نحو مستقبل لا لعب فيه

عباس بيضون
(لبنان)

عباس بيضونفجأة وجد جمهور ايطالي. امتلأت الشوارع بمواكب السيارات والموتورسيكلات وارتفعت الرايات الايطالية لكن كثيرين هتفوا من شبابيك السيارات المسرعة <برازيل.. برازيل>. كان ذلك فرحا بهزيمة الألمان أكثر منه بانتصار الطليان، علمت ان الجمهور البرازيلي تحول إلى ايطاليا. هذه إذن حفلة ثأر. يبدو الأمر متوقعا وبديهيا لكن هذا لا يجعله مفهوما، لقد قام، لأمر ما، في أذهان متابعي المونديال ان المباراة النهائية ستكون بين ألمانيا والبرازيل، فرضية ليست متينة أبنت على بديهة غير مؤكدة مفادها ان للبلد المضيف حظا أكبر في ان يصل إلى <الفينال>، على هذا توجهت خصومه <البرازيليين> إلى ألمانيا، لم تكن الفرضية ولا البديهة التي قامت عليها ذات أساس. انهارت البرازيل أمام فرنسا وتغلبت ايطاليا على ألمانيا فاستحال بالطبع اللقاء المفترض في المباراة النهائية وبدا أنه ليس حقيقيا. لم تقابل ألمانيا البرازيل في أي من مباريات المونديال لكن الخصومة بين الألمان والبرازيل قامت على لقاء متخيل لم يقع وتأكد انه مستحيل الوقوع. لكن اللقاء المستحيل أسس خصومة لا تقبل الارتداد ولا المراجعة. لقد وقعت الخصومة على وهم واستمرت بعد جلائه وانكشافه، هزمت البرازيل فبدا للبرازيليين ان الساحة خلت للألمان وكرهوهم أكثر مما كرهوا الفرنسيين الذين انزلوا هزيمة بالفريق البرازيلي. ثم هزم الألمان أيضا فلم يعر أي البرازيليين المكلومين بالا إلى ان الحظ العاثر ساوى بين الاثنين، بل اشتفوا من الألمان ثأرا من لقاء افتراضي ومن توقع ظهر غلطة. قام العداء (وفي الانحيازات الكروية عداوات فعلية) على افتراض واستمر بل ازداد قوة بعد زواله. لقد وجد وأخذ يتغذى من نفسه ولم يعد متصلا بأسبابه، ان كانت له أسباب، قد يضيء هذا على مسألة العداوة السياسية والطائفية نفسها انها في الأرجح لا تحتاج إلى أسباب متينة. نخطئ اذ نبحث عنها في الحجج والحجج المضادة. اذ لا نعرف متى تغدو حاجة، ومتى تبدو بديهية ومتى تبني خطابها ومنطقها، لنقل جريا على صراع البرازيليين والألمان انها قد تنشأ من توقع كاذب، من خطر افتراضي، أو من سيناريو وهمي. تتعلق بأي شيء وتجعل منه سبباً، انها موجودة كاستعداد وبوسعها ان تجد في أي فلتة أو أمر طارئ موضوعا. النزوع إلى التكتل والاغتصاب يكاد يكون هو الأصل، هذا النزوع لا يتعب حتى يجد محرضا، بوسعه ان يخترعه، ان يجد سببا في أي سكون يصدر عن التكتلات المقابلة. التحالفات قد لا تكون في الغالب سوى تحالفات نكاية، انها اتفاق على أكثر منها اتفاقا بين، مثال الليلة الايطالية حاضر، الراية لجهة والاسم لسواها.

بلا حنين

ليست صحيحة المصاقبة بين التحزبات السياسية والتحزبات الكروية في لبنان، الحزب البرازيلي وهو الحزب الاكثري لا ينشأ بالطبع من عاطفة عالمثالثية بريئة ولا بالطبع من دعم غير مشروط للانعطاف اليساري في أميركا اللاتينية. لو علمنا ان لبنانيي القارة اللاتينية لا يدعمون كثيرا <لولا> وبالطبع <شافيز> لما جازفنا بتفسير يساري أو عالمثالثي، ولما صدقنا أطروحة <الجنوب> والفقر الجامع بيننا وبين البرازيليين. لا نملك هنا سياسات أممية بهذه البراءة. وليس للبرازيل ما يؤهلها بالنسبة لنا لتكون لعبة أممية، اللبنانيون يملكون ولا يزالون رصيدا في هذا المجال. لكل تكتل داخلي سنده الدولي كما نعلم، ولا نختاره بالطبع ببراءة نظرية. لن تكون للبرازيل لذلك حيثية سياسية واضحة. الحزب البرازيلي هو حزبنا الكروي الاكثري ومهما كانت هناك مداخلات سياسية شأنه فهو في أساسه حزب كروي. لقد نشأ هكذا لكنه قابل ككل شيء عندنا للدخول في استثمار سياسي. لعل <سياساتنا> الكروية هي مظهر آخر للتنصل السياسي أو مظهر آخر لسياسات موضوعها الاول والوحيد حزبيتها وعصبيتها. كانت الليلة الايطالية حافلة أما الليلة الفرنسية فباهتة تماما في المنطقتين. في الاشرفية كما في الحمرا لم يكن الاحتفال كبيرا، لا يمكن للحزب البرازيلي ان ينسى ان هزيمة البرازيل الكبير كانت أمام فرنسا. هذا صحيح، لكن أين تحالف 14 آذار الفرنسي، بل أين التاريخ الكبير للتعاطف مع فرنسا. يمكننا ان نستنتج من ذلك تفسيرا سياسيا معاكسا. اللامبالاة تجاه الانتصار الفرنسي لا تعني سوى ان اللبنانيين في هذه اللحظة بلا تاريخ، لقد ذهب التحزب وترصد الآخرين والقلق على المكانة بأي حنين تاريخي. المواقف الحالية هي تقريبا بلا ذاكرة، والاحتجاج بالامبريالية والصهيونية مثلها مثل الديموقراطية والحضارة بلا دلالاتها التقليدية. الذاكرة تكاد لا تلعب في لبنان اليوم، بل كل فريق لبناني يعاني من نوع من نسيان ماضيه، ان لم نقل الارتداد على ماضيه. لنتذكر الماضي المسيحي القريب مع الهيمنة السورية، ماذا بقي منه. لنتذكر الماضي الشيعي القريب مع المخيمات الفلسطينية والهيمنة الفلسطينية المسلحة، ماذا بقي منه. لنتذكر عروبية السنة. ماذا بقي منها، الخطابات السياسية تتبع هذه الامنيزيا انها أيضا في درجة كبيرة من الفراغ. تبنى وتهدم من دون أي مرجعية واضحة، التكتل هو الأصل.

اللعب والتكنولوجيا

كلما تقدمنا في المونديال واقتربنا من نهائياته، بدا ان الفرق تطور تجاه بعضها البعض نظاما متكاملا من الرصد والمراقبة، لكل فريق ملفه الكامل، خططه وردوده ولكل لاعب ملفه أيضا، لا عبث في هذا المجال. نحن أمام <علم> كروي يزداد أحكاما. من المشروع ان نتساءل بالطبع عماذا يفعل العلم تجاه بسيكولوجيا اللعبة، كيف يولد التحدي أحيانا طاقة هجومية كاسحة، لنتذكر الفترة الأخيرة من المباراة البرتغالية الفرنسية عندما رابط البرتغاليون تقريبا في الملعب الفرنسي. لكن ما يبدو نتيجة للعلم الكروي هو تطوير تشكيلات دفاعية لا يمكن النفاذ منها إلا بمعجزة. بدا ان <العلم> إذا جاز التعبير يتوجه نحو أنظمة دفاعية متكاملة، يعني هذا ان تسجيل أهداف أمر يزداد صعوبة، ومن الممكن ان تغدو الصعوبة كاملة. في كل المباريات النهائية كانت ركلات الترجيح، كما يسمونها، منتظرة. أي ان اللعب يتوجه إلى نوع من إغلاق الشبكات وتحصينها بصورة نهائية. تغدو الأهداف عندئذ مرتهنة بالأخطاء، أخطاء اللعب وأخطاء الحكام واقل من ذلك لحظات السهو غير المنتظرة. لنتخيل لعبا مثاليا أو لعبة مثالية تبعا للعلم الكروي، انها لعبة بلا أهداف، لعبة تنتهي بركلات الترجيح أو بالتعادل فحسب. في اللعبة المثالية هذه يقوم فاصل بين اللعبة والتسديد. سيكون اللعب في الغالب دراماتيكيا ومثيرا وحافلا لكن بدون أهداف. سندخل في نوع من اللعبة التي لا يفضي جمال اللعب فيها إلى شيء، لعبة تكتفي بنفسها وبحركتها بدون ان تصل إلى نتائج، قد تكون لعبة كهذه أقرب إلى الواقع الراهن للعالم حيث إعادة إنتاج الأزمات أو الغرق أكثر فيها هو مصير الحراك الصاخب والدراماتيكي. ستكون بالضبط اقرب إلى الحراك السياسي وغير السياسي عندنا، حيث الصخب والسجال لا ينتهيان البتة إلى أهداف. لكن ماذا عن لعبة الكرة نفسها، هل تتطور إلى ان تغدو مستحيلة، إلى ان يمتنع فيها مع أنظمة الرصد والمراقبة والدفاع أي شيء سوى توازن عقيم. هل هذه من نتائج نظام ثقافي لا يقبل بأي خصوصية ولا يترك مجالا للارتجال. هل يمكن <اللعب> بعد وهو يتحول إلى تكنولوجيا، إلا يوحي ذلك بأن اللعبة تتطور وتتكامل إلى درجة ان تأكل نفسها، لدرجة ان تغدو مغلقة ومستحيلة. هل هذا مصير كل لعب. أتكلم هنا عن الفن مثلا. يبدو الفن في أحيان فالتاً. انه أحيانا ارتجال ودفقة غير محسوبة لكن ماذا عن الكومبيوتر، عن تبسيط يتحول هو نفسه نظاما. ماذا عن فن يمكن سلفا تقديره. أي توقعه ولو ضمن أوذيسة من الاحتمالات. هل يبدو المرء مختلفا وخارج لحظته إذا تكلم هكذا، أليست السياسة هي الفن الاول الذي لم تنقذه أنظمة الحساب والرصد أيضا والتوقع. هل يسعنا ان نعتمد على الارتجال على البسيكولوجيا، أم ان هذه مرحلة نحو مستقبل لا لعب فيه.

السفير
2006/07/08

* * *

الحقيقة الفرنسية

اسكندر حبش
(لبنان)

اسكندر حبشغداً ينتهي المونديال الذي استمر لأكثر من شهر. شهر اجتازتنا فيه العديد من الأحاسيس والمشاعر المختلفة، ليس أقلها <المفاجأة> التي تحدث عنها البعض، بكون أن المباراة النهائية ستجمع بين فريقين لم يحظيا بحظ كبير في مكاتب المراهنات، قبل انطلاق مباريات البطولة. هي مباراة بين فريقين من <أوروبا اللاتينية>، في حين كانت التوقعات تصب لمصلحة فرق أميركا اللاتينية أو ربما واحد من أوروبا الشمالية.

في أي حال، سال الكثير من الحبر مع وصول فرنسا التي لم تكن مرشحة للعب هذا الدور المتقدم، لأن فريقها هو الفريق العجوز في هذه البطولة. ومع ذلك ثمة أمر آخر، يتمثل في أن معظم لاعبيها شارفوا على الاعتزال النهائي، لعل أبرزهم قائد الفريق زين الدين زيدان الذي قد يلعب غداً مباراته النهائية. قد تكون القصة بأسرها في هذا الحيز، في قصة هذا الجيل الفرنسي الذي يرغب في وضع خاتمة جميلة للمسار الذي ابتدأه عام .1996
هي قصة جيل إذاً. تماماً مثل الأجيال الأدبية والفنية، التي عرفت خلال مسارها كيف تثبت حضورها وتحجز لها مكانة فوق خارطة العمل الذي تقوم به. من هنا، ومهما جاءت نتيجة المباراة الأخيرة، فإنها ستكون بمثابة حفل وداع. إما أن يكون الوداع بفرحة عارمة وإما سيقال لقد أعطى هذا الجيل كل ما يملك وينتظر الجميع الجيل الذي سيلي.

لكن وبعيداً عن ذلك، قد تبدو القصة الفرنسية مختلفة من حيث الجوهر. لأن أكثر من تسعين في المئة من اللاعبين ينتمون إلى أصول غير فرنسية. هذه الصورة غير العنصرية، المنفتحة على الثقافات المختلفة، تشكل جزءاً لا يتجزأ من الثقافة الفرنسية المعاصرة، وما عجزت عنه السياسة في تفاصيلها اليومية، يبدو ان المنتخب الرياضي هو الوحيد القادر على التذكير ببعض الأفكار الفرنسية الكبرى التي تأسست عليها هذه الجمهورية. فإزاء نمو اليمين المتطرف بشكل كبير، وتصريحات لوبن بأن اللاعبين لا يعرفون حتى ترديد النشيد الوطني قبل المباراة، وإزاء كل الحالات العنصرية الأخرى التي تجتاز المجتمع هناك وتجعله يبدو شبه مريض ومصاب بالكثير من الحالات المستعصية، يجد الفرنسيون في منتخبهم صورة عن الحقيقة الاجتماعية التي يريدونها، وهي أن الجميع متساوون أمام الفرص المتاحة لهم وبأنه يحق لهم تمثيل هذه البلاد التي احتضنتهم.

بمعنى آخر، مباراة فرنسا غداً لن تكون مجرد مباراة عادية ضد الفريق الايطالي للفوز بكأس العالم، بل هي أيضا محاولة لكي ينتصر هذا الفكر المتعدد، المنفتح، لأنه في حال الفوز ثمة تأجيل للتعب الاجتماعي الذي يلف هذا الجزء من القارة القديمة.

ما تعجز عنه سياسات الحكومات المتعاقبة هناك، سيجد مبرراً لوجوده في مباراة رياضية. من قال إن الرياضة بقيت مجرد لعبة؟ كل السياقات الأخرى هي حاضرة اليوم، وبخاصة في كرة القدم.

السفير
8 – 7- 2006

* * *

شعبان حارس المرمى الاحتياط الأكثر لطافة في العالم

(قصص من المونديال)

نجم والي
(ألمانيا)

(قصص من المونديال)كل مونديال يحوي قصصاً خاصة به، وقصص مونديال 2006 تدور أكثرها عن حراس المرمى. فحتى أيام قريبة كانت هناك قصة التناوب بين الألمانيين أوليفر كان وينس ليمان، ثم الفرنسيين، اللذين تنافسا أيضاً على حراسة المرمى، وعلى الحصول على الفانيلة رقم واحد. لكن لنترك هذه القصص جانباً، وقد حُسمت بطريقة لا تخلو من الملل، ولنبدأ بقصة أخرى تحوي على الكثير من التشويق والأكشن: إنها قصة حارس مرمى فريق المنتخب الوطني السويدي، رامي شعبان. صحيح أن الإسم لوحده يثير الفضول، رامي؟ وشعبان؟ وسويدي؟ كيف يكون ذلك؟ لكن مهلاً، لا تكمن الغرابة في الإسم، فأن يلعب اليوم في فريق وطني في أوروبا لاعب من أصل آخر ليس بالأمر الغريب، فمن النادر أن يخلو أحد هذه الفرق من لاعب واحد على الأقل قادم من بلاد أخرى. حتى ألمانيا التي كانت تشكل الإستثناء الأوروبي الوحيد حتى فترة قريبة، بعدم إمتلاكها مستعمرات تجعل وجود لاعبين بلون جلد غير أشقر أمراً طبيعياً، كما هي الحال في بريطانيا وفرنسا وهولندا والبرتغال وإسبانيا، نقول حتى ألمانيا أصبحت تضم بين صفوفها لاعبين ببشرة غير آرية. اليوم تضم ألمانيا أربعة لاعبين أساسيين من أصل غير ألماني، اثنان منهم من أبوين بولنديين (هدافا الفريق: كلوسة وبودولسكي) وإثنان آخران، مهاجمان أيضاً، من أبوين غانيين (اساماو وأودوي). ولكن فيما يتعلق برامي شعبان، فيظل الأكثر إثارة للفضول عنده ليس اسمه الذي يأتي من إسم عائلة أبيه المصري، إنما من كل ما له علاقة بقصة حياة هذا الرياضي. وقصته التي أصبحت مادة شهية لرجال الصحافة القادمين من كل بقاع العالم (20 ألف صحافي) لتغطية المونديال، تصلح للسينما في المقام الأول، أكثر مما تصلح لساحة الملعب. إنها قصة غير عادية، بكل ما احتوته من وقائع، التي هي بالمحصلة مجموعة من المصادفات لاغير. فإذا كان أبوه مصرياً مثلاً، فإن أمه فنلندية، وكل ما هو فيه مما يمكن أن نطلق عليه: "سويدي": هو أنه وُلد وترعرع في السويد.

ولكن غرابة قصة هذا الرياضي تكمن في الجانب الآخر من القصة، في واجبه أو في الدور الذي عليه القيام به حتى الآن كحارس للمرمى. ماذا تكون مهمة حارس المرمى عادة، إن لم تكن بالوقوف أمام مرماه للدفاع عنه؟ أليست هي هذه مهمة كل حراس المرمى في العالم؟ طبعاً، الجواب بديهي، لكن علينا أن نضيف هنا، "بإستثناء حارس المرمى السويدي رامي شعبان"، لأن الواجب الرئيسي الذي كان عليه القيام به دائماً: هو ألا يلعب. وحسب ما يُروى عنه، أن ليس هناك حارس مرمى في أوروبا أكثر منه شهرة في تواضعه، وأن فضيلته كحارس مرمى إحتياط تكمن بقبوله دوره هذا بقناعة تامة. هذا ما جعل بعض الفرق الأوروبية المشهورة تتسابق على التعاقد معه، ليس للقيام بواجب حراسة المرمى، إنما للجلوس على مصطبة الإحتياط. "إنه يقوم بدوره هذا بجدارة" كتبت عنه الصحافة الألمانية. ربما بدت هذه الجملة مثيرة للضحك عند البعض، إلا أن قبول دور الإحتياط في الأندية الأوروبية وفي المنتخبات الوطنية ليس بالأمر السهل، لأن غالباً ما يظل لاعبو الإحتياط غير معروفين، بسبب عدم حصولهم على فرصة للعب، وحراس المرمى أكثر تعرضاً، لأن نسبة تعرض حارس المرمى رقم واحد للإصابة بجرح نادرة جداً. وأقلها في فرق المنتخبات الوطنية، لكن عادة يجلس حارسان للمرمى على مصطبة الإحتياط. وفي ألمانيا، كانت الأوساط الرياضية حتى فترة قريبة قلقة من عدم موافقة حارسي المرمى المتنافسين: أوليفر كان، وينس ليمان، على تقبل دور حارس المرمى الإحتياط، خاصة الأول، الذي كان حارس المرمى رقم واحد غير المتنازع عليه على مدى ست سنوات. أخيراً رضخ أوليفر كان، وهضم تحول منافسه ينس ليمان إلى حارس المرمى رقم واحد، بعد أن ظل ليمان طوال تلك السنوات: حارس مرمى الإحتياط في الفريق الوطني، دون أن يعترض حتى الآن. لكن ليمان هو أصلاً حارس مرمى رقم واحد لفريق "أرسينال" البريطاني المشهور، وذلك ما شكل عزاء له، فماذا يفعل رامي شعبان؟ لنروي قصته هنا، كما تناقلتها الصحافة الألمانية.

يُقال إن رامي شعبان، ليس أكثر أعضاء الفريق الوطني السويدي لطافة، إنما حارس المرمى الإحتياط الأكثر لطافة في العالم، رغم أن كل ما يمكن أن يقدمه كشواهد على جدارته بحراسة المرمى في المرحلة الأخيرة من حياته الوظيفية، هو استخدامه المفاجئ في مناسبات عديدة كلاعب إحتياط، وتجاوزه الامتحان ذلك بجدارة وجنون. رامي شعبان الذي سيكمل بعد ايام قليلة الحادي والثلاثين من عمره، أنجز في كل حياته الرياضية 23 لعبة كحارس مرمى إحتياط، لكن لديه الكثير من القصص "المجنونة" التي رواها للصحافيين، والتي أجبرتهم في النهاية على عدم تجاهلها. ومنها قصة مباريات السويد الأولى هذا المونديال. وهو لا يخفي القصة، فيقول: إن حياته هي أن ينتظر ما يحدث لحارس المرمى السويدي رقم واحد:
أندرياس إسحقسون.

بدأت القصة عام 2001، عندما حصل إسحقسون حارس مرمى أكبر أندية السويد على البطاقة الحمراء، في لعبة لفريقه ضمن دوري كرة القدم السويدي، بسبب لعبة "فاول" في منطقة الجزاء، كانت سبباً لإخراجه من ساحة الملعب ولإحتساب ضربة جزاء للفريق الخصم. شعبان الذي أُستبدل بمكان أسحقسون نجح بصدّ ضربة الجزاء تلك. عام 2002 عاد أسحقسون بلياقة بدنية ناقصة من المونديال، الأمر الذي سمح لشعبان أن يقف في حراسة مرمى النادي خمس مرات. لقد لعب بشكل ملفت للنظر، كما كتب الصحافيون. أحد وكلاء نادي أرسينال البريطاني، الذي كان يراقب دوري السويد في التلفزيون بحثاً عن لاعب وسط يتعاقد معه، لم ينس مهارة شعبان كما يبدو. إذ ما أن إنتهى عقد حارس المرمى الإحتياط القادم من الأوروغوايّ، إقترح الوكيل على إدارة نادي أرسينال، أن تتعاقد "مع السويدي المجنون هذا؟". هكذا وقع شعبان العقد ليلعب في أحد نوادي القمة في أوروبا.

لعب خمس مباريات لأرسينال، وكان في ذلك الوقت حارس المرمى رقم واحد للفريق، دافيد سيمان، قد تجاوز الأربعين من عمره، فضلاً عن ذلك، فقد كان يعاني من جروح عديدة. هل سيصبح رامي شعبان أخيراً حارس مرمى رقم واحد، وفي أحد قمة أندية أوروبا؟ بالفعل كاد أن ينجح بالوصول إلى هدفه هذه المرة، لكنه، ولسوء طالعه "التعيس"، كسرت قدمه في صباح أحد ايام 2002 خلال التمرينات، وكان عليه أن يخضع لفترة علاج طويلة، الأمر الذي دفع نادي أرسينال إلى عدم تمديد عقد عمله 2004.
ربما جاء الوقت المناسب لرامي شعبان في حينه لكي يبدأ بالحديث عن طموحاته ومطالبه العالية، لكن المشكلة أن ليس هناك أحد من أندية القمة الأوروبية يثق بإمكانياته، هذا يعني، أن عليه الجلوس على مصطبة الإحتياط مرة أخرى، ليتحول عام 2006 إلى حارس المرمى الإحتياط الوحيد في أوروبا الذي لا يملك عقداً في ناد.

هذه المرة كان عليه أن يجلس في البيت، إلى حين تسمية مدرب الفريق الوطني السويدي لاعبي فريق بلده 2006، وكان من ضمنهم إسم رامي شعبان، كحارس مرمى إحتياط. كانت مفاجأة لشعبان، وأكثر منه للمختصين في كرة القدم الذين لم يخفوا دهشتهم وتساءلوا: ماذا؟
شعبان مرة أخرى؟ نعم، شعبان، فحسب ما تقوله الصحافة الرياضية: بإستثناء أسحقسون، ليس هناك في السويد حارس مرمى آخر غير رامي شعبان!

مرة أخرى "لعب القدر لعبته"، كما يقول شعبان. فهذه المرة، وقبل ثلاثة أيام من إفتتاح المونديال، هزّ المهاجم السويدي كيم كيلشتروم "رأس" حارس المرمى رقم واحد اسحقسون أثناء التمرينات، بدل أن يهز شباكه، عن طريق ضربة قوية في رأسه. كان على رامي شعبان إذن أن يحل محله، كحارس مرمى رقم واحد، وأن يقوم بكل التحضيرات اللازمة لكي يقف أمام المرمى السويدي، رغم أنه لم يلعب كحارس مرمى في لعبة دولية قوية منذ ما يقارب أربع سنوات! رغم ذلك، ولدهشة الجميع، رأى المشاهدون كيف وقف شعبان "بشجاعة" وهو يصد كرات مهاجمي فريق ترينيداد توبيغو في لعبة الإفتتاح، لتنتهي اللعبة بتعادل الفريقين من دون أهداف. رغم ذلك، لم يخف رامي شعبان عدم رضاه من عدم تسديد مهاجمي فريقه هدفاً في مرمى الخصم: "لم أعرف ماذا عليّ أن أفعل أفضل من ذلك، رغم ذلك كلنا كنا خائبين بسبب النتيجة"، كما قال للصحافيين.

وفي تلك اللعبة بالذات، وبعد طرد أحد لاعبي الفريق السويدي، أصبح السويديون في وضع لا يحسدون عليه، كان يمكن رؤية التعب والذعر باديين على وجوههم وهم يلعبون: عشرة ضد أحد عشر ترينيدادياً، أحد عشر ترينيدادياً فاجأوا الجميع بمهارتهم وبلياقتهم البدنية ولم يبخلوا ببعض الألعاب الساحرة. ليس من المبالغة أن يصرح مدرب الفريق السويدي، بأنه عندما حدّق بوجوه لاعبيه بعد نهاية المباراة، لم ير الابتسامة على وجه أي واحد منهم. ولكن مهلاً؟ هل حدّق حقاً بوجوه لاعبيه، كلهم؟ وماذا عن صديقنا رامي شعبان؟ ألم تكن الضحكة متجمعة على وجهه؟ ألم يظهر مثل موديل تصوير؟

كان شعبان يعرف بأنه سيقف مرة أخرى في المباراة القادمة لفريقه ضد البراغواي، وكان يفرحه ذلك، وكأن ضحكته تقول: "هذا هو أنا، حارس المرمى الإحتياط أكثر أعضاء الفريق لطافة"، الطريف في الأمر هو أنه عندما سأله في تلك الليلة أحد الصحافيين الألمان، ما إذا كان يخشى أن يلعب فريقه ضد الفريق الألماني، الذي يمكن أن يكون أحد الفائزين من المجموعة "ألف"، لم يجد جواباً غير الضحك، وكأنه غير متأكد من اللعب في دوري الثمانية، ولكنه على الأقل قال للصحافي الألماني، بأن أكثر لحظات حياته سعادة كحارس مرمى إحتياط، عندما ذهب مع حارس المرمى رقم واحد الجديد لفريق أرسينال في أول يوم وصوله لندن، لشرب القهوة في مقهى قريب من النادي، "أحزر مع من؟" سأل شعبان الصحافي الألماني، وكان يضحك. طبعاً كان يعرف، بأن الصحافي والمشاهدين، يعلمون بأنه كان يعني في حديثه حارس المرمى الألماني ينس ليمان، ولكن الأمر مفهوم، أراد أن يقول قبل أن يتحوّل ينس ليمان إلى حارس مرمى رقم واحد في المنتخب الوطني الألماني، عندما كان ليمان مثل شعبان: حارس مرمى إحتياط، مع الفارق. فإذا نحينا جانباً المقارنات الرياضية بين الحارسين، فإن ليمان لم يكن مقتنعاً بدوره كحارس مرمى إحتياط وهو هدد بالخروح من الفريق الوطني، لم يتصرف مثل رامي شعبان: حارس المرمى الإحتياط الأكثر لطافة في العالم!

المستقبل
الأحد 2 تموز 2006

* * *

أعلام إيطاليا والأرجنتين... هنا في الضيعة

حسن داوود
(لبنان)

كان مفاجئاً أن نشاهد، ونسمع، ما يحدثه عبور موكب السيارات من جلبة. قال أحد الجالسين معنا على الشرفة إنه عرس، قبل أن يضيف، بعد ثانيتين:
عرس قروي، أما جهاد المقيم في القرية صيفاً شتاء فصحّح ذلك التوقع بالقول إن المباراة انتهت.

وإذ قمنا إلى واجهة الشرفة، لنرى، رأينا انها ايطاليا. كانت أعلامها التي بالألوان الثلاثة: الأخضر والأبيض والأحمر، ترتفع من نوافذ السيارات مرفرفة خابطة في الهواء مع مسير السيارات، لكن أيضاً مع تلويح الأيدي بها تلويحاً حماسياً، مترافقاً مع إيقاع الزمامير المتكرر والملّح.

كان ذلك مفاجئاً، أن نرى إعلام ايطاليا يرفعها أبناء ضيعتنا، ايطاليا التي لم تكن موضوعاً للتداول بينهم إلا في فترة الحرب العالمية الثانية.
ذاك أن أياً من مهاجري الضيعة الكثر، الذين شرعوا بالتوزع في بلدان العالم وقاراته منذ أيام الحرب (اللبنانية) لم تكن ايطاليا مقصده. ثم إن ايطاليا هذه غير حاضرة في شأنهم اليومي: ليس في الضيعة سيارة ألفاروميو واحدة، سيارات الفيات توقفت أيضاً عن الوجود هناك منذ الستينات ربما؛ الأدوات الزراعية وأدوات البناء التي يجري الحديث عنها بينهم الحاضر الأول فيها ألمانيا، وذلك بمواجهة البضاعة الصينية التي تتخرّب بسرعة، بحسبهم.
وقد قلنا إن هؤلاء واقفون مع ايطاليا لأن خصومهم في الضيعة واقفون مع ألمانيا، أو ربما البرازيل، متذكرين، فيما نحن نقول ذلك، كيف أن الضيعة كانت تسرع إلى الانقسام فيذهب بعضها إلى تأييد لائحة الزين لأن البعض الآخر أعلن تأييده للائحة الأسعد. ذاك أن الموكب، بأعلامه وزماميره، بدا كأنه يزارك أحداً، وكان هذا صحيحاً، في البيت ذي الطابقين الذي أمامنا على الأقل، والذي يرفع على صارية جعلها على سطحه، علمي البرازيل وألمانيا، إذ في أثناء عبور الموكب وإطلاقه ضجيجه، لم يخرج أحد من داخل ذاك البيت إلى الشرفة.

كما أننا تفاجأنا، نحن الذين نعود إلى الضيعة بعد انقطاع، كيف أن مناسبة رياضية أو بالأحرى مناسبة عالمية، بات يحتفى بها هكذا بموكب سيارات، في طرقات الضيعة وبين بيوتها. حتى وقت قريب كنا نظن أن كلمات مثل الباراغواي أو تشيكيا لم تصل أو لم تصل بعد، إلى هناك. ذاك أن المناسبة العالمية، كما كنا نظن تكترث لها بيروت وحدها، بل وأن بيروت تحتفل باكتراثها بها في الوقت ذاته، ضامة نفسها بذلك إلى المجتمع الدولي. قلنا إن الضيعة صارت مثل بيروت. بل وإن أهلها صاروا أكثر معرفة منا بأشياء كنا نعتبرها بيروتية. هل يوجد كابل اشتراك يا راغب، سألنا الكهربجي الذي يصلح لنا كهرباء البيت، فقال: يوجد كابل، ثم قال أيضاً أننا أن شئنا يستطيع أن يركّب ساتلايت على السطح، ذاك انه، بشغله بالكهرباء، يحتل تركيب الساتلاتيات نصف ما يطلب منه.

كما انه سمى لنا نوعاً من الاشتراك بالمحطات لا يحتاج إلاّ إلى دشّ صغير تضعه الشركة على سطحنا وتتقاضى مقابل ذلك 25 ألف ليرة فقط في الشهر. (ولنضف إلى ذلك ما شاهدناه في أول الطريق الموصلة إلى البيت الذي نرمّمه من مد لكابل ثخين على عواميد الكهرباء. قال لنا أحد الموظفين اللذين يمدانه انه كابل انترنت. وإذ سألناه كيف لنا أن نشترك، أجاب بأن علينا الاتصال بالشركة، وهذا، مع قلة علمنا بشؤون الانترنت، وجدناه جديداً حتى على بيروت).

أي أن الآتين من بيروت لم يعد لديهم شيء يخبرونه حين يعودون إلى الضيعة. ففي اللحظة ذاتها التي أعلن فيها عن فوز ايطاليا، هبّ المتحلقون حول التلفزيون هناك، في الضيعة، غير متأخرين أبداً عن أولئك الذين هبوا واقفين في بيروت. وهم، أهل الضيعة، ربما يكونون أكثر استمتاعاً بالمبارزة بين الفرق إذ هم يعلمون، عندما ينتصر الفريق الذي يؤيدونه، ضد من تسير عراضاتهم. في بيروت يبدو المؤيد محاوراً نفسه إذ لا يعرف من هم مؤيدو الفريق الخصم. ثم إن الضيع تعرف، من تقاليدها الباقية، كيف تصنع حماسة من شيء لا فائدة منه. المثال على ذلك حين يروح الناس هناك يتحمسون إلى حد التقاتل فيما هم يلعبون ورق الشدة على لا شيء، أقصد أن الرابح لا يربح شيئاً وكذلك الخاسر لا يخسر شيئاً.

وهذا هو الحال مع تأييد الفرق المتبارية في المونديال لن تستمر خيبة الأمل الناتجة عن خسارة الفريق أكثر من خمس دقائق. أهل الضيع، كما أهل بيروت، لن يصيبهم ما أصاب الشعب الكوري حين خسر فريقه الأسبوع الماضي. لن يبكي أحد هنا مثلما بكى أهل كوريا ولن يشعر (الذين هنا) بأي فاجعة من أي نوع إذ إنهم، وإن كانوا مؤيدين، إلا أنهم أشبه بـ"الشريك المضارب" ذلك التعبير الذي ابتدعه أهل القرى على الأغلب، ولاعبو الورق منهم على وجه الخصوص).

نحن هنا، نؤيد الفريق هذا أو الفريق ذاك بالاختيار الحر حيث لا مصلحة لنا مع أي من الأطراف. نحن هنا نتفرّج على الآخرين ولا تربطنا عداوة مع أي منهم. لسنا مثل أولئك الانكليز الذين فيما هم يشاهدون إحدى المباريات على التلفزيون، راحوا يتحمسون ضد الفريق الفرنسي، وذلك بسبب التاريخ الصدامي الحربي بين البلدين. نحن هنا لا تربطنا بالدول المتبارية عداوات أو خصومات، وإلا كيف يؤيد بعضنا الفريق الارجنتيني؟

بالاختيار الحر وحده وقف أهل الضيعة أولئك مع الفريق الايطالي. الاختيار الحر الذي فيه القدر اللازم من عدم المعرفة وعدم التورط معاً. وهو اختيار لا يملك صاحبه أي كلام مقنع يقوله ليبرره. ثم انه لن يكلف شيئاً.
أليس هذا هو اللعب في حدّ ذاته، أليس هو اللهو الخالص يصنع لنا المونديال مناسبته وموضوعه. لم يعد أهل الضيعة يتبارون، هناك في الساحة أمام دكان عبدالله علي ابراهيم، برفع العَمدة. لم يعودوا يقيمون السهرات على البيدر، بل إن البيدر نفسه لم يعد موجوداً إذ أقام أبو جهاد بيته على جانب منه وأوسعوا طريق الغبرة في جانب آخر. صار "البسط" معولماً، على ما يمكن أن يقول متتبعو المتغيرات من أهل الضيعة. وهو (البسط) آت من بعيد ولن تدفعهم نتائجه إلى الاستنفار بعضهم ضد بعض، مثلما حصل في الانتخابات البلدية الأخيرة.

المستقبل
الأحد 2 تموز 2006

يتبع..