.. وأدعو إلي العفو عن المثقفين الذين تعاونوا مع النظام السابق
انقطع الكاتب جبار ياسين حسين عن العراق قبل 28 عاما عندما قرر الإقامة بفرنسا. عاد إلي بلده غداة سقوط نظام صدام حسين وتكررت أسفاره أربع مرات وهو يعتبر نفسه عنصرا من معارضة تقنوقراطية بالمعني الأوروبي . أنجزت قناة فرانس 3 التلفزيونية تحقيقا حوله عنوانه الغريب الأبدي وتابعت مجلة نوفل أوبسرفاتور تفاصيل عودته إلي الوطن فطلبت منه سرد تلك الرحلة علي صفحاتها. تولدت إذن فكرة تحويل شهادته إلي كتاب عنوانه قبر من أجل شعب حي تنشره دار فايار الباريسية قريبا. في هذا الحديث، يقدم لـ القدس العربي أهم الأفكار التي سيتضمنها الكتاب، ويشرح في الوقت ذاته العمل الذي يقوم به في إطار جمعية قراء بغداد التي ترمي إلي نقل آلاف الكتب من فرنسا إلي العراق.
* العراق بدون كتاب هو كفرنسا بدون نبيذ، وأبشع صورة للوضع الثقافي في العراق تمثلت في تخلي العراقيين عن كتبهم وبيعها في الشارع. كيف وجدت الوضع الثقافي في بلدك؟
هناك وعي فردي بالثقافة، والعراقيون لم يعودوا يؤمنون بالثقافة المركزية التي توجهها وزارة الإعلام أو وزارة الثقافة. جمعيات كثيرة تولد يوميا تجمع الفنانين والنحاتين والأدباء وغيرهم. وزير الثقافة الحالي، الشيوعي مفيد الجزائري، يعمل كثيرا ولكن الإمكانيات قليلة وميزانية هذه الوزارة قليلة قياسا بالوزارات الأخرى. هناك جهد كبير لإعادة تركيب المؤسسات الثقافية، وقد رأيت مجلات استأنفت الصدور، وطبعت كتب في العراق جئت ببعضها إلي باريس. هناك برنامج لإنشاء قصور ومجلس أعلي للثقافة. هناك كتب لمثقفين كانوا في المنفي ستطبع في العراق. التقيت بمدير المكتبة الوطنية، وهو شاب نشط ومتحمس يريد إعادة تشكيل المكتبة. هناك أيضا خطوة لإعادة المكتبات في الأحياء الصغيرة. زرت مكتبة الجامعة ووجدتها فقيرة جدا ولم تدخل الكتب والمجلات العراق منذ ربع قرن. أحداث النهب التي تبعت سقوط بغداد أدت إلي إتلاف الملايين من الكتب، ولكن هناك عمل دؤوب لإعادة تصنيف الثقافة علي أسس أكثر انفتاحا.
* هل وجدت مؤشرات واقعية تشجع علي ذلك؟
شاركت في فعاليات مثل اليوم العالمي للمرأة والذكري السادسة عشر لحلبجة، ورأيت طريقة مختلفة في الأداء. هناك حرية والرقابة لا وجود لها. تقديس الدولة انتهي، ووزير الثقافة لم يعد شخصا مخيفا كما في الماضي، بل أصبح متواضعا ويتقرب من المثقفين. أعتقد أن عملية البناء الثقافي أصعب من عملية البناء الاقتصادي. المؤسسات التعليمية تعيش السنة صفر لأن المناهج التربوية والبنية التحتية للمؤسسات تعيش حالة خواء. عموما، لقد بدأت في العراق ثقافة حرة ومنفتحة إنسانيا.
* يبدو أنه انفتاح بدون تضامن من الخارج، وقد علمنا أن فرنسا مثلا لا تمنح تأشيرات للمثقفين العراقيين رغم وجود خطاب رسمي تضامني. لماذا هذه الازدواجية؟
لسوء الحظ، يجد العراقيون أنفسهم اليوم في عزلة. تدخلت أكثر من مرة لدي الجهات الفرنسية الرسمية هنا وفي بغداد لأن الرغبة الفرنسية منعدمة والفرنسيون تعودوا علي التعامل مع رجال النظام السابق. وجهت نداء إلي جهات فرنسية غير رسمية وقوبلت بترحاب وتضامن كبيرين وستخرج عشرات آلاف الكتب قريبا من فرنسا إلي العراق لتزود جامعات الموصل وبغداد والبصرة وغيرها. وبالمقابل، وجهت نداء للناشرين العرب والمؤسسات الثقافية العربية خلال معرض القاهرة للكتاب فلم أتلق ردا واحدا. ما الذي تخسره مصر مثلا إذا قررت الهيئة المصرية للكتاب أن تمنح ألفي كتاب للعراق؟ المجلس الأعلى للثقافة يصدر منشورات رائعة، فلماذا لا يعطي نسخة واحدة فقط من تلك المنشورات للعراقيين؟ مع الأسف، رد الفعل العربي غائب دائما والعراقيون بالداخل يشعرون بذلك. الكثير من المثقفين العرب نسوا أنهم في يوم ما كانوا يعاملون كالملوك في العراق. إلي اليوم، لم يبادر أحد في البلدان الأوروبية أو العربية باستضافة المثقفين العراقيين الذين هم بحاجة إلي الخروج لمعرفة ما يحدث في العالم، كأن العزلة التي عاشوها في زمن صدام حسين ما زالت مطبقة عليهم. وهذا النقص أسعي لتداركه من خلال استقدامهم إلي أوروبا.
* حدثنا عن إنتاجك الشخصي في فرنسا، هل كان سهلا؟
أن تكون بلا وطن وفي ثقافة أخري، فهذا يشكل عائقا نفسيا. رغم ذلك، ألفت بضعة كتب ونشرت مقالات كثيرة ونظمت فعاليات، لكن المنفي ليس حالة طبيعية للفرد. المنفي كالشخص الذي لا ذراع له، وشعرت بذلك فعلا.
* كيف جاءت فكرة نشر تحقيق عن العراق في مجلة نوفل أوبسرفاتور؟
قررت العودة إلي العراق لحظة سقوط نظام صدام حسين، ولدي علاقات في الوسط الثقافي الفرنسي واتصلت بي وكالة الأنباء الفرنسية فأنجزت تحقيقا حولي ونشر في صحف فرنسية كثيرة. اتصلت بي مجلة نوفل أوبسرفاتور وطلب مني مسؤولوها نوعا من الاحتكار فيما يتعلق بحقوق نشر مقال حول عودتي إلي العراق بعد هذا الزمن الطويل. ذات التحقيق نشر في صحيفة لاريبوبليكا الإيطالية وكلارين الأرجنتينية وصحف أخري بلغات مختلفة إلا بالعربية لسوء الحظ. نوفل أوبسرفاتور هي رابع مجلة في العالم فكان للمقال صدي في ألمانيا وإيطاليا وإسبانيا وحتى في روسيا. كان ذلك التحقيق أكثر حياء من العمل التلفزيوني الذي أنجزته حولي قناة فرانس 3 تحت عنوان الغريب الأبدي .
