عبد الرحيم الخصار
(المغرب)

عبد الرحيم الخصارقال الروائي إدمون عمران المالح مرةً: "صعب جدا الحديث عن تجربة محمد خير الدين الإبداعية". هذه الصعوبة استشعرتها بنفسي وأنا اتلمس طريقا وعرة إلى الأدغال حيث يعيش هذا "الطائر الأزرق". فحين يقرأ أحدنا لمحمد خير الدين او يقرأ عنه سيحس بالنخوة والوجع، بالزهو والخوف، بالإشراق والخيبة، وبالنار التي تسري في الكلمات والصقيع الذي تخرج إليه. سيحس بعظمة هذا الكاتب وحقارة ما يحيط به.
كان محمد خير الدين كاتبا أثيرا لدى الرئيس الفرنسي السابق فرنسوا ميتران، وصديقا للفيلسوف جان بول سارتر وسيمون دو بوفوار. يعرف المتتبعون أن سارتر حين عاد وقبل جائزة نوبل، خصص قسطا منها ليُصرف على خير الدين. كفر سارتر بأشياء كثيرة لكنه آمن بمحمد خير الدين، فتبناه وفتح له أبواب دور النشر الفرنسية وفي مقدمها "سوي" حيث نشر معظم أعماله.

يضيف الروائي عمران المالح: "قيل زمن صدور رواية خير الدين الاولى "أكادير" عام 1967 أنها لا تنبئ فقط بميلاد روائي مبدع باللغة الفرنسية، وإنما بميلاد شاعر كبير بأنفاس شعرية وأسطورية كبيرة". تضعنا هذه الكلمة في الضرورة أمام مفارقة أدبية، فمن الغريب ان يُتنبأ لكاتب يصدر روايته الاولى بأنه سيكون شاعرا كبيرا. جريدة le matin السويسرية تنبأت أيضا بأن أعمال هذا الكاتب ستقرأ بنهم كبير واهتمام بالغ جدا من القراء في القرن الحادي والعشرين.

كان صموئيل بيكيت حامل نوبل الآداب والعابث الأكبر في العالم، معجبا بكتابات خير الدين، الذي يقول عنه الروائي الطاهر بن جلون: "إنه نباش ممتاز في الهوية الأمازيغية". حين أصدر خير الدين مجلة "أنفاس" برفقة عبد اللطيف البعبي وآخرين قال أندره بروتون لجان بول ميشال: "من هنا ستبدأ الثورة".

وفي وقت يسعى بعض شعراء المغرب إلى خلق صداقات، ولو من باب الوهم، مع أدباء فرنسيين وعالميين، والظهور في محاذاتهم كما لو أنهم جنرالات أدب برتبة واحدة، كان أدباء العالم في ذلك الزمن يحتفون بمحمد خير الدين، لأنه محارب عظيم آمن بالمعركة التي يؤمنون بها، فيما كان هو يحتفي بأكونشيش، العجوز الأمازيغي المنسي جنوب المغرب.

عدد هائل من الكتاب الكبار أحاطوا خير الدين بالمحبة والإعجاب وتقاسموا معه شرف الصداقة والكتابة، بينهم ليوبولد سيدار سنغور وجاك لاكان وأندره مالرو وميشال ليريس وايف بونفوا وبيار برنار ومحمد شكري وجاك بيرك وكزافييه كزال وبيار بيارن، الذي سيكون خير الدين سببا في شهرته، فهو الذي أخذ منه قصيدة واستنسخ منها 6000 نسخة وتم توزيعها مع عدد من المناشير لتصبح شعارا لتلك المرحلة.

في نصه الشعري "حيوان تالف" يقول محمد خير الدين: "أنا سليل سلالة منسية، لكنني احمل نارهم". ربما يقصد هنا سلالة الكتاب الذين يملكون عين كاسر وقلب فراشة، وربما يقصد سلالة الأمازيغيين الذين كانوا في ما مضى أهل هذه الأرض وصاروا اليوم يصرخون في الليل والنهار من أجل أن تقرأ لغتهم ولا يطوى تاريخهم.

ولد محمد خير الدين عام 1941 في قرية أزرون وادي، بضواحي مدينة تافراوت جنوب المغرب، وسط العظمة الأمازيغية، حيث التاريخ الممتد إلى أعماق مملكة نوميديا، وحيث الأدب الرائع الذي يسري على ألسنة الناس إلى أيامنا هذه. قد لا تجد هذا الأدب برمته في خزانة او كتاب، لكنك تستلذه وهو يتدفق كشلال جارف من أفواه الراقصين في ليالي احواش، ومن شفاه الصبايا في المراعي او خلف مناسج الجدات. تلقى تعليما مزدوجا والتهم منذ صباه كتب رامبو وبودلير. عهده الاول بالشتات والضياع سيبدأ منذ طلاق أمه من أبيه قبل ان يصل هو إلى سن الرشد. أحب ان يكون مغنيا لكن صوته خانه، عشق أغاني عبد الوهاب واسمهان وعشق أشعار امرئ القيس. حين كان في الثالثة والعشرين من عمره نشر قصيدة في لندن عنوانها "غثيان أسود"، وحاول الانتحار بعدها لكن الموت رفضه. اشتغل بالضمان الاجتماعي من عام 1961 إلى 1963 في أكادير ثم في الدار البيضاء. أصدر في بداية الستينات مجلة "أنفاس" التي تبلورت فيها أقوى حركة أدبية عرفها المغرب الحديث، وقبل عامين من إصدار المجلة كان اطلق بيانا سمّاه "الشعر كله"، ينشد من خلاله حركة تغييرية جذرية في مختلف المجالات وخصوصا الأدب.

سافر إلى فرنسا عام 1965 لأنه أدرك أن "الطائر الأزرق" لا يتنفس كما يشاء في فضاء ضيق ولا يحلق عاليا في السموات الخفيضة، فأضاءت باريس طريقه بأنوارها، ونشر له سارتر قصيدة "الملك" في افتتاحية مجلته الشهيرة "الأزمنة الحديثة". لم يكن له مكان يقيم فيه لأنه أصلا لم تكن له حياة مستقرة. تزوج من فرنسية تدعى آني ثم طلّقها، ودخل بقوة هائلة إلى غرفة الكتابة حين خرج من غرفة الزواج. فبعد روايته" أكادير" ألّف كتبا عديدة وكان يصدر تقريبا كتابا في السنة: "أجسام سالبة"، "شمس عنكبوتية"، "أنا المر"، "النباش"، "هذا المغرب"، "ميموريال"، "قصة إله طيب"، "حياة وحلم شعب في تيه"، "انبعاث الزهور الوحشية"، "أسطورة أكونشيش وحياته"، "كازاس"، "طوبياس"...

كان يكتب عادة حيث الفوضى والضجيج. مرة وجده شرطي بين المشبوهين من لصوص وتجار دعارة ومخدرات في مطعم تيرمينوس في ساحة الجمهورية فسأله: "كيف تكتب وسط هذه الجحيم؟"، فأجابه:
"حين أكتب يختفي العالم من حولي، ولا يعود في إمكاني ان أنتبه لشيء سوى للشخصيات التي أصنعها".

كانت أفكار محمد خير الدين وآراؤه جريئة، واضحة وصادمة، وكان وعيه كما مزاجه حادا، ولم يكن كاتبا مدجنا ومهادنا، كان موقفه صارما تجاه كل ما هو رسمي إلى درجة أنه كان يكره الأكاديميين والدكاترة الجامعيين، وخصوصا اولئك المحنطين خلف نظراتهم المتعالية ووعائهم الفكري الجاف والفارغ.
اتسمت آراؤه بالعمق وبتلك السخرية اللاذعة، لذلك حين عاد إلى المغرب في سنواته الأخيرة أصيب بصدمة الانتقال من عالم تسود فيه قيم العدالة والحرية وتقدير الفرد والإخلاص في أداء الواجب إلى عالم نقيض حيث الفساد الإداري والغش وتردي الخدمات وتخلف الأفكار والمشاعر وقتل الأشياء الجميلة بالصمت عنها.

حين عاد إلى المغرب ظلت أقدامه تدب هنا فيما أنفاسه تسري هناك. واصل حياته بالطريقة نفسها، حياة كاتب يؤمن إيمانا كبيرا بمقولة فرانز كافكا: "كل ما ليس أدبا يقلق راحتي وأشعر تجاهه بالكراهية". قال محمد شكري عنه في تلك الفترة: "لم يكن محمد خير الدين يتوفر على سكن قار إلا نادرا، كان يبدل ثيابه في منزل أحد أصدقائه ويترك الوسخة منها حيث يخلعها... لم يكن يتقيد بالمواعيد، ينام في فندق او أينما تيسر له أن ينام، إنه الطائر الأزرق، السماء كلها له، أحيانا كان يأتي ولا شيء في جيبه، كنت أستقبله، ولكنني لم أكن أستطيع أن أقيمه معي في المنزل، إنه الأرق بعينه، إذ هو كثير الحركة ليل نهار، لا يمكن معرفة متى ينام ومتى يستيقظ، لم يكن يعنى بصحته، نادرا ما رأيته يأكل بشهية". وحين سئل محمد شكري عما إذا كان قد تبادل رسائل مع خير الدين نفى ذلك: "لم يكتب لي أي رسالة، لم أكن أعرف متى يقرأ ومتى يكتب رغم أننا عشنا معا في اواسط الثمانينات تحت سقف واحد حوالى ستة أشهر في ضيافة أحمد السنوسي (فنان ساخر لا يزال يعيش الحصار إلى اليوم)، كنت أراه فقط يوقع كتبه، إن مزاج محمد خير الدين لم يكن يسعفه للمراسلة إلا مع ناشره في باريس او مع الرئيس السنغالي الأسبق ليوبولد سيدار سنغور او مع الرئيس الفرنسي جاك شيراك". إلا أن خير الدين تبادل الرسائل مع عدد من الأصدقاء او محتالي الصداقة، تلك الرسائل التي سيقول عنها جلال الحكماوي: "لو نشرت يوما ستزلزل الأرض تحت أقدام الكثير من النصابين الذين كانوا يدعون صداقته ويسيئون اليه أشد الإساءة".

رغم هذه العظمة في الحياة والكتابة، رغم القدرة على الإمساك باللغة من ناصيتها، لغة مالارميه وبودلير، وزجها في عالم يطفح بالدهشة والسحر والغرابة، رغم ذلك كله فإن محمد خير الدين لا يزال كاتبا مجهولا في المغرب والعالم العربي، قياسا بقامته الأدبية الشاهقة. وزارة التعليم المغربية لم تدرج ولو نصا واحدا من نصوصه في مقرراتها، ووزارة الثقافة لم تترجم على الإطلاق ولو كتابا واحدا من كتبه ولم تقم يوما ما نشاطا باسمه. إن عددا من المؤسسات الثقافية في المغرب، وعددا من المثقفين المغاربة او المحسوبين على الثقافة، سيساهمون في قتل ثقافتهم وفي تقزيمها من خلال الصمت غير المبرر عن الأسماء القوية والمضيئة والجديرة بالاحتفاء والتقدير.

يرقد جثمان محمد خير الدين الآن في مقبرة الشهداء في الرباط، إلا أن روحه تسري في أجساد صنف مميز من القراء والمثقفين، اولئك الذين لا تخدعهم مكبرات الصوت والصورة، والذين يعرفون طريقهم إلى الأدب العظيم رغم كثرة الغبار والضباب. ولا تزال واحدة من أروع الجمل ترن فوق أطلس المغرب ومحيطه ويرتدّ صداها في الصحارى والمنحدرات، تلك الجملة قالها محمد خير الدين حين اقترب منه الموت: "أما أنا فلا علاقة لي بذلك كله، وليحيا الأدب، وليحيا الأدب".

النهار
يوليو 2007