‏ أجري الحديث‏-‏ السيد رشاد

إيهاب بسيسوالشاعر الفلسطيني الشاب إيهاب بسيسو‏,‏ أطل من اغترابه البعيد‏,‏ حيث يقيم ويعمل في إنجلترا مدرسا للإعلام بجامعة كاردف في ويلز‏,‏ علي جراح وطنه النازفة في شوارع غزة‏,‏ فصاغها قصائد تنغمس في التفاصيل الدقيقة للحظات الرعب والخوف في ليالي القصف الإسرائيلي‏,‏ وما تحفره داخل أعماق البشر المجهولين الذين لا تعرفهم شاشات الفضائيات‏,‏ ولا كاميرات المصورين إلا باعتبارهم أرقاما‏.‏
بسيسو الذي صدر له موخرا ديوان نورس الفضاء الضيق‏,‏ يؤكد في حوارنا معه‏,‏ أنه يرفض قصائد التمجيد‏,‏ ويري أن شعر محمود درويش وسميح القاسم تجاوزه العصر‏,‏ وأن أزمة الشعر الفلسطيني هي تهميش الثقافي لحساب السياسي‏,‏ وأن لغة الخطاب العربي تجاه الآخر متخلفة‏.‏

‏** قلت له لماذا تأخرت في إصدار ديوانك الأول ؟

في ديواني الأول قررت أن أفصح عن هويتي للقارئ العربي في إطار مشروعي الشعري الخاص الذي يرفض الطرح السائد‏,‏ أو استنساخ الغير‏,‏ أيا كان‏,‏ ولهذا تأخر‏,‏ وفي نورس الفضاء الضيق تعاملت مع رؤية خاصة للأحداث التي عصفت بالوطن فلسطين خلال السنوات الخمس الماضية‏,‏ وما حفرته الانتفاضة بأحداثها ووقائعها داخل ذاكرتي‏,‏ خلال زياراتي المتكررة من إنجلترا‏,‏ حيث أقيم حاليا‏.‏
وهي التجربة التي عايشت خلالها تجربتي الخاصة مع الخوف والقصف والموت‏,‏ والتي صبغت كتابتي الشعرية التي تحاول استنباط مشهد تفصيلي للأحداث من خلال البحث عن التفاصيل الدقيقة والأشياء الهامشية التي لا تستطيع أدق عدسات التصوير التقاطها‏.‏

‏** هل لهذا السبب لم تكتب قصائد بطولة أو تمجيد وكرست شاعريتك لإنسانية الشعر؟

أنا أرفض كتابة شعر البطولة بضجيجه الزاعق‏,‏ وأري أن الشعر شأن إنساني‏,‏ يبحث عن الغائب في أولئك البشر المجهولين‏,‏ الذين يدفعون وحدهم يوميا ثمن الرعب و الخوف والقصف‏,‏ ولا تعرفهم شاشات الفضائيات ولا كاميرات المصورين باعتبارهم مجرد أرقام‏,‏ وأذكر أنني كنت سائرا في شارع عمر المختار في غزة‏,‏ وإذ بشيخ يحاول دفع طفله للعودة إلي المنزل‏,‏ وهو يرفض بهيستيرية‏,‏ وحينما سألته عن السبب‏,‏ قال لي إنه شاهد شقيقه ممزقا برصاص القصف الإسرائيلي علي حي الزيتون‏,‏ ومنذ هذه اللحظة القاتلة وهو يرفض العودة إلي المنزل‏.‏
إن مشاهد اغتيال الطفولة الفلسطينية يوميا هي التي تشكل أبجديتي الشعرية بعيدا عن التمجيد وشعرائه‏.‏

‏** أعلنت رفضك لشاعرية محمود درويش وسميح القاسم‏,‏ هل تراهما من شعراء التمجيد الذي لا تعترف به؟

أنا لست من هواة قتل الآباء الشعريين‏,‏ وأعترف بتأثري الشديد بشعر درويش وسميح القاسم والبياتي والسياب وصلاح عبدالصبور‏,‏ لكنني أري أن العصر يحتاج إلي صيغ شعرية جديدة تتجاوز أطروحاتهم‏,‏ خصوصا أن الكثير من قصائد تمجيد البطولات لا تناسب هذه المرحلة بإيقاعها الزاعق‏,‏ وعموميتها‏,‏ ويبقي لها فضل الإسهام في التأسيس ولفت أنظار العالم إلي قضيتنا‏,‏ دون أن نسجن أنفسنا في قوالبها الشعرية‏.‏

‏** وبالرغم من هذا جاءت قصيدتك عن راشيل كوري الضحية الأمريكية التي سقطت تحت عجلات الجرافات الإسرائيلية دفاعا عن حقوق الإنسان الفلسطيني مليئة بعبارات التمجيد والبطولة عالية الإيقاع التي أعلنت رفضك لها؟

لم أقصد تناول راشيل من زاوية التمجيد‏,‏ أو حتى الرثاء‏,‏ بل باعتبارها رمزا شعريا لأممية إنسانية‏,‏ تؤمن بقضايا الشعوب العادلة في أي مكان علي وجه الأرض‏,‏ فراشيل هي الرمز الإنساني والجوهر هو دعوة إلي كل المؤمنين بقضايا حقوق الإنسان أن يعملوا علي أن يصبح حضورهم أقوي وصوتهم أعلي من أجل حقيقة إنسانية أكثر نبلا‏.‏

‏** ما تأثير تجربة الاغتراب علي رؤيتك الشعرية وكيف استثمرتها في طرح هذه الرؤية علي الآخر الغربي؟

تجربتي في إنجلترا أضافت لي مفردات جديدة‏,‏ ومنحتني فرصة الإطلاع علي ثقافة الغرب بمختلف فروعها وتجلياتها‏,‏ وأسهمت في بلورة مشروعي الشعري وتخليص قاموسي الخاص من الزوائد‏,‏ ومنحتني الرؤية الأشمل والقدرة علي أنسنة القصيدة‏,‏ لكن كل هذه التأثيرات لم تمتد إلي روحي الشعرية التي ستظل مرتبطة مع بمرجعيتي العربية وامتدادي الثقافي الفلسطيني‏.‏
أما عن استثمار العلاقة مع الآخر فهذا لا يتحقق بجهود فردية بل يحتاج إلي إستراتيجية ثقافية للجالية العربية في الغرب‏,‏ وأيضا من المؤسسات الثقافية سواء التابعة للجامعة العربية أم القطرية‏,‏ لكن التخبط والعشوائية وغياب التنسيق جعل هذه المؤسسات لا تقدم ولا تؤخر‏.‏

‏** ما حيثيات هذا الاتهام؟

الخطاب العربي يتعامل مع المجتمع الغربي باعتباره كتلة صماء واحدة‏,‏ معادية للعرب‏,‏ وهذا تصور فادح الخطأ‏,‏ ويؤدي إلي تكريس الفجوة الخطيرة القائمة بين الثقافة الغربية والعربية خصوصا علي صعيد رجل الشارع الذي يقع فريسة سهلة للدعاية الصهيونية‏,‏ لكن بأصابع عربية مع الأسف‏,‏ ولن تحل هذه الإشكالية سوي باعتماد خطاب عربي حضاري يراعي الخصوصية الثقافية والحضارية للغرب‏,‏ ويقدم صورة حقيقية عن ثقافتنا بعيدا عن الجهل المزمن والضجيج الرسمي المنفر‏.‏

‏**‏ ماذا يمثل لك الشاعر معين بسيسو‏,‏ إنسانيا وإبداعيا؟

الشاعر الكبير معين بسيسو هو عمي‏,‏ وقد تأثرت به منذ أن بدأ وعيي في التشكل منذ بداياتي الأولي بحكم صلة القرابة‏,‏ خصوصا أن أعماله تحتل مكانة متميزة في مكتبة أبي بمنزلنا في غزة‏.‏
وقد جذبني مشروعه الشعري بشدة خصوصا ديوانه الأول المعركة الذي صدر في القاهرة وترك أثرا عميقا في وجداني الشعري‏.‏ لكنني لم أستسلم لهذا التأثير‏,‏ وبدأت الدخول إلي عوالم مبدعين آخرين عرب وأجانب مع تفتح وعيي الشعري‏,‏ ليبقي معين بسيسو نافذة أولي لي علي عالم الشعر‏,‏ لكنني خرجت من قضبانها مبكرا إلي حيث الفضاء الشعري الإنساني باتساعه وتراكماته المتعددة‏.

الأهرام العربي
8 يناير 2005