حاورته: حنان عاد

شوقي أبي شقرا"دائما اخربط الأمر والكؤوس/ وأهز الكلمات من النشوة"، على خلفية صوت شوقي أبي شقرا هذا أصغيت إليه، موقنة أكثر فأكثر قدرة هذا الرجل على ترويض اللغة وتطويع القصيدة. يكفي ان نتلفظ باسمه حتى تكاد القصيدة الحديثة تبتسم له عرفانا ببهاء وأناقة وجمالية عالية لطالما سدلها عليها بكل ما في قلبه وعقله وخياله من شغف باللغة شعرا ونثرا على حد سواء. كيف لا وهو في طليعة رواد الحركة الشعرية العربية الحديثة ومن أكثرهم جرأة على اللعب باللغة والصورة والخيال؟ وأي لغة مع شوقي أبي شقرا وهو "حدادها" العتيق الأصيل؟ انها معه دوما اللغة الملِكَة والملَكَة، تلك التي رفعها إلى مرتبة الروح الحية، فما كان منها إلا ان رفعته سيدا على حرير عرشها. أما قدرته على الخيال فيقاربها على انها حصانه الأسطوري، ذلك ان نصه موسوم دوما بمناخ لا يخص سواه، هو ذاك المزيج الساحر من الفانتازيا والغرائبية الملغّزة الجميلة، تضاف إليهما مهارة النقر على وتر المفاجأة والإدهاش. لكن هل يكفي القول انه شاعر الدهشة والغرابة والجدة الدؤوبة؟ أم انه أيضا أبو الصحافة الثقافية بامتياز؟ أم انه وخاصة سيد النثر الذي خاض طويلا بقلمه الأحمر (عبر هذه الصفحة بالذات) أنبل معارك الكلمة لحملها إلى الأجمل والأبهى؟
حلقة "الثريا" مجلة "شعر"، الصفحة الثقافية في "النهار"، كلها منارات تغييرية عالية كان فيها لشوقي أبي شقرا. الحضور الريادي والمشع حتى الإبهار، لكنه في الوقت عينه الحضور المغلّف بصمت وسكون طالما اتصف بهما.
على عالم الشعر اطلّ بباكورته "أكياس الفقراء" التي لا تزال منذ صدورها عام 1959 مختمرة بثرائها تتجوهر، وترن بمعاناة الفقدان المبكر القاسي للحنان الوالدي. ثم كرت السبحة في "خطوات الملك"، "ماء إلى حصان العائلة"، "سنجاب يقع من البرج"، "يتبع الساحر ويكسر السنابل راكضا"، "حيرتي جالسة تفاحة على الطاولة"، "لا تأخذ تاج فتى الهيكل"، "صلاة الاشتياق على سرير الوحدة"، "ثياب سهرة الواحة والعشبة"، "نوتي مزدهر القوام". ولعله في مساره الطويل الممتلئ لم يشأ تنازلا عن البعد الريفي في شخصه ونصه، وتحديدا عما يمكن ان يرمز إليه من عودة إلى المناهل الأولى الأكثر نقاء وشفافية وأصالة. ومن هنا ربما تشبّثه بالريف فسحة طمأنينة لا ينفك ينهل من صعترها وكرومها ما يعوض مناخات الكآبة والعزلة والقسوة. بل كأن ريفا داخليا لا يبارحه حتى اللحظة، به يحارب في الحياة كما في القصيدة، صحارى الخوف والوجع والقبح.

حصاد وفير وثري شاعرا وصحافيا وثائرا تحلو له صفة "المخربط". أكثر من أربعين عاما أمضاها يحمل في سخاء وحب نادرين الماء إلى حصان الكلمة، فشارك منذ الستينات في بناء المشهد الشعري والثقافي الجديدين، في لبنان والعالم العربي. ومع صدور مجموعته الشعرية الأخيرة "تتساقط الطيور والثمار وليس الورقة" لدى "دار نلسن"، ها هو يشرع لهذه الصفحة التي عرفته وعرفها، أبواب ذاكرته وقلبه وروحه فيطول الكلام ويحلو ويضيء.

- ارجع بمودة وايناس إلى باكورتي في دار مجلة "شعر" عام 1959 "أكياس الفقراء" التي كانت الأولى في خطواتي والأولى في انها كشفت وجها في ديباجة الشعر العربي الحديث لست سوى صاحبه ولست متكئا على احد ولست إلا متيقظا وأنا فيه للصور والمعاني الجديدة، وهي كانت أشبه بنذير وأشبه ببشارة انه ولد صبي وسميناه على اسم الفقراء ونحن فقراء بالطبع، لسنا مالكين ولسنا أغنياء ولسنا من جماعة الملعقة الذهبية وإنما شأننا والقلم، وكان هذا القلم وحيدا بين يدي وبين أصابعي، وكتبت به تلك الباكورة في تلك المرحلة من زرع الجديد وكذلك مرافقا مطالع التجربة الجديدة العامة في الشعر العربي الحديث عبر "شعر" وقبلها عبر حلقة "الثريا" التي أسسناها في 1956، وانقضت ليس مسألة الحلقة التي خرجت منها ورحت طالبا المغامرة في مجلة شعر. والكتاب الأخير "تتساقط..." هو مثل حجر الزاوية في القنطرة اللبنانية أي إنني صنعت وعمرت قنطرة ترادفت فيها الحجارة المقصبة. وكل ديوان وليس الأخير وحده كان كأنه الحجر الأساسي والرئيسي ولا بد منه لكي تبقى القنطرة إياها. وكلما مضى الوقت ظهر جمالها وظهرت المتانة في بنيانها وظهر أخيرا اكبر أمر واكبر شأن وهو إنني أظهرت بلادي، اذ استقيت منها وارتويت منها، وكل ما فعلت منذ الستينات إلى أوائل القرن الحادي والعشرين، ذلك كله في سبيلها. وإيحاءاتي انطلقت من هنا، من جسدها ومن شجرها ومن ناسها ومن أماكنها التي كأنها رسوم فولكلورية وكأن الوقت لا يستطيع ان يمحو شيئا منها مهما تبدلت الايام وتراكمت وتدافعت السنابك واشتدت العواصف، أي عاصفة، ومهما اشتد الربيع، أي ربيع، بل قولي كل الفصول.

* كتابك الأخير ينقر على وتر التجربة الإنسانية أكثر منه على وتر اللغة واللعب بها. كيف تفسر ذلك؟

- معك حق في أنني موجود هنا في هذا الكتاب وجودا إنسانيا عميق الغور وطالما لا يشبع من ذلك، بل يجوز القول ان الإنسان هنا هو أنا وهو غيري وكلانا في تجربة مريرة وفي نوع من الخميرة الحزينة التي هي في أساس الكتاب بحيث كأنه مثل الرغيف وحيث القصيدة تنتفخ بخيلائها ويخصبها التعبيري، وكل ذلك طلبا لاحتواء المرارة التي تهمني والتي من خلالها نظرت إلى عالمي الشعري وجئت به كاملا ليكون العسكر الحارس وفي الوقت نفسه العسكر الذي يقوم بواجب الكلام عما بي وعما بنا وحيث تتلاقى الوجوه بعضها مع بعض وحيث تمتد الديباجة الفنية لتقبض على الجديد وعلى الإنساني وعلى ما بين السطور من فاجعة أو من مصاب أو من أتراح خفية، ولذلك يحوي هذا الكتاب ما لا يحويه سواه من حيث الغنى والتوزع على مسرحي في جميع الأدوار من ملك وملكة وأمير وأميرة ومن مملكة يهدر فيها الشجن ويطل الدجى أكثر مما يطل الصباح وحيث لا أنام قرير العين، وإنما المساء مساء كثيف والليل ليل كثيف والحزن حزن كثيف. كل ذلك بأدوات ذهبت فيها إلى اقصاي، وسرت غير هياب إلى مغارة الحزن وبدلا من صناديق الذهب عثرت على صناديق غنائية تتغنى حتى بالخيبة، بل حتى بالفشل. وبكلمة، كأنني في حال التطهر. تطهرت في الكتاب الأخير على مدى نحو مئتي صفحة، وأحسني الآن مستغربا كيف استطعت ان استعمل الأدوات التعبيرية كلها لتحمل هنا، ودورها كالعربة، كل مفرداتي القائمة على كنوزنا اللغوية المحكية والفصيحة وكنوزنا اللفظية بحيث جلوت الكلمة العادية ونقلتها من حال إلى حال، من مألوف إلى غير مألوف، فاللغة عندي في هذا الكتاب قامت بواجبها هذا ونقلت المناخ الصحيح الذي شئته ان يكون اقرب إلى الفاجعة مما إلى كوميديا إنسانية تحتمل الضحكة والدمعة معا.

كتابة تتزيا بالهوى

* أراك تتكلم حتى هنا في طريقة مجازية جدا. هل مجازيتك لغز محتمل من الغاز نصك الشعري والنثري على حد سواء؟

- بلى، هناك مجاز واستعارات ولغة كأنها مثل المرأة المتأنقة لا تخرج حتى إلى مسافة قصيرة من دون ان تتكحل وتتبرج، وقرأت ان بول اليري هاله مرة ان الوضوح ساد نصه ذات مرة فغضب وقال: يا جماعة قتلني الوضوح. وأنا هنا، افعل هذا طبيعيا، وارى ان كل عبارة في شعري أو في نثري يجب ان تكون كالمعلم الذي كاد يكون رسولا ويحق له التبجيل. وارى ان الفن عامة يحتاج إلى غلاف ما، إلى قناع ما، ليحق له الظهور على المسرح، وكذلك الكتابة لا بد من ان تتزيا الهوى كما يقول المتنبي، وان يبين على وجهنا ما أعتبره الغلاف الرقيق، الغشاوة اللطيفة، ولا بد من كليهما في النص ليكون قابلا للحياة، أي للبقاء في ما بعد، إلى آخر المرحلة والى آخر العمر والى ما بعد. هكذا كان الأمر في الفصاحة عامة، وفي البلاغة وفي كل التعاليم الجمالية. وأضيف إلى هذه الضرورة الضرورية حركة النص في ذاته، أي كونه لا يقف عند حد المجاز أو عند حد الاستعارة لأن الأمر لا يقتصر على هذا الحد ولا يقف ههنا كجلمود صخر، بل يجب ان نعرف ان كل ما قلت عنه، عن هذه المجازية وهذه البلاغة، يجب ان يكون في النص ما يدعى الموسيقى التي تجمع هي في ذاتها وتلك النواحي التي تحدثنا عنها لتكون هي السبب في النجاح، أو في عدمه، أي ان كل كاتب في عصرنا وكل شاعر وكل فنان، لا بد لهم جميعا من حركة موسيقية، من موسيقى ذاتية فيقال هذا الكاتب له موسيقاه وله مجازه وله استعاراته.

* هل أنت اليوم أكثر إصغاء إلى قصيدتك أو ما يسمى الإلهام الشعري بعدما "تحررت" من ثقل العمل الصحافي اليومي؟

- بالطبع اذكر هنا، ويا للتناقض ويا للمفارقة، أنني في عملي الصحافي الذي طال أفقيا وعموديا ولاسيما في مجال الثقافة أنني لم أضق بكوني كذلك وبكوني في معمعة العمل كي لا يقال مثلا أنني مغلوب على أمري وإنني لا استطيع ان أنتج قصيدة حين الغلبة هي للكثرة وللأعباء الباهظة والشديدة الوطأة. إذن، في تلك المعركة من العطاء أو عدمه كان كتابي "صلاة الاشتياق..." الذي صدر عام 1995 لدى "دار رياض الريس"، والذي خرج من الفوضى ومن عراك مع الكلمات كل يوم ومع العبارات كل يوم ليكون كتابا راقصا وبرهانا على ان للكاتب طقوسه وقواعده في العطاء وفي العمل وفي ان يتجاوز نفسه إلى طبقتها العليا، طبقة الإبداع...

* لكن ليس في إمكان الجميع بلوغ تلك الطبقة.

- أظنني ارجع هنا إلى دانتي والى دوائره في الجحيم، وأعود بصريا إلى ذلك التقسيم عنده، وارى ان الموهبة تنتشل نفسها بنفسها وترتقي إلى الدائرة المضيئة كأنها على موعد مع قدرها، فلا هبوط إلى القاع، لكن ان لم يكن أمرها منوطا بالأعلى وما فوق فعلى الأقل لا تغرق في الوحل ولا تموت باكرا. إذن، منذ ذلك الكتاب الراقص حيث تمددت التجربة عندي إلى أقصاها وتنوعت في مدارها واختلفت قليلا عما سبق لي من عطاء، منذ "أكياس الفقراء" إلى "خطوات الملك" إلى... وسار بي الأمر إلى ان كنت متوازنا بين عملي وبين كتابة نصي الخاص تباينت الكتابة في ما بعد. وكما قلت لك تمددت التجربة فإذا هي وبين المشاغل والمصاعب والعراك مع الجملة كل يوم ومع الصحافة التي تتطلب العناية والواقعية وما يندرج في الأشياء العابرة بحيث ان هذا التمدد فاق الارتباطات والروابط الأخرى وظلت التجربة حية، وإذا بالقصيدة التي اكتبها في "ثياب سهرة الواحة..." وما تلاها، خرجت من الأسر، ومن المياه الساخنة، من التراب حيث لم يكن ممكنا ان تخرج لولا همة الشاعر ولولا انه ممتلئ بالثمار ولذلك تساقطت عليه هي والطيور، والورقة ظلت الورقة لتلعب دورها ويحوي كل الحصاد.

الدور واللغة والبلاغة

* هل نتكلم عن قلمك الصحافي وما يحكى عن سخائه في التعامل مع نص الآخر، وقد ينسرح هذا الكلام على دورك في مجلة "شعر"؟

في "شعر" كان لي دور حاسم تحدث عنه محمد الماغوط في مقالة له حديثا فقال ان شوقي أبي شقرا كان مرشدنا اللغوي والجمالي. واذكر هنا أنني كنت بعد في مطلع العمر العشرين، ومع ذلك كانت لي حكمة الشيخ أو حكمة البلاغة العربية المعروفة وحكمة التراث اللبناني القائم على وجوب أن تكون الكتابة مصقولة كل الصقل وأن تكون مهيوبة كل الهيبة. وفي مجلة "شعر" كان ذلك الدور موافقاً ليوسف الخال لأنه كان على رأس التجربة الشعرية الحديثة أو على رأس المجلة التي جاء بفكرتها من أميركا وكان على علم بأن عزرا باوند كان يعمد إلى الصقل والى مراجعة القصائد والى أنه ذات مرة راجع قصيدة الأرض اليباب لإيليوت وعمد إلى حذف الكثير منها، عملاً بأن النص الشعري، ولاسيما التجربة الحديثة منه يجب أن تكون مزدانة بالعنف من حيث الصقل والقبض على الحركة الداخلية في القصيدة والقبض بكلمة واحدة على موسيقاها وجماليتها التي يجب ان تكون ملاصقة لها بحيث لا يغني هذا عن ذاك ولا تلك عن هذه. ولأن يوسف الخال صحافي أيضاً ومتفهم للصحافة ولفن الإخراج، كان كأنه ينتظر شخصاً مثلي ليقوم بدور هو صدى لما اعتمده أهل التجربة الحديثة في الشعر العالمي، فوجد ضالته في أنني شاعر أقوم بهذا الدور وقوامه وجوب أن تخضع القصيدة للفحص الدقيق ولعملية صقل حتى جلاء جسدها واختزاله في طريقة بلاغية ليست كبلاغة الأقدمين وإنما هي بلاغة مرافقة للتجربة الحديثة وصنو لها ومنقذتها من الموت. إذن، كان هذا دوري في مجلة "شعر" حتى أنني كنت أحسم ما يجب نشره وما يجب ألا يُنشَر، ذاك أن القضية قضية بقاء فلا يمكننا أن نترك القصيدة الطامحة إلى التعبير الجديد، عرضة للعثرات اللغوية ولبيان فقير ولبلاغة ليست منتمية إلى البلاغة الجديدة وإلى عالم التجربة الجديدة التي نحن في صددها. وكان أنني نقلت دوري هذا إلى الصحافة، بل نقلت كل الاندفاع والحماسة إلى المهنة الصحافية جملة، وكان أننا في مطالع الستينات كنا نفتش بل كنت أفتش عن دور آخر غير أسبوعي، عن دور يومي، وإذا بي أجد أن الصفحة الثقافية في "النهار" هي ما يلائمني، وطلبت إلى مدير التحرير آنذاك الأستاذ فرنسوا عقل صفحة فارغة بيضاء، وكان أنني نلتها وسميتها الصفحة الثقافية. وانطلقت من وقتها لتكون المنبر والمرآة والمصهر الذي فيه تلتقي النصوص كل يوم، وهذه النصوص كانت تمر تحت قلمي وكنت أفعل ها هنا من أجلها كل ما كنت أفعله في مجلة "شعر" وفي حس مهني يلائم العمل اليومي الذي يجب أن يذهب إلى الناس وأن يقرأوه وأن يحصلوا على المتعة الكاملة من خلاله وعلى الفائدة التي يجب ألا تغيب عن بال أحد. وهذا الدور مارسته سنوات تلو سنوات وكانت اللغة نقدية تجري في سياق من الحقيقة ومن الخيال ومن ضروب التقويم حتى العثور على الحجر البرّاق في النهاية، على شعاع لا بد منه في أي مجال، ولاسيما في الصحافة اليومية التي مع ذلك، وإن يومية، كانت تغتني بما نكتب وبما نرسم وبما نقدم إلى القارئ من أمور جميلة ومن ألوان أقرب إلى النضارة الحقيقية مما إلى ما هو عادي.

* بدأت من "أكياس الفقراء". هل ثمة أكياس أخرى تود امتلاكها بعد؟

-"أكياس الفقراء" ضربة لامعة في سياق نصوصي والأخص في هذه الضربة أنه يتكلم عن ناس هم فقراء حقاً لكن أغنياء، ذاك أنهم كانوا أبطالاً في الحقيقة ومواطنين من الدرجة الأولى وفلاحين من الدرجة الأولى وإن غلب عليهم الاسم الذي يقول إنهم فقراء. هؤلاء الذين أحكي عنهم هم جدودي والناس الذين كبرت بينهم، وكنت فقدت الوالد في حادث سيارة واضطررنا بعدئذ إلى الانتقال من مكان إلى آخر، وأن نذهب إلى ضيعتنا ومسقطنا مزرعة الشوف، وهناك صادفت جدودي في البيت الأصيل الذي تركوه لنا، وكان معمارياً من أنجح البيوت وكان حجره من أجمل الحجارة وكانت الجسور فيه متينة، أما السقف وإن نزل منه ذات مرة الماء فإننا وضعنا له قصل التبن حتى يكف شر المطر عن النزول على رأسي. هؤلاء القوم ليسوا فقراء في المعنى الحديث المتداول، إنما ما يحصلون عليه من مال كان ضئيلاً، وكنتُ كل صيف حين نرجع إلى الضيعة أحس بأن أمر المال ضئيل وبأن الحياة تسير في بهائها ولو ليس معنا درهم في الجيب. وكنا كلما صعدنا إلى فوق يأتينا الزوار ونفرش المائدة للضيوف، وكنا آنئذٍ نحن الأغنياء والآخرون الفقراء، أي وإن كنا فقراء بالاسم إلا أننا أغنياء في الحقيقة.

الشعر والمجالات الإنسانية

* بعد مسيرة طويلة مع الشعر، هل بات في إمكانك تحديد مَنْ هو الشاعر عامة ومَنْ الشاعر الذي أنت هو خاصة؟

-الشعر الذي بدأت به آخر الخمسينات وما زلت أتابعه حتى مطالع هذا القرن ينقسم شكلين، شكل فيه التفعيلة وبعض الوزن كما في "أكياس الفقراء" و"خطوات الملك"، وشكل يعتمد الحرية في الكتابة، وكما قلت من قبل يرتدي موسيقاه من الحرية الذاتية ومن التبصر في ما حوله وكونه يعمل ويضيف ويخلق ما يستطيع خلقه في وجوده. هذه الحرية في الكتابة أوصلتني إلى مجالات إنسانية حتى لم يبقَ شيء من العاطفة أو من الفكاهة و من الحزن أو من الفقر أو من الغنى إلا جئت طارقاً بابه وفعلت ما فعلت معه. والأقوى هنا أن بعض الشعراء تراجعوا عن التجربة الحديثة وعن التجربة الإنسانية تالياً ليجعلوا قصيدتهم تقع في الوزن ثانية وفي التفعيلة دائماً، بينما كان الأمر لديّ غريباً بعض الشيء، إذ أخذت التجربة إلى آخر مشوارها وكرست النطق بها ليكون نطقاً حراً خارج الوزن وخارج التفعيلة، وهذا أعتبره مساهمة ذاتية أقل ما فيها أنها شديدة الغنى وأن غنائيتها تمر على كل شيء ولا تخضع في النهاية سوى لقياس الحرية وفاء لما بدأنا به من تجربة شعرية رائدة فلا يجوز ونحن في منقلب العمر وعلى مقربة من المغيب أن نترك المنجزات تلك وأن نلعب في آخر الشوط لعبة تنقض ما علينا من مهمة نبيلة، وهذا ما حدث في "تتساقط الثمار" حيث كما قلتِ لي تزدان التجربة بأنها إنسانية وبأن أنفاسها تلائم الوجع الذي يصيبنا كلما اقترب الشعر من الغياب، وتلك حال أي شاعر، وأظن أن كتابي الأخير برهان عن الكشف العاطفي أكثر مما هو كشف لغوي.

* مقلب آخر نقلتني إليه الآن هو تلك "المعركة" التي تبدو إلى لانهاية بين القصيدة الأصولية والقصيدة الحرة.

- ليست كل قصيدة على الوزن بالضرورة قصيدة يجب أن تحفظ وأن تكون هي شعراً، بينما القصيدة التي تخرج من ذاتها إلى الحرية بالضرورة قصيدة يجب أن تحفظ وأن تكون هي شعراً، بينما القصيدة التي تخرج من ذاتها إلى الحرية بالضرورة قصيدة خائبة. وكذلك ليست القصيدة الحرة بالضرورة جيدة، وهنا معركة لا تنقضي وسؤال لا ينقضي، وكل ما في الأمر أن مَنْ عنده قصيدة خارج الوزن وتملك موسيقاها في الكتابة وفي البلاغة وفي فصاحتها الكاملة هي قصيدة ناجحة وقابلة للترجمة إلى سائر اللغات، ولاسيما القصيدة المتينة، وقدرها أن تُقرأ ليس في لبنان والعالم العربي فحسب إنما أن تُقرأ مترجمة وأن تطل بحلّتها المعنوية وبحلتها الشكلية إطلالة لا تقل عن إطلالة أي قصيدة جيدة أخرى، وأن تكون قابلة للترجمة في أي ظرف وفي أي زمان وأي مكان.

* الأرجح أن البعض سيرى هنا انفصالاً عن التراث والأصول.

- أكرر هنا أنني في "أكياس الفقراء" و"خطوات الملك" اعتمدت الأصول، وبين ثنايا الأصول اعتمدت الحرية والنضارة الشكلية والمعنوية، فليس ما يقال بعدئذ إنني منفصل وإنني من الخوارج. والكتابان قابلان للترجمة، والقصيدة الجديدة ليست حكماً مفصولة أو منفصلة. وهنا يجب أن نفتش كذلك عن القارئ الذي هو الأصل وهو الملك الذي يأمر ويقرّر أي قصيدة هي الأبقى. وأكرر أن من لديهم الذوق الأجنبي وأن كتاباً وشعراء باللغة الأجنبية إنما يبصرون الفرق بين قصيدة وقصيدة، وعلى الأخص بين قصيدة حرة تنضح بالعصارة وقصيدة تعتمد الوزن والقافية ولا موسيقى لها سوى الرنة التي تغش، ويصدق بعض القرّاء أنها حقيقية وفي الواقع ليست كذلك.

* أتراك ترجح كفّة الذوق الأجنبي على الذوق العربي؟!

- أقول هذا لأن الذوق العربي تعوّد من دهره ما تعوّد ومن التراث ما تعوّد، ولأن القارئ في الخارج احتك بالتجارب والنصوص من كل حدب وصوب يستطيع أن يحزر ما هو أصيل وما هو غير أصيل وما يجب أن يترجم وما يجب ألا يترجَم، والقياس ينطبق على القصيدة القديمة مثلما ينطبق على القصيدة الجديدة، وهذا ما يجب إتباعه وما يجب ن نحظى به، أي تدويل الشعر العربي وليس خنقه في مكانه وزمانه المحدودين.

* هل الحزن والخيبة والفاجعة، وفق تعبيرك، لازمة ضرورية في حياة الشاعر وتجربته العامة أم أنها وَقْفٌ على مرحلة معينة بلغها في الزمن؟

- غالباً ما يعمد أهل القلم والفن إلى تناول الحزن كأنه فاكهة بعد المائدة التي مُدّت وفُرِشت عليها كل أصناف المآكل والطيبات، وربما هذا ما اكتشفته عندي إذ تخلّيت قليلاً عن الفكاهة وعن اللعب بالمعاني لأكون بين المدعوين إلى تلك الفاكهة. وهكذا حالي هنا، إنها مرحلة وكتبتها مزداناً ببعض الطعنات والنصال ولا بأس فالحزن في الكتابة أجمل من سواه وهو مثلما يُقال كالأندلس إذ كل واحد تضيع منه أندلسه ويحظى بالخيبة وبالدمعة التي تتنزل عليه وتحرقه قليلاً حرقة لا تنقضي.

* ختاماً، ما سرّ كثرة الخيال والفانتازيا الغرائبية في نص شوقي أبي شقرا سواء كان شعراً أو نثراً؟

- منذ البدء امتلكتُ خيالاً سمعت عنه مديحاً في ما مضى حين صدر كتابي "سنجاب يقع من البرج..."، وقال مَنْ قال إننا ننحني له أشد انحناء، وما زلت أملك هذا الكنز الذي يأخذني وينداح بي إلى درجة هائلة من العفوية المتماسكة، بل إن خيالي هذا حصاني الأسطوري ولا أحتاج إلى أسطورة سواه، ولست إلا شاعراً لم يفعل مثلما فعل بعض الشعراء حين لجأوا إلى الأسطورة الثقافية. وهنا تعويضي الباذخ أنني من أشياء صغيرة ومن أشياء كبيرة في بلادي وفي ذاتي جئت ودهنت بالميرون جبين خياليّ ورحت إلى أجلّ المطارح وارتقيت بعالمي من واقعي إلى خيالي إلى أسطوريّ، وكل ما هنالك أنني خلقتُ رموزاً من عصري وليس من ثوب مجلوب.

النهار
6 مايو 2005


أقرأ أيضاً: