الكرة المعشوقة. منذ زمن بعيد يتجول عشق كرة القدم بين بلاد العالم من دون أن يلقى حواجز من أي نوع. هذه اللعبة كانت ولا تزال لعبة العالم كله. كل أربع سنوات، يعود المهاجرون من اللاعبين إلى بلادهم، وتعود الإعلام الوطنية خفاقة وتتسمر القلوب والعيون على أقدام اللاعبين. لم يكن ممكناً أن تصل هذه اللعبة إلى ما وصلت إليه، لو لم يكن ثمة بث مباشر. هذه اللعبة، كانت شعبية ولا تزال، لكنها مع تقنية البث المباشر، أصبحت أشبه ما تكون بديانة على العشب. مع البث المباشر، تحول اللاعبون إلى نجوم، واحتلوا الزمن الأوسع من وقت البث. الأهم من ذلك كله، انه بين كل ما يبثه التلفزيون، ليس ثمة ما يشبه كرة القدم. هذه الصور تتوالى أمام عيون المشاهدين، للاعبين يحاورون الكرة والخصوم، ثم يستعدون لتسجيل الأهداف. الأهداف في البث المباشر دائماً حية وتأتي في وقتها بالضبط. ليست الأهداف قصة، ولا اللعبة دراما، فقط ثمة اللحظة المناسبة. لحظة الفرح المشتركة في العالم كله. وأنت تشاهد الهدف الذي يحرزه الفريق، تكون، من حيث لا تعي أو تعي، مشاركاً لملايين البشر في سعادة إحراز الهدف في اللحظة نفسها. مبهج أن تفكر انك إنما تنتشي الآن في الوقت نفسه الذي ينتشي فيه الاوستراليون والصينيون، وفي اللحظة نفسها، يطلق العالم كله صرخة النصر والنشوة كما لو انه يملك حنجرة واحدة. العالم كله مجموع على إيقاع المشاعر نفسها. العالم كله موحد في الانفعال، والعالم كله يبكي ويفرح في اللحظة نفسها. العالم، أي شيء يوحد هذا العالم ويجعله متسعاً ومرئياً ومفهوماً أكثر من لعبة كرة القدم نفسها؟! تُدخلنا كرة القدم في إيقاعها، تجعل حيواتنا جميعاً متشابهة. في المشاهدة لا فرق بين لبناني وأميركي، وليس ثمة خلاف بين ليل ونهار. لحظة فرح واحدة تتزامن على سطح الكرة الأرضية، وتستطيع توحيدها أكثر مما يسع الشمس نفسها أن تفعل.
أردنا هذا الملف أن يُدخل هذه اللعبة في الكلام. أن يجعلها تستدرّ كلاماً كان إلى أمس قريب شبه متخشب. ثمة كتّاب كثيرون استطاعوا أن يُدخلوا هذه اللعبة في الثقافات. لكن اللعبة لا تزال تختزن الكثير الكثير من الكلام، ونحن في حاجة لأن نستصرخها أكثر وأكثر، ليتسنى لهذا العشق العمومي أن يمتلك اللسان.
*******
حمّى كأس العالم تصيب اللبنانيين أكثر مما تصيب العالم. الفريق اللبناني ليس مشاركاً في الكأس. لكن لكل لبناني فريقه ولكل واحد منهم نجومه المفضلون. واللبنانيون ينقسمون على اللعبة مثلما ينقسمون في السياسة. هذا المقال يحول استقراء وجوه الشبه بين اللعبة وحياة اللبنانيين.
من حسن حظ اللبنانيين أن الفرق الكبرى التي تتنافس على حيازة كأس العالم لكرة القدم، لا تنتمي إلى الدول المتدخلة في الشأن اللبناني. فلو صادف أن الفريق الأميركي مرشح للحصول على الكأس، لما كنا نجونا من اشتباكات عنيفة بين المناصرين لهذا الفريق والمعادين له.
بل أن بعض ألمع المحللين الصحافيين لم يتورع يوماً عن اعتبار مباريات كأس العالم مثابة انتقام رياضي من هيمنة سياسية. ولو قررنا أن نحمل "مازورة" السياسة ونقيس بها في الملاعب، لبدا لنا أن الإمبريالية الأميركية في السياسة تحل محلها امبريالية برازيلية، وان منافسيها في العالم كله يملكون من الحظ والأمل ما تملكه إيران وسوريا في مواجهة مفتوحة مع الولايات المتحدة.
أصدقاؤنا الذين لا يعرفوننا
البرازيل هي دولة صديقة بكل المعايير. لا يشك في نياتها "حزب الله"، ولا يرى فيها "حزب القوات اللبنانية" خصماً أو عدواً. هي دولة صديقة لأنها في نهاية المطاف لا تتدخل في الشؤون اللبنانية من قريب أو بعيد. لكنها في أيام المونديال تصبح الدولة الإمبريالية الأولى، ويصح فيها على ارض الملاعب ما يصح في الولايات المتحدة الأميركية في السياسة. ويرى بعض مشجعي الفريق الألماني أو الإيطالي أن تحدي الفريق البرازيلي واحتمال فرض الخسارة عليه، أو التحالف ضده وحوك المؤامرات من اجل استبعاده، إنما يشبه في مغزاه ومعناه بقاء اللعبة من عدمها. فلو أن الأمور استمرت على سيرها المألوف والمعروف منذ سنوات، لأصبح من الأجدى إخراج البرازيل من المسابقات الرسمية لئلا تفقد اللعبة بريقها وتحسم النتائج سلفاً.
البرازيل امبريالية الكرة، والمشجعون اللبنانيون يعرفون ذلك. لكن الانحياز إلى فرق أخرى والتحزب لها، وطريقة استلال الحجج والمبررات يجعل من اللعبة الكروية مرآة للحال السياسية في لبنان. فليس ثمة مجال للمناقشة. التحزب في اللعب يشبه الحب: أعمى ولا يسمع. ولأنه يشبه الحب ففي وسعه أن يشبه الحرب نفسها. فمشجعو الفرق لا يستطيعون الاحتكام إلى المنطق. وفي طبيعة الحال لا منطق في الانحياز الكروي. بعضهم يحب تاريخ ألمانيا المضيء، وبعضهم معجب بمارادونا، وهو يوالي الأرجنتين كرمى لعيني ذلك اللاعب الأسطورة، وبعضهم يشجع الإيطاليين لسبب يتعلق بسحناتهم المتوسطية وقسماتهم الجذابة. الأسباب التي تدعو إلى الانحياز في كرة القدم لا تحصى، ولا يمكن حصرها في معايير ومنطق محدد. والانحياز يصبح أعمى، لأن المرء لا يستطيع أن يناقش متحزبا كهذا، يشجع الفريق الإيطالي لأن لاعبيه على قسط وافر من الجمال، أو يشجع الفريق البرازيلي، لأن البرازيل دولة من دول العالم الثالث. على مثل هذا الانحياز لا يستقيم نقاش. ولو أخذنا المنطق على حرفه، لبدا أن مبررات الذين ينحازون من اللبنانيين لفرق أخرى غير الفرق العربية، التي يمكن أن ينحاز لها المرء لأسباب مفهومة ووجيهة، غير متصل بأي منطق على الإطلاق.
السياسة اللبنانية ملعباً وجمهوراً
على السمت نفسه، يتحزب اللبنانيون لقادتهم وزعمائهم، فهذا لم يشارك في الحروب، وذاك قدّم أغلى ما عنده من اجل مبادئه، والآخر يذهل خصومه بمداخلته الباهرة، وثمة هناك من لم يسرق أو يمكن اتهامه بالفساد، لكن النظيف الكف، لا يسأل عن حروب أهلية خاض غمارها رغم انف اللبنانيين، ومن قدّم أغلى ما عنده من اجل مبادئه لا يسأل إن كانت هذه المبادئ مناسبة لعموم اللبنانيين، أم أنها فئوية خالصة لا يمكن تعميمها على الجميع، والذي لم يشارك في حرب من الحروب الأهلية لا يجد مناصره سبباً ليسأل عن برنامجه السياسي والاقتصادي. وكل هذه الأسباب لا تقع في خانة الثقافة السياسية على أي وجه من الوجوه، مما يجعل السياسة في لبنان أصعب من أن تدار على أساس المشترك بين اللبنانيين، واستناداً إليه. وعلى الوجه الذي تدار فيه انحيازات كرة القدم تدار السياسة في لبنان، فلا يجد المحازب حرجاً في القول إثر التظاهرات التي شهدها لبنان احتجاجاً على حلقة تلفزيونية، بأنه لم يعد يطيق أن يبقى في لبنان إسرائيليون. على مثل هذا الانحياز اللاسياسي تبنى التحالفات في لبنان وتتحول سياسته لعبة كرة قدم. ما يخيف في هذا التحول ليس مجرد التحزب الأعمى، بل مطلب المتحزب من الخصم. إذ لا يرضى الفريق بصيغة اللاغالب واللامغلوب، بل يطمح إلى النصر الكاسح ويبذل لأجل ذلك كل جهده. ولو انسحب هذا الأمر على الأحوال السياسية والوطنية في هذا البلد، وهو مرشح للانسحاب، لبدا من الأفضل أن يعلن الحكم انتهاء المباراة من قبل أن تبدأ حتى.
كل مباراة سياسية في لبنان تجعل الفريقين خاسرين، ويخسر البلد من عظمه ولحمه، وكل انحياز سياسي في هذا البلد لا يخرج من إطار الانحياز في اللعب ومطلبه الوحيد: سحق الخصم.
سحق الخصوم في السياسة والكرة
العراضات السيارة التي تجوب الشوارع رافعةً أعلام الفرق المشاركة، لها مثيلها في عالم السياسة أيضا. ثمة سيارات تجوب الطرق في بيروت وترفع مكبرات الصوت لتسمع المارة والناس عموماً خطب السيد حسن نصرالله أو أغنيات تشيد بسعد الدين الحريري. لا شك أن السيارات الدوارة هذه لا تريد من الناس الذين يسمعون أن يفقهوا ما يقوله سيد المقاومة. فالمسافة بين سماع الصوت واختفائه لا تتعدى الجملة الواحدة. لن يفقه السامع ما الذي يقوله السيد، وأيضا لا يريد قائد السيارة أن يفهم المارة ويجعلهم يوالونه في ما يراه. جل ما يريده أن يعلن انحيازه إلى جهة ما وان يربّي أعداء بدعوى انزعاجهم من السلوك.
علم ألمانيا أو البرازيل على الشرفات أيضا يشبه صور السيد نبيه بري المرفوعة في أماكن تشبه تلك الأماكن، وأحيانا جنباً إلى جنب. منذ اللحظة الأولى عليك أن تعرف في أي انحياز يقيم المرء الذي تراه أو تسكن قبالته، ومنذ اللحظة الأولى يريد لمن يواليه في تحزبه أن يقيم صلة معه، ويرفض كل من يخالفه الرأي والحب والانحياز. الحب أعمى، لكن أخطاره ممكنة الإصلاح. حين تكون السياسة عمياء، يجدر بنا أن نخاف على مستقبلنا.
اللعبة لها قوانين. قوانين اللعب ماضية ولا يمكن مخالفتها. واللعبة يقوننها الوقت أولا. ثمة وقت للبدء وصفارة للانتهاء. قبل انطلاق الصفارة ليس ثمة ما يقال. لا منازلات ولا خسارات. وما أن ينتهي الدوام حتى يقرّ اللاعبون بالنتيجة، ويقرّ معهم الجمهور. وهذا ابرز وجوه الخلاف بين السياسة اللبنانية واللعبة. لا دوام في السياسة وليس ثمة من ينذر الفريق الخصم بالمنازلة، بل يجهد الجميع في أن يأخذ حقه في وقت راحة الخصم وخموله واطمئنانه. وحيث أن السياسة عندنا تشبه اللعب، إلا أنها بلا قوانين ولا تلتزم ساعات الدوام الرسمي. بعد انتهاء اللعبة يعود المرء إلى حياته. إلى همومه، إلى دراسته. لكن الوقت المهدور في لعبة السياسة اللبنانية لا يتيح للمرء مجالاً ليهتم بدروس أولاده بعد انتهاء اللعبة. منذ أيام قليلة، كنا في بيوتنا وشوارعنا، ولم يبلغنا شربل خليل بنيته المبيّتة، ولم يسألنا رأينا في برنامجه. لكننا وعلى حين غرة اضطررنا إلى اللعب من دون أن يتسنى لنا تحضير أنفسنا للعبة الخطيرة. هل كان في وسعنا أن نغادر الملعب، ونجعل المهاجمين يتسللون تسللاً. ومن ذا الذي في وسعه أن يحكم بأن الهدف باطل وملغى؟
مباراة الحوار
قبل يوم من ابتداء المباريات رسمياً، انعقدت جلسة الحوار الأخيرة. كان الشبه لافتاً بين الموعدين. الحياة اليومية اختفت في منطقة الحوار مثلما اختفت من شوارع بيروت حال بدء المباراة. يراد لنا أن نفهم أن الحوار لعبة، وانه يجدر بنا أن نلغي ارتباطاتنا وأشغالنا واهتماماتنا في وقته الرسمي. في 8 أيار كنا في انتظار النتائج، وفي 9 أيار لم تتغير حالنا. ننتظر النتائج، ونعفى من عيشنا، لنصبح جمهوراً متفرجاً على اللاعبين. بين المباراتين يمكننا أن نهاجم جمهور الخصم، أن نحرق سياراتهم، أو نردّ على المقالات التي تهاجم قادتنا بالتخوين والتهديد والإدعاء بأن الذي يخالفنا الرأي أمي ولا يعرف من أمور الدين والدنيا شيئاً. نجلس في انتظار النتائج، ونعفى من أعمالنا واهتماماتنا. اللعبة كرنفال يباشر العالم من حيث لا يجدر بنا مباشرته كل يوم. اللعبة استثناء، والعيش دوام. لكننا أيضا في السياسة نعيش الاستثناء. نطرد من شؤوننا واهتماماتنا إلى البيوت، ونقبع متفرجين على الشاشات، فقط لأن ثمة لعبة تدور في المدينة، وعلينا أن ننتظر صفارة النهاية. حين تحوّل السياسة عيشنا اليومي إلى لعبة يجدر بنا أن نهرب بأطفالنا من الملعب لئلا تدوسهم الثيران الهائجة.
حياتنا السياسية تشبه اللعبة، لكن اللعبة تشترط بالجمهور واللاعبين والحكام على حد سواء تضلعاً بقوانينها. الجاهل بقانون اللعبة يشبه ذلك الرجل في النكتة الذي لاحظ اللاعبين يتقاتلون على الكرة، فقرر مكرمة منه وأريحية أن يرمي في الملعب 21 كرة إضافية ليكون لكل لاعب كرته وتنتهي المعركة. والحق أننا في السياسة نشبه رجل النكتة. لا نعرف متى تكون الضربة ممنوعة ومتى تكون مسموحة. ولا نعرف متى يكشر اللاعب عن أنيابه ويضرب بقدميه وساعديه، ومتى يبدي سعة صدر احتراماً لقانون اللعبة. اللعبة بلا قانون، لكنها تحتل مساحة العيش كلها. ذلك يعني أننا سنرفع أعلاما ونبحّ حناجرنا بالهتافات، لكن الخصم لا يلقى بالاً لغضبنا، ذلك أننا لسنا من جمهوره. أن يعلن مليون لبناني أنهم يريدون إسقاط رئيس الجمهورية، ثم يواجهون بمليون آخر، فهذا يعني أن المطالبين بإسقاط الرئيس والمطالبين ببقائه، ليسوا مواطنين ولا رعايا، أنهم مجرد جمهور يرفعون الإعلام في الخسارات والربح، وغالباً في الخسارات. هل يقيم الحكم وزناً للجمهور المطالب باحتساب الأهداف الضائعة؟
ثم، وهذا هو الأدهى والأمرّ: هل ثمة جمهور من دون لاعبين؟
أرجح أن المتحاورين لا يروننا. بعضهم على الأقل لا يرانا، ويرى غيرنا، وبعضهم لا يرى غيرنا ويرانا. وفي الحالين نحن مكتومون ومجهولو الهوية. وإلى أن يرى كل لاعب من اللاعبين جمهور خصمه ويسمع هتافاته، ويقيم وزناً لمطلبه، سنبقى في اللعبة مجرد جمهور معفى وممنوع من العيش.
**********
ما حدث أخيرا وتمثل في الإفراج عن مباريات كأس العالم وإمكان متابعتها في المنازل، يدل على انتشار عولمة اللعب وخصخصته، إلى حد أن هذا الترف الساحر الذي يشارك في صنعه الفقراء كان على وشك أن لا يُسمح له أبدا بأن يكون مجانيا، بل يجب دفع ثمنه الغالي. من هنا يتم التأسيس لخطاب الانزياح في كرة القدم الحديثة، إذ انه بينما كان خطاب كرة القدم سابقا يتسم بالبهجة والفرح والمشاغبة والشيطنة، وكان مجال التجاوز والخروج على النص ينال حظا من التقدير، أصبح خطاب كرة القدم الآن يتسم بطابع الحرب الباردة والتلصص على الآخر، ومحاولة كشف لحظة عري خاطفة يتم تصيدها من خلالها. صارت المسطرة والحسابات الدقيقة هي العامل الأكثر بروزا، وغاب مجال المخاطرة والمغامرة، وتحول اللاعبون إلى حيطان صد لمنع دخول الأهداف. وتاليا، إذا كنت مشغولا دائما بصد الأهداف فلن تتاح لك الفرصة لتسجيلها، ما يؤدي إلى خفوت وتيرة اللعب. الفرق الكبيرة هي في الأساس مؤسسات تجارية تريد بيع كل شيء، وليس اللاعبون سوى إعلانات متحركة راقصة وعابرة للقارات. أجساد اللاعبين هي اللوحات الإعلانية الأكثر انتشارا والأغلى ثمنا، لذا فالخسارة تعني فشل المنتَج، وتعني تاليا غياب التمويل. دعاية "كوكا كولا" التي يضعها على صدورهم لاعبون رابحون لا يمكن مقارنتها بدعاية بيرة فاسدة تقطر خيبة على صدور لاعبين مهزومين. اللاعب يبدو سفيرا لبلاده، وربما طقسا وصلاة وعلما وأيقونة، لكنه أبدا لا يستطيع أن يكون شخصية، أي كائناً له بنية خاصة ومستقلة. انه أسير منظومة عملاقة لا يبلغ فيها اللاعب سن الأربعين إلا نادرا. الأربعون هي سن اليأس لدى اللاعب. قدمه ترسم مصيره، وعليه أن يكون متطابقا مع حركتها وصولاتها وجولاتها، هذا المصير هو في حالة اهتزاز دائم، وفي حالة مراوغة وعصيان دائمين. هو دائما شرس نزق صعب الترويض، كما الكرة.
إرهاب التلفزيون
في مونديال المكسيك 1986 كانت المباريات الرئيسية تقام ساعة القيظ، ذلك أن ظهيرة المكسيك هي ساعة الغروب في أوروبا، وتاليا هي التوقيت الذي يناسب التلفزيون الأوروبي. حاول مارادونا وفالدانا ولاعبون آخرون الاحتجاج على هذا الأمر، ووصفه شوماخر حارس المرمى الألماني قائلا: "أتعرق، تجف حنجرتي، يكون العشب مثل البراز اليابس قاسيا وغريبا ومعاديا، وتسقط الشمس عمودية على الملعب وتنفجر فوق رؤوسنا، لا تتشكل لنا ظلال، يقولون أن هذا جيد من أجل التلفزيون".
التلفزيون هو السيد، وحقوق البث التي تباع بأرقام فلكية هي التي انتصرت، وخصوصاً لأن هافيلانج تدخل لصالحها صارخا: "فليلعبوا وليطبقوا أفواههم".
اللاعب اذاً ليس أكثر من وسيط تلفزيوني مهمته تسويق اقتصاديات كرة القدم، من دون أن يكون شريكا فاعلا في رسم سياستها. انه أداة المشهد ووسيلته، أما اللعب والمباريات فهي حيل، مجرد حيل.
تصحيح الجغرافيا
"الفيفا" هي السلطة الكونية المكلفة رسم الخرائط وتصحيحها وإعادة إنتاجها. فجغرافيا العالم الحقيقية قائمة داخل تصنيفات المنتخبات والفرق الكروية، فبعدما كان بيدرو أريسبي اللحام وخوسيه ناسازي الذي كان يعمل في تقطيع أحجار الرخام و بيروتشو بيتروني أشخاصا مجهولين ينتمون إلى وطن مجهول قائم في تصور خيالي خارج الجغرافيا الفعلية، استطاع هؤلاء صناعة معجزة كروية في اولمبياد 1924 الذي جرى في فرنسا. هكذا عرف العالم الاوروغواي وتعرف إلى علمها وسمع باسمها، وبعد أربع سنوات حين كسبت الاوروغواي أولمبياد هولندا علّق احد المسؤولين فيها: "لم نعد تلك البقعة الصغيرة المنسية على خريطة العالم".
اذاً الوجود الحقيقي داخل الجغرافيا هو وجود كروي، وكل ما يتبقى لاحق وتابع لهذا الوجود الأصلي. تنقل الكرة الصورة الكاملة عن ثقافة شعب ما وعاداته وتقاليده، والتي لا تعدو أن تكون في القاموس الكروي سوى طريقة لعب. هذه الطريقة لا بد لها أن تكون ظافرة ومميزة، وبعد ذلك تنسب إلى البلد الذي أنتجها، فيصبح أبا شرعيا لها وتسمّى باسمه. هكذا يتم الدخول في الخريطة. الدخول الكروي ليس دخولا عاديا يتضمن الاعتراف الخجول ويحمل طابعا حقوقيا، بل وعلى العكس من ذلك يماثل كل ما للانتصار العسكري من مزايا. إنه اقتحام واحتلال وسحق، وهو ثقيل وراسخ ومستمر إلى الوقت الذي يخطئ فيه المنتصر بحق الكرة ويسيء تفسير مزاجها، فتطرده بدورها من سماء الجغرافيا وتضعه في فضاء الضباب والنسيان. فالكرة تمثل الحياة التي تدور دائما، وكما يحدث أن يقضي بركان على مدينة رائعة، أو يظهر البترول في بلد ما فينقل أصحاب هذا البلد إلى حيز التداول الدولي في إطار الصراع على الموارد، فإن الكرة التي تدور قادرة على صنع معجزات أكثر: تنقل الجغرافيا انطلاقا من أقدام اللاعبين، وتجعلك قادرا على رؤية الجبال والسهول والوديان من خلال اللعب. أنها الجغرافيا الحقيقية في طبعتها الأصلية المهذبة المنقحة المنقاة من الزوائد. أنها الطبعة النهائية للجغرافيا.
الشهادة والخلود
"اربحوا وسوف تموتون"، هذا ما قاله النازيون لأعضاء فريق "دينامو كييف" قبل مباراتهم مع منتخب هتلر في الملعب المحلي. نزلوا إلى أرض الملعب جائعين خائفين يائسين، مصممين على شراء حياتهم الفانية بهذه الخسارة الالزامية، لكنهم ما أن وصلوا إلى بقعة السحر والمجد تلك حتى بدا لهم الوجود وهماً مقابل الخلود والجمال اللذين يولدان من أقدامهم. انحازوا إلى الكرامة والجدارة فسيطر عليهم شيطان اللعب والمرح. لعبوا بكل قواهم وانتصروا، وبعد انتهاء المباراة اعدموا عند حافة هاوية، وهم في ثياب اللعب، وهناك في اوكرانيا نصب كبير يذكّر بهم.
ماذا يقول موت هؤلاء اللاعبين عن كرة القدم؟ أهي لعبة، مجرد لعبة؟ هل تستحق أن يموت المرء من اجلها؟ هل يكون الخلود حاضرا في فعل الاستشهاد الكروي؟
كانت البطولة حاضرة والخلود كان سيد الحفلة بحيث أن كل هدف أدخله هؤلاء اللاعبون كان اختراقا مرحا وساخرا، وهو الاختراق الوحيد الممكن لجدار النازية الفظة ومنظوماتها. كانت الكرة اللاهية اللاهبة ترسانتهم الحربية كلها، وكان أداؤهم عملية إدارة وتشغيل لهذه الترسانة.
كان اللاعبون مصممين على الخسارة، لكن الرغبة في الخلود، الرغبة في كتابة نص الخلود، تفوقت على كل ما عداها. رسموا سيمفونية براعة وتلذذ، وانتصروا. لم يعودوا مجرد أدوات تحت سيطرة الهول النازي وإرهابه، بل دخلوا في مصيرهم الخاص. أصبحوا آلهة، ولم يعد الموت إلا ضربة جزاء طائشة. وليس من قبيل الصدفة أن يلقي خورخي لويس بورخيس محاضرة عن الخلود في بيونس آيرس، في الساعة نفسها التي كان المنتخب الأرجنتيني يخوض مباراته الأولى في مونديال 1978.
الحرب والجنس
ما الذي يجعل كرة القدم اللعبة الأكثر شعبية في بقاع العالم كلها؟ على الرغم من اختلاف الثقافات والأمزجة والعادات، صمدت هذه الشعبية لأكثر من مئة وثلاثين عاما. كل هذه الملابسات تطرح العديد من الإشكاليات حول المعنى الكامن في هذه اللعبة، ومدى استجابتها للأصلي والثابت عند الناس. ويبدو هذا الأمر قائما في الإحالة على موضوعين أثيرين هما الحرب والجنس. فهذان الموضوعان يشكلان البنية الأساسية التي يقوم عليها هيكل كرة القدم العملاق، وهما اللذان يضفيان عليها الهالة السحرية والتدفق المستمر والإثارة الدائمة.
مطابقة مخيفة تلك التي نعثر عليها في العبارات التي يستخدمها مشجعو كرة القدم، حيث أن المعجم المستعمل هو جنسي بامتياز. لفتني ما يقوله بعض الشبان من مهووسي أحد الفرق المحلية: "خزأناهم" و"بدنا نأرطن" و"نفتح فيهن شوارع"، و"انفجار" كناية عن الهدف، و"مدفعجي" للدلالة على الهداف. تشير هذه المفردات إلى التماثل مع فكر الانتهاك الذي تتيحه كرة القدم لمشاهديها في كل العالم، بحيث تبدو حركات اللاعبين مجرد إثارة ومداعبة ودغدغة، لا تصل إلى مداها إلا حين يحدث الانفجار - القذف - الهدف، ويتم الوصول إلى قمة اللذة أو الرعشة. فالهدف - الرعشة يمثل قمة الفعل الكروي الجنسي الذي لا يكتمل إلا حين يتم "التخزيق"؛، أي خرق حاجز الشبكة - غشاء البكارة.
الانتصار والربح هما على ارتباط دائم بالفحولة والذكورة المنتصرة، المخترقة، السادية، والمتبجحة، بينما تحيل الخسارة على النسوي السلبي المنكفئ المتراجع. فبينما يقوم المنتصر بالاستعراض والاحتفال، يحاول المهزوم الاختفاء عن عدسات الكاميرا التي تحاول رصد تحوله الأنثوي السلبي.
خسر الفريق الأرجنتيني المونديال، بكى مارادونا، راحت الكاميرا تلاحقه بعنف وسادية وتلذذ، فأكثر ما يلذ لها هو رؤية وثن معبود يتحطم. ليس التحطم الكروي تحطما عاديا، بل تشظٍّ مبهر في سلبيته وفي احالته الكلية على مجال الأنثوي المنتهَك والمخترَق.
الخاسر يخرج من الملعب منكسا رأسه، وتبدو نظرته كمن يلقي خطبة وداع لكل شيء، للمجد للشهرة والبطولة، والأخطر لذكورته الخاصة، ولصورته عن نفسه، التي لا يمكن ترميمها إلا بالانتصار. فقط بالانتصار.
جماليات النقص الجسدي
ليس المثال الرياضي الإغريقي صالحا لوصف لاعبي كرة القدم، فالعضلات المفتولة والجسد المتناسق ليست المعيار الأساسي الذي يجب أن يتحلى به لاعب كرة القدم. على العكس من ذلك فإن المعيار الأساسي هو المهارة. من هنا يبدو النقص الجسدي ميزة استثنائية تسمح للاعب بالقيام بما هو غير محسوب وغير متوقع، وتاليا تسمح له بالتحول إلى ساحر متفوق يقوم بخدع غريبة جديدة مفاجئة. كان العديد من اللاعبين يتمتعون بهذه الميزة بعدما وصفتهم المعايير السائدة بأنهم غير صالحين لممارسة أي نوع من الرياضة. قال المدير الفني لنادي "TSV ميونيخ" لمولر الذي صار لاحقا بطل العالم: "لن تصل بعيدا في لعب كرة القدم، من الأفضل لك أن تتوجه إلى أعمال أخرى". أما ميشال بلاتيني، اللاعب الذي رفضه نادي ميتز كونه يميل إلى السمنة بسبب ولعه بالمعكرونة، إضافة إلى إصابته بقصور في القلب وضعف في القدرة التنفسية وفقا لتشخيص طبيب النادي، فاستطاع الانتقام قبل فترة قليلة من مونديال 1982 في اسبانيا، إذ هزم فريقه سانت ايتيان فريق ميتز الذي طرده بنتيجة تسعة أهداف مقابل هدفين.
كان اللاعب بوشكاش مربوعا وأقرب إلى البدانة، وكان اللاعب البرازيلي سقراط صاحب جسد نحيل وقدمين صغيرتين، لكنه كان قادرا على توجيه ضربات جزاء صاروخية بكعبه، وكان للكولومبي كارلوس فالديرا ساقان معوجتان، لكنه عرف كيف يحولهما طاقية إخفاء بارعة. أما لاعب الاوروغواي كوكوتسو الفاريث فكان يعرج في المشي، لكنه كان واحدا من المدافعين النادرين الذين استطاعوا محاصرة بيليه من دون تحطيمه. بيليه نفسه كان صاحب قدمين مسطحتين. في السياق نفسه نلاحظ أن روماريو ومارادونا، نجمي مونديال 1994، كانا بدينين ويميلان إلى القصر.
يبرز الآن في هذا المونديال رونالدينيو، ذلك "المسخ الضئيل"، كأفضل لاعب في العالم، متفوقا على العمالقة أصحاب الأجسام الفولاذية. ففضيلة النقص تسمح لهؤلاء اللاعبين بممارسة كمال خاص هو كمال ألعاب الخفة. أنت ترى السحر فقط، مع علمك أن الأمر خدعة، لكن السر هو في القيام به، في إخراجه. لذا يستطيع هؤلاء الأقزام البدينون القيام بالخدعة، وجعلك ترى السحر، والسحر فقط. لا طريقة لإبطال هذا السحر، لأن الكرة المسحورة تختفي في تضاريس الكمال المشوه الذي بدأ ينجح في خلق معاييره الخاصة الاستثنائية والمباغتة دائما.
سيرة الصورة وتحولاتها
لعبة كرة القدم هي قرينة الصورة ومجالها، فقد بدأت مع مرحلة التصوير واستمرت معه وهي الآن تعايش الصورة وتصنعها. لذا يبدو الإجراء الذي اتخذ لأول مرة في مونديال 1970 والقاضي باستخدام البطاقات الصفر والحمر كوسيلة لضبط حركة اللاعب داخل الصورة والسيطرة عليها. حين يشهر الحكم بطاقة صفراء في وجه لاعب فهو يقول له: أنت مريض، أنت مشلول، أنت على وشك الهلاك. وعادة ما يقوم اللاعب بانتفاضة راكضة في الملعب ليبرهن، لا للحكم والجمهور وسائر اللاعبين انه ليس كذلك، بل لنفسه ولنفسه فقط. لكن علامات المرض تظهر في أدائه الحذر المحكوم عليه بخلوه من المجازفة. أما إذا قرر المقامرة وأخطأ ثانية، فالبطاقة الحمراء التي تعني الموت التام تكون في انتظاره. الموت الحقيقي في المجال الكروي هو في الخروج من الصورة، لذا لا يسمح للاعب المطرود بالبقاء في ارض الملعب أو حتى متابعة المباراة من على المدرجات، بل يجب عليه الدخول إلى غرف الملابس ومتابعة المباراة من هناك. أن القتل الحقيقي يكمن هنا تماما، أي في سلبه إمكان صناعة الصورة. البطاقة الحمراء تحوله إلى مشاهد، إلى جمهور. تنزع عنه طقسيته وفرادته، وتحيله على العمومي، وتحوله إلى لص صورة، إلى بصاص. هكذا فقط يمكن قتله. إذ لو كان من المسموح له بالبقاء على مقاعد الاحتياط ومتابعة المباراة مباشرة من على أرض الملعب، لما كان الإعدام كاملا. إذ أنه يمكنه أن ينظر في عين الحكم القاتل، وأن يهتف وأن يشتم وأن يشجع وأن يؤثر، من خلال حضور صورته كظل لما قام به وأدى إلى طرده، وهذا الظل يحمل الفعل نفسه، منتشرا في المساحة الحية للمعركة المباراة. وهكذا يستطيع أن يكون أحد تجليات الحدث. لذا يكون النفي خارج الحدود الحرام نفيا لا لصورته فقط بل حرمانا من ربط هذه الصورة مع المشهد العام للصورة الكونية، إذ أن المونديال هو العالم في الكأس. لذا يبدو فعل الموت - الطرد مماثلا للخروج من الجنة. الجنة الآن ليست سوى سيرة الصورة.
*********
لا يعدّ الإنسان إنساناً كاملا، إلا حيثما يلعب
فريدريش شيللر
كرة القدم تعني الحرية
بوب مارلي
لماذا يذوب ملايين البشر بل المليارات منهم، عندما يشاهدون كرة القدم المصنوعة من جلد والمحشوة بالهواء؟ تؤكد الدراسات النفسية والسلوكية أن اللعب ظاهرة سلوكية تسود عالم الكائنات الحية لا سيما الإنسان، وان اللعب لا يخص الطفولة فحسب، بل يلازم أيضا اشد الناس وقارا، وقد يكون موجودا في كل نشاط وفاعلية. وترى مدرسة التحليل النفسي أن اللعب تعبير رمزي عن رغبات محبطة أو متاعب لا شعورية، وبالتالي يساعد في خفض مستوى التوتر والقلق.
هذا الافتتان الغريب بكرة القدم له أسراره ومكنوناته في تاريخ البشرية. يجري اللعب بطرق متنوعة، كتعبير عن شخصية كل شعب، ويعتبر إنقاذ هذا التنوع اليوم، كما قال الكاتب ادوارد غاليانو، اشد أهمية من كل وقت مضى، لأننا في زمن التماثل الإجباري، ومن لا يموت من الجوع يموت من الملل. الكرة التي تركلها أقدام اللاعبين قد تكون قناعا للكرة الأرضية نفسها، أو للرأس البشري نفسه. لعبة كرة القدم ليست مجرد جهد عضلي يتمتع به الناس في أروقة الملاعب، وقبالة شاشة التلفزيون، أنها "ملحمة العصر" والملحمة بحسب بورخيس من الأشياء التي يحتاج البشر إليها. وإذا كانت انطلقت في التاريخ من النزوع العنفي عند الإنسان، فهي لم تعد تنفصل عن السياسة والاقتصاد والسلام في القرن العشرين، وبداية القرن الحادي والعشرين. أنها لعبة مفتوحة على الأقنعة والاحتمالات والتأويلات، أو هي الرديف لمعان كثيرة. كتب كريستيان موتين في "موسوعة أساطير الكرة" أن الكرة تشبه العوالم المجهولة وتحيط بها الأساطير، ويؤكد أن معظم لاعبي كرة القدم يؤمنون بأن الكرة هي أنثى. لذا يركلونها بعنف ويقبّلونها ويشعرون بالانتصار لو نجحوا في السيطرة عليها وأحرزوا الأهداف بها. كرة القدم قناع لأنثى، لِمَ لا؟
في مقابل هذا الوصف الرقيق والحميم، تقول الرواية التاريخية إن بداية كرة القدم كانت دموية، فالدانمارك كانت تحتل انكلترا قبل مئات السنين وتخضعها لسيادتها. وحين تمكن الإنكليز الرافضون الاحتلال الدانماركي لبلادهم من قتل قائد دانماركي، فصلوا جسده عن رأسه، وأخذوا يتقاذفون الرأس، مثل كرة بين أقدام الحقد والتشفي. وتقول أسطورة قديمة في أميركا لدى هنود غابات الأمازون البوليفية انه عندما ينتهي اللعب كانت الكرة تنهي رحلتها. كما الشمس التي تصل إلى الفجر بعد أن تكون اجتازت منطقة الموت. ولكي تطلع الشمس كانت تراق الدماء، فهل لذلك علاقة بالدوائر الصوفية؟ بحسب رأي بعض العارفين، كان من عادة شعوب الازتيك في المكسيك التضحية بالفائزين وتقديمهم قرابين، وقبل أن يقطعوا رؤوسهم كانوا يطلون أجسادهم بخطوط حمراء، وكان المختارون يقدَّمون قربانا لكي تكون الأرض خصبة وسخية.
بين التاريخ والأسطورة
هكذا هي الكرة بين الرقة والرمزية الدموية، بين المتعة والدراما، بين الماضي والحاضر، بين الترفيه والتجارة، بين المثالية والفساد. يقول المؤرخون أن هناك وثائق تثبت أن قدماء المصريين والبابليين، مارسوا كرة القدم كلعبة رياضية. ويقول المؤرخ هيرودوت الذي زار مصر عام 460 ق.م. انه وجد المصريين يلعبون بكرة مصنوعة من جلد الماعز أو من القش، يركلونها بالقدم. ويقول هوميروس في ملحمة "الاوديسه" أن الإغريق لعبوا كرة القدم وكان اسمها هارباستون وأنها كانت ضمن برامج اللياقة البدنية لجنود اسبرطة. ويقول الفيلسوف المصري القديم يوليوس بولوكوس في القرن الثاني بعد الميلاد أن كرة القدم انتقلت من اليونان إلى الرومان، وصورها في كتاباته بما يقرب من صورتها الحالية. ومنذ خمسة آلاف سنة كان البهلوانيون الصينيون يرقصون والكرة تحت أقدامهم، ونظموا أول لعبة للكرة وكان المرمى يقع في وسط الملعب. اليابانيون في العصور القديمة كانوا يتسلون بركل الكرة، ويقال أن يوليوس قيصر كان يستخدم كلتا ساقيه في لعب الكرة. لكن نيرون لم يكن ماهرا في اللعب. على أقدام الرومان وصلت الكرة الساحرة إلى الجزر البريطانية. بعد قرن من ذلك، وتحديدا في 1314 صك الملك ادوارد الثاني بخاتمه وثيقة ملكية تدين هذه اللعبة الرعاعية والصاخبة وهذه الاشتباكات حول كرة كبيرة الحجم ينتج منعها شروراً كثيرة لا يبيحها الرب. كان المرمى آنذاك عبارة عن طاحونة قديمة، وكان اللاعبون يصطفون على امتداد أميال ولأيام عدة وبتكلفة تصل إلى أرواح بشرية (الدخول بين مروحة الطاحونة الدائرة يعني الموت) وقد منع الملوك هذه المباريات الدموية. في عام 1349 ضم الملك ادوارد الثالث كرة القدم إلى العاب الحماقة التي ليس لها فائدة، وهناك مراسيم ضدها وقعها هنري الرابع في 1410، وهنري السادس في 1547، وكلما صدرت قوانين المنع والتحريم ازداد اللعب وانتشرت اللعبة. عام 1592 كتب شكسبير "كوميديا الأخطاء"، وجاء على لسان إحدى الشخصيات: إني أتدحرج في ما بينكم، هل اعتبرتموني كرة قدم؟ انتم تركلونني إلى هناك وهو يركلني إلى هنا، فإذا ما بقيت في العمل فلا بد أن تغلقوني بالجلود.
جاءت كرة القدم في شكلها الحديث من اتفاق ديمقراطي بين 12 ناديا انكليزيا في إحدى حانات لندن سنة 1863، تبنت القواعد التي أقرتها جامعة كامبردج، لكن هذا الاتفاق لم يحدد عدد اللاعبين ولا أحجام الملعب ولا ارتفاع المرمى ولا مدة المباراة، وكان اللاعبون يتبادلون الأحاديث ويدخنون عندما تكون الكرة بعيدة، لكن التسلل كان معروفا ومرفوضا لأنه لا يجوز تسجيل الأهداف من وراء ظهر الخصم. ظهر الحكام سنة 1782 وكان اللاعبون قبل ذلك هم حكام أنفسهم. في 1880 حمل الحكم جهاز توقيت ليقرر متى ينتهي اللعب، وكانت له سلطة طرد اللاعب لكنه كان يدير المباريات من الخارج. في 1891 نزل الحكم إلى ارض الملعب نافخا في صفارته، وتم إقرار أول ضربة جزاء في التاريخ بفضل تبني الصحافة البريطانية ذلك، وبعدما نشرت مجلة "ويستمنستر غارنت" قائمة مرعبة بأسماء اللاعبين الذين ماتوا أو تكسرت عظامهم هناك، وعندما مات القرن التاسع عشر انتهى الاحتكار البريطاني للعبة، وولدت "الفيفا" سنة 1904 لتحكم العلاقة مع كرة القدم في العالم كله، وأدخلت تعديلات طفيفة على القواعد البريطانية.
لم تنفصل كرة القدم عن التحولات السياسية والاقتصادية في العالم، ولا عن طرائق التفكير والثقافة أيضا، فقد ارتبط ظهورها في انكلترا بالثورة الصناعية، وأصبحت من العلامات التي ترمز إلى العمال. وقد وظفت مؤسسات صناعية وتجارية استثماراتها في هذه اللعبة، لتستفيد صورتها من القيم التي تمثلها كرة القدم، كما وظفتها كعنصر للسلم والاندماج، وانتقلت اللعبة تدريجيا من كونها لعبة شعبية إلى نشاط اقتصادي. تحولت الأندية من جمعيات إلى شركات راحت تقتحم بورصة القيم. ذات مرة أعلن الرئيس السابق ل"الفيفا" جواو هافيلانج: لقد جئت لأبيع سلعة اسمها كرة القدم، وبعدما كانت الفرق المشاركة في مونديال 1974 ستة عشر فريقا أصبحت 32 فريقا منذ 1998. وعندما سئل: ما أكثر ما يروقك في كرة القدم، المجد أم الجمال أم الفوز أم الشعر؟ أجاب: الانضباط. اعترف هافيلانج أمام مجموعة من رجال الأعمال في نيويورك سنة 1994 قائلا: يمكنني أن أؤكد أن الحركة المالية لكرة القدم في العالم تصل إلى 225 مليون دولار.
منذ إنشاء "الفيفا" تحولت لعبة كرة القدم إلى تجارة رابحة، ومع الوقت تحول الملعب إلى استديو تلفزيوني ضخم يبيع الاستعراض، وتحولت الفرق إلى مصانع تنتج هذا الاستعراض، وأصبح كل لاعب مجرد إعلان يلعب. وكثيراً ما يضارب السياسيون والديكتاتوريون بكرة القدم، فقد كسبت ايطاليا مونديالَي 1934 و1938 باسم موسوليني، الذي أرسل إلى لاعبيه في المباراة النهائية رسالة قصيرة: "الفوز أو الموت". فازت الفاشية، وارتدى اللاعبون الزي العسكري في الاحتفالات. ووجدت ديكتاتورية فرنكو في فريق ريال مدريد سفارة متجولة، وهو الفريق الذي سيطر على العالم من 1956 إلى 1960. عام 1959 ألقى خوسيه سوليس، احد قادة نظام فرنكو، خطاب شكر إلى لاعبي ريال مدريد: "أشكركم لان أناسا كانوا يكرهوننا في الماضي صاروا لا يفهموننا بفضلكم".
تؤرخ كرة القدم للقرن العشرين بامتياز، وهي عبارة عن الانتقال من: استثمر مهاراتك وخيالك في إسعاد الناس، إلى: عليك التزام الخطة الموضوعة كما قال احد الكتاب. وبعد الحرب العالمية الثانية كانت الشعوب في حاجة إلى الرقص. كانت حركات التحرر تجتاح العالم وهي في حاجة إلى إحراز الأهداف. أصابت حمّى كرة القدم بعدواها الضمائر بسرعة لا مثيل لها، جاعلة من كل فرد مشجعاً بالقوة. أصبح الشغف بما ليس جوهرياً، مثل تسديدة على المرمى أو انطلاقة سريعة أو تمريرة ذكية. وإذا كانت المدرجات تسمح بعيش المباراة فعلياً فإن الافتتان المشهدي الحقيقي الذي يسيطر على الجماهير المسحورة يتأتى تحديداً من إعادة البث المعممة للمنافسات، وذلك من نقطة واحدة في العالم، أي الملعب، إلى جميع النقاط الممكنة، أي إلى كل منزل ووفق طريقة بث خاصة بها، أي البث المباشر، والحركة البطيئة والإعادة من مختلف الزوايا من دون توقف. لعبة كرة القدم التي يحتقرها التاريخ الرسمي، قفزت من حدود المستطيل الأخضر لتصبح علامة رئيسية من علامات الهوية الجامعة. فأسلوب اللعب في الحياة يعكس الوجه الخاص لكل مجتمع، ويؤكد حقه في التمييز. فالشخص الذي يعشق كرة القدم هو أمام عدالة شكلية، فريقه يضم احد عشر لاعبا وخصمه مثلهم، يستولي كل طرف على نصف الملعب، والمخطئ ينال عقابه على الفور وأمام الجميع. الغريب الوحيد في الملعب هو الحكم، يمارس "ديكتاتورية" من دون معارضة من احد. هو الدخيل بين 22 لاعبا.
نجوم العولمة والوطنية والعنف
أصبحت كرة القدم، بطريقة تمظهرها حتى، أحد العوامل الموجهة في نظام العولمة السائدة. فنجوم كرة القدم، هم نجوم نظام العولمة، يحتلون مكان نجوم السينما وعالم الاستعراض. فالممول لم يعد "يركّب" صورة الرياضي كأنها منتج معولم معياري، بل أصبح الرياضي ذو المستوى العالي، هو النموذج الدعائي المحتذى به، الذي على الشبيبة أن تتمثل به.
يرى بعض المحللين أن مباريات كأس العالم هي المثال الجميل للعولمة، حيث أن الدول، بغض النظر عن حجمها، واقتصادها، ودينها، وعرقها، تشترك على قدم المساواة في البطولة، كما هي الحال مثلاً عندما تلعب دولة كوستاريكا ضد الصين، علماً بأن عدد لاعبي كرة القدم في الصين يزيد على عدد سكان كوستاريكا بكاملها. فعندما تلعبان كدولتين متساويتين، فهذه ظاهرة جميلة للعولمة. في سياق مختلف، يعزف النشيد الوطني لكل بلد في المباريات كلها، فالمسألة فيها هوية، وبالتالي ضمير جماعي، وبالتالي مشاعر قومية تتفجر وتترجم نفسها على المربع الأخضر. هكذا هي لعبة الكرة، بين الأممية والوطنية، بين الحرب والسلام. أولئك الذين يغيظهم ويستفزهم الشد والجذب المصاحبان دوماً لمباريات كرة القدم، يعتبرون أن هذه اللعبة تشكل عامل توتير وتعكير للعلاقات بين الدول والشعوب. أما أولئك الواقعون في أسر الكرة الساحرة، فعلى العكس تماماً يعتبرون أن الاتحاد الدولي لكرة القدم يستحق جائزة نوبل للسلام.
يتعزز لدينا أكثر الشعور بدواعي النزعة الوطنية وأبعادها الرمزية، كما يتعزز الشعور بدواعي النزعة "الحربية" العنيفة المتوارية في لغة عالم كرة القدم، وخصوصاً إذا تأملنا أكثر لحظات كرة القدم طقسية في لغة التعليق الرياضي (كوصف المعلق لبداية المباراة ب"انطلاق المواجهة بين الفريقين". أما التسديدات الأكثر قوة فهي بكل بساطة "صواريخ"!). فضلا عن التعابير الجنسية "كفض شباك الحارس" على نحو ما نقول "فض البكارة". على أن العنف على مستوى الرموز تُرجم مرات عدة على أرض الواقع. وهل هنالك من ينسى "حرب كرة القدم" التي اندلعت على جبهات حقيقية، غير رمزية، عام 1969 بين دولتي هندوراس والسلفادور، بسبب مباراة كانت حاسمة وتأهيلية لكأس العالم التي جرت بعد ذلك بسنة في المكسيك 1970؟ في سياق مختلف، قال هافيلانج مرةً، إنه كان يحلم بتنظيم مباراة بين المنتخبين الفلسطيني والإسرائيلي، وقد دفعه إلى ذلك خصوصاً نائب الرئيس الأميركي السابق آل غور، كخطوة مساعدة لواشنطن في جهودها الرامية إلى حل النزاع الفلسطيني - الإسرائيلي. أما مباراة الولايات المتحدة وإيران التي جرت في مونديال 1998 فكانت إحدى لحظات التآخي الإنساني بين الفريقين برغم عداوة النظامين. وطبعاً لا أحد يشك الآن، في أن الوضع كان سيصبح أكثر حساسية لو كانت القرعة وضعت الفريقين في مباراة أخرى. كتب المفكر نوربرت إلياس ذات مرة مبرزاً الجانب الرمزي السلمي في الكرة: "إن مشجعي مباراة كرة القدم يمكن أن يستحضروا أجواء المعارك الأسطورية، ويسقطوها على ما يجري في الملعب، لكنهم يعرفون مع ذلك أن مكروهاً لن يصيب لا اللاعبين ولا الجمهور نفسه".
المونديال في ألمانيا وفي الأدب
يجري المونديال هذه السنة في ألمانيا، التي عرفت بعلاقتها الوطيدة بعالم الكرة، واشتهرت بكونها الدولة التي ترغب دوما في صناعة التميز عبر قيادتها للعالم، وخصوصا بعد نهاية الحرب العالمية الثانية (1939 - 1945)، وبعد سقوط الرايخ الثالث الذي قاده أدولف هتلر ليجعل ألمانيا أقوى دول العالم سلاحاً وعتاداً، وصولاً إلى سقوط جدار برلين عام 1990، والذي وحّد ألمانيا الغربية والشرقية بعدما كانتا معسكرين للاقتتال في الشرق والغرب. تمكنت ألمانيا من أن تكون دولة تعتز بلغتها وتاريخها، وتنبع منها أصول أوروبا الحديثة وحضارتها. ألمانيا التي خاضت الحرب العالمية مرتين، ها هي تستقبل "حرب الكرة" وملحمتها الشيقة، إذ يجتمع فيها أصدقاء الحرب بوسائل أخرى غير تلك عرفناها وورثناها عن هذا البلد الذي غيّر أوروبا والعالم. ألمانيا التي تستقبل كأس العالم تروّج له بكل الوسائل الثقافية والإعلامية والجنسية والحضارية، ولكن لا نعلم كيف سيكون منتخبها الذي لطالما اشتهر بأنه يشبه "الماكينة". في السنوات الأخيرة أصيب بالعجز، واتهم بأنه المنتخب العجوز. في سياق آخر، لطالما حضرت كرة القدم في كتابات الأدباء الألمان. الشاعر غوتفريد بلون شتين نظم قصائد يتغزل فيها بكرة القدم. سحر الكرة وسطوتها راحا أيضاً يجذبان كبار الكتاب، حتى أن غونتر غراس قرأ في 6 حزيران الماضي أجزاء من أعماله في "ستاد ميلرنتر"، حيث أقيم مسرح القراءة في أرض الملعب وجلس الحضور في المدرجات. وقرأ غراس جزءين من أعماله استغرق كل واحد منهما 45 دقيقة وفصلت بينهما استراحة مدتها 15 دقيقة! قبل ذلك، اعتبر المجدد الماركسي الايطالي انطونيو غرامشي أن كرة القدم مملكة الوفاء البشري التي تمارس في الهواء الطلق. البر كامو الذي كان حارسا لمرمى فريق جامعة الجزائر سنة 1930، قال: "تعلمت أن كرة القدم لا تأتي مطلقا نحو احدنا من الجهة التي ينتظرها منها، وقد ساعدني ذلك كثيرا في الحياة خصوصا في المدن الكبيرة حيث الناس لا يكونون مستقيمين عادة".
الغريب أن الأدباء فطنوا لهذه الكرة متأخرين. ولم تشهد معظم سنوات القرن العشرين الذي تطورت فيه الكرة بشكل هائل، أي كتابات أدبية تكون الكرة محورها الأساسي، وإن شهدت هذه السنوات زيادة كبيرة في عدد المجلات والجرائد الرياضية وظهور كتب تعليم فنون الكرة وتدريباتها. ومع منتصف التسعينات من القرن الماضي حدث التحول الكبير. وصار عاديا وجود كتب وروايات عن كرة القدم، وبدأ أصحاب تلك الأعمال يستخدمون الأحداث الكروية الكبرى مثل كأس العالم للكبار وبطولة أمم أوروبا للترويج لها.
تباينت طرق تناول موضوعات الكرة في الأعمال الأدبية بين كتابات تؤرخ للكرة وأساليب لعبها وأهم لقطاتها المصورة، وكتابات تستخدمها كوسيلة لعرض مشكلات الشباب مثل البطالة والمخدرات وفقدان الهوية والقدوة. ويبدو أن الكرة لم تقنع باقتحامها الكتابة الأدبية فحسب فاتجهت إلى مجال الأعمال الدرامية التلفزيونية والسينمائية كالفيلم الألماني "كرة القدم حياتنا" والفيلم الانكليزي "مصنع كرة القدم" الذي تعرض لحملة نقد لاذعة لتناوله ظاهرة شغب المشجعين الانكليز.
تعد "لغة كرة القدم" من وسائط الاتصال، التي يفهمها قاطنو الأحياء الفقيرة، شأنهم شأن سكان المدن العالمية الكبرى، لكن بلكنات مختلفة. فالعولمة "المتلفزة" على نحو دائم تحوّل عندها الشغف الرياضي شغفاً بالصورة، أي نوعاً من "عبادة الأيقونة" جعلت الذي كان يذهب قربانا في الزمن القديم، قديسا في زمن الصورة. الحركة الصورية اللامتناهية التي فرضتها التكنولوجيات الرقمية جعلت الفرد يتسمر قبالة الشاشة (الانترنت والهواتف المحمولة وسينما البيت والتلفزيون)، للاحتفاء ليس فقط بالأيقونات الرياضية الجديدة بل بصناعة نظرة العالم الرياضية.
المهم أن كرة القدم أصبحت ملحمة العصر بامتياز. أنها الملحمة الأكثر شعبية، التي تعولمت وطغت على كل شيء في الرياضة. كانت هوليوود هي التي أمدّت العالم بأكبر قدر من الملحمية كما يقول بورخيس. فعندما يرى الناس، في أنحاء الكوكب، فيلم "ويسترن" وميتولوجيا الفارس، الصحراء، العدالة، طلقات الرصاص، وكل هذه الأشياء، فإن ذلك يدل على التقاط الانفعال الملحمي.
في نهاية المطاف، فإن كرة القدم قناع الأنثى، قناع لملحمة، قناع للكرة الأرضية، وهي تندرج في إطار ثقافة الحياة اليومية، وذلك على المستوى العالمي، حتى أنها تتخطى الحدود، وهي مثل الموسيقى تتحدث بلغة يفهمها الجميع. وإذا كان كونديرا قال أن الموسيقى رسالة إلهية، فالحماسة لكرة القدم ليست بعيدة عن هذا المعنى. وإذا كانت الموسيقى تخاطب الروح ودهاليزها، فكرة القدم تخاطب البصر وهي أصبحت الثقافة البصرية الأقوى.
*************
كيف يمكن رسم صورة كرة القدم في مونديالها الثاني في القرن الحادي والعشرين؟ لنجرب ذلك انطلاقاً من "هامش" معاصر يتألف من جسدين وأجهزة اتصالات متطورة: جسد الروبوت - لاعب كرة القدم، والمدعوم بتكنولوجيا الذكاء الاصطناعي في كأس العالم للروبوت "روبوكاب" Robo Cup ، وجسد المرأة المنافس في المونديال النسائي الذي انطلق في أواخر القرن العشرين، وبث مونديال ألمانيا 2006 عبر الخليوي المتطور الذي يلتقط المرئي - المسموع، للمرة الأولى تاريخياً. لماذا إختيار هذه الأجساد والشبكات كهامش؟
الأرجح لأنه "هامش" مختلف ومعاصر، ولأنه يشرخ "النص" السائد والمهيمن على كرة القدم، ولأنه يعبّر عن أشياء غالباً ما يتغافل عنها الميل السائد عند صياغة سياق ثقافي - تاريخي لكرة القدم.
ثمة كلام كثير قيل في تلك اللعبة وكأسها، مثل ذكوريتها، وتدخلها في صناعة خيال الجسد الذكوري. كلامٌ جمٌّ قيل أيضاً عن ارتباطها بالهويات الجماعية (الأعلام والإشارات والطقوس والأسماء) وعلاقتها المريبة بالتطرّف في تلك الهويات، بداية من تجربتَي النازية والفاشية في استخدامها أداة لحشد الجماهير ومخيلاتها في عماء الكتلة الواحدة المتراصة (عرف عن هتلر وموسوليني هوسهما بها) مروراً بالاهتمام الفائق لوزير الخارجية الأميركي السابق هنري كيسينجر بشدّ الخيال الجماعي للأميركيين إليها في مرحلة ما بعد الجرح الفييتنامي واحباطاته المريرة، وصولاً إلى ظواهر العنصرية راهناً في الملاعب والمترافقة مع صعود جماعات "حليقي الرؤوس" و"النازيين الجدد" الألمانية والهوليغانز الانكليزية ونظيرتها البولونية وغيرها من جماعات الهويات العنصرية المنفلتة في ذروة العولمة. واندلق كلام عميم عن تناغم نسق كرة القدم الأخلاقي مع الدولة الحديثة، مثل استخدام الاحتشاد حول العلم، والعلاقة بين الفرد والجماعة، ولعبة الأموال الممتدة من التلاعب بالمباريات إلى أسعار اللاعبين وتحوّل النوادي الكبرى إلى أسهم في البورصة وغيرها، وخصوصاً في الهيمنة الراهنة للشركات العملاقة والإعلانات على صورتها البصرية المعولمة (انظر كتاب "المال السري لكرة القدم" لمؤلفيه الفرنسيين جان لويس بييراه وجويل ريفيلانج، دار "بلون"، 2002، الذي يرسم صورة عن تسليع تلك الرياضة وتحوّلها إلى صناعة جسدية حديثة). وسُكب حبر كثير في الحديث عن العلاقة المتلاعبة بين نخبها (وخصوصاً مع تحوّلها ظاهرة بصرية بقوة) والسياسة بنخبها وميولها وأعصابها. ثمة نماذج طريّة عن ذلك الكلام الكثير. فمثلاً، قيل أن فرنسا "احتاجت" فوز منتخب يسوده أصحاب البشرة السوداء (مثل الآتي من جزيرة غوادلوب ليليان تورام) والمهاجرون (زين الدين زيدان ذو الأصل الجزائري ودوركاييف ذو الأصل الأرمني). تداولت الأقلام ترسيمات ثقافية متنوعة لكرة القدم، مثل الحديث عن العلاقة بين ثقافة الحداثة وصعود لاعبين مثل بيليه (قُدّم أيضاً عيّنة لنجاح النموذج البرازيلي الذي سوّقته الولايات المتحدة في أميركا اللاتينية في عزّ صراعها مع الاتحاد السوفياتي). لاعبٌ مثل دييغو مارادونا أعطي مثالاً عن ثقافة ما بعد الحداثة في الملاعب الخضراء، بمزاجيته وفوضويته وخروجه على القواعد المنضبطة داخل الملاعب وخارجها، إضافة إلى إشهاره التماهي بين كرة القدم والثقافة "التحتية" (المعنى المقصود هو تعارضها مع ثقافة النخبة) بالحديث عن انتصار الأرجنتين على انكلترا كرد على انتصار الأخيرة في حرب جزر فوكلاند. يوحي ذلك الكلام الكثير، وبعضه لا يزال "طازجاً" وقابلا للاستعادة والمناقشة، بانطباع مفاده أن كرة القدم ثقافة "تحتية" صعدت تدريجياً لتصبح ثقافة معلنة، كمثل صعود الهامش ليستولي على المتن، مما يدفع البعض إلى وصفها بأنها نوع من "الدين" في المجتمعات الحديثة. نظراً إلى شعبيتها الجارفة، يمكن القول أيضاً أن الانطباع السابق يتضمن تناقضاً بين كونها ثقافة ذات طابع غنوصي نسبياً، كحال الكثير من الثقافات البديلة والتحتية من جهة، وشعبوية ومتشابكة مع أعصاب اجتماعية متعددة من الجهة الثانية. لذا، يصل الأمر بسرعة إلى السؤال المشاغب: إلى أي مدى يمكن رسم سياق ثقافي مختلف للنقاش عن كرة القدم، انطلاقاً من هامش ترسمه معطيات معاصرة مثل "روبوكاب"، والولادة المتأخرة لكأس العالم للنساء وظهور إعلام مرئي - مسموع (عبر الخليوي) من نوع جديد؟
بالنسبة للهامش الأول، الأرجح انه هامش يتصل بنقاشات معاصرة في أميركا وأوروبا، مثل نقاش المفكرين الأميركي فرنسيس فوكوياما عن "ما بعد الإنسان" والفرنسي دومينيك لوكور عن ضرورة الشجاعة في تجديد المفاهيم الأساسية حول تعريف الكائن الإنساني، وبالتالي ظاهرة الحياة نفسها، بالارتباط بالسعي إلى تجديد علاقة الفلسفة مع العلم.
يمكن الإشارة إلى العام 1997، في اعتباره اللحظة التي ارتسم فيها الهامش التكنولوجي المعاصر للمتن المكين الذي سيطر آجالاً على اللعبة الكروية، عبر انطلاق المونديال الأول للروبوت، أي في اللحظة التي شرع فيها التحقق الفعلي لأمتلاك جسد كرة القدم. لم يأت الأمر مفاجئاً "كصاعقة انقضّت من سماء صافية"، بحسب قول مشهور. ففي ذلك العام عينه، حدث تطور أساسي في العلاقة بين الإنسان والذكاء الاصطناعي. لقد هُزم لاعب الشطرنج الأسطوري أندره كاسباروف أمام الكومبيوتر "ديب بلو". لم تواجه البشرية وضعاً معقّداً كذاك الذي نجم عندما هزمتها الآلات المفكّرة التي صنعها الجنس البشري نفسه ليحتفي بذكائه. سُكب كثير من الحبر في تأمل هذه الواقعة. الحديث عن العالم ما بعد الإنساني وجد في هذه الواقعة ما يثبت حدسه بأن تحوّلاً ما يجري في التاريخ الإنساني، بفعل التكنولوجيا والعلم. هل بات الذكاء الاصطناعي هو الوجود البديل، بمعنى انه الهامش في الوجود الذي يزحف ليزيح المتن، الذي هو الإنسان وحضارته؟ قذفت هزيمة كاسباروف تحدّيا غير مألوف أمام الفكر الإنساني، إذ كشفت أيضا هشاشة أساسية في ذلك الفكر: ضعف الفلسفة في قلب مشروع العقلانية الكبير، وخصوصاً في علاقتها مع العلم.
إذاً، فعلى خلفية مضطربة، خصوصاً لجهة العلاقة بين الفلسفة والعلم، جاءت هزيمة الإنسان أمام الكومبيوتر (يعترض البعض أن الشطرنج لا يمثل ذكاء الإنسان، وان كاسباروف لا يمثل الجنس البشري، والأحرى أنها اعتراضات تزيد من تعقيد هذه الإشكالية). طرح العام 1997 إشكالية علاقة الإنسان مع الذكاء الاصطناعي مجدداً، وعبر علاقة تمر بجسدي هذين الطرفين، عندما انطلقت أولى مسابقات "كأس كرة القدم للروبوت". بات جسد الروبوت لاعباً للكرة، التي تمثّل أحد الألعاب الأساسية في استعراض الصفات البيولوجية المميزة للكائن الإنساني، بما في ذلك العلاقة بين جهازه العصبي وتفكيره من جهة، ومجمل أدائه الجسدي من الجهة الثانية. لم تكن لهجة الروبوتات متواضعة، على رغم تواضع إمكاناتها جسدياً. وتحمل الكلمات الواضحة التي تعلو صفحة الاستقبال لموقع مسابقة "روبوكاب" وضوحاً هائلاً، إذ تقول: "في العام 2050 سيتمكن فريق من الروبوت من هزيمة كل فرق كرة القدم على الأرض. تحدٍّ هائل من جسد الروبوت يُرمى في وجه الجسد الإنسان"! يمكن وصف الأمر بطريقة أخرى: إلى أي مدى يمكن النظر إلى الجسد الإنساني في اعتباره "النص الكبير" (أو الرواية الكبيرة، أي ما يُسمّى Meta Text ) لظاهرة الحياة على الأرض؟
يمكن النظر إلى التطوّر في الجسد الروبوتي، وسعيه إلى امتلاك صفات الجسد البشري وذكائه، في اعتباره تحدياً فلسفياً أيضاً. انه نوع من ثقافة ما بعد الحداثة في ظاهرة الحياة نفسها، بمعنى سقوط "الميتا تكست" المهيمن للجسد الإنساني وتشظيه وتواضعه، بحيث يصبح جسد الروبوت نصاً أخر، وإحتمالاً أخر، للوجود. ثمة مفارقة لافتة، ففي الموقع الالكتروني لمسابقة "روبوكاب"، يظهر تعريف عنها، يصعب القول أن كلماته لا تحمل ظلالاً هائلة، بحيث أنها تمتد بسهولة إلى خارج معناها. ويربط ذلك التعريف (يتبنى التحدي الذي تطلقه الروبوتات ضد الجسد الإنساني) بين ظهور مسابقة "روبوكاب" في العام 1997 وأحداث مثل هزيمة كاسباروف أمام الكومبيوتر "ديب بلو" وهبوط المركبة "مارس باثفايندر" حاملة الروبوت المبرمج للعمل المستقل "سوجورنر" على المريخ، وقد جرت كلها في العام نفسه. الأرجح يمكن وضع حجر أبيض على ذلك العام في الطريق الطويل لتطور الحياة الاصطناعية على الأرض. ليس قولاً جزافاً. فالبشر توقفوا عن الصعود إلى الأجرام السموية، منذ توقف رحلات "ابوللو"، قبل أكثر من عشرين عاماً. بات مداهم مقتصراً على المحطة الدولية للفضاء. وفي المقابل، تتابع الروبوتات مسار اكتشاف الفضاء، وخصوصاً منذ العام 1997! أوصلت "وكالة الفضاء والطيران الأميركية" الروبوتين "سبيريت" و"أوبورتشونيتي" إلى المريخ في العام 2004.
وبعدها، أعلن الرئيس جورج دبليو بوش خطته الفضائية التي تتضمن عودة البشر إلى القمر، لكي يعملوا على إيصال روبوتات إلى المريخ وغيره من الكواكب. يلاحظ أن معظم خطط الفضاء تضمن أن تصل الروبوتات قبل البشر، وأحياناً بآجال كبيرة، إلى الكواكب والأجرام السموية. يمكن سوق إحتجاج مغاير، والقول أن ذلك يخدم مركزية الجسد الإنساني، في اعتبار أن الروبوتات تخدمه وتسير ككشاف متحمس أمامه، لكن ذلك يعني أيضاً تكريس الجسد الروبوتي كهامش صاعد باستمرار، والأرجح أنها تعمّق التحدي الفلسفي والوجودي للحياة الاصطناعية على الأرض. ويكشف ذلك الاحتجاج وهناً فكرياً، إذ يقصر فهم التقنية على النواحي البرغماتية، من دون الالتفات إلى متضمناتها، في اعتبار أنها تُصنع بواسطة تفكير بشري. أن عدم مد البصر إلى متضمنات التكنولوجيا (أي عدم سبرها بنظرة ابستيمولوجية) يعتبر من أوضح الأمثلة على مدى الإرباك المعاصر حيالها. إذاً، ثمة "النص البديل" للجسد الروبوتي (ربما أمكن الإشارة إليه بعبارة "ما بعد الإنساني")، يسعى إلى كسر تفرد الجسد الإنساني (ووحدانيته)، وقد اتخذ من كرة القدم بالذات مجالاً لصياغة التحدي.
الجسد الأنثوي
ثمة تكملة مذهلة لمفارقة العام 1997. انه أيضاً العام الذي لعبت فيه النساء مونديالها الأول في الصين. وأعلن الجسد الأنثوي تمرده على محظور ساد لقرون طويلة، وخصوصاً منذ القرن السابع عشر. لم يعد الجسد الذكوري وحده في الملاعب الخضراء. صحيح أنهن قلّدن الذكور تماماً، لكن ذلك يشبه الكثير من الهوامش التي تبدو قريبة من المتن، قبل أن تزحف إليه وتغيّره جذرياً. في التسعينات أيضاً، صعد الجسد النسوي مرفوعاً بقوة انفجار الظاهرة الفضائية عالمياً والصعود القوي إعلامياً لأجساد عارضات الأزياء.
لم يختر الجسد الكروي النسائي مكاناً سوى الصين ليجعله أرض التحدي لكسر هيمنة الجسد الذكوري على كأس العالم لكرة القدم. والحال أن تلك البلاد تحتضن ما يمكن وصفه بالتاريخ الأسطوري لكرة القدم، الذي يعتبر نصاً خيالياً تمهيدياً لتاريخها المعاصر. إذاً، أمسكت النساء بالتاريخ الكروي كله، بشقيه الميتولوجي والمعاصر، ليبدأن التحدي الذي يتصاعد مع كل مباراة للنساء في كرة القدم، تماماً مثلما تشكل المشاركة النسائية المتعاظمة في الأولمبياد تحدياً مستمراً لهيمنة الجسد الذكوري، مما يؤدي إلى إعادة صياغة مستمرة لذلك الجسد.
ثمة تاريخان يتعايشان في مخيلة كرة القدم، أحدهما غائم وشبه أسطوري، ممتد عبر الشعوب والأزمنة، والآخر أكثر تحديداً، بصورة نسبية، يجعل للعبة تاريخاً انكلوسكسونياً تبلور في تباطؤ من القرن الثامن ليصل إلى صورته الراهنة في القرن التاسع عشر، أي مع الثورة الصناعية والتكنولوجيا الميكانيكية. ليسا تاريخين متناحرين، لكنهما مستمران (بتناقضاتهما) في قلب اللعبة وأخيلتها وإشاراتها وطقوسها. ففي متحف سونينبرغ بمدينة سيبو الصينية، ثمة كرة مستديرة عتيقة، ألِف قدماء الصينيين اللهو بها في لعبة اسمها "سي جو" ("ركل الكرة")، أيام حكم الإمبراطور هونغ - تي الذي يُلقّب أيضاً "الإمبراطور الأصفر". أنها إحدى الإشارات المهمة إلى التاريخ الأسطوري لكرة القدم، الذي يرى أنها ولدت في الصين قبل 2200 سنة. وفي دلالة طقوسية، حرص "الاتحاد الدولي لكرة القدم" (الفيفا) على العودة إلى تلك المدينة في ختام احتفاليته بمؤيته العام الماضي. إذاً، تشكّل الصين جزءاً من التاريخ الأسطوري لتلك اللعبة، كمثل ما تمثّل العاب الاولمبي وآلهتها جزءاً من ميتولوجيا الالعاب الأولمبية. في التسعينات من القرن العشرين، بدا كأن كثيراً من خيال الاولمبياد تغيّر مع الاكتشافات الأثرية التي أظهرت أن نساء الاغريق مارسن منافسات أولمبية، حملت اسم الإله - الأنثى هيرا، بل أن بعضهن نافس الرجال أيضاً. أدى الأمر إلى شرخ في خيال تماسك طويلاً، بؤرته الجسد الذكوري للألعاب. دخلت النساء إلى ذلك الجسد الوثني وتاريخه، وصرن جزءاً منه. بات للاولمبياد جسد هجين جنسي، أو بالأحرى أنساني. بدا ذلك الدخول إلى الأسطورة كجزء من دخول النساء إلى الجسد الفعلي المعاصر للدورات الاولمبية.
ثمة شيء مشابه حدث في كرة القدم. إذ تدل رسوم صينية، يعود تاريخها إلى ما بين 1115 و 1234 تُنسب إلى الرسام دي جان، على ممارسة الإناث لعبة "سي جو"، مما يضع الجسد النسائي في سياق التاريخ الأسطوري للكرة المستديرة. وفي سياق مشابه، يمكن القول أيضاً أن القرن السابع عشر شهد آخر التماعة نسوية فيه، عندما نظّمت مدينة انفيرسيك الاسكتلندية مباريات بين المتزوجات والعازبات، غالباً ما انتهت بفوز المتزوجات، وربما قصداً. في هذه الصورة كثير من التفكير الذكوري. ولعلها أيضاً من القطرات الأولى لتلاعب القوى المهيمنة إجتماعياً بالمباريات، وهو أمر سيتحوّل إلى سيل جارف لاحقاً.
في الاولمبياد الحديث، غابت النساء عن دورتها الأولى في أثينا عام 1896. وفي تفكير تقليدي ذكورياً عن المرأة التي يحوزها الذكر المقاتل المنتصر، اعتبر اللورد الفرنسي دو كوبرتان، الذي ولد الاولمبياد على يديه، مشاركة النساء أمراً غير لائق، فيما تحدث احد أوائل بيانات اللجنة الأولمبية الدولية بوضوح عن ضرورة "الاحتفاظ بروح الرياضة الذكوري... وبالتصفيق الأنثوي كجائزة للمتنافسين". لكنهن شاركن في تلك المنافسات بدءاً من دورة باريس 1900. بدا حضورهن متلكئا، لكنه صعد ببطء وثبات، عبر الدورات المتتالية للاولمبياد، ليُضعف القبضة الساطية للذكور على خيال الجسد الأولمبي.
على غرار الاولمبياد، استولى الجسد الذكوري (وخصوصاً النموذج الروماني المستعاد منذ الهزيع الأخير في القرن العشرين) على كرة القدم. حضر ذلك الجسد الذكوري في التاريخ الغائم الميتولوجي للكرة، وكذلك استولى على تاريخها المعاصر. لقد أشير دوماً إلى الذكور عند الحديث عن الألعاب القديمة، التي يُفترض أن اللعبة المعاصرة تناسلت منها. إضافة إلى الصين ولعبة "سي جو" قبل أكثر 2200 سنة، لعب رجال اليابان ال "كيماري" قبل 1500 سنة، بكرة مربعة، ومارس الإغريق ال"أبيسكاريوس"، والرومان ال"هارباستوم"، وشعب السلتيك لعبة "الهارلينغ" التي ما زالت أصداؤها تتردد في ايرلندا. وتبلورت كرة القدم إلى شكلها الراهن، في انكلترا واسكتلندا، على مدى زمني واسع بين القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. انه تاريخ انكلوسكسوني بامتياز. وفي تلك الفترة عينها، انتقلت انكلترا (ومجمل العالم الغربي) من النظام الإقطاعي إلى الدولة الديموقراطية الحديثة، وخصوصاً إلى مرحلة الثورة الصناعية المدعومة من علوم الفيزياء الميكانيكية التي رسمها الانكليزي اسحق نيوتن. وفي تلك الحقبة، اكتسبت اللعبة أشياء كثيرة ما زالت تصاحبها: الذكورية المفرطة، والتماهي مع الهويات الجماعية، وعنف الجموع وفوضاها، والعلاقة مع الجنس، وصراعها مع الدين "الرسمي" (لاتخاذها هيئة معتقد شعبوي بديل) وغيرها. وأدى الإعلام التلفزيوني في القرن 20 إلى تكريس الارتباط القوي بين اللعبة والهويات القومية، لكنه أضاف أمورا أخرى. والحال أن تلك التعصبّات تتصل أيضاً بفكر ذكوري قوي في السياسة.
يعتبر العام 1863، بداية للتاريخ الرسمي لكرة القدم كما نعرفها اليوم. لم تنفصل فحسب عن لعبة الركبي، بل باتت تخضع لقوانينها الخاصة، وهجرت تاريخاً من اللعب الفوضوي، حيث كانت تجري في الشوارع، وتمتزج بالصراع البدني المباشر بين الجموع، وتعبر الحقول والأنهر والأسيجة والتلال. قبل العام 1863، اكتسبت كرة القدم صفات ما برحت تلازمها: تماهيها مع الهويات الجماعية، وعلاقتها المباشرة بالسياسة. فقد جرت العادة، قبلاً، على عقد المباريات على هيئة منافسة بين "مجتمعين" (مثل قريتين أو مدينتين). ولعل صيغة "الدربي" (يلعب فريقان من المنطقة عينها) التي لا تزال قائمة اليوم، هي صدى لتلك الصورة. ثمة خيال سياسي لافت أيضاً، إذ يروج في انكلترا خيال شعبي يقول أن اللعبة ظهرت في القرن الثالث للميلاد، أثناء احتفال بالانتصار على الرومان، حين تقاذفت أرجل المحتفلين رأساً مقطوعاً لأمير دانماركي! على رغم بشاعة تلك الصورة، إلا أنها تعكس خيالاً مبكراً من التماهي بين المشاعر القومية وهذه اللعبة. وفي غياب تاريخ متفق عليه للعبة، لعب الخيال لعبته في إسقاط مشاعر قومية على الحدث الكروي. في القرن السادس عشر، وفي سياق تطورها الانكلوسكسوني والذكوري، عمد اللاعبون إلى ارتداء أزياء وثنية، تدل غالباً على الخصوبة. بين القرنين 8 و19 ظهرت اللعبة على هيئة كرنفال قروسطي، مليء بتلقائية الجماعة المتداخلة في هويتها، والمنفلتة في مشاعرها، على هيئة ما نراه راهناً في كرنفالات الريو. وفي ارتداء ملابس الخصب الذكوري، يظهر تاريخ من ربط لعب الكرة بالجنس، إضافة إلى أن التنافس بين مجتمعين بمقاتلين ذكور، يجعل للفوز معنى حيازة صورة الرجولة الأقوى، مع كل ما يرتبط بالصورة التقليدية ل"المقاتل الفحل". ولعل ذلك جزء من وضع اللعبة، في تلك الحقبة، على صدام مع البيوريتانية الانكليزية التي تشددت في رفض جسد اللذة، مع التركيز على الالم كفضيلة لأنها شكل أقصى من احتقار الجسد الذي هو موضع خطيئة أصيلة تقتضي فداءً بدم المسيح المصلوب.
هامش لكسر الجسد التلفزيوني المعولم
أعطى المسرح مكانه، كفن يمسك بمقاليد الإعلام العام، للسينما، ثم للتلفزة. لقد استفادت اللعبة من تقاليد شتى، لتصبح ملائمة لفنون القرن العشرين، خصوصاً بعد دخولها عصر التلفزيون. وفي العودة إلى المقارنة مع الأولمبياد، يذكر أن التلفزيون في أولمبياد روما 1960، نقل الحدث الرياضي للمرة الأولى إلى مئات الملايين من المشاهدين. ونقلت شبكة "سي بي اس" الأميركية المباريات في كل ليلة، إلى أعين الأميركيين. ونقلت شبكة "ايروفيزيون" الألعاب إلى منازل الأوروبيين. وبذا، دخل التلفزيون بالألعاب الاولمبية إلى التاريخ البصري للإعلام العام، وصيَّرها تدريجياً استعراضاً بصرياً بامتياز. وحدث التحوّل إلى الاستعراض التلفزيوني في كرة القدم في العام 1966، مع دورة ويمبلدون في كرة القدم، التي نقلت إلى قارات العالم في وقت واحد. وترافق تحوّل الكرة إلى استعراض بصري مع تكريس ظاهرة الاحتراف فيها. للتذكير، فإن كرة القدم هي التي نقلت مفهوم الاحتراف إلى الالعاب الأولمبية، ما عبّر عنه انتقال خوان انطونيو سامارانتش من عوالم كرة القدم إلى الاولمبياد. وتحت قيادة سامارانتش، في أولمبياد لوس انجليس (1984)، لعبت فرق محترفة في كرة القدم، فأسقطت قناعاً صفيقاً من مزاعم الهواية عن الاولمبياد. وبفضل سامارانتش أيضاً، سقط شرط الاحتراف نهائياً مع أولمبياد سيول في العام 1988. وباندماج بصريات التلفزة والاحتراف تحوّلت كرة القدم إلى صناعة بصرية بامتياز. ففي الوقت الراهن، تشاهد المباريات أعداد مليارية، لتشكّل جمهورها الفعلي، فيما لا تضم الملاعب سوى الجمهور الأكثر مباشرة. يكفي النظر إلى الملاعب الحديثة، التي تسوّرها إعلانات الشركات العملاقة الراعية للمونديال، مثل بيبسي كولا وجيليت وكوداك وأديداس وغيرها، للاستنتاج باندماج صناعة الإعلان (والإعلام) البصري بصناعة كرة القدم. بات شيئاً نافلاً الحديث عن أجساد اللاعبين، المنشورة بالعولمة البصرية، في اعتبارها مصدراً لخيال الجسد الذكوري المعاصر. ومثله أيضاً القول بأن جسد لاعب يحمل هوية ما، عبر قميصه الحامل للون القومي والوطني، وعبر قصة الشعر (جبريل سيسه ورونالدو) أو الوشم (بيكهام) التي تعطيه تميّزاً فردياً، مما يجعل جسد لاعب الكرة متعدد الهوية. ومثلما باتت أجساد المشاهدين تهتم بإشهار هويتها، بما في ذلك صعود قدرة الجسد النسوي على الأمر نفسه، بات المشاهدون يهتمون بالاندراج في الظاهرة البصرية للمونديال على نحو متصاعد، تعبّر عنها الألوان على الوجوه، وقصات الشعر، والجمال المستعرض، والأزياء والتجمعات وغيرها. ومع مباريات يشاهدها الناس بالمليارات، بات البعد البصري متحكماً بحضور اللاعبين والحكام والمشاهدين في الملاعب. يتصرف الكل كأنه يعي أن عين الكاميرا تراقبه وتبثه، إلى شلته الصغيرة وأسرته، وكذلك إلى جماعته ومجتمعه ووطنه. انه استعراض الفرد، المتعدد الحضور والهوية، بصرياً في القرن الحادي والعشرين. ولعل ذلك يساهم أيضاً في تحويل المونديال إلى استعراض للعنصرية والكراهية، ولثقافة المهاجرين والمعولمين والكوزموبوليتين أيضاً. تعيش تناقضات العولمة في قلب هذا المشهد الهائل. وفي نموذج لافت، عمدت شركة "بيبسي" إلى صنع إعلان عن المونديال، يظهر فيه اللاعبون المعولمون، مثل رونالندينو وأدريانو وروبرتو كارلوس وباوليتا. يمثّل هؤلاء حضوراً معولماً بطرق شتى، بدءاً من تكريسهم ظاهرة الاحتراف الدولي مروراً بحضورهم البصري في مدن العالم ومنازله، وصولاً إلى نهوضهم بالترويج للشركات العملاقة التي تقود العولمة راهناً. ربما استحضروا إلى الأذهان ما تفعله الإعلانات المستندة إلى الأجساد المعولمة لعارضات الأزياء. وفي المقابل، يحرص الإعلان على إبراز تميّز صغير بين اللاعبين، بالاستناد إلى ألوان العلم الوطني لكل لاعب.
يستعد مونديال 2006 لشرخ هذا التاريخ التلفزيوني المكين في كرة القدم. فللمرة الأولى تاريخياً، تُبثّ مباريات كأس العالم، بصورة مرئية مسموعة، عبر واسطة جديدة هو الخليوي. وقد دشّنت ألمانيا هذه الواسطة البديلة، بالاعتماد على المونديال. وهكذا يرتسم الخليوي المتطوّر من نوع "دي في بي اتش" منافساً مباشراً، وبالتالي واسطة بصرية بديلة. انه شرخ قوي في الهيمنة التلفزيونية على كأس العالم في كرة القدم. ويزيد من قوة الصراع، أن الانترنت فشلت، حتى الآن، في التحوّل إلى أداة بديلة للتلفزة. ولا يزال تلفزيون الويب بعيداً عن الحلول محل الشاشة الفضية الصغيرة. وربما يعود الأمر إلى الطابع الشعبي للعبة. الانترنت السريعة، التي تستطيع تلقي البث المرئي - المسموع عبر كابلاتها، لا تزال محدودة الانتشار، وخصوصاً بالمقارنة مع الخليوي الذي يحمله شخص من كل 6 أشخاص على الأرض. ربما لم تنتشر الخليويات المتقدمة، والتي تشكل واسطة مرئية - مسموعة بديلة من التلفزة، بمثل انتشار الهاتف النقال التقليدي، لكن رأي الكثيرين يميل إلى الإعتقاد بأنه لن يتأخر كثيراً. في هذا السياق، فان هذه الواسطة الإعلامية البديلة تنطلق في فنلندا وإيطاليا ونيويورك، خلال السنة الجارية. وفي المونديال، يمكن متابعة المباريات على الخليوي في برلين وهامبورغ وميونيخ وهانوفر. الفارق الآخر واضح، إذ يبدو الخليوي أكثر فردية من التلفزيون، مما يعزز فرصه كواسطة بديلة، في زمن تواصل الظاهرة الفردية صعودها عالمياً، على رغم الالتباسات والتناقضات. وكمثل الخليوي، وبمثل فرديته أيضاً، تستعد الشبكات التي تعتمد على أجهزة الترفيه الموسيقي الفردية، وخصوصاً جهاز "أي بود" iPod ، للانطلاق إعلامياً بدءاً من المونديال الألماني. ويطلق على تلك الشبكات اسم "بودكاستنغ". وعلى غرارها، ثمة شبكات تعتمد على أشرطة الفيديو القصيرة التي تتوافق مع جهاز "أي بود" ويطلق على تلك الشبكات اسم "فود كاستنغ".
هل يدخل مونديال ألمانيا 2006 تاريخ الإعلام العام في اعتباره الحدث الذي أطلق الإعلام المرئي - المسموع للخليوي وشبكاته "فود كاستنغ" و"بودكاستنغ"؟ لننتظر.
********
منذ أن تبدأ التحضيرات لمبارايات كأس العالم لكرة القدم، يؤخذ الرجال من اماكنهم وعاداتهم ويدخلون في طور جديد. لا شك أن اللعبة ساحرة، وتستطيع أن تأخذ الناس من عوالمهم وهمومهم، نحو مكان أثيري يملأه الأمل والتوقع. الكرة على العشب غامضة وملأى بالأسرار التي لا ندرك كنهها. الكل يريد أن تستقر الكرة على احد جانبي الشباك. لكن الكرة حرون، وجهد اللاعبين يضيع دوماً. هؤلاء الرجال في الملعب لا يستطيعون أن يديموا الفرحة. الفرحة تتحقق حالما تنتهي اللعبة. اللعبة التي يجدر بها أن تنتهي بانتصار احد الفريقين.
يؤخذ الرجال بالأهداف. يريدون دائماً أن يكتسح فريقهم فريق الخصم. أن يدمر مقاومته تماماً، مثلما يجدر بحيوان مفترس يقبض على عنق فريسته. الفريقان في الملعب يتبادلان الأدوار: فرائس ومفترسون.
في هذه اللعبة لا قيمة للضحايا. الضحايا والخاسرون مرذولون. الشرط الوحيد لبقائهم على ارض الملعب أن يجيدوا المقاومة. فربما يتحولون من موقع الضحية إلى موقع المنتصر. اسأل نفسي دائماً، كيف نستطيع أن نشمت بالخاسرين؟ أن نفرح لآمالهم المدمرة وأحلامهم المجهضة؟ الكرة ساحرة، ويجدر بنا تحت تأثيرها الساحر أن نقبل بمباشرة العالم من موضع مختلف. يجدر بنا أن نقبل الشماتة بالضحية، وان لا نقيم وزناً للخاسرين. في هذه اللعبة لا يوجد احتمالات وأسباب تخفيفية: أما خسارة مطلقة وأما ربح مطلق. لكن العالم يبدو خفيفاً تحت ظلها. العالم خفيف إلى حد تصبح الشماتة من المشاعر المرغوب بتحققها. وإلا لماذا يصر مشجع الفريق الإيطالي مثلاً على تشجيع فريقه وهو يعلم سلفاً أن حظوظه في الربح تكاد تكون معدومة؟ ربما يفكر هؤلاء أن منتهى آمالهم أن يطلق الفريق الضعيف طلقة غادرة في ظهر الخصم القوي. ليست الشماتة فقط بل وحتى الغدر نفسه يصبح مع ابتداء اللعبة سبباً للفرحة. غاية اللعبة وقمة الحماسة أن يغدر الفريق المغمور فريقاً عريقاً أو أن يفترس الفريق العريق فريقاً صغيراً ومغموراً. رغم ذلك نحب اللعبة ونتوق لمشاهدتها. نتوق لمشاهدة الأقوياء وهم يحكمون سيطرتهم على الضعفاء. نتوق لقتل الضحايا وتدمير آمالهم، ونهزج صاخبين مهللين ومنتشين بهذا الشعور القوي بالسلطة المطلقة.
أفكر الآن: ماذا لو أن فريقاً نزل إلى الملعب وقرر لاعبوه أن لا يبذلوا أي جهد أو محاولة للاستحواذ على الكرة في الملعب أو تسجيل الأهداف؟ كيف يستطيع الفريق الآخر أن ينتصر على فريق لا يريد الانتصار؟ كيف يكون تسجيل مئات الأهداف في مباراة واحدة انتصاراً؟ ولم يفرض على الضحية أن تقاوم بأسنانها وأظافرها؟
اود لو أرى الفريق الفرنسي واقفاً في الملعب، ينظر لاعبوه إلى البرازيليين وهم يركضون بالكرة ويحققون الهدف تلو الآخر من دون أي مقاومة. في هذه اللحظة فقط يتمم الفرنسيون انتصارهم على محققي الأهداف. وفي هذه اللحظة فقط يستطيع الفرنسيون أن يحققوا انتصارهم الكبير على الفريق البرازيلي الذي لا يجارى من دون أن يبذل لاعبوهم أي جهد.
ملحق النهار
الأحد 11 حزيران 2006-06-22
************
لم تعد كرة القدم، في زمننا هذا، مجرد رياضة شعبية يستمتع بها المشاهدون، فقد انتقلت هذه اللعبة ذات الشعبية الأولى في معظم أنحاء العالم، لتغدو مادة للمتاجرة على غير صعيد، بدءا من شراء اللاعبين وبيعهم بين الأندية والمنتخبات الدولية، وصولا إلى احتكار بث مباريات المونديال من قبل جهات أو حتى أشخاص وبيع بثها بأثمان باهظة، وهو ما يحرم الملايين من عشاق هذه الرياضة من مشاهدتها، ومرورا بالطبع على ما تصرفه الدول من أموال طائلة لتطوير أداء لاعبيها ومنتخباتها، الأمر الذي يفوق، في كثير من الأحيان، الموازنات المخصصة لشؤون اجتماعية وصحية وثقافية هي بالضرورة أهم من كرة القدم.
والمتابع لشؤون اللعبة في عالمنا العربي تحديدا، يعرف أن دولنا تخصص الملايين للارتقاء بمستوى الفرق الرياضية، وغالبا ما تذهب هذه الملايين هدرا، حيث لا نلمس تطورا حقيقيا لهذه اللعبة في بلادنا، ولا نلمس تقدما في أداء منتخباتنا الكروية، فمنذ سنوات طويلة نتابع هذه المنتخبات ونشعر أن الكثير منها لا يشهد أي تقدم، وبعضها يشهد تراجعا، الأمر الذي يزرع اليأس فينا من حدوث أي تطور. وهنا يبرز السؤال حول كوننا مجرد مستهلكين حتى في هذه الرياضة التي لم نحقق فيها أية إنجازات تذكر، باستثناء وصول بعض منتخباتنا إلى المونديال في دوره الأول ثم التقهقر، وهذا يحدث منذ عشرات السنوات، أي منذ حققت مصر فوزها التاريخي على فلسطين في العام 1934 لتصعد على حسابها إلى ذلك المونديال. لا نقول ذلك لنكرس اليأس من وصول أحد منتخبات دولنا العربية إلى درجات متقدمة في هذا المونديال، ولا لنبكي حاضرنا ومستقبلنا الكرويين، بل لنتعرف إلى الأسباب التي تجعل الآخرين يتطورون فيما نبقى نراوح في المكان ذاته والمكانة نفسها.
وفي حين يعتقد البعض بوجود تناقض أو تعارض بين الثقافة والرياضة، ووجود تباعد بين المثقف - المبدع وكرة القدم، تثبت التجارب أن لكرة القدم جمهورا كبيرا بين المثقفين والمبدعين عموما. ومن التجربة الشخصية أعرف الكثيرين من الكتاب والمبدعين العرب الذين ينتظرون المونديال كما ينتظرون حدثا ثقافيا مثل المهرجانات واللقاءات الثقافية. وإذا كان ثمة من يرى أنه لا شك بوجود فتور في العلاقة بين المثقف وبين كرة القدم، الرياضة الأكثر جماهيرية في العالم، فهناك من يرى أن المثقف الذي يتحدث عن كرة القدم بسلبية هو بالضرورة مثقف سلبي، معتبرين أن كرة القدم عمل إبداعي جماعي يشارك فيه عشرات اللاعبين والفنيين والإداريين والعمال، وأن ال (11) لاعباً الذين يظهرون على المسطح الأخضر هم نتاج تعب وسهر وجهد هؤلاء الناس. فمن يملك الحق بعد ذلك ليلغيهم جميعهم بجرة قلم مترفة ترفاً باذخاً كما يتساءل أحد الكتاب العرب ساخرا؟ أخيرا يمكن القول إن هناك من ليس على قدر كبير من الاهتمام بكرة القدم، غير أنه يمكن أن يحضر بعض المباريات، ويمكن أن يظل مشدودا حد التوتر في الكثير من المباريات. بل يمكن أن يتعصب أو يتحيز لفريق ما لأسباب تتعلق بما هو وطني وقومي- سياسي، لكن الشعور العام هو أن اللعب الجميل والممتع يظل أكثر قدرة على جذب الاهتمام. فالتعصب في هذه اللعبة بالذات يجب أن ينصب على اللعب الممتع والجميل لأي فريق.
من أجل ردم الحدود
كرة القدم والأدب وميزان المساواة
ترجمة: حسن الوزاني
تبدو العلاقة بين العنصرين، في البداية، متنافرة. فنادرا ما تلتقي صورة القارئ بصورة الشخص المرتدي بذلته الرياضية، بالرغم من محاولة إقناعنا بكون الرياضيين الكبار يتقنون أيضا القراءة. فبيير كوبرتان، الذي كان وراء إعادة إطلاق الألعاب الأولمبية سنة ،1896 كتب في مؤلفه “التربية الرياضية”، أنه “يتعذر على الذين يعرفون كرة القدم فقط من موقع المتفرجين أن يستوعبوا جيدا الجهد الفكري الذي يمكن أن تبلغه درجة إتقانها”. ويبدو ذلك صحيحا. ولا أنكر ما تقتضيه اللعبة من تفكير ومن بناء تكتيكي غير أن الحديث عن جهد فكري يظل موضع سؤال.
وبالنسبة للكُتاب، وبالرغم من كون مورياك وشارل بيغاي كانا يحبان رياضة القفز العلوي كما هو حال كتاب آخرين بالنسبة لرياضات أخرى، فإن صورتهما وحياتهما لا تبدوان مضبوطتين على إيقاع الحركات الرياضية. يمكن بالتأكيد أن نعرق من شدة التفكير. أما أن نتمكن من الكتابة بفعل ذلك فليس أمرا مضمونا. وبالنسبة لي، أحب أن أستحضر جوابا شهيرا لوينستون تشرشل عن سؤال بشأن احتفاظه بصحة جيدة رغم تقدمه في العمر وإدمانه على الخمر والتدخين: “Absolutly no sport”.
ويالرغم من ذلك، يمكن أن يحدث أن يختار كاتب ما الرياضة، وكرة القدم على سبيل المثال، موضوعا لكتابته. ويمكن، في هذا الإطار، استحضار عملين أدبيين يبدو من المهم مقارنتهما. فالأول هو “الأولمبيات” لهنري مونثرلون، وهو مجموعة شعرية للاحتفاء بالرياضة وخصوصا بكرة القدم. أما الثاني فهو “و. أو ذكرى الطفولة” لجورج بيريك، وهو نص يزاوج بين الذكريات الشخصية والخيال.
وتبدو مقاربة مونثرلون ساذجة لكونه يعتبر الرياضة، حسب التصور الإغريقي نفسه، الشرط الضروري للعقل السليم. ويستحضر مونثرلون في نصوصه فيليوس، “إله الصداقة”، منطلقا من مبدأ كون ممارسة الرياضات الجماعية تحيي الرِّفقة والصداقة بين الناس والشعوب وتجنب العالم الحروب. وقد كان مونثرلون نفسه يمارس سباق المائة متر سنة 1915 بالإضافة إلى مصارعة الثيران. وبذلك يكون كتاب “الاولمبيات” دفاعا عن اكتشاف القيم الإنسانية والتي تتجلى أهمها في مواجهة الواقع، الذي يشكل الملعب مركزه الأساسي بل وجنته. وبذلك يكون الدخول للملعب اقتحاما للباب المذهب وبلوغا لحقيقة عليا تمكن من السمو على الذات نفسها. وهنا يكمن الطابع الروحاني للرياضة.
وكما هو الأمر بالنسبة لفن الرسم، الذي تم الخروج به، في عهد الانطباعيين، لرؤية ما يحدث خارج المحترفات، يدعونا مونثرلون إلى “الخروج من الغرفة التي توفي بها بروست”، تماما كما كتب الكاتب الفرنسي بول سوداي. وبذلك فهو يقترح قطيعة تامة مع تقاليد أدبية وثقافية وهو ما ينعكس أيضا على أسلوبه. ويحتفي مونثرلون ، بذلك، بالبساطة التي تنبثق عن اللقاءات الصادقة والحبية بين ابن البورجوازية وابن الشعب، حيث تزول الحدود الاجتماعية والثقافية وحيث يصير الجميع سواسية أمام الكرة.
ويبدو النص مملا ومتجاوزا، إذ إن حسن النية يحطم الأسلوب. ويتعلق الأمر بتمرين أكثر منه بقصيدة. واعتبارا لرغبته في قول أشياء كثيرة ولتقطيعه لإطار الكتابة الشعرية إلى عدد كبير من الشذرات لم يقدم إلا عملا أدبيا محدود القيمة نستمر في قراءته إلى اليوم. وبشكل مفارق لذلك، يضم كتاب “الأولمبيات” نصوصا جميلة كما هو الأمر بالنسبة لنص “فسبير”، حيث يُحيي العنصرُ الأولمبي الجانبَ الإنساني العميق داخل كل واحد منا.
وفي مقابل القلق الساذج لمونثرلون، نفضل نصا أصعب ولكنه أروع لجورج بيريك. وقد أنهى الكاتب نصه “و. أو ذكرى الطفولة” في نفس فترة علاجه النفسي ولن يجد أحد ما أثر ذلك في النص. ويروي الكتاب أحداث طفولة بيريك أثناء نقله، خلاله عطلة قصرية، إلى منطقة الفيركور للهروب مما تعرض له والداه والآلاف من اليهود الفرنسيين المطاردين من طرف ميليشيات فيشي. ويتعلق الأمر إذن بنص سردي يخص ذكريات معتمة ومبهمة عن مرحلة مضطربة من تاريخنا. وتخترق هذا السرد مشاهد مذهلة لجزيرة منسية، حيث تنتظم كل التفاصيل حول الرياضة : الأزواج والقوانين وحياة كل فرد والولادات.
ويوضح ذلك أن الأدب الجيد والأعمق روحيا يمكن أن يتأثر بالاضطرابات السياسية التي نعيشها. وقد استطاع جورج بيريك، بإتقان، أن يمنح لنصه شفافية الكتابة الموفقة وأن يعكس الوعي المتشدد للمرحلة التي عاشها. وقد كتب بيريك نفسه في آخر كتابه: “نسيتُ الأسباب التي دفعتني، في الثانية عشرة من عمري، لاختيار “أرض النار” كإقامة لشخصية “وينكلير”، وقد تولى فاشيو بينوشي منح صدى لما تخيلته، حيث إن العديد من الجزر الصغيرة ب”أرض النار” صارت مراكز لاستقبال المنفيين”.
ويكمن الفرق الأساسي بين النصين، إذن، في تناول الرياضة. فمونثرلون يرى فيها موضوعا يتوجب تمجيده عبر غنائية تسعى إلى أن تكون شعرية. بينما يعتمد جورج بيريك الرياضة في إطار توظيف مجازي للإيحاء على جانب من طفولته ولمنح القارئ واقعا إنسانيا مريعا. وبذلك، يمكن، بالانطلاق من نفس الموضوع، إما ترسيخ هذا الموضوع بشكل سيئ ومحاولة الرفع من شأنه لإقناع الآخرين به، أو توظيفه من أجل الكشف عن فساد الإنسان حينما يتولى تسيير حياة الآخرين بدون مراعاة اختياراتهم الإنسانية. وتمنح هذه الطريقة في التناول للأدب قوة فريدة للتقييم. والحقيقة أنه لم يكن بإمكان مونثرلون أن يتناول الرياضة كتعبير مجازي عن الفاشية وذلك لسبب بسيط يكمن في كونه قد تعاون، بطريقة أو بأخرى، مع ألمانيا النازية من خلال استمراره في مهنته ككاتب، تماما كما فعل آخرون، وقبوله الرقابة لكي يتمكن من إصدار كتابه “الملكة الميتة” سنة ،1943 وذلك إلى درجة منعه من النشر بجريدة ليبراسيون-سود كما هو الأمر بالنسبة للكاتب سيلين الذي كانت كتاباته تدعو للقتل والإبادة، بكل بساطة.
الخليج
2006-06-19
******
الحمى الجماعية التي تجتاح الكرة الأرضية برمتها خلال التصفيات النهائية لكأس العالم ليست أمراً بغير دلالة، ولا هي من باب المصادفات البحتة، بل هي تعبير رمزي متعدد الوجوه عن قدرة هذه اللعبة الذكية على اجتذاب عقول البشر وقلوبهم بصرف النظر عن انتماءاتهم القومية والعرقية والطبقية. كما لم يحدث للعبة أخرى غير كرة القدم أن جمعت حولها مئات الآلاف من المحتشدين فوق مدرجات الملاعب ومئات الملايين من المسمرين أمام شاشات التلفزة خلال شهر كامل من الزمن. الجميع يحدقون بانتباه شديد في ذلك المستطيل الأخضر الذي يتواجه فوقه لاعبون مهرة لا يفعلون شيئاً سوى محاولة التحكم ما أمكن بتلك الكرة الصغيرة التي يعملون جاهدين على إدخالها إلى مرمى الخصم، كما يبذلون جهداً مضاعفاً لمنعها من الدخول في مرمى فريقهم. ومع ذلك فلا بد من السؤال عن الأسباب الظاهرية أو العميقة التي تجعل من هذه اللعبة دون غيرها محط أنظار البشر ومصدر حماسهم ومنعتهم بحيث يتشارك في تلك المتعة الرجال كما النساء، الأطفال والشبان كما الكهول والعجائز، الفقراء كما الأغنياء والمثقفون كما الأميون.
لست، بادئ ذي بدء، من المتخصصين في علم النفس أو الاجتماع ولست من ناحية أخرى على دراية تامة بشؤون اللعبة وتاريخها وقواعدها التفصيلية، كما إنني لست واحداً من الذين يتابعون أنشطة المنتخبات الوطنية والمحلية. ومع ذلك فإن حمى المونديال تنتابني بفعل الفضول أو العدوى مرة كل أربع سنوات وأجلس، كما الآخرون، دون انقطاع أمام الشاشة الفضية متحسماً لأسباب بعضها سياسي أو جغرافي وبعضها مزاجي محض، لهذا الفريق، ومتحمساً بالقدر نفسه ضد الفريق الآخر. ولكن مقاربة متفحصة لقواعد اللعبة وشروطها ومسرحها تجعلني أرد سبب شعبيتها الهائلة لا إلى الصدفة المجردة بالطبع بل إلى العديد من الأسباب التي تتراوح بين الرمزي والواقعي، السياسي والوجداني، النفسي والإيروتيكي. وإذا كان المجال لا يتسع لتفنيدها بشكل تفصيلي فإنني سأكتفي ببعض الملاحظات المفتوح على الصواب والخطأ باعتبارها مجرد اجتهادات شخصية لا أكثر.
بعض هذه الملاحظات تتمثل في كون اللعبة هي البديل الرمزي عن الحروب الدموية التي تخوضها الجماعات والعصبيات المتناحرة من أجل السيطرة على الأرض. ولما كانت الحروب الحقيقية باهظة الأكلاف على مستوى الأرواح والعمران والاقتصاد فإن هذه اللعبة تتيح للأمة انتصاراً أقل كلفة على العدو الحقيقي حيناً والرمزي حيناً آخر. ولنتذكر في هذا السياق مواجهات رياضية عاتية جرت بين دولتين عدوتين عملت كل منهما، وبخاصة الأضعف عسكرياً، على استعادة التوازن المفقود عبر الانتقام من مرمى الدولة الخصم. وإذا كانت الألعاب الإقليمية والقارية تكتسب أهميتها من حدوثها بين دول متنازعة على الهيمنة أو الحدود الجغرافية فإن كأس العالم يتحول في هذه الحالة إلى ما يشبه الحرب الكونية الكبرى التي تتحول معها كرة القدم إلى رمز مصغر للكرة الأرضية التي يسقط في طريق الهيمنة عليها العديد من الفرق الضعيفة والطارئة فيما يشعر المتربعون على عرشها بأنهم يتربعون على عرش الأرض بالذات.
ومع ذلك فإن الذين يعادون هذه اللعبة أو يتبرمون منها يسقطون في حمأة المبالغة لأنهم حين يذهبون إلى اعتبارها نوعاً من الحروب الأهلية المواربة ينسون أن البشر يحتاجون دائماً إلى تصريف الفائض العدواني الذي يحملونه في دواخلهم وأن تصريف هذا الفائض عبر الأقدام المتقاطعة والأجساد الرياضية العزلاء هو أفضل بكثير من الحل الآخر الدموي والمكتظ بالويلات والجثث. فتعطيل اليد واستبدالها بالقدم يصبح من هذه الزاوية تعطيلاً للعضو “المبصر” القادر على التحكم بنفسه وبأدوات القتال والقتل واستبدالاً له بالقدم “العمياء” التي لا تملك سوى طواعيتها ورشاقتها المبهرة، وبالرأس الذي لا يملك على المستوى الفيزيولوجي سوى قدرات محدودة مؤازرة للقدم وقاصرة علن مجاراتها.
ثمة أمر آخر لا يجب إغفاله أيضاً وهو أن لعبة كرة القدم التي يشبه اصطفاف لاعبيها وتنظيمهم اصطفاف الجيوش المتقابلة وتنظيمها، تقيم مواءمة واضحة بين الرؤية الشمولية للمجتمع وبين الرؤية الرأسمالية له. فاللاعبون من جهة يتحركون في إطار من التكامل والتناغم ويمثلون روح الجماعة التي ينتسبون إليها.
هكذا تحقق اللعبة فعل تجانس خلاق بين المبادرة الفردية والتضافر الجمعي وتحول دون تحويل اللاعبين إلى فرقة كشفية متماثلة اللباس والوظيفة والدور وتمنحهم كل ما يحتاجونه لإظهار مواهبهم وبراعتهم في جميع المواقع التي يحتلونها على أرض الملعب.
في هذه اللعبة أيضاً ما يعيد للجسد الإنساني بهاءه الشكلي وفتنته الجمالية. فاللاعبون المنتشرون على المستطيل الأخضر يبدون بقاماتهم الممشوقة وخصورهم النحيلة وسيقانهم المشدودة وعضلاتهم غير المبالغ فيها في النقطة التي تتقاطع فوقها الخيول مع الغزلان ويتحولون إلى رمز أبولوني للجمال المعاصر أو لأثينا الحضارة الجديدة، ورغم العنف النسبي الذي يبدونه خلال التدافع على الكرة يظلون بعيدين جداً عن العنف المفرط للمصارعين والملاكمين وينتظرون غالباً للجمالي على الوظيفي وللرشاقة والفن على الفظاظة والرعونة. وإذا كان الرجال ينجذبون إلى اللعبة عن طريق التماهي مع اللاعبين الذين يعيدون إلى مخيلاتهم صورة الصبا المترع بالحماس والاندفاع والفحولة المتفجرة فإن النساء يرين إلى هذه الأجساد الطافحة بالقوة والليونة بوصفها التجسيد الأمثل لأحلام يقظتهن ولما يتمنينه في الرجل من مزايا ومواصفات.
وعلينا ألا نغفل أيضاً الدلالة الايروتيكية للعلاقة بين الجسد الذكوري الذي يقذف الكرة بأقصى ما يدخره من قوة وبين أنوثة المرمى المستعد، على تمنع، لتلقف الكرة المسددة إليه بكامل اندفاعاتها الضارية. لهذا نتوزع نحن الذين تجاوزنا منتصف العمر بقليل بين الإعجاب باللاعبين الذين يمتلكون كل ما بات ينقصنا من فتوة ومهارة فائقتين وبين مرارة الإحساس بانقضاء الزمن أو فوات الأوان.
الخليج- 2006-06-19
************
رأس الخيمة عدنان عكاشة:
تسود الوسط الثقافي تساؤلات مشروعة حول سيرورة الأنشطة الثقافية في ظل التحدي الذي يشكله تنظيم كأس العالم صيف هذا العام في “ألمانيا” بما تستأثر به المناسبة من اهتمام واستقطاب للجماهير محليا وعربيا وعالميا وبين مختلف شرائح المجتمع دون أن تقتصر على الرياضيين ومحبي كرة القدم فقط ودون أن تستثني في الوقت ذاته المثقفين أنفسهم، ما يثير المخاوف من الانعكاسات السلبية على الأنشطة والفعاليات الثقافية والفنية خلال الموسم الثقافي الصيفي الجديد.“الخليج” رصدت آراء وانطباعات نخبة من المثقفين والمهتمين في رأس الخيمة حول المخاوف والقلق السائد حاليا في قدرة حمى كأس العالم على سحب البساط بخفة تحسد عليها من تحت أقدام المنتج الثقافي وباقة الفعاليات والأنشطة الفنية والثقافية المختلفة والمتنوعة خلال الصيف الحالي.
الشاعر أحمد العسم، الأمين العام لفرع اتحاد كتاب وأدباء الإمارات في رأس الخيمة أكد من وجهة نظره أن النشاط الثقافي لا يموت في مختلف الأحوال والمعطيات مطمئنا إلى دور المجموعات الأدبية والفنية في تفعيل الحراك الثقافي المحلي سواء بإقامة كأس العالم أو من دونها من خلال نشر وإصدار الكتب وتنظيم الورش المسرحية وتلك المتعلقة بالكتابة الأدبية وسواها من الفعاليات والورش الفنية والأدبية والثقافية خلال الموسم الثقافي الصيفي، وهو الجهد والدور المرتقب من قبل جمعيات الفنون والتراث الشعبي والمسرح وفروع اتحاد كتاب وأدباء الإمارات والجمعيات والمؤسسات الثقافية الأخرى المعنية بالشأن الثقافي المحلي.
ويشير العسم إلى أن فرع اتحاد كتاب وأدباء الإمارات في رأس الخيمة يحرص على تنظيم وعقد كوكبة من الأنشطة والفعاليات الثقافية خلال الصيف الحالي تشتمل على المحاضرات والندوات والأمسيات الثقافية والأدبية المختلفة.
أحمد سالمين، كاتب السيناريو والسينمائي، قال: أنا مهتم بالحدث الرياضي إجمالي ومناسباته المختلفة ضمن روزنامته الخاصة لا سيما مناسبة بحجم وأهمية كأس العالم وتوقع من زاوية رؤيته موتا مرتقبا وخمودا للفعل والنشاط الثقافي صيفا هذا العام لافتا إلى أن إطلالة بطولة رياضية على غرار كأس العالم تستدرجه إلى المقاعد الأولى لمتابعتها ومشاهدتها عن كثب.
وينبه سالمين إلى أن الجمهور الثقافي نخبوي أصلا ونفتقده خلال الفعاليات الثقافية على مدار العام وغائب عن معظم الأمسيات الأمر الذي يجعلنا ندعو إلى تجميد النشاطات والفعاليات الثقافية في صيف 2006 لأنه موسم كأس العالم بامتياز.
المخرج السينمائي وليد الشحي حذر هو الآخر من أن كأس العالم ستصيب المواعيد الثقافية المحلية والعربية والعالمية بالركود لكنه يشدد على أن من يحمل الهم الثقافي على عاتقه لن تؤثر فيه حمى كأس العالم بصورة سلبية في تجاوبه مع الفعاليات الثقافية.
ويتمنى الشحي رفع منسوب الوعي الثقافي لدى شرائح واسعة من المجتمع المحلي بأهمية الدور الحيوي للمنتج والحدث الثقافي لا سيما أن الواقع الثقافي العربي “مخز”. وحول الآليات المتاحة بين أيدينا لدعم المناسبات الثقافية في مواجهة الطغيان الصيفي لكأس العالم.
سعيد إسماعيل، الكاتب المسرحي، اقر بأن غلبة الحدث الرياضي على نظيره الثقافي بصورة واضحة وطاغية واقع لا فرار منه في الوقت الراهن إجمالا فما بالك إذا كنا أمام حدث بحجم وجاذبية بطولة كأس العالم.
ويفسر سر تفوق النشاط الرياضي على المناسبات والمواعيد الثقافية على اختلافها بكون الشريحة الأكبر من مختلف المجتمعات العالمية، والمجتمعات المحلية ليست استثناء بهذا الصدد، يشغل بالها الحدث الرياضي ومتابعته عن قرب بكافة تفاصيله في حين لا يمكننا التغاضي عن فئة من المثقفين والمهتمين بالشأن الثقافي أنفسهم هم من المتابعين للنشاطات الرياضية المحلية والعربية والعالمية على السواء.
ويصف الشاعر والفنان التشكيلي وعازف العود، ناصر أبو عفرا، العلاقة الجدلية بين الثقافة وكأس لعالم خلال الصيف ب “المنافسة غير العادلة” رغم أن حضور الفعاليات الثقافية أصلا يطال فئة محدودة.
ورغم حماسته لتفعيل قائمة الفعاليات الثقافية الصيفية للتصدي لحمى كأس العالم إلا أن بو عفرا وهو لاعب كرة طائرة سابق ترك “الرياضة” مبكرا منذ 1986 بعد أن لعب لمنتخب شباب الإمارات من أجل عيون الموسيقا والفن التشكيلي.
الخليج - 2006-06-22
*******
في غمرة الأحداث السياسية العالمية وإخبار القتل والإنفجارات ينتظر الملايين من الناس في العالم أخبار الفرق المشاركة ضمن مباريات كأس العالم في ألمانيا ومفاجآتها الرياضية الممتعة، وفضائحها أيضاً! هناك بالطبع فضائح "خاصة" في كل تظاهرة رياضية بجانب المتعة، لكنها فضائح ذات طابع مهني ولا تلفت بالتالي إلاّ اهتمام المختصين في القوانين الرياضية. لقد كتب إدواردو غاليانو أجمل النصوص عن كرة القدم وتلك الهيجانات الداخلية التي تخلقها في نفوس المتفرجين، وترجم الفلسفة الكانطية حول معنى الحرب والمحاربين إلى فكرة رياضية جميلة مفادها: أن معنى الرياضة كرة القدم خصوصاً لا ينتجه اللاعبون، بل الذين يتفرجون عليهم. وكانط كان يقول أن معنى الحرب لا ينتجه المحاربون، بل الذين يتفرجون على المحاربين.
نحن الآن لسنا بصدد الفضائح الرياضية ولا متعها المتخيلة عند أدواردو غاليانو في كتابه الشهير "كرة القدم في الظل وفي الشمس"، ولا مع تماهي المتفرجين مع لاعبيهم، بل نحن بصدد "متفرج" آخر لا يجلس أمام الشاشة الصغيرة ولم "يملأ" المدن الألمانية ومدرجاتها الرياضية. هو متفرج آسيوي، "سوفياتي قديم"، أوروبي شرقي، يجلس في غرف الفنادق والبيوت المخصصة لكبح نشوة النصر وحزن الخسارة بعد كل مباراة من مباريات "الكأس العالمي" في دورته الحالية. متفرج، يتكون أفراده من الشابات الشرقيات (الآسيويات منهن والأوروبيات)، وهن، "غانيات كأس العالم" أن صح التعبير.
يتركز دور هذا المتفرج الذي يعيش وينتظر في الظل على تلبية طلبات كثيرة تستوجبها التظاهرة الرياضية وملحقاتها المتعددة، فهو إطراء لأجواء مابعد المباريات في غرف مغلقة من جانب وطقس أنثوي لامتصاص الفرح والغضب من جانب آخر. بجانب هذا الوصف الأدبي الكلاسيكي هناك وصف آخر يقول: رفع الأغطية عن الأطباق، لكن أية أطباق؟ سؤال قد يقتضي سرد بعض الحيثيات والمعطيات التي تتعلق بتجارة "الرقيق الأبيض" ضمن ثلاث تظاهرات رياضية عالمية كبيرة وهي ( الأولمبياد، مباريات كأس العالم، سباق السيارات).
في شهر حزيران 2005 تحدثت وسائل الإعلام الشعبية في مدينة برلين عن إستيراد أكثر من 40 ألف امرأة إلى السوق الألمانية بمناسبة الحدث الرياضي، وكان للمجلس الأوروبي تخمين مماثل إذ توقع بأن هناك حاجة لنساء يتراوح عددهن بين 30 إلى 60 ألفاً لتلبية رغبة الزائرين أثناء الاحتفالية الرياضية. أما بلدية مدينة "ميونيخ" فكان تقديرها يتركز على مضاعفة عدد الغانيات في المدينة التي كان يقارب 2000 امرأة. ولأن التظاهرات الرياضية السابقة، وفي البلدان الأخرى، اقتضت الأطباق ذاتها، نلاحظ بأن ألمانيا لم تسبق مثيلاتها المضيفة للاحتفالات الرياضية في العالم في تقديم "الأسماك الحية" للمتفرجين، بل تلت كل من المجر عام 2001 ومقاطعة كيبيك الكندية بعد ذلك. ففي المجر سمحت السلطات المحلية في ذلك العام للدعارة لمدة ثلاثة أيام بينما في مدينة مونتريال اقتصر الأمر على "الرقص العاري" في الصالات المخصصة للرياضيين.
منذ حزيران 2005 يتم تجهيز أماكن مخصصة داخل إثنتى عشرة مدينة ألمانية تحت عنوان "الرياضة والجنس متشابهان"، ويدفع الزبون سبعين يورو كتعرفة الدخول لتلك الأماكن. أما الغانيات فعليهن دفع رسوم دخول قيمته خمسون يورو فقط. هناك حيثيات أُخرى كثيرة حول رفع الأغطية عن أطباق الجسد ويمكن سرد الكثير منها، ولكن الأغرب في الأمر هو حصر فعل إطراء "المونديال" بين الشابات الآسيويات والأوروبيات الشرقيات. والحديث في الآن ذاته عن الفصل بين الرغبة الذاتية والقسرية في بيع الجسد بينما يتم توزيع البروشورات الإعلانية لممارسة الدعارة بين الشابات الأوكرانيات في برلين، أو طبع دليل سياحي والسفر ضمناً خاص للنساء في ليتوانيا. لقد حاول المجلس الأوروبي تخفيف أمر غانيات كأس العالم إذ لم يبق منحصراً بالسياحة الرياضية الألمانية (العالمية) وأصبح موضوعاً إعلامياً حرّض منظمات كثيرة تعمل ضد تجارة الجسد أو "الرقيق الأبيض"، ولكن محاولات المجلس لم تتجاوز التصنيف اللغوي مثل "الدعارة الطوعية" أو "الدعارة القسرية" ولم تع تماماً أن هيجان تأثيث المنازل والغرف المحيطة بالملاعب الرياضية بجميع أدوات الإطراء والأطباق الأنثوية سبق الاستعدادات النهائية للمونديال ذاته. والحال هذه، لم يلحق الإتحاد العالمي لكرة القدم إصلاح ما خرّبه القوّادون "البروكزينيتيون" الألمان من خلال إستثمارهم لصلاحيات البلديات الألمانية للإتجار بالجسد.
في سياق مقال جماعي نشر في صحيفة "لودوفوار" الكندية سمّت مجموعة من الأساتذة والطلاب في جامعات العاصمة "أوتاوا" مباريات كأس العالم لكرة القدم ب"مباريات عيب العالم لكرة القدم" واعتبر الموقوفون أن فضيحة نساء المونديال تخفي وراءها فضائح أُخرى وهي أمر معيب للمجتمع الدولي. لكن شعار البروكزينتيون في المماثلة بين الجنس والرياضة والعملة الأوروبية الجديدة ضمناً هو الأقوى ما دام أن 75% من الغانيات هن من المهاجرات أو ممن تم إستيرادهن من مستنقعات "الإشتراكيات القديمة"!
المستقبل
الأحد 18 حزيران 2006
******
كل أربع سنوات يعود العيد إلي، واعتبر المونديال عيداً جميلاً يدوم شهراً كاملاً اشعر خلاله أني في نزهة طويلة أو في رحلة استجمام أو في سفرة سياحية حيث الوجوه الكثيرة والهيصة والحماس والشوق والاندفاع وحبس الأنفاس أمام الشاشة الصغيرة في البيت، والكبيرة (للمناسبة الخاصة هذه) في المطاعم. كل أربع سنوات يعود هذا العيد العالمي الملوّن والمسالم وتعود في كل مرة تمتلئ شوارع بيروت بالأعلام من كل لون وشكل وصوب.
أعلام الانتماءات الشتى، فاللبناني يختار الفريق العالمي الذي يحبّه كونه لم يحظ حتى الآن بفريق وطني. فأمرّ كل يوم في سيارتي عبر الشوارع المختلفة واري الأعلام ترفرف إماّ علي الأرصفة أو علي الشرفات أو من خلال نوافذ السيارات وهذا العلم لإسبانيا وذلك لسويسرا وآخر لألمانيا ورابع لإيطاليا وخامس للسويد ولا ننسَ طبعاً البرازيل والأرجنتين وألمانيا والي آخره. ألوان جميلة فرحة مشكّلة تجعلني اشعر وكأن الأمم كلها في لبنان. لكن اللافت في هذا الاحتفال اللبناني للرايات الدولية، هو الميل العنصري لدي كل واحد فينا. فغالباً ما يفضّل اللبناني الفريق الألماني أو السويدي أو السويسري أو الايطالي أو الفرنسي علي الافرقة الأفريقية السوداء!
ومهما عظم شأن اللاعبين الزنوج فأنا أكيدة أن اللبناني سيظل يختار الرايات الأوروبية، لا بل الغربية منها بشكل خاص، وذلك لأسباب سياسية تكنولوجية اقتصادية: فيعرف اللبناني أن ألمانيا متفوقة اقتصادياً وعلمياً علي مولدافيا مثلاً. وان السويد في هذه النواحي أهم من لاتفيا وما شابهها من بلدان أوروبا الشرقية وصولاً إلى روسيا.
أما البرازيل فلها أسطورتها الخاصة بفضل بيليه ولهو من النافل خوض موضوع هذا البلد الشاسع بما يمثله من أهمية علي صعيد كرة القدم.
وماذا أقول عن الأرجنتين، هذه الأرجنتين التي يربطني بها رابط عضوي، هذا البلد العريق في كرة القدم أيضا كما في مجالات رياضية أخرى كسباق السيارات وكرة المضرب والخ. كم افرح عندما ترفرف أعلام الأرجنتين في مدينة بيروت، في زواياها وعلي مدخل دكاكينها وعلي شرفات بيوتها أو علي أسطح سياراتها. مررت قبل يومين في شارع الحمرا ورأيتُ سيارة راكنة علي احد الأرصفة ومن شبابيكها يرفّ علمان للأرجنتين وعلي الزجاج الجانبي ألصق صاحبها بوستراً كبيراً لفريق الأرجنتين 2006! توقفت ولم أتوانَ عن التوقّف، لأري أولا الشمس الذهبية المرسومة في الوسط بين ازرقَي العلم، وثانياً لأنظر إلى كل لاعب من لاعبي هذا الفريق! إني مع الأرجنتين وأحب كل من يحمّس فريقها. قبل سنوات، عندما خسرت الأرجنتين، بكيتُ بكاء حاراً وكأني طُردتُ من جنّة عشيقي. وفي الثمانينات، عندما ربحت، لم تعد تتسع لي الدنيا.
أما قبل الثمانينات فلم اذكر شيئاً إذ لم أكن افهم ما هو المونديال، لا بل لم أكن اعلم انه موجود. كل ما اذكر هو انه سنة 1978، قال والدي لوالدتي مادحاً إياها من خلال مدحه فريق الأرجنتين ما أطولهم وما احلي أجسامهم أنها أجسام أمريكية! .
اليوم، لو كان لا يزال علي قيد الحياة، لكنت قلت له، صحيح أنها أجسام أمريكية، والقارة الأمريكية تنمو فيها الأجساد الجميلة. فالمكان يغيّر أشياء كثيرة وهو المؤثر الأكبر في طبيعة لغتنا وكتابتنا وطريقة عيشنا ونمو جسمنا. إلا أن اليوم بدأ فريق الأرجنتين يختلط، وبدأ يدخل إليه عناصر من الشعب المحلي الأصلي، وكان أولهم مارادونا، إلا انه، علي الرغم من هذا الاختلاط الخفيف، لا يزال فريقاً مكوّناً من العرق الأبيض، أي الأرجنتيني ذي الأصول الأوروبية إذ أن هذا البلد خليط من المهاجرين الأسبان والايطاليين في النسبة الكبرى، ومن الألمان والفرنسيين والأوروبيين الشرقيين في نسبة اقلّ.
وحتى اليوم، لا يزال فريق الأرجنتين مكوَّناً في تسعين بالمئة منه من الايطاليين والأسبان (واعرفهم بل أميزهم عن بعضهم بعضاً من خلال أسماء عائلاتهم المكتوبة علي ظهر قمصانهم الجميلة). ثمة نكتة أرجنتينية تقول أن شابين أرجنتينيين ذهبا في رحلة سياحية إلى ايطاليا. ففتحا هناك دليل الهاتف بحثاً عن اسمٍ. وعندما قرؤوا ما أمامهم من أسماء، قال الواحد للآخر: لكن ماذا يفعل كل أولئك الأرجنتينيين هنا في ايطاليا؟ !! وعودة إلى كرة القدم واللاعبين والمونديال، اعتدت كل أربع سنوات أن أقع في غرامٍ احد لاعبي الفريق الأرجنتيني وفي المرّة السابقة أُغرمت باللاعب الفائق الجاذبية والجميل باتيتوستا. هذه السنة لن أقول بمن أُغرمت كي لا أؤثر عليه الأمر الذي قد يفقده صوابه ويتكاسل في اللعب. أريد أن تربح الأرجنتين، وبعد المونديال سوف اخبره!
ليتنا نعيش اثني عشر شهراً في هكذا عيد، ليت الالعاب المونديالية تقام دائماً وبلا انقطاع، وذلك لننسي السياسة والحروب والموت، علماً بأن من قد يتمنّي أيضا مونديالات متواصلة علي غراري، ولكن لأسباب جداً مختلفة، هي الشركات المتعددة الجنسية التي وراء قناع الديمقراطية وقبول الآخر والحوار الحضاري التافه الذي أتعبونا به، يشنّون علي العالم حرباً اقتصادية شرسة.
وأشرس من ذلك، أو أتفه من ذلك، هو رغبة احد رؤساء احدي الدول الأوروبية الغربية في أن يغلب احد الفرقاء الزنوج فريقاً أشقر كان يلعب معه! هذه العاطفة وهذا الكرم هما اللذان اشمئز منهما: فمن لا ينظر إلى الآخر نظرة دونية، أو نظرة شفقة في أحسن الأحوال، لا يعامل هذا الآخر معاملة مميزّة إنما يعامله كما يعامل الجميع. وفي أي حال، سياسات الدمقرطة المهذّبة هذه، ليست سوي كاذبة واعرف كم العرقية والوطنية تغليان في قلب كل واحد منا، وخصوصاً، وعلي الرغم من المظاهر، في قلب كل أوروبي وغربي عامة. ولِمَ لا؟! أنا لستُ ضد هذا إنما ضدّ الزيف!
********
مع انطلاق كأس العالم يكون ملايين الناس في بلدان العالم يأكلون ويتنفسون وينامون على وتيرة مباريات كرة القدم، كلهم باستثناء الأميركيين.
لأجل ذلك، يوثق فيلم جديد "ما يحدث مرة واحدة في الحياة" ( once in a life time) المساعي الحثيثة لإدخال رياضة كرة القدم ذات المستوى العالمي إلى الولايات المتحدة.
مجلة "نيوزويك" (13 حزيران 2006) أجرت حواراً مع مخرج الفيلم بول كراودر. منه نقتطف:
كيف تعلل غياب أي عشق لكرة القدم في الولايات المتحدة؟
يبدو لي أن أميركا تدخل إلى أنواع الرياضة التي تمارسها بما يتعدى إطار المباراة بحد ذاتها، فرياضاتها تسمح بالشراب والتكلم والقيام بأمور أخرى خلال المباراة. أما كرة القدم فهي رياضة تتطلب فترة تركيز طويلة. عليك أن تكون موجوداً لمشاهدة كل ما يحصل. أقول ذلك ليس من باب احتقار أي رياضة أخرى، لكنني أعتبر الأمر مهزلة أن يتمكن هواة البيسبول من الجلوس مدة ثلاث ساعات لمشاهدة مبارزة تجري بين رامي الكرة وضاربها، في حين يعتبرون كرة القدم رياضة مملة.
برأيك، ما التغيّرات التي طرأت على هذه اللعبة العالمية منذ السبعينات من القرن الماضي؟
أصبحت اللعبة أسرع بكثير حالياً. ازدادت مستويات اللياقة البدنية والقدرة على التحمّل. في الحقبة السابقة، كان باستطاعة اللاعبين الشراب خلال فترة الاستراحة، والتدخين بين الشوطين، وحتى التدخين خلال التدريب. لا يمكنك أن تقوم بذلك (اليوم) وأن تكون رياضياً محترفاً. يرغب الناس (أيضاً) في مشاهدة المزيد من الأهداف المسددة، وفي مشاهدة لعبة كرة قدم ذات نوعية أفضل. فالأندية خصوصاً تلك التي تملك المال، مثل نادي مانشستر يونايتد بلغت مستوى دولياً أكبر اليوم.
وأحب مشاهدة فريق دولي. فهو يجعل المباريات مثل كأس العالم أكثر صعوبة. ثمة بلدان تسجل نتائج جيدة في كأس العالم اليوم، مع أنها لم تكن تسجلها في السابق، ويعود ذلك جزئياً إلى أن الفرصة سُنحت أمام لاعبيها للمشاركة في مباريات في بلدان أخرى. وصل فريق كوريا الجنوبية إلى نصف النهائيات في عام 2002، وذلك لأن ستة أو سبعة من لاعبيه يشاركون في مباريات دولية.
ما رأيك بالفِرق التي تسمى بالفرق الجديدة؟ هل تمثل مستقبل كأس العالم؟
من المؤكد أن الأمم الإفريقية، والأمم الآسيوية، وحتى أستراليا قد سجلت تحسناً في أدائها، لا بل تقدماً.
هل سنشهد بروز فريق ما هذا العام؟
في نهاية المطاف، سيبرز لاعبو أميركا الجنوبية. قد يبدو هذا التصريح جريئاً، لكنني أشعر وكأن الاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا) يكيّف قواعد اللعبة بعض الشيء لتلائم البرازيليين.
كيف ذلك؟
إنهم يتشدّدون حقاً حيال أي محاولة للإمساك بالخصم من قميصه أو أي مخالفات بسيطة لكي تتسنى فرصة البروز أمام اللاعبين أصحاب المهارات. ومن شأن هذا التدبير أن يكون لمصلحة الفرق مثل فريق البرازيل. أما الفرق مثل فريقي ألمانيا وإنكلترا، ففيها لاعبون عنيفون يلعبون بقسوة. إنها لعبة جسدية، ورياضة احتكاك. إذا لعبت لعبة عنيفة قاسية، يمكنك أن تستنزف قوى الفريق الآخر، وهم يحاولون منع أي محاولات عرقلة بسيطة من هنا وهناك، أو أي مخالفات صغيرة لوقف تقدم لاعب آخر. إذا كان فريقك صغير الحجم، فلن تسنح لكل أي فرصة للفوز إلا إذا لعبت لعبة عنيفة بحيث تتمكن من تضييق الخناق على الفرق وربما تسجيل هدف.
إبتليت رياضة كرة القدم العالمية أخيراً بالفساد والادعاءات حول تحديد نتائج المباريات مسبقاً. هل باستطاعة كأس العالم أن تنقذ سمعة هذه الرياضة؟
إن مستوى الحكام جيد لأنهم يختارون الأفضل من حول العالم (آه، آه، آه! حركة تسلل! هل هذا هدف؟ إنه هدف! إنه هدف! 3 2. وتنطلق المباراة من جديد! هذا هو عظيم في كأس العالم، وهو ما يجري الآن. مضت 75 دقيقة على بداية المباراة، وكوستاريكا مهزومة، وها هو الفريق يعود إلى الحلبة من جديد. لو كانوا استطاعوا أن يفوزوا في أول مباراة، سيكون شيئاً لا يصدق. يجب ألا يكون لكوستاريكا أي فرصة للانتصار على ألمانيا. واو، عظيم، عظيم) عفواً، لقد فقدت حبل أفكاري.
كنا نتكلم عن نوعية الحكام في كأس العالم.
صحيح. جرت حادثة عام 2002 في المباراة بين كوريا وإيطاليا، لكن في الإجمال كانت هذه المباريات الأفضل من ناحية تناسق التحكيم ودقته. والنوعية تتحسن في هذا المجال. أما أسوأ الأمور التي عليهم التعاطي معها فهي تعمد السقوط أرضاً والمخادعة! هذا سيئ حقاً. هؤلاء الشباب يسقطون مثل الذباب.
ماذا عن الغرور في أيامنا هذه؟
الغرور كثير في هذا المجال. لا يمكنني أن أصدق إلى أي حد يفتقر بعض اللاعبين البارزين إلى الروح الجماعية. مثلاً، أنانية رونالدينيو بمنزلة جريمة حقيقية. (بعض) اللاعبين لا يصلحون لهذه اللعبة في بعض النواحي، لكنهم يتمتعون بمهارة فائقة، فعليك مراقبتهم. ديفيد بيكهام مثل آخر، ويقوم بذلك بطريقة أكثر براعة. راقب بيكهام. كلما يسجل فريق إنكلترا هدفاً، يقف بيكهام أمام عدسات المصوّرين لالتقاط الصور. أعتقد أنه يركز انتباهه أكثر على طريقته في اللعب في هذه الدورة لكأس العالم، فهو لم يغير لون شعره، ولم يقصه، وقد بدا أكثر تواضعاً. إنها علامة جيدة.
المستقبل
الأحد 18 حزيران 2006
***********
أي صبي في العالم لم يحلم أن يصبح لاعب كرة قدم؟
لا يوجد، علي ما أظن، ذلك الصبي الذي لم تراود أحلامه تلك الكرة الجلدية الثقيلة
والفانيلة التي تحمل رقم لاعبه المفضل والملعب العشبي المخطط بالأبيض والمرمي الخشبي الثابت بشبكته التي تحتضن الكرة المنتصرة، بدلا من (كرة القماش) أو البلاستيك والفانيلة الداخلية البيضاء والفسحات الترابية بين الأحياء المكتظة والحجارة التي تشكل حدودا ومرمي مفترضين.
تتدرب القدم علي كرة من القماش أو البلاستيك أولا ثم تحلم بكرة حقيقية.
يلعب الصبي في الحارة ولكنه يحلم بالملعب البلدي أو الستاد.
يكون جمهوره أطفالا مثله ثم يصبو للجمهور المهتاج علي المدرجات.
كلنا حلمنا ذلك الحلم في يوم ما ولكن قلة هم الذين حققوه، انه أمر يشبه الكتابة التي يمر عليها الجميع في فترة الجيشان العاطفي والرغبة الملحة في التعبير عن الذات ولكن قلة هم الذين يواصلون تلك المتعة المرة.
الفارق بين الحالمين والذين يحققون الحلم ليس الفرصة ولا الحظ: إنها الموهبة.
أي واحد يستطيع أن يركل الكرة وان يلهث علي طول الملعب، مثلما يستطيع أي طالب أن يستخدم القلم في كتابة موضوعات إنشائية أو التعبير عن نفثات صدره، ولكن الذين يصبحون لاعبي كرة قدم محترفين اوكتابا وشعراء متحققين هم الذين تسكنهم جمرة الرقص مع الكرة أو الكلمات، ففي الحالتين هناك هاجس داخلي قوي ومراوغة واجتراح طرق وأسلوب وشخصية خاصة.
ويخطر لي أن أكثر نشاطين يستحوذان علي أذهان الأطفال والمراهقين هما كرة القدم والكتابة، علي الرغم من تناقض هذين النشاطين تماما، ففيما كرة القدم تجري أمام جمهور وتلحظ معني المشاركة والتلقي المباشر واستعراض المهارات التي تلاقي رد فعل فوريا، فإن عملية الكتابة تنطوي علي عزلة وفردية وظلمة، ولكن علي رغم هذا التناقض بين كرة القدم والكتابة فقد تكونان أكثر نشاطين عارضين يسيطران علي حياة الأطفال والمراهقين إلى أن يتم عبورهما إلى (الاحتراف) أو أي شيء آخر.
كنا نلعب في الفسحات الترابية النادرة في حي (جناعة) حيث تتكوم الأنفاس والأجساد والنفايات في أضيق حيز مكاني في العالم، فلم تكن المدارس الابتدائية أو الإعدادية تتوافر علي ملاعب من أي نوع، بل كانت من الاكتظاظ، خصوصا، بعد النزوح الفلسطيني عام 1967، بحيث استحدثت دوامين واحد صباحي والثاني مسائي.
كان علينا أن ننتظر الانتقال إلى المدارس الثانوية كي يكون هناك ملعب لكرة القدم أو اليد أو السلة، ولكنني ما إن بلغت هذه المرحلة حتى تراجعت أحلام كرة القدم لتحل محلها أحلام الكتابة.
ولكن قبل ذلك كان هناك حلم اللعب في (الملعب البلدي) الذي يفصل بين حي (جناعة) البائس وحي (المسيحيين) المترف (بمقاييس تلك الأيام)، هناك كانت تلتقي الفرق المحلية مع بعضها البعض أو مع فرق قادمة من العاصمة، ولا اعرف أن كان ثمة دوري لكرة القدم في الأردن يومذاك، أو فرق من الدرجة الأولى والثانية، ما اعرفه، وأتذكره الآن، إن أهم فرق في الزرقاء كانت (الجيل) و (القوقازي) و(شباب الزرقاء)، الفريقان الأولان مكونان، أساسا، من الشيشان والشركس الذين استوطنوا الزرقاء في أواخر أيام السلطنة العثمانية وأعادوا الحياة إليها بعد انقطاع تاريخي كبير، أما فريق (شباب الزرقاء) فهو تابع لمخيم الفلسطينيين في المدينة.
خرجت من الأردن وقد تحول موقفي من كرة القدم من حلم اللعب بفانيلة محترفة أو متعة متابعة رقصة الأجساد مع الكرة، إلى عداء مشحون بالايدولوجيا تجاه تلك (الملهاة) التي تلهي (البروليتاريا) عن موعدها العاجل والحاسم مع التاريخ.
صارت كرة القدم وأم كلثوم وعبد الحليم حافظ، في فكرنا الثوري، أدوات في يد الرجعية العربية الحاكمة، وكان دليلنا واضحا وضوح الشمس، فالتجمعات والجمهرات الوحيدة التي تسمح بها السلطات العربية هي المتعلقة بمباريات كرة القدم أو الحفلات الغنائية. والي حد ما كان هذا التشخيص صحيحيا، فقد امتصت الملاعب والمهرجانات الفنية كل زخم الشباب وقننت من خلالها انحيازاتهم في معظم الدول العربية.
فالرغبة في التجمع والتظاهر والتحزب التي تتملك الشباب عموما جري صبها في الملاعب وفرق كرة القدم وحفلات الغناء وأعلامه المشهورين.
ويبدو أن ازدراء كرة القدم واعتبارها معبود (الرعاع) لم يقتصر علي شريحة كبيرة من المثقفين العرب، فإدواردو غوليانو الذي وضع كتابا ممتعا عن كرة القدم بعنوان (كرة القدم في الشمس والضوء، ترجمة صالح علماني) يقول أن بورخيس اختار أن يقدم محاضرة له عن الخلود في بيونيس ايريس في الساعة نفسها التي كان يخوض فيها المنتخب الوطني الأرجنتيني أولى مبارياته في مونديال عام 1978!
لا يخبرنا غوليانو عن عدد حضور تلك الأمسية الاستفزازية لواحد من أعلام الثقافة ليس في الأرجنتين وحدها بل في العالم، لكننا لا نحتاج إلى الضرب في الرمل لنعرف أنهم، علي الأغلب، لم يتجاوزوا أصابع اليدين الاثنتين.
فليس هناك ازدراء للأرجنتينيين المولعين بكرة القدم من إلقاء محاضرة أيا يكن صاحبها أو موضوعها في الساعة نفسها التي يلعب فيها منتخبهم الوطني في المونديال.
الأمر لبورخيس النخبوي مجرد ازدراء ل (الرعاع) أما لنا فكان في حرف (الجماهير الكادحة) عن مهامها التاريخية.
المشكلة عنده في (الجمهور) أما عندنا ففي (تسييس) كرة القدم من قبل النظم الحاكمة لإلهاء الجمهور.
المفارقة العجيبة إنني لم اشهد أيا من مباريات المونديال، ذلك العرس الكروي الكوني، إلا في حصار بيروت عام 1982.
والفضل في ذلك يعود، لمزيد من المفارقة، إلى حسن عصفور، الكادر البارز في الحزب الشيوعي الفلسطيني يومذاك، (قبل تحولاته السياسية السحرية التي قادته من الشيوعية إلى اتفاق أوسلو)، فقد كان حسن عصفور مولعا بكرة القدم إلى درجة انه كان مستعدا أن يخاطر بحياته تحت القصف الإسرائيلي السجادي لبيروت الغربية لحضور بعض مباريات المونديال.
ولحسن حظ حسن عصفور، الذي انضم إلى الإذاعة الفلسطينية مثل كثير من المثقفين الفلسطينيين والعرب أثناء الحصار، إن شقة عائلة الشهيد هاني جوهرية التي استخدمناها مقرا للإذاعة بعد قصف مقرها بالقرب من المدينة الرياضية، كان يتوافر علي تلفزيون، ولكن المشكلة لم تكن في وجود جهاز تلفزيون أو عدمه بل في الكهرباء التي وضع الإسرائيليون وحلفاؤهم من القوي اللبنانية أيديهم علي مصدرها في بيروت الشرقية وصاروا يستخدمونها كأداة ضغط علي قيادات المقاومة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية.
في وضع كهذا كان حسن عصفور يتابع المباريات التي تهمه علي تلفزيونات عند الذين يملكون مولدات كهربائية خاصة بهم ويعود ويخبرنا بالنتائج.
كانت الكهرباء تعود مع تقدم المفاوضات الدولية مع ياسر عرفات (نجم الحصار بحق) وتنقطع مع تقهقرها.
هكذا قدر لنا مع أواخر أيام الحصار أن نشهد من علي تلفزيون مقر الإذاعة المؤقت المباراة الختامية التي جمعت بين ايطاليا والبرازيل وكان انحياز معظمنا، كما اذكر، لايطاليا بسبب مواقفها السياسية من الحصار الإسرائيلي، إلى درجة شاع بيننا أن الفريق الايطالي اهدي كأسه إلى المحاصرين في بيروت.
انحسرت الايدولوجيا بعد الخروج من بيروت وعاد بعض الشغف الأول بكرة القدم، ولكن ليس إلى فريق بعينه ولا دوري أو بطولة قارية، بل فقط إلى المونديال الذي لم أفوت دورة منه، منذ سطوع نجم ماردونا في مونديال 86 إلى يومنا هذا.
افتقد في مونديال هذا العام إبطالي المفضلين الذين أقعدهم الكبر (شيخوخة لاعب كرة القدم تبدأ في عز شبابه) ولم أتعلق بأبطال جدد، ما يزال روبرتو كارلوس وزيدان وفيغو وبيكهام ودل بييرو هم الذين يجذبون انتباهي في زحمة لاعبين جدد لم أكون معهم ذاكرة مشتركة.
القدس العربي
2006/06/23
يتبع....