جاكلين سلام
(كندا)

جاكلين سلامفي هذا الكتاب الذي ينبش الأفق المضمر الحميمي، نقف إزاء سبع مقالات شخصية كتبتها مجموعة من أشهر كاتبات كندا، من السود والبيض والمثليات جنسياً، من أجيال مختلفة وخلفيات فكرية متحفظة أو حرة ومتباينة. "الرغبة في سبعة أصوات" يتعرض إلى ما نسميه بالمسكوت عنه، يتطرق شخصياً إلى حيوات كاتبات لهن بصمة واستمرارية إبداعية وحصلن على جوائز عالمية وكندية مرموقة.

المشاركات هن: سوزان موسغريف، ديون براند، كارول شيلدز، بوني بيرنارد، ايفلين لو، شاني موتو، بالإضافة إلى محررة المجموعة وهي الشاعرة لورنا كروزير.

تقول كروزير في مقدمة الكتاب: كنت أعلم أن هذه المجموعة ستكون مميزة. لقد صارعت في اختيار العنوان كما صارع يعقوب ملاكه. ونفس الحالة واجهت الزميلات الكاتبات، حين البحث عن كلمات لموضوع الرغبة المسكوت عنه. فجاءت هذه المقالات لتكسر السطح وتتجاوز التعقيدات التي تحيط بالأعماق. إنها قصص الحب والاشتياق، مشرقة ومخفقة، تحمل جرسها الموسيقي، حزنها، طبيعيتها، وعنفها، فتلامس أي موضع يمكن للرغبة أن تشرد فيه.

الشاعرة لورنا كروزير، تكتب عن أطوار من حياتها. تبدأ مقالها الشخصي برسالة إلى زوجها الذي رافقته أكثر من عشرين عاماً وهو الشاعر باتريك لين، الذي انفصل عن زوجته حين اشتعلت بينهما جمرة الحب من النظرة الأولى. كانت بدايات حياتهما مشحونة بالشجار والخلافات الحادة. لكن الحب صمد. تصف كروزير أيام المرض وعنايتها بزوجها، وكيف تأخذ الرغبة والعلاقة الزوجية، صوراً متباينة فيجد الزوجان أنهما صديقان، أب وأم، طفلة وولد، أخ وأخت. وإلى جانب هذه العلاقة المهمة في حياتها، تتطرق إلى أولى نظرات الإعجاب التي كانت تشعرها بشيء من الزهو بالنفس والتميز.
تتحدث عن القبلة والمداعبة الأولى حين كانت طالبة في المدرسة، وتبوح لأول مرة بأسرار أثيرة، عن ابنة صفها في الابتدائية، حين حاولتا أن تجربا القبلة واكتشاف جسد الواحدة للأخرى، بينما الأم منشغلة في المطبخ، وتتذكر الولد الذي بصم على جسدها مداعبة توقظ الرغبة.
ديون براند، شاعرة وروائية من جزر "ترينداد" حصلت على أكثر من جائزة. تتطرق إلى موضوع الرغبات من خلال الكلمة، فتجد أن القراءة، والكتابة، الترجمة، والفنون رغبات. وتبقى الرغبة في النهاية عصية على الكشف المباشر. تصف براند علاقتها بالقراءة من خلال أول كتاب اكتشفته في خزانة الجدة وحيث تضع السكر والحلويات، وتعرض مطولاً الأثر الذي خلفته القراءة في جسدها، رغم أنها لا تذكر شاهداً واحداً من تلك الكتب الأولى. تقول: "الرغبة هي اكتشاف الجمال كما لو أنه معجزة. الرغبة حاضرة في الآثار وفتنتها. الجمال عند بعضهم هو البحث بين الآثار، وعند بعضهم الآخر هو الشيء المصنوع من مادة حساسة وأحياناً خطرة. وأن تكتب، يعني أن تنخرط في ترجمة المحيط، بما فيه من خطر وحساسية. وأن تتكئ على مجازات جسد آخر". وتأخذ مقالتها أبعاداً عميقة حول الروح والجسد المتقاطع مع المشهد اليومي.

ايفلين لو، شاعرة وروائية نشرت أول كتبها في الثمانينات، نموذج الأب هو الذي يثير رغباتها الجنسية. وتبدأ مقالها بالقبلة الأولى التي تبادلتها مع أستاذها. وبقي بحثها واقعاً في إطار "العلاقة المستحيلة" وتصف اصطدامها بكبار السن والأشخاص الذين قد تراهم لفترة قصيرة، وتبقى على مسافة منهم. تتكتم على مشاعرها ورغباتها كي تبقي شعلة الشهوة في داخلها. تقول: "الغريب أن الرغبة لدي منفصلة عن الجنس... وشعلتها لا تقل قوة عن الدافع الجنسي" وتصف رغبتها بشخص متزوج ولكن أقصى ما تشتهيه هو أن تضع رأسها على كتفه، ثم تذهب إلى النوم كما لو أنها ابنته. كما تخبرنا "لو" عن الاهتمام الشديد والحب الذي كان يوليه إليها والدها مذ كانت طفلة، وكانت مركز اهتمامه، يتابعها ويقرأ لها القصص قبل النوم، ولكن فقد الوالد عمله وبدأت المشاكل بينه وبين زوجته، فأصبح يكثر الغياب عن البيت، وبقيت الكاتبة تبكي غيابه وتخاف فقدانه كلياً فانصرفت إلى فانتازيا الكتابة. ثم قررت الهرب من بيت والديها، محبطة وقلقة ومنصرفة إلى الأكل كتعويض لفقد روحي عميق. كما تتطرق إلى الشعور بالاغتراب في داخلها والذي تعلمته من والديها المهاجرين، وإصرارهما على تذكيرها بأنها خارج المجتمع كونها صينية الأصل وعليها أن تشتغل بشكل مضاعف كي تصبح مقبولة ومرغوبة بين الأشخاص المهمين. وتجد أن رغبتها كانت دائماً في العتمة. وستبقى دائماً مرتبطة بالشعور بالأمان وعدم الخوف ومركز اهتمام الآخر وإعجابه. رغبتها الدائمة هي أن تعود تلك الطفلة إلى حضن أبيها البعيد.
بوني بيرنارد، روائية وقاصة حازت على عدد من الجوائز المهمة "الكومنوليث، وناشيونال بوك" وجوائز أخرى. تجد بيرنارد أن فكرة مناقشة الرغبة، لم تغرها. لأن الرغبة مثل الحرب، مثل مرض السرطان مثل الولادة، لا يمكن عرضها مع شخص ليس معنياً بها. ولا تحبذ الحديث عنها بالصوت العالي. وتذهب لانتقاد الصراخ بالرغبات من خلال ما تعرضه السينما اليوم وما تفعله الكاميرا من كشف قريب جنسياً، وتبين مخاطر ذلك على الجيل الشاب، وتضع ابنتها مثالاً وهي تشاهد في صباها مثل هذه الأفلام الحارة. تتطرق بيرنارد أيضاً إلى مكاشفات الرجال عن رغباتهم بينما يكون الأمر بين النساء مختلفاً. إنها وصديقاتها المقربات يتحدثن عن كل شيء بصدق وحميمية، ولكن موضوع الرغبة يبقى خافتاً. كما تعرض لوجهات نظرها الغاضبة حيال التشويه والأثر الذي تضخه وسائل الميديا في أذهان الأطفال والشباب في ما يخص الجسد والقوام والرغبات.

شاني موتو، روائية وفنانة ومخرجة، عاشت في ترينيداد ثم في كندا. تتحدث عن طفولتها وتوجهاتها الجنسية نحو بنات جنسها الإناث، وتصف مشاعرها المكتومة تجاه إحدى بنات صفها، دون أن تعي ما يحصل لها في زمن لم يكن الحديث عن المثلية الجنسية شائعاً. تصف علاقتها بوالدها ورغبتها في تقليده في كل تصرفاته، وحتى في ذائقته حيال النساء، حين كان يخون والدتها. تصف فرحها الكبير حين أعطي لها أن تمثل في مسرحية مدرسية، دور الولد. ثم تصف أول علاقة عشق جمعتها مع امرأة في مرحلتها الجامعية. ثم تقرر أن تهرب من بيت والديها وتعلن عن طبيعة جسدها وكونها مثلية، وذلك حين أصبح الشك ينتقل همسأً بين أفراد أسرتها والجوار حين لاحظوا تصرفاتها وأسلوبها في اللبس والماكياج. تحرَّرت "موتو" مع الوقت من عقد الذنب والخوف وأمتثلت لرغباتها الشخصية ووجدت المرأة التي تقاسمها المتعة وتفاصيل الحياة، كما تخلصت مع الوقت من صورة والدها وكل الأقنعة التي التصقت بها وتقول: ليس هناك من شيء علي أن أخفيه. جسدي وكل ما يحيط بي أصبح لي. أخيراً أصبحت أنتمي إلى نفسي.

الشاعرة سوزان موسيغريف لها كتابات متفرقة في الأدب، وعشرون مجموعة شعرية، وهي المعروفة بصخبها وحياتها الشخصية اللامستقرة. فمنذ أن تعرفت الشاعرة على جسدها وعذريتها كما تقول وهي في الرابعة عشرة من عمرها، باتت أسيرة إشباع هذه الرغبة مهما كلفها ذلك من مغامرات. وقادها ذلك في مراحل مبكرة من شبابها إلى مشفى الأمراض النفسية. تقول واصفة تجربتها الأولى مع الجنس: "لا أذكر يوماً لم تكن الشهوة في عروقي، لقد غيرت قارات ورجال... غيرت عاداتي في النوم، في الأكل، غيرت رقم هاتفي وبيتي. الشهوة وضعتني في مهب النار، وخارج إرادتي، وكنت دوماً في رغبة للبحث عن ذاتي". حياتها مليئة بارتكابات مجنونة بحيث طغت سيرتها الشخصية على شعرها وشاعريتها الجميلة. وتعزو موسغريف هذه الحال المرضية إلى الإحباط، والحرب والشعور بعدم الأمان والى عالم القرن العشرين الحافل بالمآسي. ولكنها تصرح بأن اشتياقها لا يزال إلى الشاب الأول الذي اكتشفت معه جسداً انفلت من عقاله ولم تعد تجيد ضبط متطلباته.

أما الروائية كارول شيلدز التي حازت على "بوكرأند غفرنر جنرال اوورد..." فتختم الكتاب بنص متخيل عنونته "ايروس"؛ تصف من خلال السرد القصصي، النسق المحافظ من المجتمع، وعلاقة المرأة بجسدها. وتصور علاقتها بعمتها المحافظة وتربيتها "الرهبانية" وقولها "لا تسمحي لأي شاب بأن يلمس ركبتك". تتزوج المرأة ولا تعرف عن عذريتها أو عن جسد الرجل شيئاً. تصاب بالخوف والإحباط والألم الشديد في ليلة زواجها. يتعرض زواجها للفشل. تقرر وزوجها السفر لقضاء إجازة في باريس، وهناك تجد الفندق في حالة بائسة من ناحية الخدمات والتبريد فيصعب عليهما النوم. وذات صباح، بينما هما جالسان، يتنامى الى سمعهما عبر النافذة المفتوحة، صوت امرأة وهي في ذروة نشوتها. تلك الصرخة كان لها وقع السحر في جسديهما، أثارت فيهما الرغبة، ولحظات من المتعة الغامضة. ولكن تلك اللحظة لم تستمر.

ختاماً
حذار من سبع نساء تحت سقف واحد!
سبع كاتبات اجتمعن تحت سقف فكرة وكتاب، فهل كان هناك خطب ما كما تفسّر الأساطير دلالات الرقم (سبعة)؟ بالإضافة إلى كون الرقم ذا دلالات دينية مستهلكة وقابلة للتأويل، فالأمر يغدو أكثر صدمة حين يكون الحديث برمته عن الرغبة الجنسية والتجربة الشخصية في حياة الكاتب أوالكاتبة وبخاصة ما يتعلق بأحوال الجسد منذ انتقاله من الطفولة إلى المراهقة والشباب، ومنه إلى الشيخوخة، وبما ينضوي تحت ذلك من تغييرات حادة وعميقة، عضوية ونفسية وشكلانية.

المستقبل
الاحد 3 شباط 2008