جاكلين سلام
(كندا)

انصرف كل الذين كانوا، كل الذين لم يكن مُقدّر لهم البقاء
شاسعةُ مملكتي وغريبةٌ أنا
متهتكٌ جسد الوقتِ بانتظاركَ
أيها الشِعر تقدمْ، عليكَ محبتي، عليكَ السلامش
لكَ كلي. لكَ هذا الجسدُ الذي لا أعرف أبجديته، وهذه الروح التي تضللني. تؤرِقني طلاسمها، فتنبثقُ من غياهب صمتي حفنة تساؤلات وعلامات تعجب، عجينتها اللاشيء، وكل شيء!

لم يبقَ لي إلا أنتَ...لم يبقَ لي

هنا مقعدان شاغران فاجلسْ بحق ربكَ والسماء، بحق الملح وأصدقني القول: هل حقاً أنتَ هو " الملح الذي يَحْول ُما بين العالم والتفسخ"؟

انصرفَ عني كلُ الذين كانوا
لكَ وحدكَ أعُلِنُ عشقاَ بلا شروط، بلا مقدمات، فترفق بي.
( يُطيلُ الشِعر التحديق في الكرسي، بأكثر من التحديق في وجهي)
نظّرتُه تقول ولا تفصِحْ
كيانه الفصول كلها، كما خفقة حرة في اللامكان، ويُمسّدُ أصابعي المرتبكة:أحبكِ، أحبهم...وأمقتُ الجلوس طويلاً، فاعذريني

سيدي مهلاً، اسمِعني قليلاً، أدخِلني مملكتكَ، امنحني بعض أسرارك...

لا أقُيمُ... والعالم غربتي( يُجيبُ الشِعر)، ستجدينني حيث لا تنتظرين...افهميني؟! افتحي خزائن القلب، تحرري من ثقل الجسد، ليتأتى لكِ الغوص عميقاً عالياً واتبعيني إن شئتِ وتذكّري، أن الذين بي آمنوا- أيضاً - لم يحظوا بالخلاص وأنا مثلُكم " محكوم بالأمل " وبأن فيكم قد ينضجُ خلاصي.

( قالها وتلاشى...)!
كانت دوائر صدى الصمتِ في الفراغ الكثيف، تَشي بحضوره الغائب.إلا أنه لم يغِب طويلاً. هنا حالات عِدّة رأيتُه يتجلى فيها، وبلا موعد.

حدثَ في تورنتو / 2002

في المترو العابر الى قاع المدينة الحجرية، كانت جالسة بكامل شبابها، نظرتها تثقب أرضية المترو كأنها تغور صوب قحف لا مرئي، صوتُها يُسائل صديقها الرجل السبعيني الجالس بجوارها: أبحَثُ عن معلومات حول مصير جثة الفرد هنا في كندا...أعتقد أن لكل فرد منّا حق الاختيار بل ضرورة الاختيار، منذ الآن، طريقة التعامل مع جسده الميت...
إما أن تتبرعَ بجثتكَ لصالح البحوث العلمية، أو توصي بحرقها على الطريقة الهندوسية، أو تشتري مساحة القبر الذي ستسند قامتكَ إليه وتنام بسلام... هذا ما أعرف، هل لديكَ معلومات اخرى؟
ينظر إليها بدهشة ويضحك: لمْ يشغلني البحث في هذا الموضوع حقاً، ثم...طز...جثتي؟ لا يهمني ما ستؤول إليه بعد موتي.

تجيب:ولكن تعرِف ْ؟ أنا لا أحدٌ لي...يجيب: سيأتي سيأتي، ولا أريد أن تبقى جثتي عالة على أحد.
يجيب : لا تقلقي سأسأل عن الموضوع وأخبركِ
لا، لستُ قلقة، هي فقط مسألة حسابات مادية...
كانت نظرة عينيها الغارقتين بلا نهاية في اللاشيء، تفضحان ضجيج داخلها ولم تكن تسمع حتى أنين السكة الحديدية كلما توقف المترو في إحدى المحطات كابحاً قامته الجامحة الطويلة، متوقفاً قليلاً ليعبر المنتظرون.
رأيتُهُُ، رأيته
رأيت ُ الشِعر في تلك الساعة جالساً في المقعد المقابل لهما، يستمع بلا عناء ويرسم على صفحة بين يديه، صورتها، امرأة عجوز في شارع بلا نهاية...وقبور متناثرة على الطرفين. ويرسم الرجل َالسبعيني الذي بجوارها، شاباً بنظارات شمسية. في يده باقة ورد ربيعية، يضعها على قبر لا شاهدة له ... والمترو يسير.

* * * * *


حدثَ في تورنتو 2002

صالة البيت بحجم حنين أخرس. في الركن مصباح أرضي، طاسته مزينة بزهور يابسة بنفسجية، التقتطتْها خلال مشاويرها في المقبرة المجاورة، وبين الزهور فراشة وجَدَتها ميّتة على راحة الثلج المتراكم خارجاً ذات صباح قارس.

الصمت ثقيلٌ. تحدق صوب الركن ذاكَ...فجأة تنتفض من مكانها على الأريكة وتحدث نفسها: يا لقسوتي ! ألا يكفي الفراشة احتراقها في الصقيع حتى الموت ؟! ما الذي دعاني لتثبيتها على المصباح؟ زينة!
تمد يدها إلى الفراشة الميتة حتى الشبع، تضعها جانباً على المنضدة، تُشعِل سيكارة أخرى، تغمض عينيها وتحاول اللحاق بطيفه الذي يقترب ويبتعد.
كان صنبور الماء في المطبخ يرشح قطرات تك تك تك تك تك تك...ولم يكن لديها خيار لتقف، وتوقف هذا النزف...
رأيته، رأيته
كان الشِعر مرتبكُ القسمات، مستلقياً معها على الأريكة يحدثها عن تعذيب المساجين في زنزاناتهم بوخز قطرات ماء من صنبور، ربما يشبه هذا !

* * * * *

حدثَ في اللامكان / 2002

علاقتي الغامضة بالغيوم، اتخذتْ منحىً آخر، منذ عهد ليس بعيداً ولا أعتقد أنه يهمكم سر ُهذا التحول.
من شرفتي المطلة على حجر وغيوم في هذا المغيب الشرس،
رأيته، رأيته!
رأيتُ الشِعر بجلاله، حزيناً يقتعد غيمة نازحة ما بيني وبين حبيبي المسافر أبداً.
كانت الشمس حينها تهجر المدينة مكفهرة، والمتبقي من أشعتها يصفع زجاج النوافذ المغلقة في البناية المقابلة لشرفتي وينعكس قرمزها على وجه الغيوم القاتمة المكتظة بلا عناية على صدر سماء غاب الأزرق عن امتدادها.
رأيتهُ، رأيته!
رأيتُ الشِعر منكسراً، وجهه رسالة لم تُفضَ كلياً، محمّلة بألوان تشابه ألوان الموت.
انقبضتْ شرفات قلبي المشرّعة صوب بيته، ولذتُ بالصمت الكابي
روحي لطمة هواجس غيبية مُعلّقة...
أقلقني أن الشمس هذه قد تصطدم بتلكَ العمارة الشاهقة. ماذا لو تشظتْ الشمس؟! ألن نتفسخ هنا من الرطوبة والعفن؟
سكنني مائة هاجس وهاجس، حتى صباح اليوم التالي، عبَرَ الشِعر سريعاً أمام نافذتي حاملاً رسالة حبيبي تقول: أنا بخير، كان بيني وبين الموت-البارحة- مناورة فجة، اجتزتها بمعجزة.... كي أبقى أحبكِ، ربما !

* * * * *

وحدثَ لا أدري متى وأين

رأيته رأيته
رأيتُ الشِعر جالساً على بساط الريح، يُهرّب الأوطان إلى عشاقها البعيدين، ويمد لسانه ساخراً من حرس الحدود.

* * * * *

رأيته، رأيتُ الشِعر يقف على شرايين القلب حين مرّ موكب آخرٌ للشهداء.

* * * * *


رأيته، يلاحقني ويسخر مني ويمد لي لسانه، حين كنتُُ أحاول إحدى القصائد...فانصرفتُ أمسح الغبار عن الزجاج، أرتّب أوراقي المبعثرة دوماً وأزرع قلقي في أرجاء الغرفة جيئة وذهاباً ريثما يُذعن لنداء الحبر بين أصابعي.

* * * * *


رأيته، رأيته
رأيتُ الشِعر يباركهما تلكَ الليلة. كانا يهجران جدران المدينة الحجرية، يهربان إلى بحيرة في حضن منتزه بعيد.
تمددا على الأرض صامتين. كان الوقت ليلاً، مجنونين، بريئين كانا. وعلى وجه الماء كانت ترف روحيهما، تعلو صوب قبة السماء، ترتمي حول حفيف الأشجار التي تحاكيها ريحٌ ودودة.
لم يقولا شيئاً حين سارا في الطريق المؤدي الى المدينة.

النجوم والعشب والماء والشِعر شاهدة.

* * * * *

رأيته، رأيته
رأيت الشِعر يجدل من خيوط روحه أوتاراً لقيثارة طفلة تكبر في رحم العاصفة
قميصاً لطفل ما خُلق ليعيش عرياناً
أراجيح لأطفال وجوههم معجونة من حليب وشوكولاته وقمح
وحين انتهى، أخذ قيلولة في صومعته ولا أدري إذا حقاً استراح.

* * * * *

رأيته، رأيته
رأيتُ الشِعر آخر مرة
كان يدور في شوارع العالم المظلمة، وحيداً ويافطة تقول:
متى كرنفال الحياة؟!
يكتب على جدران المدينة:كم ارتكبتم قبحاً وجمالاً باسمي، وكم تكذبون !
شاسعةٌ مملكتي، وغريبٌ غريبٌ أنا.

كندا
10/ 7 / 2002

المحبرة أنثى والكلام ناقص

جاكلين سلام

من أيقظني هذا الصباح ؟!
حمامة رمادية جدا، وباكرا جدا
أيقظني اصطفاق جناحيها على حافة نافذة غرفة نومي
تسربت رطوبة الهواء في الخارج الى حافات سريري
الإسفلت خارجا يشي بأنها أوشكت أن تمطر
الرطوبة عالية وثمة حبر يحترق!

هل هي الحمامة ذاتها التي تشاكس على نافذتي باكرا كل صباح وعندما توقظني تماما تغيب بلا اثر؟
الشرفة الآن ملعب لهواجس العالم. ربما ليس كل هذا ذا قيمة، لأنني هي /أنا، ذاتها. فقط التقويم السنوي ماتت بين أوراقه صفحة البارحة، البارحة عود ثقاب مطفأ، هكذا قال " كافافي " وانطفأ لا أدري متى.

لا، اليوم أنا لست ُ أنا البارحة، ولست ُ أنا غدا ولستُ أنا ذاتها آخر النهار. ويصدف أن أستيقظ وفي يديّ النهار، تفاحة.
يَحدثُ أن أكتسي لهفة طازجة ويصدف أنني على حافة الليل، جدة ذابلة . وقد يصدق العكس
لستُ أنا من أوجِه أشرعة هذه الصدف أو التحولات. ثمة كامن يفعل فعله غيبا.
يأتي الصباح، يذهب الصباح.... الى أين يذهب الصباح؟
ما باله القطار لا يكف منذ سنوات عن الصفير في أذنيّ صباحا ؟!
الى أين يريدني أن أذهب ؟ ما شكل مسافرينه؟ أين تهاجر بهم الطرقات... ؟
أُرجِح ان غالبية ركاب القطار العابر قريبا من كتف البيت، بعد قليل سيجلسون قبالة الكمبيوترات في أبنية عالية، مكيفة وتشبه القبور في الفضاء... وسيشتمون في سرهم رب العمل، رب البيت، رب العالم... النتيجة واحدة والأسباب متعددة

ما الذي يجري الآن بين أصابعي ؟ كنت مع الحمامة التي أيقظتني ومضت وعنوة عبر القطار؟ هل يتحسس القطار الرطوبة العالية على وجه الشجر والسكة الحديدية
الرطوبة خانقة، وأصابعي تحترق على رصيف من حبر.

الطفل يزعق ثانية ؟
جاري الطفل الصغير، يزعق الآن أيضا، ربما لا يريد ان يذهب الى المدرسة، أتراه يخاف افتقاد الأمّ، أمْ يكره الذهاب الى العالم؟
أقصد الصبي الأسمر الصومالي الذي يسكن في الردهة المجاورة، الذي خرجت من ذات صباح وباكرا جدا، صرخت في وجهه وأمه: أرجوكم، لا أستطيع الاستيقاظ كل يوم على بكاء طفل حاد...
لا أعرف هل أصبحت الطفولة حادة، أم البكاء حادا، أم العالم...؟
الأم اعتذرت، الطفل بحلق فيّ وسكت، نبهتني نظرته الى أنني على باب الشقة، والثوب يشفُّ يشفّ... توقف َ بعيدا عن أمه وصمت َ. غاب الطفل من وجهه، هو يبحلق والأم تعتذر، النعاس يقطر من شعري ومن غفلتي.انتبهت ُ...الطفل فقيهٌ أيضا! وبلغتي الأم شتمته: يلعن أبوك ع الصبح ع شو عم تتطلع؟
الذي أريد أن أقوله، أنني لا أحبذ الاستيقاظ على طفل يبكي بحدة.

يا لدمي! لم يعجبني اصطفاق أجنحة الحمامة باكرا أمام نافذة الصباح وأمقت صفير القطار، أخاله يزجرني لارتكاب معصية النوم! ماذا دهاه، هذا الطفل الأسمر كالقهوة
وماذا لا يعجبني أيضا؟ سأصمت الآن، سأعيد الكلمات الصارخة، الى أدراج معتمة وأقفل مسالك الضوء إليها وأسترق السماع إليها بعيدا عنكم. الكلمات تنجب في العتمة أيضا
" دور يا كلام على كيفك دور / خلي بلدنا تعوم في النور / ارمي الكلمة في بطن الظلمة / تحبل سلمى / وتولد نور..."
هل حقا ستولد "نور"؟

من أيقظني هذا الصباح؟!
قد يكون ذاك الذي يحمل الجرائد الصباحية الى بابي، باكرا جدا
لا أعرف أهو رجل أم امرأة. الشخص الذي يضع الجريدة أمام أقدام الباب، لا يحني ظهره، يرميها من طوله. الكلام الكبير في الجريدة يوقظ الباب بصخب طفيف يوقظني ويترك العالم في صفحات على بابي
أتحاشى أن أقرأ الجريدة صباحا. لا شيء إلا صور من عالم يتهدم... هنا حادثة اغتصاب ، هناك حادث قطار او سيارة او رصاصة طائشة او صاروخ موجه بتخطيط حاذق. يا الهي ماذا هنا ؟ ماذا هناك ؟ ما لون العالم يا هذا الصباح ؟
أنصرفُ الى الشرفة. بالرائحة القهوة التي أعددتها وأنا نصف مستيقظة ... وحدها اليقظة على القهوة رحيمة. القهوة قبل ان تتسخ باي كلام
في حضرة القهوة الأولى، لا أفتح الكتاب... لا أفتح الايميل... لا أرد على الهاتف
في حضرة القهوة الأولى تنبثق فيروز- صوت الشعب من دمشق! - من الذاكرة والكرمة والغاردينيا التي ترعاها أنامل أمي...
أمي، أيتها الأجمل من الغاردينيا، أجمل من اله منسي، أجمل من قلب الصباحات الطازجة
أمي، لقد استيقظتِ باكرا جدا. صباحك ياسمين وفيروز وخير
صباحكِ قمح وماء وبسملة وركعتين في محراب الحياة
أمي، هل رششت ِ أزهارك الكثيرة بالماء؟ هل قطفت ِ بعضا من الجوري، أمي أمي أمي، أما زالت تلك الجورية البرتقالية في كتف باب الدار تستقبل ضيوفك وتودعهم؟! من يزوركم هذه الايام ؟ أما هاجر كل الذين تعرفونهم
هل عاد أبي من مشواره الباكر صوب أمه الأرض. يتيم أنتَ يا أبي، ولم تدرك أن العالم يتيم أيضا، ولا أم ترعاه.
هل عاد أبي بأرغفة الخبز الطازج، ترافقه بدوية سمراء، أيقظتها الخليقة باكرا لتقدم للعالم الحليب واللبن...... العالم جائع منذ الأزل وصغيرة هي، تتعثر بفستانها الطويل جدا. تحمل لنا الحليب الى البيت وكفها مازالت حليبا
أه، ربما كانت تشتمنا وربما تبكي في داخلها، اذ ترانا نياما في فسحة الدار
هي التي استيقظت من قحف الصباح لتعبر المدينة الجائعة بجرار الحليب وباقات النرجس البري.
يا لقلب هذا الصباح الآخر. يا للقلوب التي يندلق صمتها كل صباح على كف العالم.
أتراهم زوجوها لابن عمها كي تنجب له أطفالا رعاة يحملون عنها العبء، او يكثرون عليها الأعباء، يبيعون حليبها وينامون جياعا.
الحليب ضروري جدا- يقول الأطباء-
اسكبوا الحليب على وجه العالم، على قامته، ليقف مرة واحدة أخيرة.
عظامنا مترهلة، أنقاضنا غائرة فينا، ليس لنقص الكلس، بل لان الصباح لم يعد ابن الشمس.
أمي، أذكركِ الآن وأنت ِ تُعدين مائدة الصباح. أذكر أنني كنت أخلط الشاي بالحليب وأُكثر من السكّر جدا... ملقعة واحدة، اثنتان، ثلاث...
كنت ِ تنهريني: السكر سم ابيض، يكفي...
- كلمة قديمة: النفط ذهب أسود، والقمح ذهب أصفر- مالون الحقيقة إذن؟
أمي قهوتي مُرة الآن.. مُرة مرة والحليب مسحوب منه الدسم
الطفلة المجنونة، كانت تضع فائضا من السكر، فقط كي تبرد كأس الشاي
كبُرت، وتشرب الحزن بلا سكر- وأحيانا البحر -، قدحها سميك كما وجه هذا العالم
لا ينقل الحرارة ولا الحب ولا اللوعة بأمانٍ.

العالم مصاب بنقص في كل شيء؟ اللهم إلا تطور الأسلحة النووية ومشاريع باذخة لحروب صغيرة كبيرة أخرى
لا تبتئسي أمي ...هي مغامرة أخرى، تسلية أخرى للكاوبوي. ولن ينتهي العالم! هي فقط بعض الصواريخ ستزوركم...وأطنان القذائف ستسقط بالقرب منكم هناك... وسيصفق العالم البليد هنا وفي أمكنة أخرى، معتقدا إنها حرب ضد "الشيطان" وسيقضي والدي الوقت كله يتنقل من إذاعة الى إذاعة الى قناة فضائية وأخرى... أبي يلاحق الأخبار والمستجدات
أذكر، نهرني مرات كثيرة وأنا صغيرة اذ تأففتُ في وجهه: ما هذا يا بابا، نريد فيروز صباحا، الى متى أخبار اخبار اخبار وصفقتُ الباب على نفسي.
شتمني " يلعن أبوكم " العالم يشتعل وأنت تريدين فيروز!
سامحني يا أبي، العالم يواظب اشتعاله اليوم، يكمل دورة خرائبه وأريد فيروز، رحمة بي. ربما نسيتُ ان أكبر، نعم نسيتْ
لا تقلق يا أبي، سيقضون على "الشيطان" قريبا
أضحك من كلمة الشيطان، أخاله أحيانا بين أصابعي
الشيطان! أليس كما أرداو له أن يكون. الشيطان وسّوس للافعى ...الأفعى وسّوست لحواء، حواء وسوست لآدم.. وسقط الإنسان
وهل كان آدم دمية؟ واستجاب للمعصية، آدم أقصد...لا أعرف ماذا أقصد..بل أقصد تماما: لا دمية إلا عقولنا الصغيرة ومن الصعب علي تحديد الأفعى والساقط ومن أين وكيف بدأت الحكاية؟
أمي، تسألين عن صحتي؟
سأكذب عليكِ وأقول كل شيء على ما يرام. أمي تعرفين إنني كذبتُ عليكِ أياما كثيرة وكنت دوما أقول لكِ أنني بخير وانزوي في وحدتي أرقص وأبكي على الورق، الورق الذي لا تستطيعين قراءته. واسمحي لي الآن أن اشتم جدي، والدكِ لأكثر من سبب....
وأيضا تسألين عن عالمنا هنا؟
العالم يضيق، ثيابي تختنق، يسيح الوقت، روحي تحبو إليك...آه، ما أكثر الجحور.

سأحكي لكِ أشياء عابرة أخرى... لا تقطبي ماما، ولا تنهرينني لطول لساني:
سأكذب ثانية، الكلام العاري أمرّ من القهوة، من الصبر. هل الصبر مرّ؟ أراك تعيدين جملتكِ الشهيرة " يا صبر أيوب"
لا، سأخرس ثانية لأنني لا أستطيع أن أحيكَ عباءة للحكاية العارية.
أردت ُ أن أقول وباختصار:ذهب رجل ليزور العالم المريض...وكانت سيدة هناكَ صدفة. كادت نظراته أن تمزق البنطال الذي تلبسه. انتهى.
العلم مريض، الوباء مستفحل وقديم
رجل يغتصب امرأة بعينيه، العالم يغتصب العالم بلسانه، بالصواريخ العابرة للقارات
السيادة للقوة، القوة انتصاب.
ماذا فعل بنطال سيدة برجل عقله بين فخذيه؟ قالت سيدة أخرى بسخرية مرة وفي يدها فنجان قهوة عربية.
الحدث ناقص، اعذريني... " ة أخرى مُرّة ودخان يتكاثف، تحلق شارة حمراء في رأسي مكتوب عليها " ممنوع من الكلام / ممنوع من السكات/ ممنوع من الابتسام / ممنوع من الغُنى / وكل يوم في حبك/ تزيد الممنوعات / وكل يوم يوم بحبك / أكثر من اللي فات..."
خسوف آخر... الحبر يبتلع غصته والحوت يبتلع القمر وسكان القرية يقرعون الصنوج ويضربون على قحف التنك، يفزعون الحوت ليترك لهم القمر بسلام... ماذا سنفعل يا أولادي، لو أصر الحوت على ابتلاع القمر؟
ماذا لو مات القمر!

من أيقظني ؟ الحبرُ أم أنتَ يا أيها الغريب!
لا، لست أضحك، إنني أبكي ... لا إنني أبتسم وأتذكر... قلتُ إنني سأشتم جدي لسبب ليس عابرا...لأنكِ لن تقرأينني أمي
هل قلتُ لكم بأنني لا أؤمن بكلمة " عابر " إذ ، لاشيء عابر، لا شيء يفنى، كل شيء قابل للتحول .
أتخيل دفتر الهواتف في بيتنا العتيق وأرى رموزكِ الهيروغليفية وأنت تضعين مقصا أمام رقم هاتف جارتنا الخياطة. ترسمين سكينا أمام هاتف القصاب ووردة أمام رقم آخر وحذاء على آخر... تخترعين لغتكِ ورموزكِ
طائرات.ائرات... طائرات ... طائرات، وتتشابكُ على أرقام هواتف أبناؤك المبعثرين في القارات. وما أجملكِ أمي، ما أجلك. وما أشقاه قلب العالم.
هل للعالم قلب؟ أشكّ أشك أشك ... لو كان له قلب لكانت القيامة يانعة.

" سلام عليك ِ وأنت تعدين نار الصباح / سلام عليكِ / سلام عليك / أما آن لي آن أقدم بعض الهدايا إليك ... أما آن لي أن أعووووود إليك ....... أمي أضعتُ يدي ...."
أمي وجدت ُ يدي! وما يزال بين أصابعي حليبك ِ الطازج... لا، لا حليب بين يدي
بين يديّ حبر وحبر وحبر، شمس تندلع وقمر لا يكتمل
بين عينيّ حبر وعلى شفتيّ حبر...أمي أمي أمي، أين مريلتي المدرسية الآن ؟
أريد أن أرى الحبر الذي بين طياتها. الحبر الذي كان يزعجكِ وكنت ِ تعنفينني دوما، عندما تأخذين مريلتي للغسيل وتقولين: يا مجنونة هل تكتبين على ثيابك ِ؟ ألا يوجد عندكِ دفاتر وأوراق تكفي ؟ ... الحبر يتحد بالثياب، آثاره تبقى.
وأعتذر الآن أمي لطيفكِ وهو ينظف العالم في عيني.
أمي ثيابي نظيفة، متسخة أوراقي والحبر كثيف، الحبر معصيتي... الحبر قيامتي... الحبر أمي... الحبر دمعتي... الحبر حبي...
المحبرة أنثى والكلام ناقص ابن ناقص.


حمامة قطار طفل أمي الحليب الجرائد العالم القهوة
القهوة واليقظة والسيكارة والدخان يتكاثف في الأصابع، الرطوبة عالية وأوشكتْ أن تمطر.

من أيقظني هذا الصباح؟
قهوة أخرى والعالم لا ينام . قهوة أخرى والعالم لا يستيقظ. قهوة أخرى ثقيلة جدا، مُرة جدا والعالم ليس العالم، ليس الحبر، ليس القهوة، ليس أجنحة الحمامة، ليس بكاء الطفل، ليس أخبار الجريدة ولا...
العالم ليس العالم، وكفى

من أيقظني؟ الحبر أم الصمت أم الكلمة
اختلطت أصابعي بي وبكم، اختلط الوقت بالموت... أقصد اختلط القول بالقتل
ولكن، من أين تبدأ الحكايا؟
هل كان في البدء حبر وكانت الكلمة أم كانت العتمة وفي بطنها الكلمة أم كانت الروح وأصبحت الكلمة الله؟

صباح الخير أيتها الحياة
صباح الخير أيتها
صباح الخير
صباح
من يوقظ العالم ثانية!

استيقظت للمرة الألف ...
أريد أن أنام. أن أغفو على وقع الحبر ... وقبلها أريد أن أعترف بفعلتي: أنا التي شنقتُ المهرج، ومازال يتأرجح على النافذة!
أفتحوا نوافذكم. الرطوبة عالية، دخان القبر كثيف، وينذهل الحبر... ينذهل حبيبي عندما أقول له: من يستطيع أن يكتب السماء، من يستطيع أن يكتب الرقص، من يستطيع أن يكتب الروح!

من يُكمل الحكايا ؟
شهرزاد ؟
شهرزاد علتنا أيضا، وترقص في المحبرة...لسانها صخرة " سيزيف"
من يحكي رقصتها ؟
الرقص قيامتها، ولا تحتاج للحبر
رقصتها لكم، منكم، اليكم
لا، رقصتها لها
رقصتها حبر يحترق
وهل يحترق الحبر؟
اصمتي، الان

صباح الخير أيتها الحياة
صباح الخير أيتها
صباح الخير
صباحُ من يوقظني جدا.

كندا
13/ 8/ 2002

أقرأ أيضاً: