جاكلين سلام
(سوريا/كندا)

جاكلين سلامأفتح ثغرة، وأعبر إلى جانبٍ من" علاج المسافة " بينها وبينه، وكما تنبشه وتقترحه قصيدة الشاعر قاسم حداد، في مجموعته الشعرية علاج المسافة، الصادرة في طبعتها الثانية عام 2002 عن المؤسسة العامة للدراسات والنشر، وتحديدا في قصائده المعنونة بـ: "الأسماء " و" حكمة النساء" و" حصتنا في النساء" وما أكثر المسافات بين الإنسان وقرينه، بين الرجل وشريكة سريره، بين المرأة وعاشقها، بين حكمة يؤثث لها الشاعر بقصيدته الحداثية وتراث أجحف في الوأد واللاحكمة دهرا...وأستعير هنا فقرة من نصوص الشاعر، حتى غدى الظلام ماثلا بحدة :

"...انظرْ إليه
ظلامٌ مألوف يقف هناك
مثل عدو واضح" (1) .

لكأن الألفة حلت بين النقائض!

هذه المسافة من الظلام والفرقة والنأي من سيكسرها، ومن سيعيد صياغة نسق ثقافي أكثر رحمة وإنسانية وانسجاما بين مخلوقات هذا الكوكب الجميل، رجاله ونسائه، غاباته وجماده؟
وأجيب: لربما الشاعر/ة!
ويليق به وبنا وبالشعر أن نتوقف أمامه والقصيدة بامتنان، بعد أن قلنا طويلا - وأنا شخصيا كتبتها في أكثر من مناسبة - بأن ثقافتنا تكرس الفحولة والذكورة وتمخر في عبابها منذ الأزل، وتكاد تودي بنصفنا إلى جحيم بلا قيامة.
إنها خطوات تنبع من شاعرية الروح وشفافية مستقبلية حين الرجل صديقنا وشريكنا ورفيق أحلامنا يسكب من حبره وفكره، طاقات ضياء نحو شرفات أكثر أمنا وجمالا. أقول هذا وأستند على بعض مما يحمله فكر الدكتور عبد الله الغذامي في بحوثه حول" تأنيث القصيدة" و" المرأة واللغة": " أن التأنيث مرتبطا بالخطاب اللغوي لهو نسق ثقافي يصدر عن الرجال مثلما أن التذكير نسق ثقافي آخر يصدر عن النساء مثلما يصدر عن الرجال، وكم من امرأة عززت الخطاب الذكوري إما بأشعارها أو بكتاباتها أو بما ينساق بين يديها من قول أو فعل... كما أن للرجال دورا أو أدوارا في تأنيث الخطاب اللغوي الإبداعي... " (2)
لكأنني أغبط نفسي وألمس أيضا نعمة وحكمة وأمل حين أجد ما يكسر هذه الأنساق الفحلة والمضمر من شريعة السلالات والإرث المحمول على الأكتاف كصليب لا يقود إلى خلاص، نعمة توازي ما يراه الشاعر قاسم حداد إذ يقول:
....
"نعمةٌ،
ونحن في برزخ اليأس والأمل
لم يبق لنا في قصعة الحياة
غير غُسالَة المناديل بعد وداع شامخ
فحين تفرغ المرأة من مخاضها
تدب رعشة الماء في عظامنا المنهكة
وتفيض الأقداح بأرواحنا الطاعنة في السفر
المرأة ذاتُها، / سيدتنا النبيلة،
تصون حصتنا في قصيدة النساء " (3)

.....

لكأن الشاعر في " حصتنا من النساء" يعيد لها/ للسيدة/ أبهة وبريق وخصوبة الآلهة العشتارية في دورة الخصب والولادات، يزاوج بينها وبين الكون بمن فيه، يحثّ الجملة الشعرية مرارا، أو يرجوكم أن تعالجوا هذا شططكم " الذي تغفره السيدة " وتكسروا المسافة و :

" لتصغوا لها
سيدتنا المضمخة، في مخاضها الأعظم
بقناديل أشعارنا
يعلو صراخها
فتنثال النيازك... " ص 60.

أنها سيدة /نا، المفرد الجمع، الكليمة المعنى، الأمل اليأس، الصرخة وسرير الولادات، القابلة والعروس وهودج الحياة، سيدة نبيلة الخصال تهب الروح وتهب " الذهب " وتهب الجسد والغفران حتى أقاصي النسيان

" كمن ينقل خاتم العرس من إصبعه
ليضعه في الأصابع الفتية كلها " ص 61.

ويقرأ علينا بعض صفاتها و " الأسماء" في القصيدة !
هوّة أخرى نكاد نلمسها ونوشك على علاجنا منها، إذ يحضرها الشاعر إلى القصيدة، فلنسمع شهقة ليلها، نحيب جسدها، تراتيل وحدتها وعزلتها وخوفها حتى أصبحت نقيض أمومتها وأنوثتها أيضا

" لنسائنا طبيعة الجلاميد
يعلنّ فضيحة الجبل
يقتلن الوهم وقرينه
فيتوله بهنّ الرجال مفتولو الأحلام " ص 43.

من العسير أن يعج الكوكب الأرضي برجال ذوات أحلام مفتولة، ونساء من طبيعة الصخر....
أين الماء إذن، من أحرق العالم، جسدنا والروح إلى هذا الحد؟
هذا ربما بفعل المسافة والبعاد الروحي، فلنعالجه بحميمية وحبّ، وها صفاتهنّ دليل شجن وجرح فهنّ: المنكسرات/ الوحيدات / المنخذلات في ليلهن / محض رغبات وصراخ وشهقات مكبوتة:

" سمينا نساءنا المنكسرات وراء المهود الشاعرة
المستعادات من سلالة الحرب
حارسات الأحلام
لئلا يذهب ليلنا وحيدا بلا رسائل ولا أجنحة... " ص 42.

ورغم كل هذا وذاك فهن ّ الخصب في الطيف ويعلمن البحر دروس الفتنة والمحار، يكسرن عتمة الليل بقناديل أرواحهن ويبذلن نشيدهن لثغة طفولية وغمائم بيضاء تنثال بردا في فم السلالات وحجارتها :

" نساء يطلقن الشهقة في هامش الليل
ونشيد الجسد
فيخرج الأطفال نطفا في ماء الطيف
ممهورين برغبات صريحة وباكرة.... " ص 43

وحين المسافة حريقٌ بين السيدة والسرير وبعلها، ماذا تكشف " حكمة النساء "؟
تصاويرهن تعبر مخيال الشاعر، الناطق بألسنتهنّ، الواجف في الحرف متلمساً لهنّ الأعذار مشفقا، ومأخوذا بقوتهن وبسالة أرواحهن، مفضيا بنا إلى حكمة، يتقمصها قلمه بحنان، يؤاخي جمرات قلوبهن، وأصواتهنّ الذائبة في ليل الصبر الطويل المرّ المضفور كعقد حول جيدهنّ، عقد ليس أكثر فتنة من فتنتهنّ الأصيلة العذرية، المستوحشة، عقد مشبوك كطوق، يكبل روح الحمائم، وهنّ التائقات دوما إلى البعيد والأجمل والأشقى مقاما ودنواً:

" أجهشتِ النساء المغدورات برجالهن
وأوشك ألجزع أن يبلغ بهنّ /
ليرمين خواتمهن في وجوه الرجال..... /
لكنهن ّ استدركن فأمسكن عن الخلع /
واستدرن نحو دورهنّ /
يدهن الأسرة بالتوابل /
ويؤججن القناديل بزعفران السهرة /
ويذهبن في استجواب المرايا /
يشحذن أسماء عشاقهن بالأكباد /
وكان في ذلك حكمة.. " ص 21

نراهنّ ثانية في هذه القصيدة بعضهن ( محسورة الروح ) وبعضهن لها ( شكيمة المبارزات) وبعضهن تخصب ليلها كما تشاء وتتزاوج غيبا بمن تشاء، تتحد بالكون تطلّق وحشتها ووحدتها، تصير اشتباكا في لُحمة المجهول والكوني، ويطفر من روحها الغناء، تطير محفوفة بالملائكة، وفي ذلك حكمة كما يريد الشاعر:

سحبتْ امرأة سريرها المشبوق نحو حوش الدار
وأطلقت ْ وحش الأساطير في بخور الأرجاء
ثم طفقت في الأغنية
كانت جوقة الملائكة معها
ومعها قندة الليل
تحرس السهرة
فطاب لها أن تقترن بالهواء
وكان في ذلك حكمة " ص 23

أنثر بعضا من مفردات الشاعر لتقول ما لديها، عن واقع حال تلك النساء: النساء المغدورات - رهينات الوحشة - امرأة محسورة الروح - امرأة كسرتْ أرتاج الأبواب - تقرأ رسائل الحب من صندوق العرس - ..... هذه بعض كلمات تقص وتدلل سواء أخذناها بحيزها المعجمي أو في مستواها الدلالي في القصيدة المسبوكة بحكمة، معجونة بحليب أحلامهنّ، ورونق الحرف المتجذر في دخيلة الروح، مهشمة المسافة بين روحهنّ ومداخل روحه، بين أجسادهن وأسرتهنّ والحلم بضياء يكسر أرتاج الأقفال الذهنية التي اعتلاها الصدأ.

" نساء مغدورات برجالهنّ
يغدرن بهم
يكشفن لهم ذريعة الفتنة
كأن في ذلك حكمة "

هكذا نساء ينهلن من الحلم، يقتنصن حبيبا من قراءة رسائل الحب وبما يوزاي فعل الحب، يبدعن عوالمهن، يعتصمن بالضوء وما يكسر أثقال الليل وجدران السجن البيتي والروحي... نساء منذورات لفرح عصي عن الحضور والاكتمال، عاشقات حد الدهشة الغامضة، بلا دليل إلا القلب وحكمته.

هذا بعض مما يمكنني أن أعالجه في تلك القصائد التي كتبتها قاسم حداد، ولا أبالغ إن قلت أنني أقدمتُ على هذا بقلق وتخوف، لأن قصيدة قاسم مراوغة وعنيدة، وله طرائقه في " علاج المسافة " كما يبقى الغموض في سطوره قصد وغاية وشعرية كامنة تنتظر آخرين، ( يزيحون) و(يفككون ) عنها الأختام و(يأولون) عبرها لوعة المسافات، يتغلغلون بين طبقات النص ودلالاته، وسطه وفكره وبيئته.

وفي مقام آخر، أجد هذا القاطع الشجي من المسافة الصارخة، واللا اكتمال لكأنه" وقائعية " في سيرة العشاق والعشق ولا بأس أن أختم بتقاطع ومسافات أخرى بلا علاج كتبها الشاعر سليم بركات، حين راح يتلو آيات عشق " ديلانا وديرام " و يهذي من قلب وحبّ:

" فلتنم يا قلب قليلا
فلتنم
لم تنم ديلانا بعد
نام بعلها وهي لم تنم بعد
نصفها لديرام
ونصفها لابنتيها
نصفها لبيت ونصفها للعراء
إنها حيرة العصور والمكان
إنها حيرة النشيد الأبكم
إذ ينشده الجسد بين حبيب وبعل
إنها حيرة الحياة كلها
حيرة الخبطة التي تفجر ما يأتي
أو تمحو ما مضى
آه نصفها ساهر هناك ونصفها ساهر هنا
فلتنم أيها الهاذي
...
لم ينم ديرام بعد.... (4) ص 199

مسافات وأحوال وأقفال كثيرة تحتاج إلى علاجات ناجعة، تأججنا فنختلس الحلم ونرى الوجود الإنساني قصيدة / شهقة يبكيها الشاعر/ة، والمتبقي من الإنسان فينا، في خليقة الطين والكون أجمعين، منذ بدء الخلق والأساطير وإلى...
وهذا بعض ما وصل إلي عبر المسافات، أعالج به اغترابي الجغرافي أيضا، لأقول بالكيفية التي أرى بها، وتطرب خاطري بطريقة ما. وبمحبة أعالج المسافات الأخرى واشتراطاتها باستعارة المجموعات الشعرية للشاعر قاسم حداد، من مكتبة الجامعة الكندية/ قسم اللغات.

أقرأ أيضاً: