شرارة، ورصدت تالياً مواقف الأصدقاء وطريقة تعاملهم، والحسابات الظاهرة والخفية التي يلجأون إليها لتبرير مواقفهم. إذ تبين أن ظاهرة الكذب تضاف إلى ظاهرة الجبن لتميز الكثير من تصرفات الأفراد، وبعض الأحيان من دون مبرر كاف، أو ضرورة تملي مثل هذا السلوك.
ربما يقال أن الرهبة التي فرضتها السلطة بأساليبها القاسية، بالمناخ الذي ولّدته لتضمن حماية النظام وأشخاصه، ولغياب القانون والقضاء المستقل، جعلت الكثيرين يبالغون في التنازل عن حرياتهم وحقوقهم، ويفقدون غريزة الدفاع عن النفس، ويسلّمون بما تريده الدولة وبإقرار أساليبها، وغالباً ما تكون مزاجية أو بدافع الإذلال والانتقام، بحيث يتحول البشر إلى قطعان، ويتحول الحاكم وحاشيته إلى آلهة، يعطون ويمنعون من دون القدرة على مناقشتهم أو الاعتراض على ما يفعلون.
الحاكم الفرد هو الذي يدير المجتمع. بكلمة واحدة منه يمكن أن يُزجّ الإنسان في السجن والى الأبد. وبكلمة منه يمكن أن يُفرج عن السجين مهما كان الجرم الذي ارتكبه. والى أن تصدر من لسان الحاكم هذه الكلمة أو تلك، تبقى مصائر الكثيرين معلّقة، ومؤجلة، وخاضعة لشتى الاحتمالات.
لقد سجلت بلقيس شرارة مقداراً كبيراً من تفاصيل المساعي والجهود التي بُذلت خلال توقيف رفعة ثم أثناء سجنه. من اجل معرفة مكانه أولا، ثم عن التهمة الموجهة إليه، ولتأمين الحاجات الأساسية إليه من ملابس وأدوية، وكيف تفشل جميع هذه المحاولات وتتكسر قبل أن تصل إلى أعتاب المخابرات أو علم المسئولين. وحين يُقابَل بعض هؤلاء المسئولين، يمثّلون ادوار البراءة وعدم المعرفة ويعدون بأن يتابعوا الأمر بأنفسهم. لكن الأيام والشهور تنقضي من دون أن يتغير شيء. وحتى الافراجات التي تتم، نتيجة لقاء أو زيارة مفاجئة، فإنها تكون مرتبة ومدبرة، بما في ذلك التسجيل التلفزيوني، بحيث يحس الإنسان أن كل ما يجري عبارة عن مسرحية كبرى ومستمرة!
أما حين يصدر الحكم بالمؤبد على رفعة الجادرجي ويُنقل إلى سجن أبو غريب، ويُسمح بزيارته في أيام محددة، ويصبح تأمين الأكل والملابس ممكناً، وكذلك الكتب والورق، فعندئذ تتغير حياته. يصبح العمل همّه الأساسي، وهكذا ينجز أعمالا مهمة، وفي أكثر من مجال، بعد أن تؤمّن له بلقيس ما يحتاج إليه من مصادر، وتتحول رقابة الكتب، ما يُسمح به وما يُمنع، احد التحديات التي يجب مواجهتها والتغلب عليها. وهذا ما يتم بعمليات تمويه يقوم بها أكثر من طرف.
ورغم أن السجان يبقى سجاناً، فإن عدداً من هؤلاء لا يغفو الإنسان داخلهم في شكل كامل، إذ يبدون بعض التسامح في أحيان معينة، ويغضون النظر عن "المخالفات" الصغيرة، وقد يساعدون في بعض الحالات! أما آخرون فإنهم لا يشعرون بوجودهم واهميتهم إلا من خلال القسوة وبذاءة اللسان وفظاعة التعامل. ويظهر مثل هذا السلوك، واغلب الأحيان إثناء زيارات الأهل والأصدقاء، ويزداد من خلال استسلام السجناء ورضاهم عما يجري، وأيضا بتقديم المزيد من التنازلات في محاولة الاسترضاء السجانين. وهكذا نجد أن عالم السجن يمور بشتى أنواع التصرفات، وبخليط غير محدود من البشر والأمزجة.
ولا بد من الإشارة في هذا المجال إلى أن رفعة، لم يفقد روح الفكاهة رغم المعاناة. كان يلتقط لحظات المفارقة سواء على نفسه أو تجاه الآخرين، ويعرضها رغم قسوتها البالغة. فحين يتلف سرواله مثلاً لا يجد حرجاً في ذلك، ويبقى كذلك فترة، وحين يصله سروال بديل وسليم يشعر انه غريب وزائد! أما حين يُطلب منه أن يحلق لحيته بعدما طالت كثيراً، فإنه يبلّغ الحارس أن لديه "موافقة" من المحقق بالاحتفاظ بلحيته! ويأسف انه لم تلتقط له صورة باللحية أو بوجود القيود في معصميه. وهناك مقادير أخرى من السخرية السوداء بثها رفعة في ثنايا كتابه، وتبدو لأول وهلة بريئة. لكن التمعن بها يُظهر كم تحمل من احتمالات ومرارة.
وإذا كنا قد عرفنا رفعة الجادرجي من قبل، من خلال عدد من الكتب التي صدرت له، مثل: صورة أب، وشارع طه وهمرسميث، ثم الاخيضر والقصر البلوري، وجدلية العمارة، وأخيرا مقام الجلوس، فإن الاكتشاف الكبير كان: بلقيس شرارة. صحيح أنها كتبت مقدمة طويلة لرواية "إذا الأيام أغسقت" لحياة شرارة، لكن عبر اشتراكها مع رفعة الجادرجي في صناعة هذا النص، يدل على أن لديها الكثير لتقوله، وان لديها القدرة على ذلك.
ولا بد من الإشارة أخيرا إلى أن الصمت، في أحيان معينة، يمكن أن يكون طريقة بالغة الدلالة والقوة في التعبير، وهذا ما مثلته أم رفعة منذ لحظة اعتقاله والى لحظة الإفراج. كانت ترى كل شيء، وتتابع كل شيء، ولديها الكثير لتقوله، وقد قالته فعلاً من خلال الصمت المدوّي الذي لفها وهي تتابع هذه المهزلة المأساة!

ملحق النهار - الأحد 27 تموز 2003


إقرأ أيضاً: