(1)
فاز حسب الشيخ جعفر بجائزة سلطان العويس، وهو يستحق الفوز ويستحق التهنئة. فاز من دون مقدمات إعلامية مبهرجة، وبلا روافع من النقاد، ومن دون انتماءات إيديولوجية ذات طابع تبعي، أي يتبع إليها الشاعر لكي تدفعه دفعا إلى التلميع والمجاهرة والترويج، إذ يكاد حسب الشيخ جعفر يقع في الظل، ولكنه الظل الساطع بنخلة الله، فهو الأقل بين أبناء جيله "أواخر الخمسينات أوائل الستينات" حظا على وليمة النقاد العرب مع انه الشاعر الأكثر جذرية في التحول النوعي الذي طرأ على الشعرية العربية من حيث تميزه اللافت في القصيدة المدورة على وجه الخصوص.
كتب بصمت وعاش في كنف هذا الصمت، نائيا بنفسه عن الصخب والمبالغات والاستعراض الشعري والسياسي معا، وبالتالي، فاز بهدوء، وفي الوقت المناسب، ولعلي فرحت بفوزه اشد الفرح لأن فوزه يعني فوز نوع من الشعرية العربية التي انتمي إليها، كما ينتمي إليها قلة من الشعراء العرب، وهي شعرية السرد إن جاز الوصف، وهو سرد محكوم إلى قانون عروضي صارم ادخل "النثر" إلى شرعية الشعر، وفتح مجالا أكثر اتساعا للشاعر الذي يجد في الجملة الطويلة تنفسا أسهل وأرحب برئتين نظيفتين تتيحان للنص هواء قادما من الجهات الأرضية والسماوية معا.
وسيكون حسب الشيخ جعفر صاحب طريقة شعرية مشتهاة من خلال تمكنه من شكل "التدوير"، وقد تبع هذه الطريقة "السهلة والممتنعة والممتعة عدد من الشعراء العرب، بعضهم نفسه قصير فأعيته التجربة وسط الدرب فسقط، والبعض الآخر القليل واصل مسيرة التدوير ذات الطعم الخاص تماما، وسوف أكون من الشعراء الذين تأثروا بالشاعر حسب الشيخ جعفر مبكرا، في حين كانت ظلال شعراء كبار تنفرد هنا وهناك في الساحات الشعرية العربية.
تركت تلك الظلال ذات الطابع النجومي والشعبوي أو الجماهيري المشبعة بالخطابات السياسية المنبرية العالية، وانحزت إلى صوت حسب الشيخ جعفر.
تعرفت إلى شعره في أوائل الثمانينات. تعرفت تحديدا إلى مجموعته الشعرية الرائعة "زيارة السيدة السومرية". قرأت المجموعة بفتنة طاغية وحرصت على ألا أعيرها إلى حد من أقراني الشعراء ليكون أثر حسب لي وحدي. انه نوع من انه نوع من الأنانية المشروعة وغير المؤدية على أي حال. في ما بعد امتدت "انانيتي" إلى مجموعاته الأخرى "عبر الحائط في المرآة"، "نخلة الله" و"الطائر الخشبي"، ثم يتوقف حسب الشيخ جعفر بعد ذلك عن استخدام أسلوب التدوير ويذهب إلى القصيدة القصيرة أو "السونيتات" و"الهايكو"، وفي كل هذه التجربة ستظل عيني على هذا الشاعر الذي نادرا ما اقرأ له حواراً أو حتى شاهدت صورته.. وحسنا حدث ذلك معي، فقد أضفى ذلك عليه غموضا لذيذا بالنسبة الى، ولكنني كنت اشعر إنني سألتقي هذا الشاعر ذات يوم، بل، وسيصبح صديقي.
(2)
في أحد أعوام بداية الثمانينات سافرت إلى العراق للمشاركة في دورة من دورات مهرجان المربد الشعري، ونزلت في فندق الرشيد، كانت هذه هي المرة الأولى التي ازور فيها بغداد. في اليوم التالي سألت عددا من الشعراء العراقيين عن حسب الشيخ جعفر.. أين يكون؟ ما هو شكله.. وصفه.. هيئته؟ هل هو هنا بين حشد الشعراء المدعوين إلى المربد؟ فهمت منهم انه ينفر من هذه التجمعات وان بإمكاني أن أجده في اتحاد الكتاب العراقيين. بحثت عن الاتحاد ولم أجده، وبقيت طيلة المهرجان متشوشا، فقد كان المهرجان بالنسبة الى هو العثور على حسب، وفي أحد الأيام ذهبت إلى شارع المتنبي في احد أحياء بغداد، وهو شارع مخصص لبيع الكتب القديمة، وابتعت يومها مجموعة من الكتب من بينها "المملكة السوداء" للقاص محمد خضير، وعندما دفعت بالنقود إلى صاحب المكتبة رفض أن يأخذ فلسا واحداً منها، وقال بلهجته العراقية المحببة. "عيني أنت ضيف على المربد.. شلون آخذ منك فلوس"، وأعطيت هذا البائع الطيب عنواني في الإمارات ورجوته أن أقدم له أي خدمة يريدها، فشكرني، صافحته وغادرت مكتبته وبعد شهرين وصلني طرد كتب من بغداد أرسلها صاحب المكتبة إياه. حملت الكتب وشرقت بدمعي. هذه هي بغداد وهذا هو شارع المتنبي فيها. وهذه هي أخلاق العراقيين النبلاء. أتذكر ذلك الآن وأنا اكتب عن حسب الشيخ جعفر، وفي الوقت نفسه أتخيل ما فعله الأمريكان في الشارع والمكتبة وصاحب المكتبة.
(3)
في العام 1997 كنت أعمل في جريدة الدستور الأردينة وكنت في ا لمساء بعد انتهاء العمل أتردد على مقهى صغيرة في شارع السلط وسط العاصمة الأردنية، وفي عمان التقيت للمرة الأولى بالشاعر حسب الشيخ جعفر. الآن لا اذكر كيف التقيت به وأين بالضبط، لكن ذلك اليوم كان بالنسبة لي بمثابة عيد حقيقي. صرت التقي حسب الشيخ في تلك المقهى العمانية الصغيرة الحميمة، وزرته في غرفة معلقة في كتف أحد جبال عمان. كانت غرفة متواضعة كأنها من عهد الرومان، ولكنها كانت بحسب الشيخ بيتا أو منزلا. وكان لي في "الدستور" عمود يومي، فكتبت عن زيارتي لحسب وكتبت عنه ورحبت به في الأردن، ونبهت الشعراء إلى إقامته العزيزة بيننا، فقد كان حسب قليل الاختلاط بالوسط الثقافي وما كاد يعرفه أحد، وجراء ما كتبته اتصل بي الصديق عبدالله حمدان رئيس تحرير مجلة "عمان" وطلب مني أن أدله على مكان سكن حسب الشيخ، وعرفت في ما بعد أن أمين العاصمة آنذاك الدكتور ممدوح العبادي طلب زيارة حسب ورحب به، واستقبله حسب بكل عزة نفس وبكل امتلاء الشاعر بنفسه ليظل حسب مقيماً في كبرياء قصيدته.
تكررت لقاءاتي بحسب الشيخ في عمان، لتتشكل بيننا صداقة جميلة عرفت خلالها معدنه الطيب وروحه الشفافة وهدوءه الآسر، أكثر من ذلك اكتشفت أن حسب الشيخ جعفر يعيش القصيدة قبل كتابتها، كما اكتشفت مدى صدقه مع ذاته.. تمثل ذلك في طيف الإحساس بالغربة والاغتراب، ونأيه عن الاختلاط بمن هب ودب. انتقائي جدا في صدقاته، بل، وأكاد أقول انه يعيش مع نفسه ومع شعره وقراءاته.
في العام 1998 أجربت معه حوارا طويلا، وفي العام نفسه التحقت بجريدة "الخليج" ونشرت الحوار في "الملحق الثقافي" في يوم 27 يوليو/تموز، 1998 ومما قاله لي.. انه استطاع أن ينحت حتى الآن أربع مفردات لن يعثر عليها في المعاجم وهي موجودة في قاموسه الشعري فقط وهي: "الزنبقاء" أي حالة رؤيتك المكان وقد تزنبق كله آخذا لون ورائحة الزنبقة، ثم مفردة "الاقمرار".. نحويا هي "أقمار" من "أقمر" وهو استلها من اخضرار أو احمرار، وبذلك كما قال لي اجتاز العارضة النحوية واصطنع مفردة "اقمرار"، ثم مفردة "العقرباء" من العقرب، ومفردة "الرملاء".. الأرض ذات الرمل الكثير".
في عمان كان حسب الشيخ جعفر يهمس انه مسافر غدا أو بعد غد كما اخبرني وانه وجد الحاضرة الأردنية دافئة بقلب طيب حسب وصفه، وعلى أي حال توقف حسب خلال ذلك العام عن كتابة الشعر، ولكن بعد هذا التوقف اجتاحته موجة غزيرة من الإنتاج الشعري.. انتقل إلى بيت آخر في منطقة "وادي السير" غربي عمان، وظل مقيما في هذا البيت حتى الآن. البيت الذي شهد كتابة الكثير من قصائده ولياليه المؤرقة بالحنين إلى بغداد.
في عمان، لم اسمع كلمة تذمر واحدة من حسب الشيخ جعفر على الرغم من أوضاعه الصعبة جدا، ولم المح في كلامه أي رغبة بالانتقال إلى أي مهجر أوروبي أو غربي أو أي رغبة باللجوء إلى أي مكان كما فعل العشرات من الشعراء العراقيين الذين خرجوا من بلادهم جراء الحصار الأمريكي الغاشم على العراق.. هذا الحصار الذي تحوّل اليوم إلى احتلال.
(4)
هناك جانب آخر في شخصية حسب الشيخ جعفر وهو كتابة السيرة الذاتية. في البداية كتب سيرته في مؤلفه المعروف "رماد الدرويش" ثم في الكتاب الآخر "الريح تمحو والرمال تتذكر". وهي كتابة اقرب إلى السيرة الروائية. تتداخل فيها تجربته في موسكو وصور ومشاهد طفولته خصوصا في الكتاب الثاني "الريح تمحو والرمال تتذكر"، فهو يورد في هذا الكتاب مقاطع طويلة منتظمة عن طفولته ونشأته وصباه، ونستطيع من خلال هذا الكتاب أن نعرف حسب الشيخ منذ وهو طفل وحتى اليوم.
سيرة حسب ممتعة في مباشرتها وبوحها وكمية الاعتراف فيها. وهو كعادته في شعره وفي كتاباته النثرية يعمد إلى الحوار في هذه السيرة الغنية بالتفاصيل المدهشة والتي لها اكبر الأثر في تكوينه الشعري والنفساني والوجداني، فهو يتذكر صورته عندما كان في الرابعة أو الخامسة من العمر بين الحكم والواقع حيث أوتاد الخيام ومهده المتأرجح فوق الأرض الرملية بذلك الغطاء الصوفي الأحمر الكبير.. ".. وكان هو مريضا محموما. كان في رحلة مع والدته إلى أهلها البداة الرحل أصحاب الخيام والأغنام. وكانوا في أخريات الربيع أو أوائل الصيف. كانوا مخيمين في البرية المترامية، وفي الأفق الشرقي تبدو الجبال متجمعة على نفسها كالقطط..".
ويتحدث حسب عن مخاوفه في تلك السن من "السيبة" والكلاب وجده بثوبه الأبيض العريض ولحيته الحمراء الكثيفة، "وفي رثاء جده هذا كتب أول قصيدة له وكان في الثانية عشرة من عمره. كان الوقت شتاء، وكان أصحاب أبيه النجفيون ضيوفا لديه في ركنه المنعزل القائم تحت نخلة الله - بالمناسبة نخلة الله هي نخلة "سبيل" (أي صدقة جارية).
ويقول حسب في سيرته: "تحت ضوء الفانوس الأصفر قرأ قصيدته بين أيدي الاضياف. وكان أحدهم الشاعر النجفي المعروف الشيخ علي الصغير. كان يومها رئيسا للرابطة الأدبية في النجف الاشرف" وسيبدي الشيخ إعجابه بالقصيدة، وبعد ذلك تصل إلى حسب أعداد من مجلتي: الغري، والفصول الأربعة، وينكب على قراءات كلاسيكية مبكرة، ويتعرف إلى مجلتي "الآداب" و"الأديب" كما يقرأ للبياتي ونازك الملائكة وبدر شاكر السياب.
ونعرف من السيرة انه أصيب بالملاريا صغيرا.. "وغالبا ما كانت أخته تحمله فوق كتفيها متنقلة به تسلية وتدليلا له، وفي الصف الأول الابتدائي كان مولعا بتخطيط صورة الملك الطفل الوردية الباهتة المعلقة على الحائط فوق السبورة السوداء، وغالبا ما ضاق المعلم ذرعا به وبدفاتره المهملة الممزقة، وكثيرا ما عوقب بكتابة الدرس أكثر من خمس مرات، وكانت أمه نصف أمية فهي تقرأ دون أن تعرف الكتابة، فكانت تقرأ له الدرس وهو يكتب ويعيد، وفي الصف الثاني أو الثالث لم يعد يجتذبه من القراءة غير أوصاف الحقول والمراعي".
ويشهد حسب الشيخ جعفر في طفولته شجارات الفلاحين في الحقول الريفية وتتخلل هذه الطفولة مجاورته للصابئة، ثم التفتح على عالم المراهقة في مقهى "سيمون" و"الرقصة الخطرة في ملهى الحمراء.
ذلك كان مقطعا من طفولة حسب الشيخ جعفر، في هذه الطفولة ثمة أنهار وأهوار وقطعان ماشية وحياة مفعمة بالغنى الريفي الذي يفيض براءة وعفوية، وسوف ينعكس كل هذا المناخ في شعر جعفر في ما بعد، هذا الشاعر الذي سيكون لشبابه مكان آخر هناك في بلاد "الرنجة" والكافيار الروسي وهضبات الثلج.
(5)
في العام 1960 يرحل حسب الشيخ جعفر إلى موسكو للدراسة ويمضي فيها نحو ست سنوات، وهناك يعيش مرحلة غنية من حياته ويقول عن هذه المرحلة: "يبدو أن أجمل أيامي قد انقضت وأنا طالب مغترب عاش تلك الحرية الهائلة التي لا يمكننا العثور عليها إلا ونحن طلبة غرباء في حاضرة تعطيك من يدها ومن فمها" ويقول: "حينما اتيح لي أن أسافر للمرة الأولى إلى موسكو لم يكن يهمني شيء أكثر من ارتياد المتاحف والمسارح. هناك في موسكو وجدتني للمرة الأولى أمام التاريخ الفني للعالم منذ حضارة الرافدين الأولى وحتى مدرسة باريس".
وفي موسكو يتردد حسب الشيخ على متحف "بوشكين"، وأتيح له التعرف إلى اللغة الروسية التي ينقل عنها إلى العربية الكثير من النتاجات الشعرية لكبار الشعراء الروس وأقربهم إلى مزاجه الشعري.
في موسكو يهضم حسب الشيخ جعفر: بوشكين، جوركي ليرمنتوف، الكساندر بلوك، يسينين، تشيخوف الذي يصفه ب "القاص المادي الوردي" إضافة إلى هضم دوستوفسكي ورسول حمزاتوف واجماتوفا، أكثر من ذلك يخرج حسب الشيخ بكتابين في السيرة يتمركزان حول حياته في موسكو التي يعود إليها بعد ذلك ولكن هذه المرة لفترة قصيرة "ثلاثة اشهر" في دورة صحافية، فيذهب إلى أماكن إقامته الأولى في موسكو ويستعيد صداقاته الماضية التي طالما حن إليها، بل أن هذا الحنين هو الذي يحرك الغالبية العظمى من كتابات حسب الشيخ جعفر خصوصا في زاويته الأسبوعية "الأرض الأخرى".
امتلأ حسب الشيخ جعفر بالروح والثقافة الروسية، وسيعود إلى العراق في العام 1966 برؤية أخرى، ومثلما كان حنينه في روسيا يشده إلى مرابع طفولته وصباه وشبابه في العراق، سيشده حنينه في العراق إلى حياة موسكو الطلابية حيث حرية الشاعر وحرية الشعر.
صور موسكوفية كثيرة اختزنها حسب الشيخ في ذاكرته، وستكون هذه الصور مصدر الهام له في الشعر وفي النثر، وأظن أن جذوة حنينه الروسي مازالت حية حتى الآن، ولكن هيهات، فقد تفكك الاتحاد السوفييتي، وذهب زمن جعفر الموسكوفي تحت أرجل "البيروسترويكا" على يد "جوربا تشوف".
يقول حسب الشيخ جعفر عن هذا الحنين المتبادل: "حين عدت إلى بغداد صيف 1966 كنت أتلهب حنينا إليها، وكنت مثقلا أيضا بالتجارب الموسكوفية، وحال وصولي أحسست بخيبة مريرة كتلك التي أحسستها ليلة وصولي موسكو للمرة الأولى، فالجو حار والوجوه كالحة، والرقيب العسكري في المطار يظن صورة تشيخوف صورة لينين، تلك كانت غربة الطير العائد، غربة حفارة في القلب وفي الروح، ولعلها كانت وراء كل ما كتبت من قصائد.. أتذكر حجرة الخان المتقشرة رطوبة، ونزهة الوطواط الليليلة بينما كنت أشم بعيدا رائحة الغابات والقرنفل باقة احملها باحتراس، تحت الثلوج الناعمة، في انتظار صاحبة لي عند محطة مترو الجامعة".
وان هذه المقارنة بين مكانين لدى حسب الشيخ جعفر تكشف مدى ثراء حياته في موسكو، ولكن الآن تغير كل شيء، فهو في كتابه "رماد الدرويش" يتحدث عن النساء الموسكوفيات ذوات الخطى المتثاقلة. هذه الخطى أسرعت بالاتحاد السوفييتي إلى دول منفرطة من عقد الاتحاد، وذلك المجد الماضي أصبح اليوم مجرد حفنة رماد لعله هو ذاته رماد "الدرويش الأحمر".
(6)
شهدت فترة الستينات الثقافية العربية، وكذلك الفترة السياسية تلك الكثير من السجالات والاختلافات والحوارات الأدبية والثقافية بين كتاب ومفكرين وسياسيين عرب وصل بعضها إلى حد التخوين والتآمر على القومية واللغة العربية، وعلى صعيد الشعر بالذات كان هناك صراع دائر ربما مازالت ذيوله معينة حتى الآن في حياتنا الثقافية، يدور هذا الصراع أو دار في العادة حول نقاط محددة في الشعرية العربية التي كانت تمر في مخاضات تحولية مذهلة على مستوى النص واسلوبيته ومرجعياته، ودخلت على الخط جهات سياسية حاولت تجيير هذا الصراع لمصلحتها، وبذلك، نبتت الكثير من العداوات بين الشعراء العرب وصلت إلى حد القطيعة.
حسب الشيخ جعفر كان دائما خارج هذه العداوات وهذه الصراعات، فقد حصن نفسه بنوع من عزلة شخصية اتاحت له الانشغال بشعره وتجويد هذه الشعر بأعلى مستوى من الأسلوبية الفنية، وفي حين كان الشعراء يتعاركون على قضايا من مثل: الريادة والالتزام وشرعية الشعر الحر أو شعر التفعيلة وبعده قصيدة النثر.. في وسط هذا العراك الناشب بين الشعراء، كان حسب الشيخ جعفر يكتب ويترجم ويقطف مسرات لياليه متفرجا من بعيد على كل ما يجري، ولذلك، فنحن لا نرى انشغالا بالتنظير في كتابات حسب الشيخ جعفر، ويبدو لا شأن له بما يقوله المنظرون والنقاد والإيديولوجيون الذين أساسا لا يفهمون الشعر، واذا أعطى حسب الشيخ رأيا في الشعر نجده رأيا عابرا مبسطا ولكنه رأي مختزل وعميق من دون تفصيلات نظرية أو نقدية تسحبه إلى السجال والعراك مع الآخرين.. ولكن لا بأس من البحث عن بعض آرائه العابرة هذه، لكي نتعرف إلى رؤيته وكيفية تفكيره في الشعر وقد سألت حسب الشيخ جعفر أين يجد الشعر ولماذا لم يكتب قصيدة النثر، وأجابني في حوار منشور معه: "أجد الشعر في التحليق الفيلمي أو الموسيقا وقد أجده في التمثال الحجري أو الخطوة العارية الراقصة.. خطوة "اولانوفا" راقصة الباليه الروسية الشهيرة، فأنا أجد أيضا الرعشة الشعرية في بعض قصائد النثر أكثر مما أجدها في البعض من القصائد الموزونة، بل قد تهزني قصيدة النثر الجديدة مثلما تهزني القصيدة الموزونة الجيدة. إما لماذا لم أخض في الجداول المتراكضة بين أيدينا الآن.. اعني القصائد النثرية؟ فهو شأني ما دمت قادرا على التسلل ليلا إلى المقاصير الشعرية المتماوجة المتمايلة تمايل الحسان الراقصات".
وتأكيدا على نزوع حسب الشيخ جعفر إلى العزلة والظل وربط الشعر بهما يقول على سبيل التعرف إلى آرائه وأفكاره: "لماذا يريد الشاعر أن يتشبه بمطرب العصر؟ وأي جدوى من ألاعيبه وحيله ورغبته المحمومة باجتذاب الأضواء؟ لم يعش الشعر إلا في الظل، وفي الظل تتوهج الروح وتتعرى، فما الفائدة من الارتماء في الجحيم التلفازي؟ طالما صفق بعضهم للشهر الخاوي!".
ويقول: "أنا اقرأ القصيدة الجيدة، أحيانا، وكأنني اتأمل امرأة رائعة قد أخذت زينتها منذ حين، وهي الآن في الطريق إلى موعد".
ومن أفكاره: "أحيانا قد لا يثير الإيقاع العروضي الرتيب إلا الملل والرتابة. من هنا ركب العديد من الشعراء ناصية النثر الشعري غير أن الحركة الكونية موزونة بالسد الكوني الإيقاعي". وعن الشعر العربي القديم يقول: "كان من الجائز أن يكتب الشعراء العرب الأوائل شعرا ملحميا، إلا انهم آثروا الجمع بين الروح الملحمية والروح الغنائية في المعلقة الواحدة.. تلك هي طبيعة الصحراء العارية الغنية حيث تتعمق النظرة الشعرية، وتتكثف بين الأفق والأفق".
وحول النثر الصوفي يقول: "يبدو النثر الصوفي ابعد مدى، وأغزر تألقاً من الشعر الصوفي، كان ابن عربي في "ترجمان الأشواق" شاعراً في شروحه على المتن، ناثرا في نظمه".
ويقول: "أنا لا أرى الشعر إلا في الحياة نفسها، إما ما أقرؤه فلن يتبلور إلى شعر بين يدي إلا من خلال التجربة الأرضية المعيشة".
تلك كانت مقتطفات من آراء ومقولات وأفكار حسب الشيخ جعفر حول الشعر. أفكار هادئة لا تجنح إلى الصدام ولا تثير شهوة أحد إلى العراك طالما أن خلفها شعرية متميزة، وتبدو هذه الشعرية لحسب الشيخ جعفر وكأنها بالفعل تدور في فلك لا يقترب من الأفلاك الأخرى المتصادمة والمتضادة في الكون الشعري العربي الذي عرف اشد حالات الاختلاف والاجتهاد خلال النصف الأول من القرن العشرين ومازالت بقايا الاختلاف ماثلة لنا حتى الآن.
(7)
في أمسية شعرية لحسب الشيخ جعفر أقيمت في المجمع الثقافي في ابوظبي في العام 1997 قال الشاعر احمد راشد ثاني في تقديمه للأمسية أن حسب طفل كبير، وقد ارتاح الشاعر إلى هذا الوصف، لا بل يحلو القول انه "طفل نخلة". هذا الطفل تربى أيضا في كنف السيدة السومرية، وكتب قصائده من الطين والثلج، وها نحن نحتفل به اليوم لمناسبة فوزه في جائزة العويس، وفي هذه المناسبة أيضا نتطلع إلى أمر آخر يتعلق بتراث حسب الشعري، ونأمل هنا إعادة طباعة أعماله الشعرية القديمة التي صدرت في الستينات والسبعينات من القرن الماضي وهي مفقودة في المكتبات ومعارض الكتب، لا بل إن في أدراج الشاعر مجموعة من الكتب المخطوطة التي لم تصدر إلى الآن، وهذه مناسبة سانحة لأن يتم العمل على إصدارها، ومن مجموعات المخطوطة: "الفراشة والعكاز"، "تواطؤا مع الزرقة"، "رباعيات العزلة الطيبة" و"أنا اقرأ البرق احتطابا"، ومنذ الأعداء الأولى للملحق الثقافي في جريدة "الخليج" والشاعر حسب الشيخ جعفر يكتب ثابتا في الملحق تحت عنوان "الأرض الأخرى"، وتشكل هذه الكتابات تراكما تأمليا ووجدانيا وثقافيا يتشكل منه كتاب آخر يدور في أكثره في المناخ الحنيني الروسي للشاعر، وتعكس هذه الكتابات أيضا حجم استيعاب حسب الشيخ للثقافة الروسية المعاصرة ولنبض الحياة الإبداعية إبان مكوثه هناك في الستينات وما بعدها في زيارته الثانية إلى موسكو.
يقول حسب الشيخ جعفر: "سلاحي آية الكرسي ووجه أمي"، وأضيف أيضا إن له أسلحة أخرى: الصمت، الشعر، الظل، والحنين. وشاعر بهذا العتاد لا تملك إلا أن تحبه.
الخليج الثقافي
2003-12-01
إقرأ أيضاُ