* وكيف جاءت فكرة نشر كتاب لدي دار فايار؟
عندما كنت في العراق، كنت أسجل ملاحظاتي يوميا واختزلتها في ذلك التحقيق الذي نشرته نوفل أوبسرفاتور، وهي التي سمحت لي بإعداد كتاب عنوانه قبر من أجل شعب حي يصدر باللغة الفرنسية. عندما عدت إلي العراق، كانت بغداد ما تزال تحت الدخان، وكانت المقابر الجماعية تفتح في كل مكان. كانت الحالة العراقية عبارة عن مزيج من الدهشة والخوف والحزن واكتشاف المذبحة التي تمت خلال أكثر من ربع قرن. قطعت مسافة 160 كلم بين بغداد والنجف، وتوقفت في أكثر من أربعين مقبرة جماعية. كنت أمشي يوما مع أخي وقلت له: حذار، ربما نحن نمشي علي أجساد. وبعد يومين، اكتُشفت مقبرة جماعية في ذات المكان الذي كنا نمشي عليه. هناك أكثر من 420 مقبرة جماعية في العراق لم يعلن عن مكانها خوفا من نبشها.
* ماذا يمثل الوجود الأمريكي في العراق بالنسبة لك؟
هو احتلال ومعلن عنه هكذا. أنا ضد الاحتلال وكنت ضد الحرب، لكن خروج الأمريكيين اليوم دون نظام ودون تنسيق مع القوي العراقية والقوي الإقليمية سيمثل كارثة كبري لأنه سيمزق العراق ويجعل منه دويلات لا تحصي. الدولة العراقية كانت دائما مركزية ولم يعتد الناس علي نظام فيدرالي مثلا. بقاء الأمريكيين في الوقت الراهن ضمانة لعراق موحد. الأغلبية المطلقة من العراقيين هي ضد الاحتلال، ولكن هناك فئة كبيرة تريد بقاء الأمريكيين لحين تشكيل الدولة العراقية وإقامة الجيش وباقي المؤسسات. خروج الأمريكيين اليوم معناه احتلال العراق من قبل قوي تترصد به مثل إيران، والسعودية، وسوريا وتركيا وستحدث في المنطقة فوضي لا حد لها. يجب أن يخرج الأمريكيون من العراق بشكل تدريجي، إن خرجوا.
* لماذا تقول إن خرجوا ؟
أنا أشك في خروجهم المبكر وسيتبعون صيغة تشبه الصيغة الألمانية واليابانية، فوجودهم سيطول إلي قيام الدولة العراقية وسيقنن وجودهم ويحدد، وهذا هو الأمر الواقع وعلينا الاعتراف به. إذا توقع البعض أن مقتل بعض الجنود الأمريكيين سيؤثر على السياسة الأمريكية فهم مخطئون. لأمريكا مصالح أهم من فقدان عشرة آلاف جندي في العراق، وهي تمتد إلى الصين والخليج العربي برمته ومنطقة النفط. بعد فقدان الثقة بالنظام السعودي، سيكون العراق خزانا لأمريكا. أنا شخصيا أدعو إلى العقلانية في التعامل مع الأمريكيين، لأنك عندما لا تستطيع الإطاحة بالخصم تعامل معه بحذر لكي تحجّمه. وهذا رأي موجود في العراق.
* سقط النظام السابق وقد كان هناك من المثقفين من يمجدونه، فما هو مصيرهم لو كان بيدك الحكم عليهم؟
جمهورية الأدب هي جمهورية التسامح. أنا التقيت ببعض الذين تتحدث عنهم. مر العراق بحقبة سوداء والناس ليسوا جميعا أبطالا أسطوريين ويجب التعامل مع هذا الضعف. قيام دولة القانون في العراق مستقبلا يعني محاسبة من ارتكبوا جرائم سياسية أو مادية أمام المحاكم. أقصد بذلك من سرقوا أموال العراقيين ومن حرضوا على القتل. أما الذين كتبوا من منطلق ضعف، فيعفى عنهم وانتهى الأمر. ينبغي البدء من جديد، والإنسان لا يحمل الخطيئة الأصلية طول عمره. لسنا بحاجة اليوم إلى إطفاء صوت واحد، والجوقة الموسيقية تتألف من أصوات كانت متنافرة في البدء ثم سرعان ما تتناغم وتؤدي لحنا.
* ما الدور الذي تريد أن تلعبه كمثقف؟
أنا وكثير من العراقيين الذين كانوا منفيين يمكن اعتبارنا تكنوقراط ويريدون الدخول في اللعبة السياسية. كثيرون منا يعتبرون أنفسهم الآن في خط المعارضة بالمعني الأوروبي، لا بمعني المعارضة المسلحة. هي معارضة متحضرة تتميز بانتقادات متتالية ومراقبة للوضع العراقي. أنا شخصيا نقلت أكثر من مرة رسائل إلي مجلس الحكم خلال زياراتي للعراق عن التيار العراقي الجديد. إننا نتوخى عملية إعادة بناء العراق بصيغة حديثة دون حصص طائفية. يجب أن يكون خط بناء العراق ديمقراطيا وشفافا.
* وما مضمون تلك الرسائل؟
نحمل انتقادات عميقة للوضع في العراق سواء في الجانب السياسي، أو في طريقة أداء مجلس الحكم وعلاقته غير المتوازنة مع الأمريكيين أو فيما يتعلق بالإجراءات التي اتخذت وطريقة التقسيم بين الأكراد والعرب والسنة والشيعة وكل الطوائف، إضافة إلي انتقادات حول مجري عملية إعمار العراق التي فيها كثير من الخروقات من الرشاوي. هناك نوع من الفساد حاليا وأعضاء من مجلس الحكم استفادوا من هذه الحقبة ومن موقعهم لتمرير شركات وهمية كما حصل في موضوع الهاتف النقال أو إعادة ترميم المدارس. هناك شركات يملكها أقرباء لأعضاء مجلس الحكم.
* إنها بداية لا تبشر بالخير، هل يعني ذلك أن عملية إعادة بناء العراق مجرد وهم؟
العملية السياسية بالعراق بطيئة قياسا إلي حاجات الوضع العراقي ولم تتم إلي الآن إجراءات واقعية لإصلاح الوضع. هناك مشاكل كثيرة كالماء والكهرباء والأمن وغيرها. هناك من يقول أن الوضع الأمني صعب حله دون حسم سياسي، وقد تأخر الحل السياسي نسبيا. ونلاحظ أيضا عملية تهيئة قانون إدارة الدولة الذي ظهر بصورة حضارية ويحمل مواصفات جيدة لكن عملية الإعلان عنه تمت بطريقة مرتبكة. الشيعة انسحبوا في الدقيقة الأخيرة ليتشاوروا مع السيد السيستاني فأعطي ذلك انطباعا عن ضعف أداء مجلس الحكم. نحن بحاجة لمعارضة في الوقت الراهن لأن الوضع العراقي ينبغي أن يتطور باتجاه صحيح. العراق يمر بمرحلة السنة صفر، كما حدث في ألمانيا وإيطاليا فهو يبدأ تاريخا جديدا. انطلاقا من 30 حزيران/يونيو المقبل ينبغي أن يبدأ البناء الحقيقي للعراق، سياسيا واقتصاديا، واجتماعيا وثقافيا.
* لا شك أنك ستتعرض في كتابك لمستوي الوعي السياسي لدي العراقيين، هلا قدمت لنا صورة موجزة عنه؟
عدت من العراق ولاحظت تطورا كبيرا علي صعيد الوعي السياسي، فهناك رغبة قوية لدي الأغلبية المطلقة من العراقيين بمختلف الفئات والطوائف. المشكلة الكبيرة هي وجود وعي سياسي بدون ثقافة سياسية. إرث السلطة منذ الحقبة الصَّدَّامية ترك فراغا ثقافيا وأكثر العراقيين لا يفهمون كيف ينبغي أن يكون مجري العملية السياسية. لذلك، سيواجه العراق مشاكل كثيرة لأن هناك أقليات فاعلة بين الشيعة والأكراد والسنة. منذ لحظة أسر صدام حسين، دعوت إلي ضرورة التعاون مع المقاومة العراقية. أنا لا أتحدث عن عمليات الإرهاب التي تتم يوميا.
* كيف يمكن التمييز بين المقاومة والإرهاب؟
المقاومة العراقية تتوجه إلي مقاومة الأمريكيين، بينما ينقض الإرهاب علي ما تبقي من مؤسسات الدولة العراقية ممثلة في الشرطة، أو أعضاء مجلس الحكم أو السياسيين أو الكوادر العراقية التي تقتل بشكل منتظم. هناك رقم يتحدث عن ألف كادر اغتيلوا خلال الأشهر الماضية.
* حتى إن كان قتل إنسان لا يبرر بشكل من الأشكال، ألا يفسر اغتيالهم بتعاونهم مع المحتل؟
لا، ليسوا من المتعاونين، ولا يمكن من جهة أخري اعتبار أفراد الشرطة العراقية أو الدفاع المدني كمتعاونين مع الاحتلال. أنا حضرت مجزرة الكاظمية وكان بيني وبين الانفجار بضعة أمتار فقط. كتبت مقالا في اليوم الموالي في صحيفة النهضة أصف فيها ما حدث. رأيت الانتحاري الذي فجر نفسه والمأساة البشعة التي شكلها قتل الأطفال والنساء والمدنيين. هذه ليست مقاومة بل إرهابا أعمي تصنعه جيوش الظلام. المقاومة العراقية ليس لديها برنامج لسوء الحظ. التقيت صدفة مع أحد أعضائها وتعرف علي وقال أنه يقدر مواقفي. ما يحركه هو مزيج بين فكر قومي وديني ويريد بأي ثمن قتال الأمريكيين ومن يتعامل معهم.
ولكنهم ينقلون رسالة واضحة تتمثل في طرد العدو الأجنبي، أليست الأمور كذلك؟
هناك أغلبية من العراقيين متفقة على أن بقاء الأمريكيين في الوقت الحاضر ضرورة للتوازن داخل العراق. ليست هناك اليوم دولة ولا قوات أمن ولا جيش. العراق الآن هو بدون حماية. أنا أدعو المقاومة العراقية إلى التحول إلى حزب سياسي، وأن تضع في حسابها برنامجا.
* ما الذي تريده هذه المقاومة؟ ضرب الأمريكيين، ثم ماذا؟ كيف ستتعامل مع القوى السياسية الأخرى؟
يستعمل البعض عبارة المثلث السني في الحديث عن المقاومة، ما صحة هذه العبارة؟
أنا أسميه المثلث البعثي. بعقوبة ليست كلها سنية، والرمادي كذلك. في هذا المثلث تتركز أغلبية المقربين من النظام السابق سواء كانوا من الحرس الجمهوري، أو المخابرات أو رجال الأعمال الذين ظهروا كالفطر في عهد صدام حسين، وهؤلاء لهم مصالح لأن النظام الذي ذهب كان يوفر لهم الحماية. اليوم، أصبحت الأغلبية الجغرافية والسكانية في محلها المناسب، واعترف بها كأغلبية وأنا أقصد الشيعة الذين تعرضوا إلي مذابح حقيقية ولا زالوا وآخرها أحداث الكاظمية. خلال زيارتي الأخيرة، لاحظت عودة إلي العقلانية. العراقيون يريدون الديمقراطية، وابتهجوا بالدستور المؤقت أو قانون إدارة الدولة. إنهم يريدون حكومة قوية وجيشا قادرا علي حماية البلاد، وبلدا موحدا وعلمانيا.
* تلقي الدستور المؤقت انتقادات لأنه يتسم بطابع إسلامي، فكيف تتحدث أنت عن عراق علماني؟
صحيح، ولكنه يعتمد علي الفصل بين السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية. هذا الفصل يوفر الأساس العلماني لبناء الدولة. هناك رد فعل قوي لدي العراقيين في الوقت الراهن، وهناك هيمنة لتيار عام إسلامي، ولكن ليس بالمستوي الذي يدعو لإقامة دولة إسلامية في العراق والدليل علي ذلك هو الاستفتاء الأخير الذي بين أن العراقيين الذين يريدون دولة إسلامية لا يتجاوزون 10 بالمئة. بحكم تراجع الثقافة الحديثة في العراق، هناك رغبة في بقاء الإسلام كواجهة تجمع كيان المجتمع. طريقة تطبيق الدستور ستحدد شكل الدولة.
* يصور لنا العراق كأنه سيخوض تجربة علمانية جديدة، ألم يكن العراق علمانيا قبل اليوم؟
منذ تأسيسه، كان العراق دولة علمانية يستلهم الإسلام في التشريعات التي تتعلق بالأحول الشخصية، وباقي القوانين علمانية مستمدة من القانون الفرنسي والقانون الروماني. بعد هذه التجربة المرة، لا يريد العراقيون هيمنة إيديولوجية بأي ثمن وهذا جزء من التوازن الضروري في الوقت الراهن للبدء بتأسيس الدولة العراقية.
* هل تظن أن السيناريو الذي يعيشه العراقيون اليوم كان في حسابات الإدارة الأمريكية قبل أن تقدم علي ما أقدمت عليه؟
لا أعتقد ذلك، فالأمريكيون والعراقيون علي حد سواء لم يكونوا يتوقعون أن يصل حجم الكارثة إلي هذا المستوي. كل ما أعود إلي العراق أكتشف كيف خُرِّب النسيج العراقي في ربع القرن الأخير. لم يفكر أحد من المعارضة أو من الأمريكيين أن حجم الخراب كان بهذا المستوي. حدث تبسيط للحالة العراقية قبل الحرب، وحدث تضخيم أيضا. اليوم نكتشف أن القضية العراقية محتاجة إلي سنوات لكي تحسم. العراق بلد تشكيلته السياسية، والدينية، والثقافية مرتبطة بأقاليم عديدة. السنة لديهم تمثيل في سوريا والسعودية والأردن والشيعة لديهم تمثيل في إيران، والأكراد لديهم تمثيل في تركيا وإيران. هذه المعادلة تلعب دورا في تعقيد الدور العراقي، ولن نخرج من الأزمة قبل خمس سنوات، أي بعد أن تستقر الدولة العراقية الجديدة، وبعد أن تمضي إعادة بناء العراق خطوات مهمة. المشكلة العراقية مرتبطة بالسرطان الأكبر في الشرق الأوسط، وهو الصراع العربي الإسرائيلي. دون حسم هذا الصراع، سيبقي العراق الواجهة الخلفية له.
* رغم سذاجة هذا السؤال، كيف ترى العلاقة بين فلسطين والعراق؟
هناك علاقة معقدة دينية وقومية، وهي علاقة رد فعل أيضا خصوصا بعد دخول الأمريكيين إلي العراق. هناك احتلال وهناك مرآة لهذا الاحتلال. الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين يجد صورته في الاحتلال الأمريكي للعراق. في العقدين الأخيرين، عاد العراق عقودا إلي الوراء علي صعيد الثقافة السياسية.
هناك من يشبّه الاحتلال الأمريكي للعراق بالانتداب البريطاني، ما رأيك في هذه المقارنة؟
الاحتلال الأمريكي للعراق أكثر تعقيدا، فالعالم قد تغير. حينما جاء الإنكليز إلي العراق، لم تكن هناك دولة اسمها السعودية، ولم يكن هناك الأردن، وكانت تركيا بقايا الإمبراطورية العثمانية المنكسرة. الوضع الآن قد تغير وهناك دول قوية ولديها مصالح ومخاوف تجاه الوضع العراقي.
القدس العربي
2004/04/14
أقرأ أيضاً: