أجرى الحوار: خالد النجار
(القيروان/ تونس)

محمد الغزيالصهريج الذي في باحة بيته العتيق، والحمار الذي لقيته على مشارف مدينة القيروان وسط السّهب الأغبر، والجدّة العجوز العمياء بينيلوب الدهرية... بعض من عالم محمد الغزي الشعري. هذا الشاعر المسكون بالاشياء الألفوية، اشياء البيت، وأشياء العالم: الخطّاف، والأجراس، والينابيع، والخزانة، والمنزل، والصيف... هذا قاموسه، وهذه لقاه الشعرية. يأخذك الى عالم بريء ولكنه في نفس الوقت مفتوح على التراجيدي. يأخذك الى أشيائه الصغيرة، والحميمة؛ ولكنه يكشف في آن واحد عن أبديتها، ولانهائيتها. قصيدته احتفاء بالعالم، وانشاد لاينتهي...

وهذا الحوار محاولة للتكشف والتعرف.

* لماذا القصيدة؟

ـ محمد الغزي : من خلال الكلمات أريد ان استعيد دهشتي الاولى، اريد ان استعيد غرابة العالم من حولي. اريد ان اضفي اسماء جديدة على هاتيك الاشياء القديمة... من خلال الكلمات اريد ان التقي بالطفولة، والشّده، والفضول. كل ما حولنا غدا منمطا مرقما مشيّئا. كل ما حولنا غدا أليفا عاديّا. بالشعر وحده نستطيع ان نهز قشور العادة والالفة. نستطيع ان ننضو ثياب الاشياء ... بالشعر نستطيع ان نكون نشازا في ايقاع القطيع الكبير الذي يمثله الآخرون. بالشعر نستطيع ان نكون نحن، لا الآخرين... بالشعر نلتقي بأنفسنا المنشطرة وذواتنا المنقسمة. لهذا اعتقد ان عملية الخلق والكتابة هي لحظة افلات من قبضة العادة والالفة، من قبضة النظام؛ لهذا تبقى تلك اللحظة لحظة حميمة كالجنس والحلم والرحيل..كل مجتمع يفترض ان الناس جميعا متشابهون، لهذا سن قوانين للناس جميعا، واخلاقا للناس جميعا، وشرائع للناس جميعا., انه لايؤمن بالتفرد، بل قل انه يفزع من التفرد. وكل من تفرد غدا في عرفه مجنونا او مجرما، وحقت عليه اللعنة. لذا حين ادخل دغل المجتمع ارتدي قناعا يغطي ملامحي وقسمات وجهي واخلاقي وشريعتي حتى استطيع ان التقي بالآخرين، واعيش مع الآخرين، واعمل مع الآخرين.. ولا اخلع هذا القناع الا حين اكتب... حين اكتب اكون أنا.

* وماذا تمثل هذه القصيدة؟

ـ محمد الغزي : القصيدة هي استعادة "لسلطان الحلم" كل شيء حولنا قتل فينا هذا السلطان وجعلنا غير قادرين على الحكم. كل شيء حولنا قتل فينا ارتعاشة الطفولة وفرحها الابيض. حتى اطفالنا لم يعودوا اطفالا.. أنا متيقن من ان اطفال اليوم لايعيشون طفولتهم.. لقد اصبحوا بؤساء مثل الكبار...ويجيء الشاعر ليعيد مملكة الحلم، ويبشر بمملكة الطفولة، الطفولة الدائمة.. الشاعر يبث الحقيقة.

* الملاحظ في الخطاب الشعري العربي: غنائية ممتدة على زمن لاينتهي. بماذا تفسر طغيان الغناء؟

ـ محمد الغزي : كثيرون هم الذين تصوروا ان الغنائية مرض الشعر العربي وداؤه الكبير. وكثيرون هم الذين تصوروا انها السبب المباشر في انتكاسة القصيدة العربية الحديثة. لكن الكثير من اولئك تفطن الى ان الغنائية خاصية من خصائص الشعر العربي، بل الشعر الشرقي عامة فكل آثار الشرق الشعرية: "الهاي كاي" الياباني، ونشيد الانشاد العبري، والتآو الصيني ورباعيات الخيام الفارسية، وشعر المتصوفة العرب... كل هذا التراث الكبير غنائي، بل مغرق في غنائيته... وعندما كان النقاد العرب يناقشون في الستينات غنائية الشعر العربي كان "اراغون" يكتب رائعته "مجنون الزا" بأسلوب غنائي شرقي مترف. كل عاشق كبير غنائي بالضرورة, وقد كان الشعر في الشرق ولا يزال مرتبطا بالعشق والوله والجنون.. انظر حولك تجد كل عشاق العالم الكبار غنائيين: اسنين، لوركا خمنيث، طاغور...

* هناك تفسير آخر يقول ان بنية الثقافة العربية لاتفرز الشخصية التراجيدية، وبالتالي تلاحظ غياب الشعر الدرامي..بماذا تعلق على هذا الكلام؟

ـ محمد الغزي : حين يقف الانسان مرتبكا امام سؤال او بعض اسئلة تبدأ الدراما.. قد يكون الانسان هو الذي طرح ذلك السؤال، او قد يكون الكون او قد يكون التاريخ..الدراما تبدأ حين يتساءل الانسان. لكن ملاحظة ان ادبنا العربي لم يطرح اسئلة بقدر ما برر أجوبة، هذه الاجوبة بعضها ديني وبعضها اخلاقي وبعضها اجتماعي.. قليلون هم الذين ثاروا على هاتيك الاجوبة وتمردوا عليها.ان الاديب العربي القديم نظر الى العالم مكتملا، والى الانسان مكتملا، والى المجتمع مكتملا. لهذا قضى العمر يمدح هذا الاكتمال والكمال. والشعراء القلائل الذين استبدلوا الاجوبة باسئلة رفضهم ادبنا وطاردهم.

* لماذا بقي الشعر التونسي داخل الحدود؟ لماذا في الاربعين سنة الاخيرة لا نكاد نظفر باسم شاعر تونسي لمع كالسياب في العراق، او عبد الصبور في مصر، او خليل حاوي في لبنان؟

ـ محمد الغزي : أتساءل قبل كل شيء: هل هناك شعر في تونس؟ في اعتقادي، لا وجود لشعر في تونس.. ولأنه لا وجود لشعر تونسي بقي القليل الذي يكتب داخل الحدود. ما زلنا في تونس نخوض قضايا ميّتة، ما زلنا نقسم الشعر الى تقدمي، ورجعي؛ مازلنا نتصور ان التغني بنضال العمال يخلق منا شعراء. ما زلنا نتصور ان النوايا الطيبة تخلق شعرا طيبا.. ان الفكر في تونس مأزوم، والشعر كذلك.

* الملاحظ ان المدونة اللغويةة (Le corpus liguistique ) في المغرب العربي عامة تراثية وشبه دينية، وبالتالي ظل الخطاب الادبي بعيدا عن الحداثة.. لم يخترق هذا الجدار اللغوي. ماذا ترى؟

ـ محمد الغزي : اعتقد مثلك ان المدونة العربية بقيت في المغرب العربي تراثية دينية. اي ان الفكر بقي تراثيا دينيا. وهذا يعود الى أسباب تاريخية لعل أهمها ان التغلغل الاستعماري كان اكثر نفاذا في هذه الارض. فكان رد الفعل التراثي الديني اكثر حدة مما كان عليه في الشرق العربي. وباسم التراث والدين قامت كل الحركات التحررية في المغرب العربي - وقد كنا نسمي مناضلينا مجاهدين- فلا غرابة في ان نبقى الى اليوم نحيا داخل هذه اللغة التراثية...لكني أتساءل: هل الحداثة تعني القطيعة الابستيمولوجية مع التراث؟ اعتقد ان الحداثة هي استمرار للتراث بوعي تاريخي جديد، وفكر جديد ولغة جديدة.انظر الى الادب الغربي تجده امتدادا وفيا للحضارة الاغريقية اللاتينية. ألف وشيجة تشد سان جون بيرس الى ملاحم اليونان القديمة، الف علاقة تشد "اراغون" الى الشعراء الجوالين.

* من اي المناخات الشعرية تنبع؟

ـ محمد الغزي : لا أستطيع ان احدد هذه المناخات، قد يكون كبرياء مني او مكابرة.. المهم ان لي هاجسا اريد ان ابوح به اليك وهو أنني اسعى الى ان تكون قصائدي مناخا شعريا متفردا، اريد ان ابقى صوتا متوحدا.

* هل نجحت؟

ـ محمد الغزي : لست ادري لكن هذا هو حلمي.

* لكل شاعر اساطيره واسراره. اي اساطير عندك، اي اسرار؟

ـ محمد الغزي : الطفولة وحدها تبقى الاسطورة والسر، انها قصائدي التي كتبت، وقصائدي التي سأكتب. وككل الاساطير والاسرار لاتتجلى لي الا في الليل. يأتي ابي من بيت غربته، وتأتي اختي، وتأتي ثيابي الاولى، ويأتي منزلنا الاول، وفوانيس الشارع القديم، وعنزات الحي الهرمة وتتخلل في جسدي، ولا تخرج الا مع خروج الليل. لأن الطفولة مازالت تسكنني اكتب الشعر.
ذات يوم خرجت من خيمة الطفولة وكنت اعتقد ان العالم شعر. غير اني وجدته نثرا مفككا ورديئا.. لهذا عدت من جديد الى تلك الخيمة، لأنني اعتقد انها خيمة الفرح والحقيقة.


إقرأ أيضاً: