باسم الأنصار
(العراق)

باسم الأنصارعندما برزت قصيدة التفعيلة العربية الحديثة على يد (نازك الملائكة والسياب)، فأنها برزت نتيجة جدلها مع قصيدة التفعيلة العربية الكلاسيكية (القصيدة العمودية) حول طبيعة الأوزان الشعرية، وحول طبيعة الكلمات المستخدمة في الشعر وحول أهمية أن تتحور بعض الأوزان الشعرية لكي تناسب إيقاعاتها، إيقاعات العصر الذي ينتمون إليه .
أي أن من أهم دوافع بروز (قصيدة التفعيلة)، هو أيمان روادها بالمتغيرات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية التي طرأت على عصرهم، والتي خلقت لديهم أحساساً (وهو إحساس صائب) بأن إيقاع وموسيقى عصرهم قد تغير، وأن مزاجهم النفسي وطبيعتهم كبشر قد تغيرت عن ماكان عليه الحال في العصور التي برزت فيها ( القصيدة العمودية) .
إذن فأن رواد (قصيدة التفعيلة) قادوا تجربة متمردة، هدامة، مغايرة (للقصيدة العمودية)، ولكنها في الوقت ذاته، كانت تجربة مطيعة، بنّاءة وتدعو إلى التآلف مع مزاجهم الخاص ومع مايرونه مناسبا للمزاج العام الذي يعيشون فيه .
غير أن الخطأ الذي ارتكبوه، هو حينما ألبسوا جسد قصيدتهم الجديدة ثوبا لايناسبها إلا وهو ثوب (القصيدة الحرة) التي تختلف عن ما أنتجوه من حيث الإيقاعات والموسيقى . والمصطلح الأخير مستعار من تجربة (اليوت) الشعرية التي تعد امتدادا لتجربة الشاعر الأمريكي البارز (والت ويتمان).
فحينما حاول (ويتمان) في مجموعته (أوراق العشب) في منتصف القرن التاسع عشر، الخروج على نظام التفعيلة الكلاسيكي المحدد في عدة قوالب شعرية كانت سائدة قبل وأثناء عصره، فأنه حاول خلق نظام إيقاعي بديل له يرتكز على إيقاعاته النفسية الداخلية المرتبطة بالإيقاع العام المحيط به، وبالتالي فأنه رأى ضرورة الانفلات من إيقاعات الأوزان الكلاسيكية الجاهزة واللجوء إلى إيقاعات الصورة الشعرية والجملة والثيمة التي يود طرحها من دون إيقاعات مسبقة . وبما أن هذه العناصر نتاج الشاعر في لحظة كتابته لها، أذن فأنها ستكون متحررة من قيود الإيقاعات القديمة، وفي الوقت نفسه ستكون مؤطرة بإيقاعاتها النابعة من الإيقاع الداخلي للشاعر .
وحاول (إليوت) ترسيخ هذه الظاهرة في الكتابة الشعرية، حينما بدأ يفلت بعض أبياته الشعرية من الوزن في داخل قصائده الموزونة، إلى أن تطور لديه الحال (وهي المرحلة الثانية) إلى أن يجري بعض التغييرات على الأوزان التقليدية، ومن ثم انتقاله إلى المرحلة الثالثة إلا وهي مرحلة التحرر من الأوزان نهائيا . أي أن (إليوت) انتهى به المطاف إلى (القصيدة الحرة) بعد أن مرت تجربته بعدة مراحل، غير أن رواد ( قصيدة التفعيلة العربية) نقلوا المرحلة الثانية من تجربة ( إليوت) والمقصود بها مرحلة تحويره لبعض الأوزان الشعرية الكلاسيكية، وأطلقوا عليها مصطلح (القصيدة الحرة) وهي ليست كذلك من حيث التسمية . فروادنا تأثروا بمرحلة التحوير الذي أجراه (إليوت) على الأوزان الشعرية الكلاسيكية وطبقوا تجربتهم الفريدة بنجاح منقطع النظير على الشعر العمودي العربي، وبالأخص الرائي الأصيل

الشاعر (بدر شاكر السياب) إلا أنهم أخطاوا بتسمية هذه المرحلة حينما أطلقوا مصطلح (القصيدة الحرة) عليها .
إذن الفرق بين (قصيدة التفعيلة) و(القصيدة الحرة)، هو أن الأولى تُكتب بأوزان شعرية جاهزة مسبقا قبل كتابتها، بينما الثانية تُكتب من دون هذه الأوزان، ولكنها بكل الأحوال تُكتب بناء على إيقاعات عناصرها (الثيمة، الصورة، الجملة ..الخ)، وهي إيقاعات مستمدة من أعماق الشاعر في لحظة كتابته للقصيدة. وبهذا استطاعت هذه الإيقاعات أن تخلق شكلا مشطرا لها . أي أن طول وقصر الجملة في ( القصيدة الحرة ) تابع لطبيعة إيقاع عناصر القصيدة المشار أليها أعلاه وليس تبعا للإيقاعات الكلاسيكية الجاهزة.
أما الفرق الآخر بين القصيدتين، هو أن الأوزان والقوافي المتناثرة في جسد (قصيدة التفعيلة) هنا وهناك، تؤطر رؤى الشاعر إلى حد ما، على اعتبار أنها مرتبطة بعلاقة وثيقة بدلالات ومعاني القصيدة بصورة أو بأخرى . وبما أن هذه الأوزان مؤطرة ومحددة وابنة ظروف حياتية تختلف عن الظروف الحياتية الآن، إذن فأن مايُنتج عبرها سيكون مؤطرا ومحددا إلى حد ما، إلا أن ذكاء بعض شعراء التفعيلة جعل نصوصهم المكتوبة في الوقت الحالي مقبولة ومستساغة من قبل المتلقي إلى حد كبير، لأنهم لم يؤطروا ويحددوا النسبة الكبرى من أبيات قصائدهم بالأوزان والقوافي، ولهذا صارت أقرب ماتكون إلى (القصيدة الحرة)، بينما هذا التأطير والتحديد للرؤى وللصور الشعرية متلاشي تماما عن جسد (القصيدة الحرة) .
الشئ الذي نود قوله أن (قصيدة التفعيلة) ظهرت كتمرد على (القصيدة العمودية) وهو تمرد أزاح أشياء وأضاف أشياء أخرى زاد من شعرية الشعر بشكل عام، وأبطل مشروعية الاستمرار في كتابة ( القصيدة العمودية) في العصر الحالي بالطريقة الكلاسيكية التي نعرفها، لأن رؤى هذه الأخيرة وصورها ولغتها مخنوقة ومؤطرة بإيقاعات شعرية لاتناسب عصرنا إلى حد كبير جدا . بل أنها لاتستطيع حتى التعبير عن الكثير من الإشكاليات الوجودية والحياتية بطريقة أبداعية متجددة وخلاقة بسبب طبيعتها المقيدة.
جوابنا: قائل: هل هذا يعني بأننا يجب أن نستغني عن قراءة (المتنبي، أبو تمام، أبو نؤاس مثلا) باعتبارعم أهم الرموز الكلاسيكية (للقصيدة العمودية العربية) ؟
جوابنا : لا . وذلك لأننا حينما نقرأ المنجز الشعري لهؤلاء الشعراء الكبار، فأننا أولا، سنقرأهم حسب سياقهم التاريخي، أي أننا في لحظة قراءتهم، نهيأ أذهاننا لتقبل الظرف التاريخي الذي فرض عليهم طريقة كتابتهم لقصائدهم . وثانيا، كقراء سنبحث عن الومضات الشعرية المتوهجة في قصائدهم، أيمانا منا بأن هذه الومضات لاتخضع لزمان أو مكان ما، وإنما هي تنتمي للزمن الإبداعي الأزلي الأبدي، ألا وهو الزمن السرمدي، الذي يمكننا أن نقول عنه بأنه وطن الإبداع الأصيل، ومعيار ذائقتنا الأولى والأساسية في تقبل هذا النص أو عدم تقبله . ومن هذا المنطلق نستطيع القول أن سر ديمومة وخلود شعراء من أمثال (المتنبي، أبو تمام، وأبو نؤاس) هو أن حجم ونوعية الومضات الشعرية المتوهجة في منجزهم الشعري كان كبيرا وواسعا قياسا بما أنجزه الشعراء الآخرين الذين عاشوا في أزمانهم .
ومن جهة أخرى فأن (القصيدة الحرة) ظهرت نتيجة جدلها وتمردها على (قصيدة التفعيلة). لذا يمكننا القول أن (القصيدة الحرة) هي الشكل الأخير للشعر الخالص وليس (قصيدة النثر) كما يعتقد البعض، لان هذه الأخيرة نتاج السياق النثر العام أولا ومن ثم انتمت إلى السياق الشعري العام بعد إدخال الأدوات الشعرية على النثر، بينما (القصيدة الحرة) هي نتاج السياق الشعري الخالص الذي يعتمد أساسا على (الخيال الحاد، الرؤيا، البناء العام للنص، وعلى الإيقاع والموسيقى ووو ) أي أن الاشتراطات الشعرية الأساسية متوافرة في (القصيدة الحرة) حتى بعد أن تخلت عن شرطي (الوزن والقافية) بأشكالها القديمة .
نحن نعتقد أن (القصيدة الحرة) سيطول بها الزمن طويلا جدا، لأنها تنتمي لشروط الشعر الحقيقية (الجملة الشعرية، الصورة الشعرية، الرؤية، السؤال، الرؤيا، الاستفزاز المعرفي، التعبير والإثارة الوجدانية.. الخ) وكذلك لأنها لاترتبط بالشروط المتغيرة والزائلة التي وضعها القدماء على الشعر ونقصد بشرطي (الوزن والقافية) أي أنها وهبت نفسها وحياتها للإيقاعات والموسيقى المرنة، المتحولة، المطواعة بيد كل عصر وبيد كل شاعر يتناولها، ولهذا هي قصيدة متطورة ومتنوعة وثرية حسب تطور وتنوع وثراء الحياة والشعراء معا، ولهذا أيضا قلنا بأنها ستبقى طويلا، على الرغم من أننا نؤمن أن تجارب عديدة تحتوي على شعرية عالية ستظهر في المستقبل كما ظهرت من قبل تجارب (قصيدة النثر) و(النص متعدد الأجناس) ألا ان هذه التجارب ستكون محايثة ومجاورة لها وليس تمردا عليها أو إلغاء لها مثلما تمردت (قصيدة التفعيلة ) على (القصيدة العمودية) أو مثلما تمردت (القصيدة الحرة) على (قصيدة التفعيلة) .
أننا نظن أن عددا كبيرا من الشعراء العرب يكتبون ( القصيدة الحرة ) الآن إلا أنهم قتلوا هذا المصطلح عندما أطلقوه خطأ على (قصيدة التفعيلة) أحيانا، وأحيانا أخرى عندما أطلقوا على قصائدهم الحرة مصطلح (قصيدة النثر المشطرة) وهو مصطلح أيضا خاطئ كالخطأ الذي أرتكبه رواد ( قصيدة النثر العربية) حينما أطلقوا مصطلح (قصيدة النثر) على ( القصيدة الحرة) .
وعلى الرغم من أننا نقدر ونحترم كثيرا الجهود الرائعة لهؤلاء الرواد في شحن الشعرية العربية بشحنات شعرية جديدة وخلاقة إلا أنهم خلقوا إرباكا لدى الأجيال العربية الشعرية لاتقل عن الإرباك الذي خلقه رواد ( قصيدة التفعيلة ) لهم . وكنا قد وضحنا رأينا بهذا الصدد في مقال آخر بعنوان (قصيدة النثر) .
فمتى يرفع البعض من الشعراء العرب مشعل (القصيدة الحرة) بعيدا عن المشاعل الباقية، وذلك لإعطاء لكل شكل شعري حقه واستحقاقه ؟ ولكي أيضا ننطلق في قراءتنا لأنواع القصائد المختلفة كل حسب شروطه الفنية، على اعتبار أن استيعاب شروط كل قصيدة من القصائد المشار اليها أعلاه سيعيننا على أطلاق الأحكام النقدية تجاهها انطلاقا من المنطقة التي تتحرك بها القصيدة، وليس انطلاقا من منطقة أخرى . أي على سبيل المثال لايمكنني أن أحكم على (القصيدة الحرة) انطلاقا من شروط (قصيدة النثر) وهكذا، لأن هذا الأمر سيخلق إرباكا نقديا وإرباكا للشاعر الذي لايستوعب الفروق بين شروط قصيدة وأخرى .
إنه مجرد سؤال !

basimalansar@hotmail.com