(أن تقتل الطائر المقلد» التي حازت بوليتزر من نصف قرن )

جاكلين سلام
(سوريا/كندا)

نيللي هربر ليكنت أطالع كتاباً بعنوان «الكتاب الذي غير حياتي». عبرتُ بأسماء كتب كثيرة أثرت في حياة كتّاب كبار في أميركا وكندا. قرأت عن كتب وأسماء لم أسمع بها من قبل وكان من بينها رواية بعنوان «أن تقتل الطائر المقلّد». بحثت عن خصوصية هذا الطائر، لأجد أنه طائر يعيش في شمال أميركا وهو مسالم جميل لا يقوم بشيء غير الغناء وتقليد أصوات الطيور الأخرى التي يسمعها ويعدها.

ثم وصلتني بطاقة ودعوة للسفر من قبل قلم كندا، مع عدد من الأصدقاء الكتّاب إلى مدينة ستاتفورد الكندية حيث يقام المهرجان السنوي في دورته السبعين لحضور مسرحية «أن تقتل الطائر المقلّد». ويعد مهرجان ستاتفورد السنوي أحد أهم وأضخم المسارح العريقة في شمال أميركا وكانت دورته الأولى في عام ,1952 وتمتد عروض المهرجان من شهر ابريل إلى نوفمبر كل عام. يستقطب المهرجان حضوراً كبيراً كل فصل يصل إلى 600 ألف زائر كما تشير الإحصائيات. ويتسع مسرح ستاتفورد لحوالى 1826 مقعداً ما بين الصالة الرئيسية والشرفات. تهتم إدارة المهرجان التي استضافت عدداً كبيراً من أهم فناني وكتاب العالم، بكتاب ومسرحيي كندا ومبدعيها. هذا إلى جوار عروض المسرح العالمي كمسرحيات: شكسبير، موليير، بيكيت، تشيخوف، إبسن، المسرح الإغريقي العريق. كما تحتفي المدينة بزوارها باستقبالهم في حضن حدائقها الجميلة، شوارعها، مطاعمها، ومراكزها الثقافية المتنوعة. كانت صالة المسرح محتشدة حين تم عرض المسرحية المأخوذة عن الرواية والتي استمرت ساعتين ونصف الساعة.

الرواية اليتيمة التي حازت جائزة بوليتزر ويتم تدريسها إلى جوار روائع شكسبير:
«أن تقتل الطائر المقلد»، تم تصنيفها بأنها إحدى أهم روايات القرن العشرين. والمسرحية مأخوذة عن هذه الرواية العالمية التي كتبتها الكاتبة الأميركية «نيللي هابر لي» من مواليد 1926 وهي روايتها الوحيدة والتي حصدت جوائز عالمية كبيرة ومنها جائزة «بوليتز» عام .1961 نشرت الرواية عام 1960 بعد أن توقفت الكاتبة عن وظيفتها التي كانت تعمل بها، وحصلت من أحد أصدقائها على دعم مادي يساعدها على العيش لحين إنجاز كتابها. لم تكن تتوقع «هاربر لي» أن تبيع من كتابها النسخ الكثيرة، لكن المفاجآة فاقت توقعات الكاتبة والناشر وبيع منها ملايين النسخ وترجمت إلى أكثر من 40 لغة حية، كما تم إخراجها في فيلم سينمائي حاز جوائز أوسكار، ومن ثم تم إخراجها مسرحياً، بالإضافة إلأى أنها دخلت المنهج التعليمي في المدارس والاكاديميات وذلك إلى جانب «روميو وجوليت، عطيل ...» وغيرها من كنوز الأدب العالمي. ومن الجدير ذكره هنا أن بعض شخصياتها الرئيسية فتية صغار، والشخصية الأساسية فتاة في السادسة من عمرها، صوتها يتقاطع مع السيرة الحقيقية للكاتبة، كما تشير الكاتبة في إحدى حواراتها.
هذه الفتاة الصغيرة أبدعت في تمثيل دورها على المسرح وحازت إعجاب الحضور وتصفيقهم الحار، وأبدت براعة في التمثيل ورسم ابتسامة على وجه الحضور، رغم تراجيدية الحدث الأساسي في المسرحية الذي يرتكز على محاكمة غير عادلة لشاب أسود، متهم باغتصاب فتاة بيضاء قاصرة. ومن الجدير ذكره أن والد الكاتبة كان يشتغل محامياً في الواقع وكانت هذه الحادثة أو محور الرواية مأخوذة عن حدث حقيقي تابعته الكاتبة من خلال مهنة والدها وصحف المدينة التي كانت تعيش فيها، وصورة المحامي في المسرحية فيها بعض من صورة الأب - يرد هذا في إطار دراسات كتبت عن خلفية الرواية وشخصياتها -.
يرد على لسان الأب المحامي وهو يحاول إقناع الأطفال في الحارة بعدم إيذاء المخلوقات البرئية فيقول «إذا أردت أن تقتل طائر أبو رزيق، فليكن، لكنها خطيئة أن تقتل الطائر المقلّد» وذلك في ترميز إلى براءة الشاب الأسود الذي حوكم ظلما عن جريمة لم يرتكبها.

ثيمات الرواية
إنها ليست رواية أو مسرحية عن الحقوق المدنية بشكل خاص لكنها أقرب إلى حقوق الإنسان وتعكس صفحات من الصراع الطبقي والعرقي والجنسي الذي شهده المجتمع الأميركي في مراحل استنكاره للعرق الأسود واضطهاده للآخرين بسبب لونهم وانتمائهم الطبقي المختلف. قد يكون ذلك مطروحا اليوم على صعيد واسع لكن الرواية في زمن كتابتها وأسلوبها ربما كانت السبب في حيازة كل هذا النجاح الذي لا يحصل إلا نادراً في الساحة الأدبية شرقاً أوغرباً.
تتجلى مسألة التفرقة العنصرية والتمييز العرقي هنا في قضية الشاب الأسود الذي اتهم زوراً ودفع حياته ثمناً لجريمة لم يرتكبها، وهي اغتصاب الفتاة البيضاء القاصر. ونرى كيف قام والد الراوية المحامي الأبيض «اتيكوس» بالدفاع عن الشاب الاسود «توم روبنسون» فلحقه الغبن من قبل أبناء جلدته الذين رأوا أنه «لايختلف عن الزنوج، الزبالة».
كما تطالعنا حالات التفرقة على صعيد آخر وهو النبذ الذي يتعرض له أبناء العرق المختلط/الخلاسي، فنجد أنه غير مرحب بهم من قبل المجتمع الأبيض وكذلك من قبل المجتمع الأسود، رغم أن المنطقة التي تقع فيها أحداث القصة كانت خليطاً من أعراق بيضاء وسوداء، وهي جنوب أميركا في ثلاثينيات القرن العشرين.
تظهر بعض الإشارات «الجندرية» والتقسيم الجنسي في ما يخص المرأة وطريقة لباسها وحضورها الحفلات العامة والتزامها بدور اجتماعي جاهز وتقاليد سارية كي تحافظ على حضورها الاجتماعي وتحظى بقبول عريس من طبقتها. وهذا ما كانت تحاوله خالة الطفلة الصغيرة «سكوت» تلقينها إياه منذ طفولتها لكنها لم تكن مهيأة لهذا الدور. كما أنها لم تستسلم للتنبيهات التي كانت توجه إليها من قبل خالتها والآخرين بعدم الاختلاط ومصادقة الأطفال الفقراء الذين لا ينتمون إلى طبقتها. وتبقى شخصية الأب المحامي هي الميزان الذي يعدل كفة التفرقة من نواح كثيرة، فنراه يعامل الأطفال جميعا بطيبة ورقة ومساواة، كما يظهر تفهماً لأسئلة ابنته الصغيرة التي لا تكف عن المشاكسة والأسئلة والفضول كمثل سؤالها البريء له «ماذا تعني كلمة اغتصاب»، هذه الكلمة التي سمعتها في الحارة وبين طلاب المدرسة الصغار. ونذكر أن والدة الطفلة، زوجة المحامي كانت متوفاة، وكانت المربية التي تعتني بها امرأة سوداء طيبة وحنونة.
والثيمة المحورية الأخرى في هذا العمل هي التأكيد على المسامحة وقبول الآخر، وربما تجلى ذلك في أغنيات البلوز والترانيم التي تخللت فقرات المسرحية من خلال وقفات كان يؤديها كورس من السود بروحانية خالصة ومحمول ديني يدعو إلى الحب والتعايش والانسجام.
بقي أن نقول إن الأداء المسرحي كان مشغولاً بدقة ومهارة من حيث إعداد الديكور البسيط الذي يعكس الوضع الاجتماعي، ومن خلال الملابس الخاصة بتلك الحقبة الزمنية، وموسيقاها، وبالمحافظة أيضا على «اللهجة الجنوبية» القادمة من المكان الذي جرت فيه أحداث هذه الرواية التي وقفت مع كتابات الخالدين في العالم. واللافت للنظر أن الكاتبة «هاربر لي» حاولت إنجاز كتاب آخر بعد روايتها «أن تقتل الطائر المقلّد» لكنها لم تظهر للوجود، وبقيت تلك الرواية هي الأخيرة لها.

كتابها الأول والأخير الذي حصد جوائز ولا يزال، هل كان تمريناً على الكتابة أم إشراقة مكتملة وكل ما يأتي بعدها نقصان ودوران في فلك تلك الدفقة الاشتثنائية؟ سؤال يخطر في البال ونحن نسمع بعض شعرائنا وكتابنا يتنكرون لعملهم الأول من الناحية الإبداعية، وقد يحبون فيه ما حقق لهم زهو تحصيل لقب شاعر أو روائي فور انتقال المخطوط من الأدراج الشخصية إلى الحيز العام. يبقى سؤال الكتابة والنشر والنجاح والخيبة، سراً محيراً قد تعجز الكاتبة وهي في عقدها الثامن عن معرفته، بعد مرور أكثر من نصف قرن على كتابة روايتها العالمية. وهذا يضعنا أمام مسألة يعاني منها الكاتب
وتسمى Writer’s Block قد تستمر طويلاً أو لفترة وجيزة، ويكون مردها الخوف من الكتابة أو إشكالات نفسية وشخصية يمر بها ذهن الكاتب/ة، في مسيرته الإبداعية، وهذه حالة حساسة لم يعطها الباحث العربي أي اهتمام بعد.

السفير
الملحق الثقافي
13ديسمبر 2007