حاوره:  محمود عبد الغني

كمال سبتيتقديم:
سيجد القارئ الكريم في السؤال الأول من هذا الحوار مع الشاعر العراقي المقيم بهولندا تحريضا للشاعر على تعريف نفسه. لكن الحيرة كانت بادية، شبيهة بحيرة من يريد أن يرى نفسه وهو يمشي. لكن لا باس من تقديم الشاعر الطروادي
انه مؤلف" حكيم بلا مدن"، " آخرون قبل هذا الوقت" وأعمال أخرى( مقالات سجالية ونقدية) تقدم كمال كواحد من العارفين بأسرار العمل الشعري، وبأسرار الشاعر باعتباره كائنا مزدوج التكوين ، متعدد الطبقات، والألوان. رحلة ممتعة مع شاعر مهم في سياق الشعر العربي المعاصر، مشاغب، مساجل، ذكي وقادر.

* من هو كمال سبتي ؟

- هذا سؤال يتكرر كثيراً في المقابلات الصحافية ، لكنه صعب. من هو كمال سبتي ؟ لا أدري ، هو كائن فقير ولد في جنوب العراق ودرس فيه وفي العاصمة ثمًّ هرب من العراق جندياً كان يؤدي الخدمة الإلزامية -في الجيش العراقي- في سنتها الخامسة ، غير محظوظ في هذه الحياة ، ارتكب أخطاء كثيرة بحق نفسه ، أحبّ بقوّة ، خسر حبه ، يكتب الشعر منذ سن مبكرة ، يقرأ في اللغتين العربية والإسبانية ويسمع الأخبار السياسية في اللغة الإنجليزية ، يعيش وحيداً منذ سنوات طويلة في كل بلاد ، منذ بغداد ومدريد. وهو الآن وحيد في الجنوب الهولندي منذ سبع سنوات أيضاً. أصدر كتباً شعرية ستّةً ، وسيُصدِرُ سابعاً (بريد عاجل للموتى ، " كتاب سردي وشعري" ) مطبوعاً في هيأة كتاب عمّا قريب إضافة إلى خمسة كتب شعرية ونقدية ومترجمة لم تُطبَع بعد.

أهذا يكفيك ؟

* كنت تعيش حياة مليئة بالعلاقات و المغامرات و التجارب وانتهيت شاعراً وحيداً في كل البلدان ، هل الفرد يبدأ جماعياً و ينتهي فردياً ، تماماً كما يحدث في التراجيديات؟

- ربما هي دورة حياتية قاسية تنتهي بالوحدة بعد أن يتلوث أحدنا بالشعر والمعرفة الشكاكة والموصلة دائماً إلى العذاب ، وبعد أن يتلوث بوهم الشعري المتعالي على الزائل الكذاب والمنافق والمتآمر والجشع والحسود والطماع والبخيل والنذل والجبان واللئيم والنمام والكاره..إلخ ليخسر ملذات هذه الحياة.هي دورة تراجيدية بلا شكّ لكني لا أريد أن أتمثل تراجيديا محددة من التراجيديات المعروفة لأقول هذه تشبهني. لا. أنا أحاول أن أخفف الأمر عليَّ. أفكر عادةً في ما كتبه أرستو فان في مسرحية الضفادع راثياً سوفكليس : ( قانع وسط الأحياء ، قانع وسط الموتى). قرأته قبل ثلاثين عاماً..لم أقبله وقتها مكوناً صورة عن سوفكليس غير قريبة إلى نفسي. الآن تغيَّرَ الأمر. بدأت أحبّ ما قاله أرستو فان وأخذت صورة سوفكليس تتقرب إليَّ. أو قل العكس تماماً : أنا الذي بدأ يتقرب- على مضض- إلى صورة سوفكلس في مرثية أرستو فان ، ولن يتغير المعنى.
أنا قانع..لا أحب هذا التعبير. لكنني أقبله على مضض.

الوحدة عالم آخر نبيل وسام وقاس في الوقت نفسه. لمَ لا يكون بداية رحلة جديدة ؟

* جل الأعمال الأدبية العظيمة أنجزت في العزلات، أعطي على سبيل المثال كتاب "المقدمة" لابن خلدون الذي ألفه في قلعة ابن سلامة بعد هروبه من عالم السياسة المليء بكل النعوت التي ذكرتها. وعالم الأدب أصبح أكثر العوالم تلوثاً.

كيف هي قلعة عزلتك ؟ هل هي منزل ؟ مقهى ؟حانة ؟ مدينة ؟ أعماق مجهولة في الذات ؟

- كان ابن خلدون موظفاً وسياسياً ، أي أنه كان رجل دولة ، وحتى في اعتكافه في قلعة ابن سلامة وأظنها كانت في الجزائر الحالية فقد كان رجل دولة وحين كتب كتابه بمجلداته السبعة بالعنوان الطويل الذي لا يُحفَظ : (كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر) فقد كان كتبَهُ من أجل الدولة وحين أنهى كتابه هذا الذي أخذنا منه مقدمته وفضلناها على غيرها في الكتاب ، فإنه أهداه إلى الحاكم المغربي في فاس وإلى سلطان تونس. عزلة ابن خلدون هي عزلة الموظف والسياسي ورجل الدولة -مفكراً في دولته- لا عزلة الشاعر التعبان والمعاقَب من قِبَلِ الآلهة كما في التراجيدية الإغريقية أو التراجيديات كلها. ففي المقدمة فصول تتحدث عن العمران والأمم الوحشية والدول والملك والمراتب السلطانية والمعاش والكسب والصنائع..إلخ كتاب اجتماعي وسياسي رائع لا يفكر فيه الشاعر الوحيد الذي لا يهمه وجود الدولة - أية دولة- في شيء إلاّ بتحميله - الوجود- مسؤولية العذاب كله.
أنا لم اختر عزلتي هذه. قوانين اللجوء اختارت لي بلدة سيتاردSittard في الجنوب الهولندي ، فوجدتني فيها وحيداً ، مع أناس البلدة الهولنديين فاعتكفت في بيتي لا أتكلم العربية مع أي كائن لأنني لا ألتقيه إلا مصادفة وقلما وقعت تلك المصادفة ، ولأن العرب الموجودين في البلدة لا يعرفون أساساً من أكون . واعتكفت من الهولنديين أيضاً إلاّ في مراجعتي لهم في المستشفيات أو في اجراءات تحتاجها بلدية البلدة دورياً. لدي أجهزة هاتف وكومبيوتر وتلفزيون بدون قنوات عربية. إذن فهي ليست عزلة تامة بسبب تلك الأجهزة. ولأنني أسافر بضعة أيام مرة كل عام إلى صديق يعيش خارج المدينة الهولندية .
هذه العزلة هي حوار مستمر مع الذات ، سفر دائمي في أعماقها كما تقول ، فتسعد الكتابة الشعرية بها. لكن أمرها قد لا يكون ممتعاً تماماً بل قد يكون قاسياً وذا انعاكاسات بيلوجوية مؤثرة ومبكرة على الجسد.

* نعم اتفق معك، لكن يجب ألا نظلم ابن خلدون بنعته برجل الدولة، مع أني أتحفظ على هذا الوصف، فهو على الأصح كان يبيع خدماته لكل الملوك المتعاقبين على سلطات المغارب. لكن عزلته وعذاباته مع الملوك(سجن أكثر من مرة) ومع الأصدقاء(تدمره من خيانات صديقه ابن الخطيب) و مع الحياة (غرق أسرته في البحر) جعلته مثل الشعراء الملعونين باللعنات الكبرى. أنت مثلا يا كمال، يصدق عليك عنوان أحد دواوينك " حكيم بلا مدن".غادرت بلدك العراق إلى إسبانيا، و منها إلى هولندا، وإني أحدس أنك تفكر في الهجرة إلى بلد آخر حاملاً فانوسك في يدك. لماذا يا صديقي هجرة الطيور هذه؟

- كلامك صحيح إلى حدٍّ مّا. أنا لم أتعنَّ عملَ مقارنة بيني وبين ابن خلدون. الرجل عندي رجل دولة في ما عاشه وفي ما كتبه وليس رجل فن. أمّا هل يعيش رجال الدولة حالات شعرية ملعونة أحياناً ؟ الجواب نعم ولا. وحذار من إعطاء شرف تلك الحالات إلى أعدائها حتى إن كانوا بمنزلة ابن خلدون. لأن في ذلك انتهاكاً لسرِّ الشعر الأزلي. رجل الدولة السياسيّ كذاب تماماً كموظفه الجلاد الذي يجلد ويصلب الحلاج أو يقتل شاعراً في هذا الزمان.
الشاعر المعذب الوحيد الخاسر كل شيء في هذه الحياة ، المظلوم أبداً والشهيد هو الشاعر القويّ في التاريخ. ليستمتع الآخرون في حفلاتهم الباذخة وليستكتبوا كتبة النقد من أجلهم كل يوم وليكونوا ما يكونون.
نعم إني أفكر في الهجرة منذ وقت غير قصير. قلت مرة إنني أبدو كالمعاقب ميتافيزيقياً من قبل الآلهة في مقالي "الحرب والشعر" ولا بأس أن أستذكر معك كلماته الأولى : (أفكر في ما كتبه فوكو في اقتصاد العقاب. كان العقاب نفياً ثم أصبح تشغيلاًَ. وفيه قال فوكو: زمن الألم يتكامل مع اقتصاد الألم. وأنا لا أشتغل بما يدر ربحاً للاقتصاد. لكنني أبدو في النفي كالمعاقب ميتافيزيقياً.)

* ذكرت في مقالك " الشاعر شهيداً" مجموعة من الشعراء العرب و الغربيين الذين ذاقوا مرارة الموت والتعذيب و التنكيل، وخلصت إلى أن الشاعر ولد لكي لا يعيش مثل بقية الخلق ولكي لايموت مثلهم.. وأن الشعراء مهما اختلفت جنسياتهم فهم قبيلة واحدة يلقون نفس المصير، أو كما قال بودلير" الشعراء كلهم إخوة" كيف تجد وضع الشعر و الشعراء اليوم؟

- الشطر الأخير من سؤالك عن وضع الشعر والشعراء ذو انشغال مهنيّ في قراءة أولى ، قد لا أكون معنياً به. ما ذكرته من مقالي "الشاعر شهيداً" في سؤالك هو جواب إلى حد ما عن سؤالك. لا شاعر في ذهني غير الشاعر الشهيد. ولا شعر بلا تراجيديا شخصية والشعراء المنعَّمون ذوو الخدم والحشم من الكتبة وغير الكتبة يأخذون الآن كل شيء لكنهم سيلعنون في ما بعد. الشعراء الشهداء هم إخوة . بهذا يكون جوابي واضحاً .

* ماذا تخزن في ذاكرتك من العراق جندياً وشاعراً ؟

- هربتُ من العراق جندياً وشاعراً. الخدمة العسكرية الإلزامية هي سوق (وهو مصطلح عسكري غنمي من (الغنم) يستخدَمُ هنا) إلى اتجاه مضاد للشعر. حتى لو كان السوق إلزامياً. لا أفهم كيف ذهب شاعر أحبه حباً جماً مثل ريلكه إلى الأكاديمية العسكرية ليتخرج فيها ضابطاً وبقي فيها سنتين وربما أكثر قبل أن يتركها وكذلك الشاعر الراحل عبد الوهاب البياتي الذي ذهب إلى الكلية العسكرية ليتخرج فيها ضابطاً لكنه تركها بعد عام واحد ؟ الشاعر المسالم لا يستطيع أن يكون عسكرياً ، وفي زمن عراقيٍّ عاق لم نكن نستطيع الهرب من الجيش بسهولة فالهرب كان يعني الحكم بالإعدام ، لذلك كان الجنديّ يفكر في ألف طريقة للهرب من تلك المؤسسة الغنمية ويخطط ألف مخطط حتى ينجح واحد منها فيسلم أو تفشل كلها فيموت. هربت من العراق ومن جيشه بعد خمس سنواتِ خدمةٍ إلزامية. والجيش هو (جندي وضابط) دائماً وأبداً حتى إن تعددت أمكنة الخدمة في السنوات الخمس. أمام امتهان سافل وعبوديّ كهذا يحاول الاثنان : الإنسان والشاعر أن يحمي أحدهما الآخر ، وأن يخفف أحدهما من عبء الآخر ومن جحيمه لكن سدى. لا حل غير الهرب أو الانتحار أو التماهي كلية في "الضد آدمية" والانسلاخ من الآدمية نهائياً عبر الـMetamorphosis ، المسخ ، وبما عرفناه عند كافكا وعند بطله غريغوري سامسا الذي تحول ذات مرة إلى حشرة ضخمة. لا حرية ولا معنى للحرية يُناقَش.ستبدو بَطِراً إن فكرتَ في أنك لا تحبّ هذا الشيء أو ذاك التفصيل فإن سمع أحدهم تفكيرك هذا فستعاقَب وستعنَّف بقسوة ،غير تلك الحياة الفاقدة لأي شرط أنساني تواصلي مع الأخر وغير تلك التحية العسكرية-الدالة على الإذعان للضابط ولأوامره.
ماذا أخزن في ذاكرتي من العراق ؟ أخزن العراق نفسه.

* يدخل في دفتر تحملات "آخرون...." سرد الذات ماضياً وحاضراً.هل يمكن اعتباره كتاباً ذاتياً بالمعنى الشعري للعبارة ؟

- نعم. الشعر ذاتيّ منذ البدء لأن هناك شاعراً مفرداً-ذاتاً يكتبه أو يقوله أو يعيشه. لا يمكن أن يكون جماعياً بسبب اللغة أيضاً.فليست لغة هذا الشاعر أو هذا الكائن هي نفسها لغة ذاك الشاعر أو ذاك الكائن. الشعر عموماً هو نشاط ذاتي. إن كتبت شعراً في حب امرأة أو في وصف منظر طبيعي. النشاط ذاتي. لكن هناك من ينغلق على ذاته هذه تماماً كالمريض المنفوخ فيعافه متلقوه. العلاقة تأثرية بين الذات والأشياء وبين الذات والمتلقي وثمة من لا يفهم هذا الجدل في هذه العلاقة فتتضخم ذاته وتنتفخ فيصبح شعره كلاماً تمجه الأسماع.

* جدل الذات والعالم بكل تعقيداته الكبيرة و الصغيرة موجود في "آخرون قبل هذا الوقت". وأيضاً في الكثير من أشعار هذا الزمن. لنقل إن إنسان هذا الزمن يميل إلى تعبيرات الذات. وأنت تلاحظ أن الذات في الكتابة كالطعم كلما كانت كثيرة كلما كان الصيد ثميناً.

- الكتابة بالذات والكتابة عن الذات هي كتابة كل زمان. لا أعرف كاتباً في حياتي كان كاتباً غير ذاتي. ووجود كاتب غير ذاتي أمر لا يمكن تصديقه. للأسباب التي ذكرتها في الجواب السابق. في البدء أغراني التأمل في صياغتك الشقَّ الثاني من السؤال عن الجزء الأكبر منه. الذات في الكتابة كالطعم كلما كانت كثيرة كلما كان الصيد ثميناً. أنت محاور وشاعر. لكنني الآن لا أؤيد تعبيرك وهو عندي يشبه ما قلته عن تضخيم الذات. ليس ثمة من يستطيع أن يحدد المقدار الكمي لوجود الذات في الشعر.إنها موجودة فقط. وجودها متساو إن كان في جملة وتحققه جملة أو كان في كتاب كامل ويحققه كتاب. لكن هناك الانغلاق عليها وتضخيمها في مرض لا يطاق وهذا أمر يتفاداه الشاعر الحق.

* تحتشد في "آخرون قبل هذا الوقت" ما يمكن أن نسميه فضاءات العتبة:البارات،الفنادق،الساحات،المدن المهجورة، الجسور، السفن، محطات القطار، المدينة التي تقول عنها:" كلما سعيت إلى قلبها،خرجت منها مشرداً". وهناك أيضاً أفظع مكان هو القبر، بيت الجسد بعد موته.أهذه هي القصيدة عندما ترثي العالم؟ أهذا هو الشاعر عندما يخرج عارياً عائداً إلى غابته؟

- القصيدة هي كل هذا الذي تقوله وغيره أيضاً. لقد ذكرتَ المكان مسمىً في شعري ببعض الأسماء التي عددتَها في سؤالك. المكان يوحي أحياناً بصورتك ، يعرّفك. وقد اخترتَ أنتَ على التوالي أسماء أمكنة مضادة للمكان الإقطاعي الثابت ومضادة للأمكنة المستقرة نفسياً ، المكان كما البشر ، ثمة أمكنة غبية كشعراء غير مهمومين وسعداء وثمة أمكنة تغلي في داخلها.
أما القبر وأظنك في سؤالك توحي إلى نهاية قصيدتي (آخرون قبل هذا الوقت) :
ما كنتُ أحداً أبْعَدَ من قَبْرِهِ
ما كانَ قَبْرُهُ بَيْتَ جَسَدٍ مات.

فهو سيكون الختام النهائيّ للقصة كلها. الختام الذي لا يراه الشاعر بعد الموت.

* ماهي حكايتك مع المدن ؟ فأنت تهاجر من مدينة كأنك المطرود، وحتى عندما تصل إلى مدينة أخرى كأنك لم تصل. إنك بلا مدن، رغم إنك تقضي يومك في الاصطدام بالجدران وفي الليل تعود إلى بيتك الذي أتصوره مرتباً فيه مكتبة، يأتيه أصدقاء وزوار وعشيقات.أنت فعلاً حكيم بلا مدن (كما هو عنوان كتابك الشعري الثالث).أين ذهبت بغداد، مدريد وغيرهما والمدينة التي تعيش فيها اليوم ؟ ألا تملك هذه المدن حتى ذكرى ؟

- حكايتي مع المدن هي حكاية مخرَّبة ، خرَّبها الشعر والقراءات الروائية والمسرحية والفلسفية الأولى التي كونت في ذهني شكلاً لمدينة غير موجود. اختلط الوهم والحلم بأشكال فلسفية كانت تبدو يقيناً أو شيئاً مؤكداً عن الحياة. أعاني هذا الأمر كثيراً منذ أن وصلت مدينة بغداد حتى وجودي المفاجئ في مدينة صغيرة في جنوبي هولندا. المفاجئ..أعني أنني لم أفكر فيها مسبقاً ولم أكن أعرف اسمها. لقد اختارتها لي قوانين اللجوء. لكنني أحن إلى كل مدينة خرجتُ منها حنيناً مازوكياً..فكل واحدة منها أرتني عذاباً مّا في شكل نظام ، في قانون إقامة ، في ليلة وحيدة بحانة ، في امرأة..إلخ
أتمنى أن أبقى في مدينة قادمة كل عمري. وبالمناسبة كل مدينة خرجت منها أخذت مني عمراً بسنوات وليس بأيام..

* حين تخون الحياة الشعراء ينقلبون إلى هجائين للمدن؟

- في كتابي الشعري الخامس آخر المدن المقدسة (قصيدة طويلة ، بدأت كتابتها عام 1989 وانتهت منتصف عام 1992) يرد هذا المقطع : (ماكانَ مُدَرَّجُ الحُكَماءِ يَسَعُ الجَميعَ..قالَ المُؤَرِّخُ. عابِرونَ يَتَهَجّونَ خَرائِطَ ، يَدٌ تَنْتَشِلُ غَريقاً ، نَسِيَ الإِغْريقِيُّ مَوْسِمَ القُطْنِ .. فَأَشارَتْ عَصاهُ إِلى عادَةِ مُهاجِرينَ في شَتْمِ كُلِّ مَدينَةٍ .) مانحن بصدده الآن هو السطر الأخير من المقطع : عادة مهاجرين..وبين الشعراء والمهاجرين هناك أكثر من وشيجة في المعنى النفسي المتقلب والغاضب وفي البحث عن استقرار بماض ثقيل في حاضر غائم. فماذا لو كان الشعراء مهاجرين أو المهاجرين شعراء ؟ يعني ماذا لو أضيف إلى الأمر كل ثقافة الشاعر وبصيرته النافذة وإحساسه المؤذي ولغته التراجيدية الخاصة ..إلخ ؟ سيتحول الأمر برمته إلى عذاب قبل أن يكون هجاء..لأي أحد.

* إلى أين ستذهب و أفلاطون حصن كل المدن ضد الشعراء ؟

- يذكرني سؤالك هذا بقصيدتي (القصيدة) في ديواني الثالث (حكيم بلا مدن) أقول في بدايتها :

(مَنْ يُبعدُ الشّعراءَ عَنْ هذي المدينَةِ ؟
كانَ أفلاطون يَسأَلُ
والمدينةُ بعدُ لمْ تهدَأْ
ولمْ تخرجْ مِنَ الكلماتِ..)
هل قرأت محمود هذه القصيدة قبلاً أم أن سؤالك لي جاء مصادفةً ؟ هذه قصيدة كتبتها قبل اثنين وعشرين عاماً تقريباً..عندما كنت في بغداد أيام الحرب مع إيران.لا سفر ولا هواء. قتلى وبيانات حربية والمشارفة على الدخول إلى الخدمة الإلزامية وتذكر أخطاء سابقة في حياتي..والندم على العودة من باريس عام 1979. المدينة..يوتوبيا..لا أنا لا أحب اليوتوبيات. سأظل أبحث عن المدينة لنفسها وفي ما هي عليه ، شكل غير عدواني وحنون للعيش مع آخَرها..هل طردنا أفلاطون ؟ نعم ثم طردتنا من بعده الجمهوريات كلها..لكننا نملك قدرة الوهم في خلق مدينة أخرى في قصائدنا..هل الخلق في الوهم هذا حل ؟ نعم تراجيدية كبيرة.

* نعم لقد قرأت ديوان "حكيم بلا مدن"، وبقراءته أدركت أنني أمام شاعر مستجيب بطاقة قصوى لشرطه الشعري والحياتي.عرفت أيضاً أنني أمام شاعر مثل النبتة غارق في حقله.ومنه عرفت الكثير من العناصر النفسية و الأهوائية للشاعر كمال سبتي.ديوان مثل الزجاج التصقت عليه ملامحك وشتائمك وقبلاتك للعالم.ألا تلاحظ أننا ، أنا وأنت ، رائقان هذا الصباح. ما السر ؟ هل يوم حظنا هو الأربعاء ؟ لنتحدث إذن عن الزمن بعد المكان.

- أشكرك أولاً على كلامك هذا. حين يلتقي شاعران فإنهما يحوّلان اليوم رائقاً أو معكّر المزاج. وها نحن نحوله رائقاً كما تقول وهذا شيء رائع. الزمن غير موجود عند هيغل كبعد ، إنه لا يقر بوجوده. لكنه موجود عندنا كإحساس وبالتالي فهو أخطر من أي شيء آخر بوجوده. هنا الشعر يعارض الفلسفة تماماً كما أن الحياة تعارضها أيضاً. ليس ثمة ما هو أقسى من الزمن. الوقت..الماضي..العجلة تسير إلى الماضي..مضيّنا كله هو إلى الماضي، عملنا الناجع الأكيد هو تأريخ أفعالنا في شهر وفي عام يعني إرسالها إلى الماضي..إلى المتحف والبكاء على زمن مضى..نحن خلقنا الزمن وقومناه أي جعلناه في تقويم..أي في زوال محسوس ومعروف.عندما يمضي يوم فإنك تعرف هذا من الروزنامة- التقويم بدون الروزنامة سنعود إلى هيغل لكن المرآة هي روزنامة أيضاً عندما ترى وجهك فيها وامرأة شابة تصادفها في الطريق هي روزنامة أيضاً فإن هي ابتسمت ابتسامة حرج أو لابد منها أو ابتسامة شفقة عرفت أنك في زمان غير ذاك الزمان الذي ربما كنت تحصل فيه على ابتسامة إعجاب بك من فتاة في الطريق.. الشعر أمام كل تحول في الزمن يتحول أيضاً..ليس صحيحاً ما يقوله منظرون عرب في الكتابة عن الشعر والزمن أحياناً عندما يوقفون أحدهما ويجعلونه ثابتاً..الإثنان يتحركان والشعر رقيب للزمن..هل يقلل الشعر من وطأة الزمن وقساوته وعذابه ؟ لا.كبيرة. لكن الشعر يخلق عالماً آخر ، زمناً آخر هو ثأر من الزمن الواقعي الحياتي.

* الشعر يعارض الفلسفة في كل شيء، والشاعر يعارض الفيلسوف في كل شيء.حديث الشاعر عن الزمن، أو موقفه منه، يختلف عن موقف الفيلسوف. إن ما يضحك الفيلسوف يحزن الشاعر.

- نعم. لأن الفلسفة قانون وميزان وحاسوب وعقل لا يخطئ. والشعر له عذابه غير العددي والكمي والعقلي..العذاب لا يقبل المسطرة والفلسفة في لفها ودورانها مسطرة.والزمن هو إحساس شعري بالخسارة.فهو موجود لأنه محسوس بعذاب الخسران..وهذا ما لا يقره الفيلسوف أو ما لا يهتم به لكنه يدخل في صلب اهتمام الشاعر وعذابه. لا يضحك الفيلسوف ضحكاً آدمياً. ضحك الفيلسوف ممنهج عقلي سيثير حزن الشاعر حتماً. الفيلسوف مفسر العالم ، ومغيره في رسالة ماركس إلى انجلز والشاعر لا يفسر العالم ولا يغيره. يندهش به ويتغرب فيه ويموت فيه بلا فهم. حياتان مختلفتان تماماً.
يحدد الفيلسوف الكندي ستة شروط للمرء لكي يكون فيلسوفاً ، فيقول :( يحتاج طالب العلم إلى ستة أشياء حتى يكون فيلسوفاً فأن نقصت لم يتم : ذهن بارع ، وعشق لازم ، وصبر جميل ، وروع خال ، وفاتح مفهم ، ومدة طويلة.) لنتأمل أشياء الكندي الستة . كلها عند الشاعر إلاّ الروع الخالي. الروع في العربية مرة تجده قلباً ومرة عقلاً. أثمة شاعر في هذه الأرض ، شاعر حقاً روعه خال بالمعنى الذي قصده الكندي ؟ الجواب سيحدد الفرق بين الفيلسوف والشاعر.


إقرأ أيضاً: