عبد الرحيم الخصار
(المغرب)

عبد الرحيم الخصارهذا ما تعلمناه من ادوارد سعيد ، ستبقي هذه الجملة في ذاكرتي طويلا لسببين: أولهما لأنها ترتبط بمفكر عظيم، وثانيهما لأن الذي قالها هو مثقف وازن اسمه: الياس خوري.
كنت جالسا في مقهي الجوهرة بقريتي جزولة رفقة صديقي الوحيد هناك، تحدثنا قليلا عن السياسة وكثيرا عن الأدب خصوصا في حضور شاعر نحبه قد زارنا ذلك اليوم هاربا من ضجر المدينة.

مر أمامنا حشد كبير من المتسولين والعطلة وماسحي الأحذية وباعة السجائر بالتقسيط، مشاهد كثيرة تعمق يوميا سخطنا علي وضع تلك القرية التي يتولي أمرها عدد من الديناصورات والتي يبدو أنها لم تنقرض بعد رغم الشعارات السياسية للمرحلة.
بعد قليل زيارة خاصة لالياس خوري هذا ما التقطته عيني من الشاشة التي تسلي هنا كما هائلا من المحبطين واليائسين، ودعت المكان ومن فيه دفعة واحدة واتجهت مع صديقي الي منزله كي نستمع الي الياس خوري دون ازعاج من شعب يجلس خلفنا في المقهي مستمتعا بالرعب الذي تعج به الأفلام الأمريكية.

كنا نرغب فقط في أن نسمع مثقفا حقيقيا يتكلم عن شيء ما يعيد الي قلوبنا الضعيفة قسطا من الايمان بكلمة مثقف في زمن لم نعد نسمع فيه أصوات المثقفين، فقط تتعالي في بيوتنا ومقاهينا أصوات المذيعين والمذيعات.

كان الياس خوري يرفع شعارا واضحا وحاسما: ليس هناك من علاقة بين المثقف والسلطة مضيفا بأن هذا ما تعلمه من ادوارد سعيد وسارتر وبورديو، كانت الكلمات تخرج من بين شفتي خوري كما لو أنها مجنحة، مشكلة أمام أعيننا صورة المثقف الذي نؤمن به، المثقف الواضح الذي لا يتغير موقفه بتغير مصالحه.
كلمة موقف لم أسمعها منذ زمن، ويبدو أننا صدقنا الخدعة حتي أننا صرنا ندفن كلمات كثيرة تحت وهم الحداثة وما بعدها مثل كلمة موقف و مقاومة و تمرد و قضية و التزام فصار كل مثقف يتحدث بهذه الكلمات يبدو لنا قديما وغير حداثي.
كنت أستعيد صورة الشاعر ألن غينسبيرغ الذي وقف أمام القطار الأمريكي الذي كان يحمل الديناميت الي فيتنام مرغما اياه علي عدم الحركة حتي لا يقتل الديناميت الأمريكي المزيد من الكائنات التي وجدت كي تعيش.

كنت أستعيد أيضا صورةالروائي كارلوس فوينطس وهو معتكف علي اتمام كتاب يطمح من خلاله الي اقناع الأمريكيين ذوي أصول لاتينية بضرورة اسقاط نظام جورج بوش.
كنت أستعيد كذلك صورة بورديو وهو يركض في شوارعنا ضد العولمة والامبريالية، حضرت أمامي صورة جان جينييه وازرا باوند ويوكيو ميشيما وعدد من الذين وقفوا ضد أشكال الطغيان مهما كانت مصادرها، وكنت بالمقابل أتحسر علي حال مثقفينا الان في المغرب، خصوصا أولئك الذين يتجولون بحقائبهم في منتديات الدول الشقيقة وغير الشقيقة، والذين ينظمون المهرجانات العالمية ويستدعون شعراء وكتابا من القارات الخمس ، والذين لم نسمع يوما أنهم قالوا كلمة لا ولو في وجه الأشباح.
مرة قال الكاتب المغربي الكبير أحمد بوزفور لا بكثير من الهدوء والأدب فسخطت عليه الآلهة، وكان من المؤلم حقا أن يكون موقف اتحاد كتاب المغرب- ممثلا في رئيسه السابق - ضد نبل وشهامة أحمد بوزفور.

جلست أحدق في الفراغ وأطرح عليه أسئلة كثيرة، أسئلة تتناسل وتتوالد بمجرد التفكير في أولها، وكان الجواب الوحيد هو الفراغ نفسه.
كان كلام الياس خوري يذكرنا بالدرس الأهم في الثقافة الكاتب هو كلماته فليحذر كل كاتب من خيانة الكلمات.
اذا كان المثقف غير قادر علي تبني موقف ما من الفساد والرداءة فليلزم الصمت علي الأقل، فهذا أفضل من أن يزمر ويطبل في جوقة المهرجين.

القدس العربي
16/01/2007