باسم الأنصار
(العراق/ الدنمارك)

رنا جعفر ياسينمميز هو المنجز الإبداعي بشكل عام والشعري بشكل خاص حينما يتمحور حول اللحظات الآنية من دون أن يفقد بريقه بعد زوال هذه اللحظات. وليس من باب التنبؤ إذا قلنا ان مجموعة الشاعرة رنا جعفر ياسين الصادرة حديثا في بغداد بعنوان ( طفولة تبكي على حجر ) تنتمي إلى النص الأدبي الذي لن يفقد لمعانه وفاعليته بعد فقدان اللحظة التاريخية التي تتحدث عنها عبر غالبية قصائد مجموعتها هذه ، وذلك لان بنائها الفني ولغتها الشعرية المموسقة بشكل واضح ومن دون موسيقى او إيقاعات مسبقة كما هو الحال في قصيدة التفعيلة ، هي التي تجعلنا ان نقول ذلك .
فالثيمة الأساسية للمجموعة تدور حول الخراب الهائل الذي يعصف بالبلاد ، وهو خراب أسبابه عميقة وكثيرة ولكنه كتب وكأن الخراب لايقتصر على مدينة الشاعرة او بلادها ، وإنما هو خراب ممتد في كل أنحاء العالم . ولم تنس الشاعرة ان تحمّل قصائدها بمحمولات مغايرة للمحمول الأساس في المجموعة . فهي تطرقت إلى ثيمات متعددة بشكل متفرق والى ثيمات تقع خلف الثيمة الظاهرية للنص . فالشاعرة ومن دون قصدية منها ربما سلكت درب شعراء العصر الجاهلي والأموي والعباسي حينما كانوا يضمنون قصائدهم بثيمات مغايرة للثيمة البرانية لها . فغالبية ثيمات ذلك الشعر كانت توحي لنا انها تتمحور حول ( الهجاء والمديح والغزل مثلا ) إلا انه من الظلم ان نختزل هذا الشعر العظيم بأنه يتمحور حول هذه الموضوعات فقط ، لأنه كان يتضمن وببراعة فنية فائقة ، ثيمات وأغراض اجتماعية وسياسية ومعرفية وفلسفية أيضا أخرى غير ماهو ظاهر عليها . ومن هنا فأن قصائد الشاعرة رنا جعفر ياسين توحي أحيانا انها تحمل على كفها موضوعات معينة ولكنها بذات الوقت تتضمن موضوعات أخرى ، ولنأخذ على سبيل المثال هذه القصيدة التي توحي على انها حوار مع العاشق الحبيب ، الا ان فحواها الجواني والأساس هو أعمق مما يظهره النص :

هكذا كنتُ دوماً
وحيدةً
من غير ميراثٍ مخضب
أشرعُ في خلقِ الأبدية لمن جاؤوا بلا مبررات

ونستطيع القول أيضا أن قصيدة رنا جعفر ياسين نموذج حقيقي للقصيدة الحرة المموسقة والمليئة بالإيقاعات التي تفرض شكل النص العام وحجم وشكل السطر الشعري . فالقصائد على الرغم من موسيقية جملها وإيقاعها الواضح الا انها لاتنتمي إلى قصيدة التفعيلة ، وذلك لأنها نابعة من أعماق الشاعرة في لحظة الكتابة وليست مفروضة عليها من الخارج كما هو الحال في قصيدة التفعيلة . وعدم انتماء هذه القصائد إلى القوالب الجاهزة من الإيقاعات لايعني انها تنتمي إلى فضاء قصيدة النثر ، كما يعتقد الغالب الأعم من الشعراء العرب بل والنقاد العرب أيضا ، لان شروط قصيدة النثر تختلف عن شروط القصيدة الحرة وتختلف عن شروط قصيدة التفعيلة السيابية ، ولهذا فأنه من غير المقبول الإصرار الغريب من الثقافة العربية على وصف الشعر المشطر الخالي من الإيقاعات بأنه قصائد نثر . ويبدو ان الشاعرة وارتكازا على موهبتها وفطرتها ( وطفولتها الذي هو شعرها ) في تلمس الشعر والأشياء المحيطة بها ، استطاعت ان تتغلب على العديد من التنظيرات الخاطئة والمطروحة حاليا حول أشكال الشعر المعروفة من خلال إصرارها على موسقة جملها الشعرية الحرة ومن دون الانسحاب إلى أجواء النثر المألوفة . وهذا الأمر جعل من لغتها الشعرية تتناسب تماما مع شرط اللغة المستخدمة في القصيدة الحرة، وهي لغة تنتمي إلى سياق الشعر الخالص، من حيث نظامها اللغوي ومن حيث بناء جملها الشعرية:

أنا
الفراغُ
أنا
اللامكانُ
واللازمانُ
أنا وجودٌ يتوعدُ بالوعيد

أن البعد السيكولوجي في المجموعة لم يكن غائبا عن التعبير عن مكنونات النفس البشرية حينما تحاط بالخوف والخراب . فحجم الدمار الهائل الذي حل بالبلاد له انعكاسات بديهية على النفس البشرية، لذا فأن التقاط هذه الانعكاسات وتجسيدها في النص الشعري يعطيه أبعادا أخرى تحسب له:

من أعالي الخوف نزلت
أبحث وحذائي.ي ، سكراب بيتي
ققمري،ذائي .
قمري ، رأسٌ الناقوس المقطوع
شرطيّ قطعوا رأسهُ في بابِ الدار

أو :

من درك أسفل مفقود مفقود
أصعد للشمس ،
أبحث عني ...

كما أن بعض القصائد وليس كلها طبعا ( بسبب شبابية تجربة الشاعرة )، احتوت على شرط الرؤيا الشعرية
من خلال استخدامها لمفردة ( الحرية ) في سياق آخر غير سياقها المألوف . فغريب أن تتحول الحرية من وظيفتها الأساس الا وهي الانطلاق والتحرر من القيود ، إلى وظيفة الموت والخراب . فالحرية ، رمز للحياة ، ولكن أن تتحول إلى رمز للموت في النص الشعري ، فهذا مايحسب للشاعرة من دون شك :

لا .. لا ..
لاتقتلني
أنا طفلٌ وأدته الحرية .
أصابعي قطّعوها ... هي في جيبي
ولساني نشروه على حبل عربي
أوَ لي من يترفقُ بي لأموت طريا ؟

يمكننا القول ان شعرية الشاعرة مستمدة من طفولتها ، ومن فطرتها ومن صفاء رؤاها حول الحياة، وهي مستمدة أيضا من غوصها في ثنايا النفس البشرية بعد أن جرحها الواقع المعاش . فبلاشك ان الجانب النفسي للشاعرة تأثر بشكل واضح بانعكاسات الواقع عليها وهو ما أضفى نضوجا فعليا على نفسية الشاعرة وعلى قصائدها ، ولهذا فأن قصائدها كانت تئن في لحظة ولادتها كأنين شيخ وقور .
من قصائد الشاعرة :
وهي قصائد ارتأت الشاعرة ان تدبجها بعناوين رئيسة مثل (عند الحجر 1، وعند الحجر 2 وهكذا ...)

-1-

هششش
أرضي دامية َ الأطراف ِ تزحفُ نحوي

آآآه ..
أرضي تبحثُ عنها .

2 .

صوت ٌ
     صوت ٌ
     ها ...... اسمعْ
     أطفالٌ باعوهم بصماتٍ منهوبة
     يغنـّونَ على ضفةِ الموتِ
     يرقصُ عصفورٌ محشورٌ في حلقي
     و يسيـّحُ الوطنُ المحبوسُ .

-3-

يا طفلا ً من ماء
تبخـّرْ
تكثــّفْ في غيمةٍ
أمطرنا وطناً من بلور
                        لنلعبَ فيه .

-4-

أحسستُ أني قارئة ٌ
و هجرتي لابدَّ منها
أرى طفلا ً يموتُ من الموت ِ
يجرّهُ هاملت إلى وردةِ نرجس ٍ سوداءَ
أتراني جننت ُ؟؟!

-5-

لا يصدأ ُ في قلبي
إلا..
الشكُ

البحرُ يغوصُ بأعماقه .

-6-

في جوفي ..
بقايا طـفـلة ٍ
تلعبُ بالشظايا
تهدهدُ لحدها

ثمَ ..
تموتُ في سكون ٍ

يا لهُ من مهرجان ٍ عاطل ٍ
كأنـَّه ُ ضجيج ٌ
أو توان ٍ يلعقُ القلقَ !!

-7-

أمسية ٌ عند الجبل ِ
تحدّقُ
يتراكمُ خوفٌ
طوفانٌ
وشجاعة ٌ

بينَ خندق ٍ وحاشية ِ الأوراق ِ البرية ِ,
مرَّ مقاتلٌ
آخرُ
فآخرُ
فآخرُ

في جوفِ الليل ِ
شتاءٌ متجدد ٌ
أنجبتهُ ولادة ٌ عسيرة ٌ

أسألُ عني طاعونَ الفرح ِ الممنوع
أتوهـَّّمُني
. . . . أينَ الضوءُ ؟

-8-

صعدتُ إلى المرتفع

وقفتُ

أنظرُ تحتي
أسقط ُ تحتي

جرداءُ خرافات ُ الأقدمينَ حولَ صخور ِ الوادي
ذي الخنافس ِالزرقاء
تتنبأ ُ بالسفر ِ إلى الحاضرِ
عبري تمرَّ بلا مخـاوفَ
أو تهاليل َ
أو فراق ٍ

تجثمُ على رأسي
و أقدامُها مدببة ٌ بلا أديم ٍ

. . . . . . . أيني ؟؟

-9-

إمسح ِ الخريفَ عن هفواتي
فما سمعتُ من التربـّص ِبأوراق ِ الخريفِ
إلا أنينَ سنينيَ الخمس ِ والعشرينَ
و أنا على المشارفِ واقفة ٌ
أ ُلوِّحُ ,
في يدي خمسة ُ أعواد ٍ من القصبِ
و على رأسي عشرونَ شمعة ً
في حقيبتي خمسة ٌ و عشرون ربيعاً

لكن !
في فمي
يموتُ كلَّ يوم ٍ
. . . شتاءٌ ناقصٌ .

-10-

لا وقتَ للموت ِ
الاستشهاد في الأعناق ِ
و القلائدُ في الخزائن ِ
تتكلـّسُ
الطاعونُ يفتكُ بالمرايا
و المواعينُ تصلُّ

لا وقتَ للموتِ
الروحُ تعربدُ
و الكفنُ تقيـَّحَ
و اللحمُ
بارد
بارد

البحرُ يبكي
يا ويحهم من ثقبوا شيمتهُ
تسلقَ الجدرانَ للفنار
أينَ الأفقُ ؟
مسحوقة ٌ أقدامُ من عبروهُ
نادوهُ
و استفسروا متعجبينَ
أينَ الأفقُ ؟

لا تشعلوا النيرانَ في المواقدِ
فالروحُ ضاقت من هشاشة ِ رغبتي
تلوبُ في صهريج ٍ يسخنُ
بالخسائر ِوالحماقات ِ
و حينَ تعلقُ فوقَ الباب ِ وجهي

يضيءُ قلبي
وخرائبي عارية ٌ
تهبُ المطاميرَ
صوتَ المنيّةِ المتجمدَ

أناديها
أناديها
أناديك َ
و أشهقُ بالخسارةِ
صديقان ِ في صندوق ٍ من العاج ِ لـَعِـبنا
نكبرُ
نتكهـَّلُ
لا وقتَ للحبِّ
فهلموا يا صحبي نموت ُ.

basimalansar@hotmail.com