جهاد الترك

خارج التصنيف التقليدي وداخله في آن، يغرّد بعيداً عن السرب، طويلاً، ثم يعود إليه إذا اقتضت الضرورة الآنية للشعر. يتلمّس انحساراً حقيقياً لطغيان الإيديولوجيا، ويستشعر بأن ما خرج منها من الباب، سرعان ما عاد وتسلّل بأشكال مختلفة من منافذ أخرى. يتمرّد على الشعر من قلب معادلة اللغة، حتى ولو اضطره ذلك الى النأي بنفسه عن حظيرة الحداثة، باعتبار أنها ليست "وصفة" جاهزة للانتماء الى الشعر في آفاقه الواسعة. ومع ذلك، فهو حداثوي، حتى العظم، على الأقل في الانتقال الدائم من ضفة الى أخرى في متاهات المحيط الأكبر، وأيضاً في نزعته القوية الى الانقلاب على نفسه، والتفلّت القلق من الأشكال التي تبدأ فريدة ثم تتحول تقليدية جامدة ومرذولة، أيضاً، ما أن تخرج الى العلن. هذا هو حال الشعر، وهو يبحث عن هويته الأثيرية، ثم يتنكر لها سعياً الى هوية أخرى هي من نسيج المستحيل. ثمة الكثير من هذا الصخب في نصوصه الهادرة، أخيراً، في بيروت بعنوان: "حمامة على بنت جبيل"، أراد بها أن يقارب، من جديد، سنوات ثمينة عاشها في لبنان، وتوّجها بالاحتلال الإسرائيلي لسيدة العواصم العربية، بيروت، قبل أن يقفل عائداً الى القاهرة. يتميّز حلمي سالم بأنه يفرد، في شعره، فضاء شاسعاً للنبض الاجتماعي والسياسي كما يتراءى له في مصر والوطن العربي، وتحديداً لبنان. غير أنه، وهو يفعل ذلك، يتجنّب، على نحو واعٍ، المسّ بالقيم الجمالية الكبرى للشعر. وهو يعلّل ذلك بالقول، أن التعبير عن اللحظة الآنية، ضريبة ينبغي أن يسدّدها كاملة حفاظاً على رعشة الانتماء الى القضايا المصيرية التي تشهدها مصر والوطن العربي. وهو، في ذلك، يتقصّى، في نصوصه، التداعيات الإنسانية التي يتكبّدها العربي، من المحيط الى الخليج، جراء سياسات التعسّف والإرهاق والإرباك ودفن الرؤوس في الرمال، التي تمارسها الأنظمة الرسمية غير عابئة بتحولات العصر وانتقال الزمن العالمي والعربي من طور الى آخر. وهو لا يعفي، في ذلك، المنظمات والجمعيات الأهلية، من مغبّة هذه المسؤولية، إذ يتهمّها، مباشرة، بالمشاركة في نشر هذه الذهنية التي ترى في المستقبل عبئاً ثقيلاً على الماضي.
الآتي حوار مع الشاعر المصري، حلمي سالم حول هذه التصورات وسواها...

ماذا تعني لك بنت جبيل، ولماذا اخترتها عنواناً لنصوصك الشعرية؟

ـ صلتي بلبنان قديمة. عشت فيها أعوام 80، 81 و82، كذلك شهدت حصار بيروت في العام 1982. وأخرجت حول هذه التجربة كتابين: الثقافة تحت حصار بيروت، ويعرض حركة الثقافة والمثقفين اللبنانيين والفلسطينيين والعرب تحت هذا الحصار، ومساهماتهم الكبيرة في صمود الصامدين. والثاني، ديوان شعر بعنوان "سيرة بيروت"، ويحتوي على القصائد التي كتبتها تحت الحصار نفسه. في ذلك الوقت، تزوجت سيدة لبنانية وهي من بنت جبيل تحديداً. وحينما اندلعت الحرب الأخيرة في تموز ـ يوليو 2006، كتبت قصيدة طويلة حول هذه الحرب. كنت بالطبع أؤيد فيها كل طلقة تطلق في اتجاه إسرائيل، وأحيي فيها المقاومة اللبنانية، وأظن أنها لا تقتصر على حزب الله وحده، وهذا ما صوّرت في القصيدة، مقاومة اللبنانيين جميعاً الذين قدموا أسطورة في البذل والفداء. وخصصت بنت جبيل في العنوان لأنها مثّلت لنا نحن المصريين نموذجاً للمقاومة الأسطورية التي ذكرتني بباريس وستالينغراد تحت الحصار الألماني، وسائر المدن التي قدمت قصصاً بليغة في الصمود. وأحببت أن أحيي هؤلاء الناس وهذه البلدة الصغيرة التي رأينا فيها، نحن المصريين، تعويضاً عن هزائمنا العربية وانبطاحاتنا المصرية.

لا شائبة في الشعر الوطني

كيف يمكن إدراج هذا الديوان في مسيرتك الشعرية؟

ـ أظن أن قارئ تجربتي (إذا كان هناك قارئ لهذه التجربة) سيرصد أن هذا الخط الذي قد نسميه "الرومانطيقي الثوري"، أو السياسي الوطني، هو خط أساسي في هذه التجربة، مواز للخط الذي يمكن أن نسميه بالحداثة أو ما بعد الحداثة. اتضح هذا في ديوان "سيرة بيروت"، وفي ديوان "الأبيض المتوسط"، وديوان "تحيات الحجر الكريم" (قصائد عن الانتفاضة الفلسطينية)، ثم في هذا الديوان. وأنا لا أجد حرجاً أو عاراً في كتابة قصائد وطنية سياسية مباشرة في بعض الأحيان التي تقتضي ذلك.

نوّعت في الشعر: قصيدة السياسة، والحب، والقصيدة المباشرة. هل يمكن القول أنك شاعر خارج التصنيف.. ماذا يعني ذلك؟

ـ لا أعتقد أنني خارج التصنيف. فأنا أصنّف نفسي إذا كان لي أن أفعل ذلك، داخل إطار شعر الحداثة العربية. كما أنني أعتقد أن لي جهداً مبكراً في ما يسمّى (قصيدة النثر). كان لي ديوان (نص طويل) في العام 1977 بعنوان "دهاليزي والصيف ذو الوطء"، اعتبره بعض شباب الشعراء بادرة مبكرة لي، يزعم بعضهم أنه استهدى بها. واستمر هذا الخط في دواوين: "فقه اللذة" و"سراب التريكو" و"يوجد هنا عميان". ولكن الحداثة لدي ليست ديناً ولا شيكاً على بياض. وليست "روشيته" جامدة أبدية. ومن ثم فهي لا تمنعني من أن أذهب الى الغناء أو الى المباشرة، أو حتى الى الصراخ إذا اقتضى وضع ملتهب ذلك الصراخ. إذ اعتبر أن هذا الصراخ (الشعر السياسي المباشر) هو ضريبة عاجلة وليست آجلة. ينبغي أن تدفع في التو، في الموقع، نقداً. ولست أرى في ذلك عيباً كما يرى بعض الحداثيين.

من السماء الى الأرض

أنت من جيل السبعينات.. كيف تحدد موقعك مما سبق، ومما جاء بعدك؟

ـ ربما كان هذا التحديد مهمة النقاد، ولكن أستطيع، مع ذلك، أن أقترح أن جيلي كله، وأنا واحد منهم، المصري والعربي، أضاف الى الجيل السابق (الخمسينات والستينات) الاعتناء بفنية القصيدة، أي إيلاء عناية كبيرة بالشكل الفني، والأساليب الجمالية، وعدم الانطلاق من أن المضمون الجيّد وحده يضمن قصيدة جيدة، كما شاع في الجيلين السابقين. وأضاف جيلي، كذلك، النزول بلغة الشعر من السماء الى الأرض، وأيضاً ما يمكن أن نسميه إطلاق الطاقة الكامنة في اللغة (تفجير اللغة). وفي ما يتعلق بالأجيال التالية، أظن أننا أفدناهم واستفدنا منهم، بحيث نزعم أننا جميعاً ربما نكون قد انتقلنا بالشعر نقلة ملحوظة. وعلى أي حال، لقد نظرنا الى قضية الأجيال (ما سبق وما لحق) باعتبارها حركة أوركسترا كبيرة تتكامل فيها الآلات ويتبادل فيها العازفون الأدوار لكي يصنعوا سمفونية كبيرة بدون نفي أو إقصاء أو امتلاك الحقيقة المطلقة الوحيدة. أي بدون المفهوم المنحرف لقتل الأب، أو قتل الإبن. فالقطيعة المعرفية الصحية ليست إقصاء السابق بل هي إدراكه ثم تمثّله، ثم تجاوزه.

يبدو أن الشعر اليوم في مرحلة جديدة بعد نهاية ما يسمّى بعصر الإيديولوجيا.. هل هذا نهاية كل الأفكار.. هل يتحرر الشعر نتيجة لهذه المسألة، أم أنه يصبح وجهاً لوجه أم حقائق أخرى؟

ـ أعتقد ان الايديولوجيات لم تسقط، بل إننا في ذروة الايديولوجيات. وإلا فما الذي يحدث في ايران وافغانستان واسرائيل وفي الولايات المتحدة. هذه سطوات كبرى للإيوديولوجيات الكبرى. ان فكرة سقوط الايديولوجيات فرية اميركية لكي لا يبقى سوى الايديولوجيات التي تعينها اميركا للعالم. فكرة سقوط الايديولوجيا هي ايديولوجيا كبرى نفسها. إذاً، لا الايديولوجيات ولا القضايا الكبرى ذهبت. كل ما حدث بالنسبة إلى الشعر ثلاثة أمور. أولها، هو تغير (المدخل) إلى القضايا الكبرى، فبدلاً من أن يدلف إليها من مدخلها الرئيسي أو المركزي أو المعلن، صار يدلف إليها من مدخلها الثانوي أو الجزئي أو الهامشي أو المسكوت عنه. هذه بالضبط، هي فكرة سقوط المركز وصعود الأطراف، سقوط المبنى وصعود الهامش.

ثانيها، ان الشعر (العربي تحديداً) لم يعد ديوان العرب، وذلك طور إيجابي في رأيي وليس سلبياً. لأن الشعر العربي كان ديوان العرب، عندما لم يكن لدى العرب مؤسسات للفكر أو الاعلام، أو الجغرافيا، أو الطب، أو الفلسفة، أو الاجناس، أو الدعاية. كان الشعر ينهض بكل ذلك. فلما قامت المؤسسات في العصر الحديث، أخذت كل مؤسسة من الشعر مهمتمها التي كان يقدم بها عنها. ولم يتبق للشعر سوى شعريته. وذلك هو الطور الايجابي الرفيع الذي آل اليه الشعر.

ثالثها، لما صار الأمر كذلك، أصبح الشاعر في مواجهة نفسه وذاته، واحلامه، وبشريته الضعيفة البسيطة. وصار معيار الشعر الجميل لا مجتمعيته، ولا حمله لقضايا شريفة، ولا تعبيره عن التحولات الكونية، ولا حتى سعيه الى تغيير العالم الى الأفضل كما كنا نزعم او نتمنى من قبل. بل صار معيار الشعر التعبير عن دخيلة النفس، وعن انكسار الذات الفردية في مواجهة القدر والطبيعة والطغيان السياسي والاجتماعي، وآلة التوحش المتنامية يوماً بعد يوم. وأصبح الشعر ابن الحياة البشرية، ولم يعد تنزيلاً من السماء. وما يصنعه البشر يغيره البشر. ولذلك تعددت المدارس الفنية وتنوعت التيارات الجمالية، فانكسرت الاحدية اللاهوتية التي صبغت الشعر القديم.

وجه واحد للحقيقة

يقال بأن الاحساس الجارف بالزوال يكاد يطبع قصيدة النثر. بعضهم يقول بأن الاثنين من نسيج واحد. هل تبشر قصيدة النثر بهذا الانكفاء، ام انها تبعث على التفكير بآفاق جديدة؟

ـ لا أوافق هذا الرأي تمام الموافقة، أي اقتران قصيدة النثر بالغياب أو الزوال. ربما جاء هذا الرأي نتيجة للتشظّي الذي نتحدث عنه، واضمحلال السرديات الكبرى.
(ففي السرديات الكبرى حماية وامان وضمان)، وايضاً نتيجة لعراء الفرد في الدنيا والانظمة، وتآكل الجماعات. ففي هذه الأخيرة حصن ويقين. وايضاً نتيجة للتحول من التكتل الى التفكك. لكن كل ذلك في ظني، وجه واحد للحقيقة. وجهها الثاني ان الشعر ابن الحضور لا الغياب، ابن الوجود لا العدم أو الزوال. وقد تعلمنا في تاريخ الشعر ان كل مرحلة تنتج مثيلها الشعري أو الجمالي الذي قد تنقلب عليه بعد دقائق. كما أن قصيدة النثر تستطيع أن توجد لا أن تزول إذا دارت دورتها وعبرت عن القضايا الانسانية الكبرى بأساليب جديدة. واذا استطاعت أن تحتوي كل ما قيل إنه طرح جانباً، ولكن بآليات تخصها، وبتقنيات مبتكرة خلاقة. حينئذ، ستكون بئراً جديداً لوجود جديد ومقاومة جديدة للزوال، ولكن بسبل أقل غلظة وأنفذ اثراً، وألصق بالذات والحقيقة مما كان.
ولكنك ذكرت ان الشاعر الحديث أكثر التصاقاً بالتعبير عن قضاياه الذاتية...
ـ لا يمكن ان تهجر القضايا الكبرى، الشعر أبداً، أو الفن عموماً. ما يختلف من عصر إلى آخر، هو طريقة التناول. لا شعر بدون قضايا كبرى، قديماً أو حديثاً. ما يتغير هو منظور الشاعر لهذه القضية الكبرى، والبقعة التي يسلط عليها الضوء، والمسافة بين الناظر والمنظور. لذلك، قيل: لا جديد تحت الشمس، بمعنى أن طريقة التناول وزوايا النظر هي التي تختلف. أما القضايا نفسها أو الهموم فثابتة. طبعاً نعرف، فلسفياً، أنه حينما تتغير طريقة النظر وزاويته إلى قضية بعينها، تتغير القضية، إذ لا تعود هي نفسها. وأظن ان الحيلة الفينة الدائمة هي ما لخصه أبو حيان التوحيدي ذات يوم حينما قال: ان البلاغة هي تصغير الاشياء الكبيرة أو تكبير الأشياء الصغيرة. إذا، في كل فترة يجري التعامل مع هذه المعادلة التوحيدية بمعدولها أو بمقلوبها. نحن الآن في الجزء الثاني من هذه المعادلة، أي تصغير الأشياء الكبيرة. ولذلك، نعم تستطيع قصيدة النثر (وهي المتشظية الهامشية الوجودية الذاتية والطرفية) أن تعبر عن القضايا الانسانية الكبرى باقتراحات جديدة، فنياً ورؤيوياً. والا كيف تصف شعر محمد الماغوط، وشعر أمجد ناصر، وشعر قاسم حداد، وكثيرين غيرهم، اذ نجحت قصيدة هؤلاء في مناوشة أو معالجة القضايا الكبرى ولكن من مدخلها الصغير المسكوت عنه، ا لذاتي، والنقطة العمياء في النفس.

الضريبة الآجلة

قد توحي نصوصك في ديوانك الأخير "حمامة على بنت جبيل"، انك تميل الى التعبير عن المشهد السياسي المثقل بنوع من الواقعية.. هل يكون هذا الأمر على حساب فنية الشعر؟

ـ حينما يختارالشاعر أن يؤدي ضريبة آجلة، كما قلنا، لتسجيل موقف سياسي أو ثوري أو وطني ضاغط، فهو بالضرورة متوقع أن يأخذ ذلك من شعرية الشعر قليلاً أو كثيراً. وفي مثل تلك اللحظات اختار هذه الخسارة الفنية بضمير مستريح، على ثلاثة أسس: أولها، احساس بأن الواجب السياسي في تلك اللحظة يكون مقدماً على الواجب الجمالي (في هذه الحالة أنامواطن أولاً قبل أن أكون شاعراً).
ثانيها، أنني محمي بأن لدي خطاً كاملاً آخر من الكتابة التي تتوخى الفنية العالية والشعرية البارزة (والله أعلم كم يتحقق ذلك). أظن أن أغلب عملي طوال 33 سنة هو في هذا الجانب الفني التشكيلي الجمالي. وإلا لما قدنا ثورة جمالية منذ منتصف السبعينات. ثالثها، أني اظن ان بعض (ولا أقول كل) شعري السياسي المباشر ليس خلواً من الجهد الجمالي الفني. اما التوفيق أو الموازنة بين الدور السياسي للقصيدة والطبيعة الجمالية للشعر، فهو المعترك الدائم الذي ننجح فيه أحياناً ونفشل فيه كثيراً. لست موظفاً عند الحداثة، وقولتي دائماً هي: الحداثة هي ما يصنعه الشعراء. أي أن الشاعر، أقصد الشاعر الحق، هو الأصل لا اللائحة المسبقة للحداثة.

في ملتقى القاهرة للشعر الدولي الأول، قاطعت بسبب إبعاد الشعراء الشباب من المصريين... كيف ترى هذا الأمر؟

ـ لم أقاطع وحدي هذا المؤتمر، كان هناك محمد عفيفي مطر، وعبد المنعم رمضان وأنا. بالنسبة الي أنا وعبد المنعم. كان سببنا الرئيسي للمقاطعة هو تجاهل المنظمين لثلاثة أجيال من شباب قصيدة النثر في مصر. وكذلك بسبب سوء التمثيل الشعري العربي (فقد جرى تجاهل دول كاملة وشعراء أساسيين في هذا المؤتمر). ولذلك أقمنا انا وعبد المنعم، لهؤلاء الشعراء الشبان المصريين، مؤتمراً مصغراَ اسميناه: مؤتمر الشعر البديل، وذلك في مقر مجلتنا: "ادب ونقد"، عبر ثلاث ليال، شارك فيها بالقاء الشعر الجديد، ثلاثون شاعراً مصرياً شاباً. كان هذا المؤتمر البديل (على صغره) نوعاً من ردالاعتبار إلى هؤلاء الشعراء الشباب الذين لا يرى المجلس الأعلى للثقافة في مصر انهم شعراً حقيقيون.

أزمة مجلة "ابداع"

ما هي، برأيك، المشكلة التي تتعرض لها مجلة "ابداع" والتهديد بمحاكمتها؟

ـ صدر العدد الجديد من مجلة "ابداع" التي يرأس تحريرها الشاعر الكبير، أحمد عبد المعطي حجازي، بعد توقف دام اربع سنوات، وفيه قصيدة لي بعنوان: "شرفة ليلى مراد". رأى بعض الموظفين في الهيئة العامة للكتاب (الجهة التي تصدر المجلة)، ان في القصيدة مساساً بالذات الالهية، فأبلغوا رئيس الهيئة (د. ناصر الانصاري)، فأمر بوقف توزيع المجلة. وهناك معركة في الصحف المصرية اليوم حول هذه المصادرة. لكن طوراً جديداً طرأ منذ أيام، اذ تقدم الشيخ يوسف البدوي (أحد اقطاب الاخوان المسلمين في مصر) وبعض أعوانه ببلاغ الى النائب العام ضد حجازي باعتباره رئيساً للتحرير وضدي باعتباري صاحب القصيدة ـ الحوار الدائر في الصحافة حول هذه القصيدة ينحصر في اتجاهين: ذلك الذي يأخذ على القصيدة والشعر عموماً التعرض للأديان وازدراء الثوابت، والثاني يؤيد حرية الابداع ويستنكر النظرة الدينية الحرفية الضيقة للشعر على أساس ان الشعر مجاز لا ينبغي أن يقرأ قراءة بوليسية أو فقهية.

تعسف الجمعيات المدنية

كيف سيكون بمقدور المثقف العربي، في رأيك، ان يواجه الآلات القمعية السلطوية والأهلية، في وقت يبدو أن هذه الأخيرة اصبحت أشرس من مثيلتها السلطوية؟

ـ لست أظن أن قمع الجمعيات االأهلية، على كل سوءاته أشرس من قمع السلطة السياسية. لأن قمع الجمعيات الأهلية (التيارات الدينية، مثالاً) لم يكن ليصبح بهذه الشراسة إلا بدعم الاستبداد السياسي. واذا كان قمع الجماعات الدينية، باسم الله فقط، فقمع الاستبداد السياسي مزدوج: باسم الله، وباسم السلطة. فهو مضاعف، في هذه الحال، والمفارقة في عصر، ان السادات الغى الرقابة رسمياً وقانونياً في أواخر السبعينات، لكن تغذيته وحمايته للجماعات الدينية أفشت مناخاً سياسياً دينياً صار فيه كل مواطن مصري رقيباً، باسم الدين وباسم الأخلاق الحميدة والثوابت والشرع.
والمواطن (الرقيب) في ذلك مدعوم بالقانون، (قانون الحسبة)، الذي يعطي اي شخص الحق في ان يرفع قضية (عبر النيابة) على أي فيلم أو مسرحية أو قصيدة، يرى فيها مساساً بدينه ومن ثم مساساً به. الحل هو الدولة المدنية، انقاذ الدولة المدنية في مصر من براثن الدولة الدينية القائمة في مصر فعلاً.

 

حمامة على بنت جبيل

الآتي مقتطفات من ديوانه "حمامة على بنت جبيل":

رنيم

كبرت في السهو رنيم
كنت أظن ستبقى طفلة قلبي،
متكومة في صدري،
والصدر حليم
كنت أظن ستبقى
أتملّى عينيها الرائقتين،
وأتسمّع من أحرفها صوتاً بهّاجاً
وندياً، ورخيم
كنت أهدهد،
كنت أحطّ الدبدوب جوارَ الخدّ البضّ،
وكنت أربّت،
زينب تلعب
ارقبوها
تخبئ حزنها في صندوق العرس القديم،
حتى لا تنزعج عصافير الحديقة
من تواصل النهنهات،
فعصافير الحديقة زغب الحواصل،
تجرحها صور الراحلين على خوان الردهة
الخفيفة الضوء،
ارقبوها
تعلّق الماريونيت الضحوك
في شارع المنصور محمد،

فريدة
تنظر سيدة فوق خرائبنا
وتصيح: بَخٍ
كيف سأعبر صحراء شاسعة
لأشارف مبتدأ العمران؟
فقلنا بالرمز: بَخٍ
بقليل من موهبة البوح،
قليل من موهبة الكتمان
وقلنا: هاك الفأس،
وهاكِ المونة والأسمنت،
وهاكِ تسابيح الرحمن.

جمانة

بزغت في الليل جمانة
تحمل نبضَ الأفئدة الحرّى والأفئدة
الهيمانة
بزغت في الليل جمانة
كيمامات بيض فوق الأسطح،
طارت سارحة،
سرحى،
سرحانة
بزغت في الليل جمانة
كوّة نور في ظلمة قرويين،
وقوساً من قزح حرّ،
ينثر في الدرب المعتم
ألوانه
بزغت في الليل جمانة
دبّت فوق الأغطية البيضاء،
كمثل رحيم لاقى في السّدْرة
رحمانَه
بزغت في الليل جمانة
فإذا العمر الشائخ يتجدّد كالعنقاء،
وزمن يبتكر زمانَه
بزغت في الليل جمانة.

المستقبل - الاثنين 23 نيسان 2007


إقرأ أيضاً: