يقظان التقي

إيهاب بسيسو"نورس الفضاء الضيق"، عنوان إصدار شعري جديد للشاعر الفلسطيني إيهاب ياسر بسيسو المقيم في لندن.
كتابة من المنفى على غرار كثير من الشعراء الفلسطينيين الذين يعيشون القضية الفلسطينية في تواصل وتقاطع مع ذاكرة اليومي وحرب الاحتلال وبحثاً في ذاتية الشعر عن ممرات ضوء، وتأكيداً على ارتباط الشعر بعد قرابة خمسين سنة بالقضية.

***

* واضح من اللغة الشعرية في الديوان إنها اللغة الطالعة من معاناة اليومي، وأقرب الى أسلوب القصة، وكيف يتعايش معها الشعر مع الفضاء الضيق، وتواصل وتقاطع مع ذاكرة أو ذاكرات. كأنها الكلمة التي تطلع وتجري في أكثر من جسد ولحم وبرتقالة دم، وظل... حدثني عن النورس الجريح الذي يبحث في ممرات الضوء؟

حاولت في هذا الديوان أن ألتقط من حديث النورس بعض المشاهد التي تركت أثراً في الذاكرة، هي بالتأكيد حكايا اليومي التي تتقاسمها الأزقة، وهي بالتأكيد سفر الموت الغامض في الأجساد، فالشظايا العمياء أصبحت أكثر سرعة في الركض على امتداد النهار والليل، تلتهم في طريقها خطوات الأطفال نحو المدرسة، شرفات الصباح، تحيات العابرين على الأرصفة، وأحلام النائمين على أسرّة من قلق.
مفردات الموت التي تعددت، جعلت النورس يصر على الحياة، يبحث في ممرات الضوء عن شكل للفجر. فكلما ضاق الأفق على الأجنحة، اتسع أفق الحكاية.
بهذا أردت أن أقدم مشهداً لمعاناة النورس في ظل سياسة القتل اليومي، وفي ظل سياسة اغتيال الطفولة والبراءة. فخلف كل جدار تلمع حكاية وفي كل طريق، مشى طفل إما الى بيته أو مدرسته أو نحو السماء. لذا كانت الكلمات حصيلة الذاكرة المشتركة وحصيلة المعاناة، وحصيلة الجرح الذي أصاب أجنحة النورس عندما عرف أن الطريق الى الحياة أو الطريق الى القبر، وجهان لنرد تائه في لعبة حظ، ربما بهذا تعزز تمسكه بالحياة وأصر على البقاء، واتخذ قراره بالصمود فشرع بالحديث، وشرعت بالكتابة...

المتطلب

* تبدو تجربتك خارج الإطار المألوف والواسع من المتطلب الجماهيري ذاتية ومن دون خطابية وبلاغية. لمن تتوجه في قصيدتك؟

الى كل الجالسين على جمر أحزانهم يحلمون بيوم تتلاشى فيه هذه العتمة، ليصبح للحياة مذاق آخر في أحضان الضوء. عندما أكتب يسكنني الإنسان بالدرجة الأولى، وربما لكوني فلسطينياً محاصراً دوماً في هويته، في جغرافيته، وفضائه، أشعر وكأن معاناتي تختصر معاناة الإنسان، ومفرداتي تتخذ أشكالها من رغبة هذا الإنسان في التخلص من الجوع والقهر والإذلال والعتمة والسجن. بهذا أكتب عن الحرية ضمن رؤيتي الخاصة التي تنطلق من تجربتي الفلسطينية لتشمل التجربة الإنسانية عامة.

بهذا لا أميز قارئاً عن آخر، ولا أدعي لنفسي قارئاً من نوع خاص، فكل من يؤمن بأن اللغة استطاعت أن تحمل ولو جزءاً بسيطاً من ملامحه، وكل من يشعر بأنه استطاع أن يرى ولو جزءاً من معاناته في الأسطر والكلمات هو بالتأكيد القارئ الذي أتوجه إليه في قصائدي.

