عبدالرحمن عفيف
(سوريا/ألمانيا)

 نصرالدّينحين تصلُ سيّارتنا إلى فايمار، يرانا غوته بالقربِ من سورِ حديقته. يرانا لكنّه يبقى جالسا. إنّه في سنوات شيخوخته، متعبٌ قليلا ومضعضعٌ، لكنّه متأنّقٌ وفي الأعلى أبصرُ أبراجَ مكتبة آنا أماليا وأيضا وكأنّ عيني ناظور أرى بقعا صفراء من النار حولها وأيضا إحدى مجلّدات الدّيوان الشّرقي للمؤلّف الغربي.

- سيّارتكم رائعة، لقد طلبتُ من وزير الثّقافة أن يشتري لي سيّارة من هذا النّوع لأقوم برحلة ثانية إلى إيطاليا لكنّه نسي الموضوع، وها ترونني أمضي عطلتي الصيفيّة في فايمار. أشتغل على قصائد باللّغة العربيّة وأحاولُ بين الفينة والفينة كتابة رباعيّات بالفارسيّة. وثمّ ينظرُ إليّ مليّا
- أهلا بكم في فايمار... كنتُ أحدس أنّكم قادمون. أنت – مشيراً بسبابته إليّ- ستنقل هذا اللّقاء إلى العربية والكورديّة. ورزا سيقصّ لي نكت الملا نصر الدين الذي يقال له جحا بالعربيّة وهولغر يستطيع أنْ يطبخ طبخة صحيّة، الكثير من البقوليّات وزيت الزّيتون ولا تنسَ – أحبّ النبيذ الاسباني جدّا، هل جلبتَ لي منه بضعة زجاجات؟ سأطلب من الخادم أن يدفع لك ثمنها، حين تغادرون إلى هانوفر. وبخصوص هانوفر- كم هم شعب بعيد عن الثقافة، أحس بهم وكأنهم حمقى، يتكالبون على الصناعة ويهملونني. وطبعا ليس من قبيل الغيرة، لماذا لم يصنعوا لي تمثالا ويضعوه إلى جانبِ تمثالِ شيلر في مقابل المكتبة التي فتحت العامِ الماضي هناك بين كروبكه وشتاينتور، أعني مكتبة فايلاند! يا لهم من بلهاء أهل هانوفر!!
حين يقولُ غوته ذلك ويتّهم أهل هانوفر بالبله والحماقة، أصمت وأنظر إلى هولغر، هو أيضا لا يفتحُ فمه كالعادة.
ينادي غوته إحدى خادماته ويطلب أن تحضر لنا فناجين القهوة. نجلس بالقرب منه ويقصّ رزا إحدى قصص جحا
بينما كان جحا نائما، ولج بعض اللّصوص إلى بيته تحت جناح الظّلام. سمع جحا الخشخشة واستفاق لكنّه لم يحرّك ساكنا من الخوف الكبير الذي استولى عليه. جمع اللصوص كل شيء من بيت جحا ما عدا السرير الذي كان نائما عليه واللّحاف وخرجوا.. بعد أن خرجوا بعدّة دقائق، لفّ جحا اللّحاف مع الشلتة التي كان ينام عليها وتبع اللصوص سريعا. في إحدى الأزقّة التفتَ اللّصوص وإذا بجحا يتبعهم حاملا سريره على ظهره، صاحوا به: ماذا دهاك، لماذا تتبعنا هكذا؟ فردّ جحا: ألسنا ننقل البيت!
حين أنهى رزا قصّة جحا، انفجر غوته مقهقها وجفلت إحدى الأحصنة التي كانت تجرّ حنطورا بالقرب منّا. ثمّ طلب من رزا أن يعيد قصّ نفس الحكاية. فأعاد رزا الحكاية ثانية. كما في المرّة الأولى، لم يتمالك غوته نفسه وغمره ضحك استمرّ خمس دقائق كاملة. بعدها صمتَ قليلا وقال:
الكثير ممّا يكتبُ حاليا في ألمانيا لا يرقى إلى مستوى هذه القصّة البديعة، آه، لو اتّخذ الكتّاب الألمان لهم جحا مثلا في الإبداع وخاصّة صديقي شيلر المنهمك في المثاليّات وقصص الثّورات والبطولات. هل تعلمون أنّني الآن منشغل بوضع كتاب عن سيرة جحا وطبعا سأضيف هذه القصّة التي رواها رزا للتوّ إليها.

هير فون غوته، سأذهب بعد شهرين لزيارة أهلي في إيران، هل لك طلب محدّد لأجلبه لك من هناك
أحقّا، يا لها من بلاد رائعة، الحضارة الفارسّية العظيمة، صديقي سعدي شيرازي. اجلب لي مثنوي معنوي لمولانا الأكبر جلال الدين الرومي. أيضا عدّة كيلوات من ذلك النوع من التمر الذي بدون نواة، كم أحبّه وقد وصفه لي الأطباء لتقوية الشهوة خاصّة في هذه السنّ. لو خيّرتُ أن أكون غوته العظيم أو هارون الرشيد، لاخترت أن أكون هارون الرشيد. كم هي متعبةٌ الكتابةُ، لكنني حاولتُ أن أمزج بين فضائل أمثال هارون الرّشيد والأدبِ. خلقتُ أدبا مثلُه الأعلى هو الشّهوة ونيران الشّهوةِ. وتبّا لهم، هؤلاء الرومانسيّون، المسلولون، المرضى بالحبّ وحيث لا يوجد حبّ بدون شهوة جنسيّة، أقصد الحبّ هو جنس فقط... والآن.. انفضّوا من حولي..!!.

 

قمنا من على كراسيّنا وتوجّهنا إلى الشّارع الرئيسي في فايمار. تجوّلنا بعدئذ في أزقّة المدينة. الجوّ كان صيفا، الأشجار مائلة على أسوارها والحجر متبرعم في أقصى زاوية. كان هناك الكثير من الأشجار التي لم أرها قطّ. توقّفنا قليلا بالقربِ من مقهى يسمى مكسيكو. الشّوارع كانت مليئة بالسياح والحناطير كانت تأخذهم في جولات في ضواحي المدينة الصّغيرةِ أصلاً. فايمار صغيرةٌ، طراز معماريّ ألماني، في الشرفات أصص ورود بآلاف الألوانِ. في الأزقّة، على الجدران مكتوب على صفائح معدنية أسماء الكتّاب والفلاسفة الذين أمضوا أيّاما أو مرّوا بهذه المدينة مرورا سريعا. هناك مجموعات سيّاح يتمّ عرض المدينة وآثارها وتاريخها لهم من قبل أحدِ مرشدي السياحة. وعربات بأحصنة تقودها فتياتٌ جميلات في الأزقّة. أيضا لفايمار نهرٌ يقسّم المدينة وإلى اليسارِ منه مكتبة آنا أماليا التي احترق الكثير من كتبها قبل عامين. غوته يملك أيضا بيتا صيفيا على الجانب الآخر من النّهر يسمى غارتن هاوس، البيت الحديقة، فيه تقريبا كلّ أنواع زهور العالم، جلبها غوته من البلدان التي أمضى سياحاته فيها. وهو بيتُ شهوة. البيت الحديقة مبني على تلّ وللوصول إلى هذا البيت ينبغي قطع النهر ويتم ذلك بالمرور عبر صخرة مثقوبة ثم جسر صغير. بعد ذاك درب بسيط وفي الأعلى يبدو البيتُ مرتفعا على التلّ والصّيفُ في كلّ شيءٍ. في الحديقة البيتِ، الأشجارُ بأزقّتها تكوّن مكانا يخفي عن الأعينِ، هناك مقاعد ليستريح عليها العشّاق ويتبادلوا القبل في الّليلِ- ليمتصّوا بعضهم البعض إلى أن يأتي الصّباح ويغوروا في لذائذ الأبدانِ ولهبها.

جلسنا قبل أن نتوجّه إلى هانوفر في المقبرة، حيثُ زوجة غوته مدفونة. كنّا نريدُ زيارة قبر غوته أيضا ولم نجده ولم نسأل أيّ أحد عنه وكأنّما كانت رغبة خفيّة فينا تمنعنا عن ذلك. توجّهنا إلى هانوفر مفكّرين: حقّا هانوفر تحتاج إلى تمثال لغوته
وواحد للخوجا نصر الدّين،
هكذا يكمل رزا...