أجرت الحوار: خلود الفلاح- ليبيا

فاطمة ناعوتهل يفيد قولنا بأن الشعر هو روح الأشياء، وهو خروج عن رتابة العالم، صدى لانفعالات الشاعر في وجه البشاعة والتراكمات المعقدة والبحث عن الهواء والضياء.
والشاعرة فاطمة ناعوت تراهن على قارئ واع يفتش في تلابيب النص المحاول الإجابة عن كل الأسئلة المرهقة كسؤال الكتابة والحياة والحرية واللحظة الشعرية.
صدر للشاعرة في مجال الشعر "نقرة إصبع – على بعد سنتيمتر واحد من الأرض- قطاع طولي في الذاكرة – فوق كف امرأة"
وفي مجال الترجمة "المشي بالمقلوب – مشجوج بفأس – قتل الأرانب – جيوب مثقلة بالحجارة ورواية لم تُكتب بعد".
ولها تحت الطبع ديوان شعري "قارورة صمغ". وكتاب ثقافي "الكتابة بالطباشير في العمارة والشعر والحياة". وكتاب نقدي "المغني والحكّاء".

كان لنا معها هذا الحوار:

* لماذا الكتابة؟

محاولة لاستعادة البهجة المهدَرة. الفرح. حين يصطدمُ المرءُ بعالمٍ لا يتساوق ومقترحه الخاص للحياة، إما يفرُّ وإما يَجْهَدُ في خلق عالمٍ بديل. والفرارُ من العالم قد يكون تصفيةً ذاتيةً بالانتحار، أو تصفيةً ذهنيةً بالجنون. وأما خلق عالم آخر لا يكون إلا بالفن. الرسم. الكتابة. الشعر. الموسيقى. لهذا فأنني أرى المجانين والمنتحرين على إنهم فنانون بشكل أو بآخر. فنانون سلبيون ربما. وإذن فالكتابةُ لونٌ من المقاومة والرفض الإيجابيّ النبيل . لون من التمرّد والجهاد من أجل اصطياد الفرح من المحنة.
قصيدة اليوم لا تريد أن تكون ولادة من شيء، تريد أن يكون تميزها في انقطاع علائقها بكل ما حولها، أن تقول نفسها فقط. كيف تعيش هذه القصيدة في عالم ينتج ويعيش على تشابك العلائق فيه؟

الانقطاع عن النهل من السلف لا يعني الانقطاع عن الوجود والماحول. حتى الانقطاع عن السلف لي معه وقفة، إذ ثمة "انقطاعٌ معرفيّ" مع التراث ذاك هو الانقطاع الصحي. وهذا يعني: انقطاع +معرفة. لابد أن "أعرف" ثم أقرر أن "أنقطع" عما أعرف. إذ ليس من قطيعة مع ما نجهل! الجملة نفسها غير منطقية. ولذلك لا مهرب من الإطلاع على الإرث الذي أنجزه لنا أباؤنا. لأنه من الحمق أن أتجاهل منجزًا ضخمًا أنجبته عقول ثرية داست هذه الأرض وتفاعلت مع معطياتها فأفرزت لنا خبرات وفنونًا لا يجوز إلا أن نتأملها بعمق ورويّة لنفهم سر الإنسان والوجود. لا أصدق شاعرًا يقول إنني لم أقرأ التراث وأكتب شعرًا. لا شيء يولد من عدم إلا النبتات الشيطانية وهي بالضرورة تتطفل على ما حولها كي تعيش. أما عن انقطاع القصيدة عما حولها من علائق وأزمات ومحن. فهبيني عينًا لا ترى وأُذنا لا تسمع وعقلا لا يفكر وروحًا لا تحزن كي أهبك مثل هذه القصيدة. كيف أكتب قصيدةً عن حبيبي وتغيب عن وعيي الخلفي محنة العراق وفلسطين وقمع المرأة وكارثة المواطن العربي مع أنظمته؟

* في مشجوج بفأس قمت بترجمة قصائد عن الانجليزية و الأمريكية. أقول الترجمة أحيانا تتحول إلى ما يشبه البيان إذا لم يكن هناك المترجم الواعي، المترجم الشاعر  ماذا تقولين من واقع تجربتك في مجال الترجمة. و هل يمكننا النظر إلى الترجمة على إنها محاولة لإعادة إحياء نص أم كما يقولون خيانة للنص الأصلي؟

نعم. لابد أن يترجم الشعرَ شاعرٌ. شاعر مكينٌ في لغته الأم يمتلك أدواته الفنية والمعرفية كيلا يقتل النص الأصل وكيلا يقدم لنا بيانا صحافيًّا ركيكا من أصل شعري بديع. لا مناص من أن تفقدَ القصيدةُ شيئا من طاقتها في رحلة عبورها بين لسانين. والمترجم الحصيف هو ذاك الذي بوسعه أن يقلّص حجم الطاقة المهدرَة ما أمكنه ذلك. وليس بقادر على ذلك سوى شاعر. الترجمة الأدبية الرفيعة هي خلقُ نصٍّ إبداعيٍّ موازٍ للنص الأصل. وهنا تكون الخيانة كاملة وموغلة وصحيّة، انتصارًا للشعر.

* أرى نصك  نسيج من المفردات التي يجب التوقف عند كل واحدة منها على حدة قبل الدخول فيما يسمى نص . ما رأيك؟

كل قصيدة حقيقية لا مهرب من التوقف عن كل مفردة فيها. قراءة الشعر فنٌّ لا يقل رقيًَّا وصعوبةً عن كتابته. ليس كل امرئ بقادر على تعاطي الشعر. ليس الشعر كالرواية والقصة والمقالة والفلسفة. لكل مما سبق متلقٍ يمتلك أدوات القراءة والتناول. مثلما السيمفونية والأوبرا والفن التشكيلي. كلٌّ يحتاج إلى نمط معين من المتلقين الذين تدربوا على تعاطي هاتيك الفنون. كل ما سبق هو بوجه عام أما فيما يختص بقصيدتي، فأنا أراهن على قارئ ذكيٍّ نشط وغير كسول. يحب الشعر ويعرف كيف يتعامل مع ذلك الكائن العلويّ. وليس هاويًا ينتظر مني أن أقدم له خاطرةً أو كلمة عابرة في مجلة عابرة يقرأها على نحو عابر وهو مستلقٍ فوق البلاج يأخذ حمام شمس. قارئي الخاص يعرف كيف يتمم نصي بقراءته ويغزل في أماكن صمتي نسيجه الخاص. وهو ما يسميه النقاد انفتاح الدلالات.

* كيف تستطيع الصورة الشعرية وفي وقت غير اعتيادي أن تحدث تأثيرها في عقل المتلقي؟

للشعر قارئ خاص كما أسلفت، وأضيف هنا أن لقراءة الشعر وقتًا خاصًا أيضًا. فأنت تقرأين القصيدة مرتين فتدخلين في حالتين متباينتين. أتكلم عن القصيدة الحقيقية التي تشع دلالاتها في كل مرة على نحو مغاير. تحدث الصورة الشعرية أثرها حين تلتقي موجتُها مع موجة عقل القارئ في لحظةٍ بعينها. حين تكون صورةً مشعّةً تحمل مستوياتٍ وأعماقًا من اللغة والتشكيل والدلالة.

* هناك بعض الكتابات التي لا نستطيع القول عنها "نقدية" والسبب انه تفتقد العلمية في تناول النص. كيف تقيمي علاقة نصك بالنقد على الساحة المصرية؟

بزعمي الخاص أن نقد الشعر لا يحتاج إلى أدوات علمية بقدر ما يحتاج إلى روح ومخيال ثريين بوسعهما اجتياح النص واختراق حصونه المنيعة. في أحايين كثيرة يروقني نقدٌ انطباعيٌّ محلّق أكثر مما يروقني نقدٌ أكاديميٌّ جافٌ دوجمائيٌّ يصدّع روح القصيدة ويجمدها في سرير بروكست. يفسّخ أوصالَه أو يمطُّ أطرافَه كي يتساوق مع القالب الذي أعده النقاد سلفًا. لذلك ربما أميل لنقدٍ كتبه مبدعٌ واعٍ ذو ذائقة رفيعة عن نقد كتبه ناقدٌ أكاديميٌّ يجيد تفتيت روح القصيدة. أما أنا فمثل معظم شعراء جيلي مظلومة نقديًّا ولم أُقرأ بعد.

* هل تعتقدين أن متلقي اليوم لديه الاستعداد لاستقبال النص " الحداثوي " النص الومضة المكثف الذي يدعوه إلى تأمل ما وراءه؟

نعم، أظن أن القارئ بقادر على ذلك شريطة ألا يكون مثل معظم ما نقرأ من نصوص الومضة التي لا تشبه إلا نكتةً سخيفة. كثير من الشعراء يظنون أن الأبيجرام أو القصيدة الومضة هي مفارقة على 180ْ . أي نكتة تعتمد على إضحاك المتلقي أو القارئ. هذا ليس شعرا بالتأكيد. القصيدة الجديدة متعثرة لأنها بحاجة إلى كتيبة من النقاد الواعين الذين يشتغلون على أدمغتهم من أجل ولوج هذا النص الصعب وفك شفراته. أين هؤلاء النقاد؟

* ما الشبه بين فرجينيا وولف وفاطمة ناعوت؟

أنت ذكية يا صديقتي. بالفعل أشعر بتقاطعات كثيرة بيني وبين فرجينيا وولف. وربما لهذا أقدمت على الانتحار فوق أعتابها، أعني ترجمتها. هل هو الحزن الذي عشش في حياة كلٍّ منا على نحو غائر منذ الصبا المبكر؟ هل هي الوحدة الموغلة رغم الأصدقاء والأهل؟ هل هو وهبنا الحياة لمشروع غير مضمونة نتائجه أعني الكتابة وعبادة الحرف؟ هل هو إحساسي بأنني سأفقد عقلي يومًا ما مثلها وأنهي حياتي على نحو ما أنهت؟ هل هو الصوت؟ الصوت الذي كان يخايلها فتسمعه من حولها رغم سكون العالم، والصوت الذي غاب عن لسان ابني الصغير عمر؟ لا أدري يا خلود.

في ديوانك فوق كف امرأة مارست التمرد و الخروج  بثوب آخر هل يمكننا اعتبار ذلك بداية جديدة في تجربة ناعوت الشعرية؟

نعم. قال النقاد ما يشبه رأيك. ربما في ديواني هذا اقتربت أكثر من الأرض وبرحت التحليق خارج الجاذبية. ولهذا تجلياته الجمالية والمضمونية. جماليًّا حيث خفُتَ صوتُ المجاز وبدأ القبض على المجاز المتعيّن الملموس عوضًا عن مجازات المخيال المحلّقة في الأفق. ومضمونيًّا في محاولتي القبض على التجربة المعاشة الحيّة عوضًا عن استقراءات واستدرارات القراءة والمعرفة. أرجو أن يكون ديواني الخامس "قارورة صمغ"، وهو مخطوطة لم تطبع بعد، نقلة مفصلية في تجربتي لأكرّس ما بدأته من محاولات في الديوان السابق.

"العرب"- لندن في 10 مايو 2006