محمد بنيس
(المغرب)

محمد بنيسعزيزي عبد الله أكتب لك الآن هذه الرسالة، في الوقت نفسه الذي يجلس فيه أصدقاء لنا آخرون ليشاركوا في ندوة عنك في معرض الدار البيضاء الدولي للكتاب. يوم الثلاثاء 12شباط (فبراير) 2008. الساعة الرابعة والنصف مساء. أحمد بلبداوي. علال الحجام. بنعيسي بوحمالة. وإدريس الملياني منسق الندوة. أتخيلهم الآن يأخذون أمكنتهم في صدر القاعة أو يتبادلون التحية، قبل الجلوس. هم هناك في قاعة الأنشطة الثقافية التي تحمل اسم إدريس الشرايبي. وأنا هنا، في البيت، صامت، ممنوع من الحضور إلي جانبهم. منظمو الندوة فضلوا الاستمرار في المكيدة والمكيدة، عناد الفصل بينك وبيني. أنت تعلم ذلك جيدا وخبير به. هؤلاء المنظمون لهم اسم حسن نجمي ممثلاً لوزارة الثقافة، التي سلمت له، فيما يبدو، أمر هـذه الندوة (وسـواها). هم هناك يجلسون. حضور يملأ القاعة. وأنا هنا. أكتب الكلمات التي هجمت علي كما تهجم عاصفة ثلجية أو رملية. عاصفة تنتزع مني يدي وتلقي بها إلي نار الكتابة، أقصد الألم. الحدَاد. حاولت أمامة صدي عن التألم. والحزن. والمبالاة بما يفعلون. وافقتـها. ولكن يدي الآن هاجمة علي.

من يعلم أكثر منك أننا عشنا زمنا قاسيا، وأننا، جنبا إلي جنب، تقاسمنا علناً أو بالتواطؤ ذاك الذي كان علينا فعله كي نقاوم زمن التدمير؟ المؤسسة الحزبية مجسدنة في اتحاد كتاب المغرب ، أو جريدة الاتحاد الاشتراكي (ولها سلسلة من الأسماء) كانت ورثت (وليست وحدها) تاريخاً من إخضاع وتبعية الثقافي للسياسي. كنا في الشعر، كما في الثقافة الجديدة أو البحث في الشعر المغربي المعاصر، متضامنين. تضامننا لم يكن يحتاج إلي وثائق إثبات. كنا كل أسبوع نتبادل الرسائل بين المحمدية والفقيه بن صالح ثم اللقاءات الأسبوعية، لاحقا، في بيتك بالحي المحمدي بالدار البيضاء. سنوات عديدات تقارب العشرين. وتلك الحياة المشتركة التي كنا فيها نتقـاسم ألم اختيار حريتنا في بناء قصيدتنا وفي الدفاع عن فكرة جديدة للشعر والثقافة في المغرب. ما الذي كان لنا أكثر من ذلك؟ لا شيء. لم يكن يخطر ببالنا أننا نبحث عن امتياز ما أو عن منفعة. كنا نحفر بحثا عن الطبقات السفلي لليتم والأسئلة. وفي الحفر كان عذاب المطاردة يزداد ويقوي ويبطش.

كان ممثلو المؤسسة (التقدمية) يدركون أن سر ما نفعل يكمن في ألفتنا وأخوتنا. تلك النقطة المضيئة هي ما أجهدوا أنفسهم ليل نهار لسـدّها. ولنا معا من الحكايات ما لا يحد. لكننا، مع ذلك، فعلنا ما لم يقدر أحد منعنا منه. استمرت الثقافة الجديدة لمدة عشر سنوات. بعد المنع، استجبنا لنداء صديقنا الكبير محمود درويش لاستضافة العدد الحادي والثلاثين في مجلة الكرمل . وكانت لنا المغامرة في كتابة قصيدة مختلفة. تجرأنا علي الفضاء في القصيدة وعلي الخط المغربي، الذي كان صنواً للرجعية في وعي النخبة التقدمية آنذاك. ثم كان لنا الأفق المفتوح لرؤية القصيدة بجمالية مختلفة، في زمن لم يكن أحد من الشعراء الأكبر منا سناً يجرؤ علي أن يكتب كلمة واحدة عن نموذج القصيدة السائد. كان لنا جنوننا. جنون الحرية. وكنا نشهر هذه الطاقة المدهـشة لنا قبل غيرنا. لم نكن نعرف كيف كنا ننجح في اختراق مدارات القسوة والتخلف والفقـر. كنا نفرح بكل عدد نصدره من المجلة. وفي كل لقاء بيننا كنا نفكر في القادم. أما ماضي الثقافة المغربية فقد كنا علي الدوام نتذكره من خلال ما تـنساه الحياة الثقافية في أيامنا.

أتخيل أصدقاءنا الآن وهم يبدأون حديثهم. لا أعلم ما الذي سيتكلمون عنه. لكني أتخيلهم يستحضرون شعرك. صداقتك. دراستك. أسلوبك في الحياة. مرضك وموتك قبل أوان الموت. مآل أعمالك بعد الوفاة. مشاكل العائلة وأوهام الإرث التي حالت دون إعادة نشر أعمالك أو نشر ما خلفته. كل هذا محتمل تقول لي مخيلتي. محتمل جدا. ولعلهم سيقولون أكثر من ذلك. ربما أبعد وأغني. فشكراً لهم.

لا ألتفت إلي ألغائي من المشاركة في الندوة عن صديقي الشاعر سركون بولص (وربما كنت الوحيد الذي كتب عنه من المغرب علي إثر وفاته، دون الحديث عن علاقتي الشخصية به منذ 1988)، ولا من الندوات التي خصصت للشعر العربي الحديث وشارك فيها أصدقاء قادمون من أقطار عربية. لا ألتفت لأني تعودت علي إلغاء كهذا، في مناسبات تتكرر. لكن استبعادي عن الندوة المخصصة عنك لها أكثر من معني. لذلك أتساءل: لماذا تستبعدني وزارة الثقافة من لقاء كهذا؟ ما يدفعني لطرح السؤال هو ظني أنني ما زلت علي قيد الحياة، وأن المدعوين للمشاركة في الندوة من القريبين منك ومني. يعني أنها ندوة تفترض استدعاء حياتك وأعمالك من خلال ذاكرة أصدقائك. فهل استبعادي يعني أن حياتنا التي تقاسمناها كانت مجرد وهم؟ وهل أنا أقل معرفة بك من أصدقائنا الحاضرين؟ ألم أكن الشخص الذي حرضك علي طبع ديوانك الأول في مطبعة دار الكتاب وتشرف بالإنجاز؟ ألم أكن الوحيد الذي تركت له وصية فيما أعلم؟ ثم ألم أكن الوحيد الذي سهر، من بين الأصدقاء، علي جنازتك ورافقك إلي مأواك الأخير وكتب عنك؟ هي أسئلة عن لحظات رمزية فقط، لا عن حياة مشتركة بيننا.

قد تكون كل هذه الأسئلة بعيدة جدا عن هذا الزمن الثقافي الذي نحياه اليوم، في حالة فريدة من الالتباسات، الثقافية والسياسية والأخلاقية. فنحن في زمن يسود فيه اللامعني. اللاثقافة باسم الثقافة. اللاأخلاق باسم الأخلاق. المنافع باسم التضحية. إتقان التدمير باسم الانفتاح. هناك ما لن تصبر علي سماعه أو معرفته. مسرحية كبري لها الأبهة والجلال. ولا ينقصها ممثلون ولا ديكور ولا ضجيج. كل ذلك مجهز بما لا يسمح لأحد أن يكتشف بسهولة ساحة الإعدام المختفية وراء الاستعراض الحافل بأكاذيب الثقافة والحداثة.

أنا لا أريد أن أزعج راحتك أيها الصديق. لكني من هذا الغور أكتب لك كلماتي حتي تبقي أنت حاضرا بقوة في حياتي كما كنت في حياتنا المشتركة. من العبث أن أكرر ما كتبه القدماء كلما فقدوا عزيزا عليهم، مرددين: لما ذهبت وتركتني؟ ألم يكن من الأجدي أن أموت قبلك أو أن نموت معا؟ مع ذلك أحب أن أخبرك بأن وزارة الثقافة أقصتني، لأول مرة، من جميع أنشطة المعرض، كأنما تقـول لي: تعبنا منك. تعبنا من كتاباتك وأفعالك التي تسميها ثقافية وما هي كذالك. غادر الحياة بلطف لأننا نصبنا لك مشنقة في منطقة خلقية لا يراها أحد. هناك هيأنا لك شنقك وقبرك. غادر المغرب قبل أن ننفذ الحكم، الذي لا استئناف فيه ولا عفو. هذا البلد ليس بلدك. وهذه الأرض تنكرك. كن لبيـبا. وغادر. لك الوقت الكافي لتدفن نفسك بنفسك. أجمل اختيار هو هذا الذي نفضله لك . كلام كنت أسمع أصداءه وأنا أدخل إلي قاعة المعرض الكبري. وكنت أحس في نفسي بمغرب آخر ينتفض ويزيل اللحد. المغرب الذي لن أفارقه، لأني مغربياً كنت ومغربياً سأبقي. حتي أصدقائي الذين وفدوا من الخارج كانوا يبدأون بالتساؤل البريء عن غيابي فيخبرونهم بأني علي فراش المرض. أنا، كما تعلم، كنت مسافراً قبل أسبوعين في لندن، حيث شاركت في لجنة تحكيم الجائزة العالمية للرواية العربية. ثم ألقيت، بعد العودة، دروسي كالعادة في الكلية يوم الجمعة، يوم افتتاح المعرض.

لذلك كله أكتب لك. فالرجاء ألا تثق بكذبهم علي. وأنا أعلم أنك تدرك اللعبة جيداً. هذه الحياة التي أحياها بمشقة في المغرب، الحياة الثقافية التي أزداد فيها اختناقا ولا سبيل حتي إلي الصراخ. وإن أنا حاولت أن أنطق برأس جملة، من خارج المغرب، سارعت كلاب القبيلة بمطاردتي، في وسائل الإعلام المتناسلة، وحملي إلي ساحة الإعدام. الحجة جاهزة. كاذب ككل الشحاذين. وضيع ككل المارقين. متغطرس ككل السفلة.

هؤلاء الذين يلغونني اليوم هم في الحقيقة يلغونك أنت أيضا، يا عزيزي عبد الله. وإن كانوا يدعون أنهم يحبونك، كما أوهموا في حياتك، فلن تجد في كتاباتهم شيئا يؤكد ما يدعون. ما يهم اليوم هو أن أجلس قريبا منك، أكلمك بهذا الوحدة التي تجمعنا وفي هذا الصمت الذي لا يفارقني. مجالستي لك هي قدر الوفاء بيننا، بالطريقة التي نرتضيها لأنفسنا. معا نضحك، ثم كل واحد منا يصاحب الآخر في السريرة.
ولا شيء من هذا المغرب اللاثقافي يعنيني أو يغريني. أنظر إلي ما يحدث وأستحضر تاريخ الثقافة المغربية الحديثة. أستمر في فعل ما يقنعني وترتضيه نفسي، حرة، مسكونة بالمجهول وبالمستحيل، فرحة بالصداقات البعيدة والقريبة، التي تعضد وتنتصر للقليل، الأعز، الكتابة. أتذكر ملعونين لمجرد أنهم كانوا أباة، يتفكرون بكبرياء الخلاقين في الزمن والحياة والمصير. حيوات عديدة تتجمع حولي. تكلمني وتنصت لما أقول وما لا أقول. بيني وبينها ما كان بينك وبيني. لا أسف ولا ندم. كأس الشاي قريب من يدي. سماء بأزرقها الكلي. وفي عتمات النفس ما يغني. يوشوش وحده. هذا الصمت. أضمك وأسعد بك.
أخوك.

القدس العربي
22/02/2008