ابتعدت عن ضجيج الخطابة، لأقترب أكثر من تفاصيل المعاناة، حاولت أن أنسج لنفسي مساحة خاصة ضمن تفاصيل المشهد اليومي، ربما تحمل كلماتي نوعاً من الصراخ، ولكني اعتمدت أن يكون صراخاً مختلفاً تتداخل فيه اللغة والصورة الشعرية مع الواقع في نسيج يحمل ملامحي وملامح كل الذين عبروا ذاكرتي بقصصهم وآلامهم وأيضاً أحلامهم بفضاء أكثر اتساعاً.

هل تشعر بخيبة وأنت تطرح أسئلة الشعر في المدى الضيق، هل تشعر بانعدام الأفق وتأخذك القصيدة الى يأس بقايا المدن وبقايا أجزاء اشتعال الصورة، هي تتشكل على أكياس الرمل من مثل أن تسأل: "هل أنا أنا".
ـ ليست خيبة وإنما جدلية الأسئلة التي تفرض نفسها واقعاً في كثير من الأحيان، فحين أراقب سفري بين المرافئ، أشعر كم هو متسع هذا الأفق، وكم هو ضيق على أحلامي في آن واحد، وحين أراقب اشتعال رأسي في ليال الموت، أسأل وفي داخلي جمر من قلق، هل أنا أنا في اختلاف الأجيال، وامتداد المعاناة... أحمل ذاكرة المدن، والوجه المنفي، والغربة التي تلتهم العمر الأخضر، بحثاً عني وعن مكان تحت الشمس أترك فيه إرث الأحلام ينمو ويتشكل بفطرته الإنسانية مدناً وأشجاراً من دون وساطة من أحد.

حقي في الحياة لا يقبل الحياد على أطراف الأفق، كما لا يقبل اختزاله في طلقة عابرة، هذا ما يجعلني دوماً في حالة قلق وأنا أراقب شكل المصير الذي يختبئ خلف كل نهار، لذا تجدني أحاول أن أصنع طريقي في دروب اللغة كما يصنع المقاتلون ثباتهم على أكياس الرمل، وأكتب من أجل حبة القمح التي سرقت ومن أجل الموجة التي اعتقلها القراصنة. علني في هذا أحافظ على تماسك الذاكرة أما الريح، هل يعني ذلك العودة الى قداسة الحلم؟ وهل في هذا محاولة لتنقية الروح من شوائب المرحلة؟ أعتقد ذلك، لذا فهي ليست خيبة، وإنما دوامة من الأسئلة نطرحها دوماً، تحديداُ عندما يضيق الأفق حتى على التنفس، ربما تشوبها المرارة أحياناً، ولكنها تبقى إصرار من نوع خاص على الاستمرار في الحياة.

فالقاتل يريد فنائي وامتصاص رغبتي في الحياة في كنتونات صغيرة لها مذاق السجن، ويريد نفي ذاكرتي الى المرافئ البعيدة، فإلى أي مدى يشكل وعيي أبجدية للمواجهة.

إن المزاوجة ما بين الذاكرة والمشهد اليومي تجعل هذه القدرة في المواجهة تستمد طاقتها من سر الأرض وألم بقايا الصور المشتعلة. لذا نشيّد أكياس الرمل على مداخل صدورنا، كما الأزقة، كي لا يتسلل، وينتصر النسيان، وتذبل الذاكرة في مكان قارص البرودة.

خطان

* البعض يقول أن هناك خطان في الشعر الفلسطيني: خط المنابر والخط الذاتي الذي يعبر عن القضية الفلسطينية (توفيق الصايغ وغسان زقطان ومحمود درويش في آخر أعماله...) كيف ترى الى ذلك؟

ـ ربما أتفق أن هناك لغة شعرية ذات نبرة عالية تتجسد في شكل صرخة مكتوبة، تحمل الهاجس العام بآلامه ومشتقاته النفسية والسياسية وحتى الثقافية، بهذا ربما اصطلح على تسمية هذه اللغة الشعرية بشعر المنابر لما تحمله من روح تحريضية وطنية وتعبوية نفسية متميزة، ولكن بالتأكيد هناك في المقابل لغة شعرية أخرى أقل صخباً، جاءت من عمق التفاصيل اليومية لتعتمد على اكتشاف سر النفس البشرية في علاقاتها مع الواقع المحسوس والملموس، وهي ما اصطلح عليه الخط الذاتي في الشعر.
باعتقادي أن الشعر بشقيه الاصطلاحيين هو فعل ذاتي وحالة نفسية خاصة أدت بالشاعر للتعامل مع المشهد بأدواته الخاصة، ونسج قصائده بما يتلاءم مع تكوينه الثقافي والإبداعي.

إن اللغة الشعرية التي تعاملت مع الذاتي في تقاطعاته مع الواقع أرادت أن تقدم هذا الواقع من الجانب الذي يعج بالتفاصيل الإنسانية، فَتَدَاخلَ الذاتي الإنساني مع العام المحيط، ليصبح المشهد أقرب الى الرؤى الخاصة منه الى أبجدية الحماسة الصاخبة. وربما يمكن القول أن تجربة المنفى والاغتراب قد سمحت بحالة من التلاقح الثقافي بين الموروث العربي وفضاءات شعرية أخرى، أكسبت اللغة الشعرية مذاقاً خاصاً ورؤى جديدة. إن نمو النموذج الذاتي للكتابة هو امتداد لتعدد التجارب الشعرية، كما انه انعكاس مباشر للمناخات السياسية المحيطة، هل هذا جعل الشعر في حالة ارتداد للخلف؟ لا أظن ذلك ولكنه أثرى التجربة الشعرية بعناصر ومناخات خاصة استفادت من التفصيل الإنساني الذي قد يبدو مهمشاً في اللغة الشعرية الصاخبة، وذلك لخلق نتاج إبداعي له خصائص مميزة ويتمتع بحالة خاصة من الشفافية تطرح أسئلة الشعر في الزوايا الضيقة بعيدا عن صخب اللغة التحريضي والمباشر أحياناً.

* هل تعتقد أن الشعر لعب دوراً كبيراً في المسألة الفلسطينية؟

ـ ما لا شك فيه، أن الشعر الفلسطيني تمتع بقدرة وطنية جعلت منه أداة من أدوات المقاومة، ووسيلة من وسائل الحفاظ على الهوية والذاكرة، حتى يمكن القول أن بندقية المقاوم تقاطعت مع قصيدة الشاعر في كثير من الأحيان، فالشعر التحم بالمعاناة، هبط الى أزقة المخيمات، اتخذ موقعه خلف أكياس الرمل الى جانب المقاتلين، وارتشف معهم الشاي في استراحاتهم القصيرة، مشى في مقدمة الجنازات، وبكى وذرف الدموع على فراق الأحبة. وصرخ أيضاً في وجه الغزاة، ورجمهم بالكلمات الغاضبة وحمل جرح المصابين ودم الشهداء الى فضاء الأوراق. الشعر الفلسطيني هو بوصلة الاتجاه نحو الوطن المحتل، وهو حضور الذاكرة القوي، والتماع حكايا الجدات في الأمسيات المقمرة. وهو سر البقاء في الأغنيات وفي صمود الواقفين على حافة الموت.

التنازلات

* الى أي حد هذا الدور يفرض تنازلات من الشاعر لمصلحة القضية؟

ـ التنازلات الشعرية بتقديري تبدأ من سيطرة العاطفة على الرؤية، وتشابك السياسي مع الحالة الإبداعية، مما قد يخلق لغة خطابية تميل الى التحريض المباشر والصراخ الحماسي، وهو ما قد يهدد الروح واللغة الشعريتين. فالشعر بتقديري هو الاستفادة من مفردات المشهد من أجل خلق حالة إبداعية خاصة، وليس إرغام اللغة الشعرية على الانصياع الى سطوة المشهد من أجل خلق قصيدة، أي قصيدة؟
المعادلة شديدة الحساسية، فالحس الوطني والعاطفة الشعرية لا يكفيان وحدهما لخلق نص متميز، وليست وظيفة الشعر مواكبة الحالة بشكل آني، فالنص يحتاج الى روح تأملية، تلتقط مفردات المشهد بصبر وأناة من أجل خلق القصيدة من دون إرغام سواء بدافع وطني أو سياسي. وكون الشاعر لا يستطيع الانفصام عن المشهد الذي يحيطه، والذي يمده في غالب الأحيان بأدواته التعبيرية، فإن الحاجة الى فسحة من التأمل يمكن من خلالها إعادة ترتيب هذا المشهد وفق رؤية إبداعية خاصة، تصبح ماسة جداً، كي لا يقع الشاعر في فخ الركاكة أو المباشرة أو السطحية.

* قصيدة النثر الفلسطينية هل تعكس تعدد الأجيال والأصوات أم تتوالد نفسها وهل هناك مشكلة حقيقية مقيمة إزاء ما يسمى الصف الأول أو الجيل الأول، وهل تعيش هاجس النقاش حول قصيدة النثر والواقع والتجريب والاختبار؟

ـ جاءت قصيدة النثر العربية لتشكل رؤية جديدة ضمن المفهوم الشعري، وقصيدة النثر الفلسطينية هي امتداد لهذه الرؤية. جاءت لترسم المشهد الفلسطيني بصيغة استفادت من خصوبة تفاصيل الحياة اليومية وكثافة المعاناة وقسوة الألم. لتمد الشاعر برؤية جديدة في كيفية تجسيد الحالة بروح مختلفة بعض الشيء، ولعل أبرز ما ميز قصيدة النثر سواء العربية أو الفلسطينية هو وضوح الذاتية في التعبير الشعري، وتقاطع ذاتية الشاعر مع المشهد المحيط به بكامل تكويناته وتفاصيله. مما جعل الغوص في أعماق الحالة الإنسانية أكثر شيوعاً في هذا النمط الشعري.

قصيدة النثر الفلسطينية تعكس تعدداً في الأصوات الشعرية، مما يدل على أن المشهد الشعري في حالة حركة دائمة، وهو ما ينفي الاعتقاد بأن قصيدة النثر تتوالد من نفسها. هناك أشكال وأساليب خاصة ومفاهيم خاصة تعكس اختلاف الرؤى والتجارب الشعرية.

النقاش حول قصيدة النثر مازال قائماً من حيث خصائصها وبنيتها الفنية ولكن الحديث حول قصيدة النثر كونها ابنة شرعية للشعر العربي أم لا، باعتقادي تم تجاوزه، فقصيدة النثر كما أصبح واضحاً لم تأت لتنسف الموروث الشعري العربي، أو لتلغي ما قبلها أو أن تقف في مواجهة مع قصيدة الوزن كي تؤسس لشعر عربي جديد، بقدر ما جاءت لتساهم في تشكيل ذائقة شعرية جديدة من خلال ابتكار أشكال أخرى للتعبير الشعري تثري اللغة الشعرية العربية. هي إذاً رافد جديد من روافد الإبداع الشعري العربي.

التجارب الشعرية التي ظهرت على صعيد الشكل منذ الخمسينات والستينات مروراً بالسبعينات وحتى الآن، تثبت أن الثقافة العربية ليست أسيرة الجمود، أو القالب الواحد، بل هي ثقافة حية متجددة، تتعامل مع المفردات والمتغيرات الثقافية والاجتماعية وحتى السياسية والتكنولوجية بشكل إبداعي خلاق. إن الإبداع الإنساني لا يمكن أن يتوقف أمام صيغة معينة أو أن يجمد في إطار واحد، بل يستفيد من الموروث التاريخي والحضاري في تشكيل رؤية عصرية، تخلق من الحاضر شكلاً إبداعياً جديداً.

أما الحديث عن قصيدة النثر كونها استسهالاً شعرياً لتحررها من الوزن والقافية، فهو ربما تفسير لا يتسم بالدقة، فتراكم التجارب الشعرية، والإسهامات المتعددة في السنوات الماضية، جعل ملامح قصيدة النثر الأدبية أكثر وضوحاً، فإهمال الوزن أو القافية ليس من باب الاستسهال، كما أشيع، بقدر ما هو مساحة أخرى للتعامل مع اللغة الشعرية بشكل أكثر كثافة لتقديم رؤية إبداعية جديدة، تعتمد على كثافة الصورة الشعرية، وتركيزها في لغة موجزة تتسم بالتوهج.

بهذا فإن قصيدة النثر تقدم نفسها من خلال علاقة تفاعلية مع المشهد الشعري بعموميته، ومن خلال هذا الإطار يمكن رؤيتها ضمن موزاييك الشعر العربي، كعلامة حداثية في الثقافة العربية لها خصائصها المميزة.

* كيف ترى الى الشعر العربي بعد الايديولوجيا والقضايا. كأنه صار حالة فردية؟

ـ الشعر بالأساس هو حالة فردية تتقاطع مع العام والمحيط في إطار إبداعي، ولكن المتغيرات السياسية، وسقوط منظومات بعينها وتراجع سياسات وتقلب مواقف وتغير في الخارطة السياسية وحتى الجغرافية وأفول حقب زمنية، واختفاء رؤية عامة، أثر في اللغة الشعرية المستخدمة بما جعل الشعر يستند الى مفردات خاصة فبرزت ذاتية الشاعر أكثر وضوحاً.

ولكن في ظل هذا المتكون الجديد لازال الشعر مرتبطاً بالقضية الأساس والايديولوجيا الأعم وهي الإنسان بمشاكله، بهواجسه، بعاطفته، برؤيته وأحلامه، إن وعي الشاعر قضايا الإنسان، قد يجعل الحديث عن الايديولوجيا أمراً ثانوياً. ربما اختفت النظرة الحالمة بعض الشيء، ربما تراجعت اللغة التعبوية التحريضية في نتاج بعض الشعراء والمبدعين، ولكن هذا لم يعن فراغاً شعرياً، فبتقديري أنه في ظل هذا المتغير، ازداد التصاق الشاعر بذاته، في محاولة لاكتشاف المحيط الجديد، قد تكون هذه المرحلة مخاضاً لمرحلة قادمة لازلنا نحاول اكتشاف ملامحها، وقد يكون الشعر أحد هذه الإفرازات الطبيعية بطرحه الأسئلة والهواجس.

تجدد علاقة الشاعر مع ذاته في هذه المرحلة، ربما أضاف لهذه العلاقة بعداً أعمق نسبياً، ولكنه بتقديري لم يلغ قضية الشعر الأولى، وهي الإنسان، فمعاناة طفل في فلسطين أو آخر في أفغانستان، أو العراق، أو تشيلي، أو الأرجنتين، أو تشاد أو السودان، باعتقادي تبقى هي هاجس الشعر بغض النظر عن الايديولوجيا أو حتى الموقف السياسي. قد تتباين هذه الرؤية من شاعر الى آخر، وقد يتم النظر إليها من زوايا إبداعية مختلفة، تتمايز في التوظيف الإبداعي، ولكن في النهاية هناك قواسم إنسانية تجعل الهم الإنساني محوراً هاماً للإبداع.

المنفى

* أنت مثل توفيق صايغ وكثير من الشعراء يعيشون في المنفى، هل تختلف الكتابة في المنفى عن الكتابة من داخل الأراضي الفلسطينية؟

ـ تختلف الأدوات بعض الشيء بحيث يصبح للمشهد بعد إضافي وهو المسافة، فتصبح الكتابة محاولة لمزاوجة فضاءين في جسد. إن المنفى والاغتراب يجعلان حضور الوطن في الذاكرة والكتابة مقدساً، ونقياً ومليئاً بالصور المختزلة من التجربة الشخصية وتجارب الآخرين، فتبرز صور المرافئ والرحيل وعذابات الوحدة، وبرودة الليل بأشكال متعددة.

كما أن الكتابة في المنفى تجعل العلاقة مع المكان، مختلفة نسبياً، فيصبح للغيمة معنى آخر، وللموجة معنى آخر، وللطريق، وللأشجار، وللطيور والنوارس، معان مجازية، يحاول الشاعر من خلالها إدخال الوطن الى تلك التفاصيل المختلفة بشكل يجعل الكتابة حالة مستمرة من القلق والحلم والانتظار على حد سواء.

بمعنى أخر، كأنك تحاول أن تشق في جدار المنفى نافذة تطل منها على الوطن، بمدنه وأشجاره وبحره وتلاله، وجرحه وعذابه أيضاً، كأنك تحاول معايشة اليومي بتفاصيله الدقيقة، لتلغي حالة الغياب ولو بشكل مؤقت على الأوراق، فتترك لرغبتك العنان في أن تتجول على الشاطئ في غزة، وتتسلق التلال في رام الله، وتنام في القدس وتستيقظ في الخليل، وتركض من القذائف وتحمل الجرحى الى سيارات الإسعاف، وتشرب كأسا من الشاي مع المقاتلين خلف أكياس الرمل، أو فنجانا من القهوة مع الجدات على الشرفات العتيقة. هكذا يدخل الوطن بعفويته الى عمق تفاصيل النص.

أما الكتابة من داخل فلسطين، فتنبع غالباً من تراجيدية الحياة اليومية، فالشاعر الذي يعيش يوميات الموت المفاجئ وتحاصره مفردات القصف والاجتياح والاغتيال، والحصار بشكل وحشي، يجعل الكتابة الشعرية على وجه الخصوص حالة من التحدي القائم للعنف والهمجية الإسرائيلية، فتصبح الكلمة حالة من الصمود اليومي، وهذا ما يفرز حالة خاصة من الإبداع من حيث الربط بين الجمالية اللغوية والشكل الشعري من جهة وبين الواقع الدامي من جهة أخرى.

باعتقادي أن النموذجين الشعريين يجسدان حالة الصمود في وجه الفضاء الضيق، سواء فضاء الحصار أو فضاء المنفى، وحالة من تحدي الموت بمفرداته المختلفة سواء في مواجهة القذيفة، أو في دروب المنفى البعيد، فالقواسم المشتركة في الروح والعاطفة والتركيب النفسي تبدو أكثر حضوراً من الأدوات الشعرية التي قد تختلف تبعاً لظروف المكان والمحيط. ففي كلا الحالتين تبقى فلسطين بتفاصيلها الغنية، نقطة الارتكاز التي يتشكل حولها الإبداع الفلسطيني.

فضاء

* أخيراً اخترت التقاطع في إهداء شعري مع ما يبدو فضاء ثان (راشيل كوري)، كأنه الهواء ما بين جدار وجدار وتثاؤب الدبابات على بعد ذراعين من العالم الحديث لا أكثر، وهل بعد هناك فضاء أضيق من فضاء القضية الفلسطينية؟

ـ إن هذا الفضاء الضيق الذي صنعته أدوات العدم. وجعلت منه الدبابات والقاذفات مساحة من الألم اليومي، اخترقته العاطفة الإنسانية بتحد واضح، لتتشابك الأيدي في لوحة كونية أمام غطرسة الآلة وأسنة الموت والجرافات، هذا ما فعلته راشيل كوري، وجيمس ميلر، وتوم هيرندال، والطبيب الألماني الذي اقتنصته يد الموت في بيت لحم، وغيرهم من العشرات بل المئات الذين جاءوا من البعيد ليمدوا أيديهم وأجسادهم في محاولة لكسر طوق العزلة الذي تفرضه آلة الموت، وليقتلعوا أسلاك الحصار الشائكة التي تكبل الفضاء الفلسطيني وتمنع طيوره من التحليق الحر.

إن راشيل هي الرمز الإنساني الذي دخل حيز الحكاية الفلسطينية لتلتحم في التراب فيما يشبه المعجزة ولتكبر في الذاكرة فيما يشبه القداسة... وحين كتبت عن راشيل كتبت عن الرمز الذي لا يفنى بل يتجدد في غنائية إنسانية بالغة النقاء. هذه الغنائية هي التي تجعل الهواء ما بين الجدار والجدار قابلاً للتنفس، وهي التي توقظ شمس الأمل كلما زادت العتمة من حكلتها، فاختلاف مفردات المكان والجغرافيا تتلاشى أمام قضية الإنسان الأولى في البحث عن الحرية.

هكذا يمكن اختراق الفضاء الضيق، قد يبدو الطريق طويلاً، فكلما نظرنا الى المأساة التي تكبر حولنا يوماً بعد آخر في الجنازات العابرة، والشجر المذبوح، والبيوت التي فتتتها القذائف وأسنة الجرافات، نزداد اقتناعاً أن القاتل يريد لنا موتاً مستمراً في الجسد والذاكرة والحلم والغد، كي يمحو أثرنا عن هذه الأرض، ولكن إصرارنا على البحث عن بقع الضوء في عتمة الموت يجعل للحياة دوراً مقدساً، وللغد مذاق نهار يتشكل في أعين الصغار الباحثين عن شمس الحلم.

المستقبل
13 تشرين الأول 2004


إقرأ أيضاً: