عقل العويطعقل العويط شاعر لبناني متميز عكف في معظم أعماله الشعرية علي دفع القصيدة لتكون فضاء للتأمل في الذات والكون مستخدما في سبيل ذلك لغة تنهل مما هو قدسي أو علي حافته.
لا يكتب قصيدة يومية ولا قصيدة تفاصيل ويعتبر أن ذلك يحرره من أثقال الخارج.
هنا حوار معه لمناسبة صدور عمله الشعري الجديد سراح القتيل عن دار النهار في بيروت.

* عقل العويط، أنت شاعر، ولك ثمانية دواوين شعرية. لك خصوصية أيضا. لماذا الشعر؟
كمن يسأل مشرفا علي الغرق لماذا ترفع يدكَ مستغيثا. أو كمن يطلب من القتيل ألا يلقي نظرة وداع أخيرة علي الحياة.

ستتعجب أيها الصديق الشاعر إذا قلتُ لك الآن في مطلع القرن الحادي والعشرين أن الشعر لا يزال لي بمثابة فعل خلاصي. وستسألني بتعجب وربما بذهول: أو يعقل أن يظل الشعر يحمل في الزمن الراهن هذا المعني الخلاصي والاعجوبي؟! وسأرد بما يشبه اليقين النهائي: لولا وجود الشعر ولولا كتابتي له، لما كنت اعرف ماذا سأفعل بحياتي. وبأي برهان وحجة كنت سأقنعها بالبقاء علي قيد الحياة!
هذا لأقول لك إني أعيش لأجل الشعر لأنه، مع الحب، مهنتي الوحيدة في هذه الحياة.
ستسألني بالطبع عن الحياة اليومية، وعن الأصدقاء، وعن الأهل، وعن الذهاب الى العمل، وعن الصحافة، وعن الوطن، وعن السياسة، وعن الهموم والتفاصيل الاخرى. نعم، إنها حياة عادية لرجل عادي يعيش في بلاد جميلة وحزينة بل قتيلة. لكن ما العمل؟ عليّ أن أحيا حياتي وان احبها، وان أتفاهم معها، كي تستطيع هذه الروح، كي يستطيع هذا الجسد، وهذه الحواس خصوصا، ومعها العقل الباطن، أن تنتقل بين هذه الضفة وتلك، لاحتضان ما يستعر في بئري وفي عقلي وفي يدي هذه من حرائق وبروق ولعنات. أعني لكي أستطيع أن اكتب ما يجب عليّ أن اكتبه. الآن وغدا. لماذا الشعر؟ وسأجيب فورا: لأني إذا لم اكتبه فسيقتلني مرتين. مرة لأنه الشعر وهو قاتل حقا، ومرة اخرى لأنه إذا ظل هاجعا في أعماقي ولم اكتبه، فسيرديني لا محالة.
هكذا أستطيع عندما اكتبه، أن أري موتي من حياتي هذه، وان أتطلع الى الغد الذي سيقتلني فيه من جديد.
ومادام هو يقتلني وأنا قتيله في حياتي الشعرية، فلماذا عليّ أن اتخلى له عن حياتي.

* الفعل الشعري لا ماضي له، والكلمات التي تشكله لها كيانها الخاص وديناميتها الخاصة. أنت كشاعر كيف تعيش حالة الانبثاق الشعري، وكيف تتمسك تاليا بجسد الكلمات لتكتبها؟

ما ان ادخل الى الغرفة حيث اكتب، أي ما ان اخرج من العالم الأول الذي هو عالم الحياة العادية، حتى أجدني حقا في عالم لا زمن له، زمن لا ماضي له ولا حاضر أيضا. ذلك لأن الشعر يُدخلني في زمنه الخاص. في زمنه المستقبلي الذي يعيش حياته في الكلمات وفي بيت جسدانيتها. آنذاك، يمكن للكلمات ان تنبثق بهدوء وسيولة وبلا إجهاد وبلا تصنّع، لأنها في حاجة الى الخروج، ولأنها تأمن العالم الذي تخرج إليه. فهي تأتي من وعاء العقل الباطن الذي يكون علي صلة وثيقة ببؤرة الضوء الماثلة علي عتبة الوعي.
ثمة كتابة اولى لابد منها. كتابة لا تعير وزنا كبيرا للقوام الذي ستتشكل فيه لأنها ستكون مادة أولية هي بمثابة شظايا تحتاج الى ان تندمل وتتماسك.
طبعا، أستطيع أحيانا ان أجد القصيدة مكتوبة في صورة شبه متكاملة من المرة الاولى. لكن هذه التجربة لا تحصل لي علي الدوام. فثمة حاجة لديّ لإعادة كتابة العالم الذي يفد اليّ من الداخل. ولابد من إعمال العقل لتكوين تلك البنية التي ستظل في حاجة دائمة الى مساءلة. وهذه تتحقق ضمن عمل دؤوب ومتواصل، الى ان تطلب مني القصيدة التوقف عن إجهادها. وهكذا.

* في شعرك الذي قرأته كله، كنت أتساءل: كيف استطاع عقل العويط ان يكتشف معناه عبر إضاءة علاقات بسيطة ومعقدة، مباشرة وغير مباشرة، مأخوذة من قراءات المحيط والذات معا، ليصل عبر ذلك الى تحرير تقنية الكلام. في هذا الإطار لا يكفي ان يبقي الكلام اليومي العادي هو التعبير فقط، إنما الكشف ايضا. وهذا لا يتم في المطلق فقط بل عبر وسائط الحياة اليومية التي يضيئها الأثر الأدبي. هل تكتب ما ينقصك أم ما يفيض عنك؟

أنا أتساءل معك ايضا: كيف أستطيع ان افعل ما افعله. كيف أستطيع ان احتضن هذه العلاقات البسيطة والمعقدة. هذه العوالم المباشرة وغير المباشرة. لكني اعرف تماما اني كلما دخلت الى عالمي الشعري، كانت الحقيقة الشعرية اشد وضوحا وتماسكا. عليك إذن ان ترافقني الى الداخل. الى العتمة. حيث يتعاشق البسيط والمعقد، المباشر وغير المباشر، الآني والمطلق، الداخل والخارج، تعاشقا لا فكاك منه. وكأنه فعل خلق جديد يقوم علي التوأمة بين عالمين لا غني للأول عن الثاني، ولا اكتمال لاحدهما دون الآخر.
نعم، ليس الكلام هو التعبير فقط. انه ايضا الاستقصاء والكشف. أي التوغل لولوج مواضع وأماكن، أنا نفسي لا اعرفها عن نفسي. هذه المواضع بالذات هي أمكنة خاصة جدا ومعتمة جدا، ولا تستطيع أي قراءة للآخر ان تكون اقوي منها. إنها أنايَ الأشد اقترابا من القعر، والأكثر شعرية وخصوصية. وعندما اذهب إليها، فهي تعرف أنها لا تستطيع ان تنوجد بحياتها الهيولية، وأنها في حاجة ماسة الى وسائط الحياة اليومية والمباشرة. وهذا أدق ما فيها، بل أصعبه. لأنه عليك ان تمسك بطرفي العالم وان تقيم الوشائج والصلات بينهما لترفع العمران، عمران العالم الشعري. عمران القصيدة.
هل اكتب آنذاك، ما ينقصني أم ما يفيض عني؟ لستُ ادري بالضبط. لكني أقول لك ان حياتي جامحة الى حد لا يوصف، واني كلما توغلت في أعماقي، ازداد شعوري بأن شيئا ما يجب ان يخرج مني. هو ربما مزيج من الفيض والنقصان. لكني لا أستطيع ان امنع حدوثه. واذا فعلت ذلك، فسيظل يراوغني ويعذبني ويغويني الى ان يخرج في قوام القصيدة. وعندما تنتهي مني القصيدة، أجد نفسي متسائلا: هل أنا الذي كتبتُ حقا ما كتبتُ، أم ان شخصا في أعماقي هو الذي تولي عني هذه المهمة. هذا لأقول ان من الصعب جدا الحديث عن الفيض والنقصان كما لو انهما خيار بين لونين ابيض واسود. العمل الشعري هو الإجابة الحقيقية، وليس مهما ان يكون فيضا أو نقصانا. المهم فقط انه يستحق الحياة.

* جملك في مجملها مشعة ومركزة. أحيانا اشعر أنها غير منضبطة داخل النسق، لكنها رغم ذلك توحي بالانسيابية والبساطة. القصيدة لديك غير منغلقة، تتصاعد بوتيرة وتتكثف. وأحيانا يصلني رذاذها وأنا أسير بين المعني والمعني، بين هذا التركيب اللغوي وذاك. أحيانا تضطرني بعض القصائد، وكثيرا من مقام السروة و سراح القتيل ، ان أطيل الوقوف لأنك تكثف لغتك وخصوصا في قصيدة غلطة الملاكين من ديوانك الأخير. المطر يأتي بغزارة في النهاية. كيف استطعت ان تمزج بسلاسة العارف الشغل المونتاجي علي اللغة مع الحركة الجوانية للمعني داخل القصيدة؟

تأخذ مني القصيدة وقتا كثيرا لكي تصل الى شكلها النهائي. وقد اكتبها مرة ومرتين والأكيد اني اكتبها ـ كما في الديوان الأخير ـ ست مرات قبل ان تجد بنيتها المقبولة مني. وفي كل حال، وبالنسبة إليّ، لا شكل نهائيا للقصيدة لأنها ستظل في حاجة الى إعادة نظر. القصيدة عندي لا تنتهي. إنها مشروع حيوي دائم. وهي ليست نسقية لكنها ليست شظايا أو غير منضبطة. ثمة إيقاعات روحية، متآخية ومتكاملة وصارمة، تسعي الى ضبط إيقاعات البناء وأنساقه. قد تكون القصيدة غير منغلقة تماما. قد تكون مفتوحة ايضا. لكنها متصاعدة ومتراكمة داخلا وخارجا في كثافات لا تستطيع ان تفصل بعضها عن بعض. كأن تقول: هذا المقطع يستطيع ان يشكل حياة شعرية قائمة بذاتها، وبالتالي يمكن فصله عن بقية العامل الذي ينتمي إليه. لا. القصيدة كل، وبعضها في حاجة الى بعضها، علي غرار النظرات التي يتألف منها قوام شبقي لا مفر من رؤية انسجاماته داخل أجزائه وعناصره. وفي الحالين معا هي قصيدة ذات قوام. فيها اقصى الانسيابية المشغولة والمقصوة، وفيها اقصى الانضمام بعضها من بعض. وهذان معا يؤلفان بنيان العمل الشعري لديّ.
تسألني كيف أستطيع ان احشد هذه الحركة الجوانية للمعني الى جانب الشغل المونتاجي؟ أقول لكَ ان هذا ينجم عن فعل تلاقٍ بين الجسد وروحه. وهل ثمة انسجام اشد رفقا من انسجام النظرة مع خفقات الباطن؟! هل اكثر اقترابا الى التكامل من شهقة وإطباقة نعم؟! وهل اكثر تصعيدا من لحظة العشق القصوى حيث يتلاقى اقصى الجسد بأقصي شغف الحواس، بأقصي الإيقاعات بأقصي أعماق الباطن؟!
هذا لأقول ان الخبرة التي أمضيتها في كتابة الشعر، وهي نحو من عشرين عاما، تمنحني لذة البحث عن بيت يؤوي هذا الحدس الشعري المقيم فيّ إقامة جحيمية لا حدود لها. أقول لك ايضا إني لا املك شكلا واحدا للقصيدة لأنها فعل اختبار دائم. لكن العمل شبه اليومي علي اللغة يعطيني ان املك طواعية التصرف بالحركات الجوانية لإيجاد أشكالها المناسبة. فأنا منقطعٌ للشعر في ما يشبه الترهب له، من دون ان يقطعني عن العالم. لهذا تراني اعرف الداخل والخارج، مثلما هما يعرفانني تمام المعرفة.

* الكلمة الشعرية هي كلمة حبلي بالصمت، كما لو إنها وُلدت ايضا من الصمت. أنا أري ان كلماتك تعبر حافية بصمت فوق عشب المعني. لماذا تترك كلماتك حافية وهي تخفّ الى غيومها؟

هذا لأقول لك كم أعرّيها من ضجيج العالم ومن صخبه وأصدافه وزوائده. ولأقول لنفسي ولك ايضا ولكل القرّاء الذين يملكون المعرفة والرؤيا ونعمة الدخول الى عوالم الشعر، كم اني ارغب في ان اكتب قصيدة صامتة، بيضاء، غيمية، لا تأخذ حيّزا كبيرا من الوجود لكنها تكتفي فقط بفعلها الداخلي والإيحائي. وهذا يكون اكبر حجما من بنائها وعدد كلماتها.
تقول ان كلماتي تعبر حافية. وهل أستطيع إلاّ ان اجعلها كذلك، وخصوصا عندما اكتب قصيدة حب أو قصيدة موت أو قصيدة حياة داخلية أو سيرة ذاتية؟ هل أستطيع إلاّ ان اتخلى عن إضافاتي عندما ادخل الى القصيدة محرَّرا من أثقال العالم، ومحرِّرا إياها من هذه الأثقال؟
أنا لا اكتب قصيدة التفاصيل والأشياء، ولا قصيدة العالم الخارجي. وهذا يمنحني القدرة علي التخفف من الأثقال. وكل اختباراتي الشعرية تسعي نحو هذا الهدف: ان اجعل من الصمت لغة وبيتا ومأوي للقصيدة. لهذا تري قصيدتي حافية وصامتة لأنها لا تريد ان تؤذي عشب المعني.

* هل تقرأ لشعراء عرب؟

لا افعل سوي ان اقرأ لغيري، وخصوصا لأهلي الشعراء العرب، أولهم وآجرهم، الأجيال الرائدة والأجيال الجديدة. وأستطيع ان أقول لك إني اقرأ جميع التجارب العربية تقريبا، من كبيرها الى صغيرها، من راسخها الى طفلها الذي يحبو لأني أريد ان أتعرف الى الآخر، ان اكتشفه، وان اعرف المكان الذي أقيم فيه لأحرّره من أي شاعر آخر.
ولا اكتفي بالتجارب العربية، بل أنا شديد الولع بقراءة الشعر الأجنبي، ولا أخفيك أني أحب الشعر الفرنسي، وخصوصا بعض كباره: شارل بودلير، ارثور رامبو، بول إليوار، مالارميه، لوتريامون، اندره بروتون، رينه شار، غيوم ابولينير، هنري ميشو....، فضلا عن الشعر العالمي المترجم الى الفرنسية. لكني في النهاية لا أتذكر أحدا منهم بالذات، وخصوصا عندما اكتب. انهم يذهبون عني عندما ادخل الى غرفة الكتابة، بل يهمني ان اقتلهم جميعا في تلك اللحظة لأعيش وحدي.

* عقل العويط، ماذا تقول في هذه الكلمات: الحب، المرأة، الجنس، الوطن، الحرب، الموسيقي، الحلم، العزلة...؟

الحب: أنا كائن عشقي، ولولا الحب لما كان من سبب بعد الشعر، لأحيا.
المرأة: الكائن الذي يقيم فيّ مثلما يقيم خارجي. ولولا هذه العلاقة التوأمية لما كنتُ قادرا علي تضمين القصيدة هذا القدر من الأنوثة للتخفيف من ذكورة الحياة والعالم. وأنا لا افعل سوي الغرق في المرأة لازداد منها وبها. أي لأصير ما أنا عليه، كائنا موجودا بالمرأة، وشاعرا موجودا بقصيدة أنوثتها.
الجنس: هو الشكل الذي يعلو فيه الحب الى قدس أقداسه وخطيئته. ولولاه لما كنتُ أريد ان أكون عاشقا ولا حبيبا. الحبّ عندي، هو ايضا وخصوصا فعل جنسي. وهذا لكي يصل الى اعلي قمة فيه والي اعمق الأودية.
الوطن: لن أقول لكَ ان وطني هو فقط القصيدة. وطني ايضا هو لبنان. وهو أرض تمنحني كل يوم سببا للحلم والموت والحياة في آن واحد. وهي ثلاثة من أركان الشعر والإقامة. وسأقول لك ان لبنان ينبغي اختراعه، إن لم يكن موجودا، لأن عطر الحرية الذي يفوح في إنحائه يجعلني أكثر إيمانا بضرورته المطلقة.
الحرب: موت يتجدد باستمرار في ذاتي وفي كل أنحاء الأرض.
الموسيقي: صوتي عندما أكون صامتا. أي ايضا عندما لا اكتب الشعر.
الحلم: الباب المفتوح علي مصراعيه، وهو باب مفتوح علي نوافذ رأسي وباطني ليخلّصني من المأزق، مأزق المحدود والنسبي.
العزلة: وماذا تراني افعل في حياتي سوي تكريم هذه العزلة. وماذا تراني افعل في شعري سوي عيش هذه العزلة، حيث اخترع حقا هو العالم الذي تأوي إليه القصيدة، وذاتي، وحبي. فهناك اعيش.

المصدر : جريدة القدس العربي


إقرأ أيضاً: