القومي أخرجني من العشيرة (5-1)

بيروت - عبده وازن

أدونيسقد لا يحتاج هذا الحوار مع الشاعر أدونيس الى مقدمة، فالشاعر يقدّم نفسه هنا، كما لم يفعل من قبل، في حواراته الكثيرة التي أجراها سابقاً. إنها المرة الأولى يفتح أدونيس دفاتره التي طالما أخفاها، متحدثاً عن أشخاص دخلوا حياته أو عبروها وكان لهم أثر فيه، إيجابي حيناً وسلبي حيناً آخر. وفرادة هذا الحوار في كونه ينطلق من كلام أدونيس على هؤلاء الأشخاص الذين نكتشف من خلالهم وجهاً آخر لهذا الشاعر الكبير، وزوايا لعلها تكشف للمرة الأولى. إنه أدونيس ولكن عبر الآخر، الذي هو الصديق أو الأب أو الخصم، وعبر علاقات تراوحت بين الصداقة والمحبة والجفاء والخصومة في أحيان، وعبر قضايا وشؤون كثيراً ما أثارت شغف قراء الشاعر وحفيظتهم.

أشخاص يتحدث عنهم أدونيس بحرية وجرأة، غير متهيب أي عاقبة أو رد فعل. إنها سيرته ومساره يستعيدهما عبر هؤلاء الأشخاص، القريبين والبعيدين على السواء، هؤلاء الأشخاص الذين صنعوا جغرافيته الحميمة وفضاءه الحيّ وأفقه الشعري والفكري.

الحوار مع أدونيس حوار فيه الكثير من المتعة. هذا الشاعر الكبير الذي خضعت له مَلَكة الكلمة يجيد فن الحوار، حتى وإن كان أحياناً في موقع المساءلة. يتحدث بعفوية وطلاقة تخفيان في صميمهما الكثير من البداهة والثقافة العالية والمعرفة والخبرة والمراس الصعب. فهذا الشاعر لم يبق ممكناً حصره داخل تخوم الشعر والقصيدة، فهو مفكر أيضاً، صديق الفلسفة، ومثقف ذو هموم متعددة، يسائل ويشك ويثور ويتمرّد... ولا يهادن. هذا الشاعر الذي يختصر عصراً بكامله، بأسئلته الشائكة وشواغله وأزماته وتحولاته، هو ظاهرة نادراً ما شهدت الثقافة العربية والأدب العربي ما يماثلها. ظاهرة يلتقي فيها الشعر والفكر والنقد والشك الذي هو اليقين بعينه.

هنا الحلقة الأولى من «الحوار» مع أدونيس.

* من الشخص الأول الذي ترك أثراً في حياتك؟

- والدي!

* كيف تتذكر والدك؟

- كان تأثيره يفعل بصمت، ودون وعيٍ منّي. وعي حقيقي. هكذا لم اكتشف هذا التأثير إلا بعد موته. ومات في الستينات من عمره، بشكل مفاجئ في عام 1951، في حادث سيارة احتراقاً مع جميع ركابها. هذا الموت أنشأ بيننا علاقة جديدة، قوامُها الذكرى. صرت أستعيد حياتي في ظله، قبل موته، في البيت، في القرية، في الحياة العامة. صرت أتذكر هذا كله، وأشعر فيما أتذكر أنه لم يكن أباً، بقدر ما كان صديقاً. ومن جديد، أخذت أتعرف إليه، بوساطة التذكّر، لا سيما كيف كان يعاملني وأنا طفل.

* الى أي طبقة كان ينتمي والدك؟

- الطبقة ما دون الوسطى، إن صح أن نستخدم هنا كلمة «طبقة». يمكن أن تنطبق عليه كلمة «فلاّح» أو «مزارع»، مع أنه كان لدينا عامل يُسمى في القرية «مرابع» – يأخذ ربع ما يجنيه من الأرض التي يحرثها ويزرعها ويحصدها، أو من الأشجار المثمرة التي يقطفها، وبخاصة الزيتون. ولم تكن لدينا أرض كثيرة تستحق أن يشرف عليها «مرابع». إنما كان لأبي وضع معنويّ كبير ومتميز، بسبب علمه وكرمه. فقد شُيّخ، مثلاً، مع أنه لا ينحدر من عائلة شيوخ. شيّخ تكريماً وتقديراً. هذا الوضع هو الذي استدعى أن ينوبَ عنه عاملٌ للعناية بما كان يملكه، على قِلّته.

أذكر أنه لم يكن يفرض عليّ شيئاً. كان يترك لي حرية التصرف إلا في ما يتعلّق بالحرص على التعلم. ولم تكن عندنا آنذاك مدرسة. كنت أذهب الى «الكُتّاب»، نهاراً، وفي المساء كان هو نفسه يعلّمني قراءة الشعر العربي، ويحاول أن يجعلني، في الوقت نفسه، أحفظ القرآن عن ظهر قلب.

* هل كنت ابنه شبه المدلل؟

- كنت ابنه البكر. غير أنه كان يهتم كثيراً بإخوتي: محمد، وحسن وحسين وليلى وفاطمة التي كانت طفلة عندما توفي. في هذا كله، أكتشف الآن مدى تفتّحه، وصداقته. وكيف كان يحرص على تربيتنا، منمّياً فينا روح الحرية والاستقلال.

كان يأخذني معه في بعض زياراته الى أصدقائه خارج قريتنا، في قرىً أخرى مجاورة أو بعيدة. ويقدّمني إليهم بشيء من الفخر والزهو.

غير أنه، كما أتذكر الآن، كان يشعر بالمرارة عند كان يرى بعض أصدقائه يرسلون أولادهم الى التعلّم في مدارس المدينة، بينما لا يقدر هو، لضعف إمكاناته المادية أن يرسلني الى المدينة للتعلم مثلهم. هكذا بقيت في القرية حتى الثانية عشرة من عمري، دون مدرسة. وحتى هذه السن لم أعرف سيارة، ولم أر الهاتف، أو الكهرباء... إلخ. ثم حدثت المفاجأة – الأعجوبة. ففي سنة 1943، أخذت سورية استقلالها عن فرنسا، وسمّيت الجمهورية السورية، وانتخبت رئيسها الأول: شكري القوتلي. وانتشر خبر قراره بزيارة المناطق السورية للتعرّف إليها، ومن ضمنها منطقة جبلة. ولا أعرف كيف خطرَ لي أن أكتب له قصيدة، وأن ألقيها أمامه، وكيف خُيّل إلي أنها ستعجبه، وأنه بناءً على ذلك، سيدعوني لرؤيته، وأنه سيسألني: ماذا أقدر أن أقدّم لك، وأنني سأجيبه: أريد أن أتعلّم، وأنه سيُلبي هذه الرغبة.

وفعلاً، تمّ هذا كله كما تخيلته، وحرفياً تقريباً. وكانت المدرسة الأولى التي دخلتها، المدرسة الفرنسية الأخيرة في سورية أو مدرسة اللائيك، للبعثة العلمانية الفرنسية في طرطوس. طبعاً، كانت هناك أهوالٌ دون إلقاء القصيدة أمام رئيس الجمهورية. يلقيها قروي طفلٌ في الثانية عشرة من عمره، فقيرٌ، وليس له أي سند. لكنها تفاصيل يطول الدخول فيها، ولذلك أرجئ الخوض فيها، وإن كانت ممتعة وعظيمة الدلالة.

* بعض التفاصيل...

- دخلت المدرسة سنة 1943 وأنا بالقمباز القروي. كان طُلابها جميعاً من أبناء الأثرياء في مدينة طرطوس، وفي ضواحيها، وفي مدينة صافيتا المجاورة، وما حولها. وبقيت بينهم، بالقمباز، حوالى ثلاثة أشهر، كأنني أعيش في حلم. ثم جاءتني بدلة على الطريقة الغربية، وكانت واسعة جداً. وأتصوّر الآن أنها كانت مضحكة. لكن. هذا تفصيل، كما أردت.

تفصيل آخر. بعد أن سمع الرئيس القصيدة أخذ شطراً من بيت فيها، وبنى عليه خطابه. الشطر هو: «فأنت لنا سيفٌ، ونحن لك الغِمْدُ». تفصيل ثالث. تجاذبَني منذ دخولي المدرسة اتجاهان: شيوعي، وسوري قومي. ترددت كثيراً بينهما. ثم، ذات صباح، رأينا على باب المدرسة بضعة طلاب قيل لنا إنهم طردوا منها. وعندما سألت عن السبب قيل لي: لأنهم تظاهروا ضد وجود حامية فرنسية في مدينة طرطوس، كانت قد استمرت بعد الجلاء. فقررنا مباشرة، بعض أصدقائي وأنا، أن ننتمي الى الحزب السوري القومي، تأييداً لهؤلاء الطلاب، وتعاطفاً معهم. هناك تفاصيل أخرى مؤلمة...

* أذكر منها واحداً على الأقل...

- هيّأ زعيم المنطقة آنذاك، أي زعيم العشيرة، استقبالاً كبيراً للرئيس على الطريق الرئيسة المؤدية الى مدينة جبلة، مركز المنطقة. وكنت في البداية أفكر بإلقاء القصيدة في أثناء هذا الاستقبال. لكن عندما رآني زعيم العشيرة، وعائلتي تنتمي إليها تقليدياً، أمرَ بطردي قائلاً: لا أريد أن أراه، هنا. والسبب هو أن أبي لم يحضر، فقد كان مناوئاً له، بينما حضرت العشيرة بكاملها الى جانب حلفائها.

* لكن، صورة الأب غير موجودة لديك، على المستوى الشخصي، وعلى المستوى الرمزي أو الشعري.

- ربما، على المستوى الشخصي، إلا في مقطوعتين صغيرتين كتبتهما تحية ورثاء. أما على المستوى الرمزي، فأعتقد أنه عميق الحضور في شعري، لكن على نحو معقّد أختصره في هذه الصيغة: ضد الأبوّة مع الأب.

* هل كانت ثورتك على الشعر القديم ثورة على الأب، كذلك؟

- على الأبوّة، بالأحرى. لا نثور على الأب شخصاً ووالداً، وإنما نثور على أُبوّته معرفة وسلطة.

* هناك شخص كان حاضراً في حياتك أكثر من والدك وهو شيخ من العشيرة نفسها كان مرجعاً ثقافياً لك.

- هو الشيخ أحمد محمد حيدر. وأنت هنا تبالغ كثيراً. لقد تحدثت عنه مرة واحدة، في ذكرى تأبينه، في قصيدة عمودية قرنتُ فيها بينه وبين أبي. كانا صديقين، وكانا معاً ضد زعيم العشيرة، الذي أشرت إليه. إضافة الى أنهما كانا بين المجددين في ميدان الدين. كانا معاً بين أهم رموز المعارضة للزعامة العشائرية، أو الطائفية آنذاك. وهي معارضة لاقى أبي، بسبب منها، صعوبات كثيرة في حياته وعمله.

* تحدثت عن والدك بشغف، كما لو أنه رأس البيت وظلّه وكل شيء فيه. كيف تنظر الى والدتك، خصوصاً أنها لا تزال على قيد الحياة. هل كان لها حضور في حياتك؟

- الأمّ في المجتمع العربي هي في مرتبة «الظل»، بالنسبة الى الأب الذي هو دائماً في مرتبة «الضوء».كانت أمي، بالنسبة إليّ، كمثل الطبيعة، أرتبط بها لا بالولادة وحدها، بل بالهواء والفضاء. هي نفسها طبيعة، خصوصاً أنها لا تقرأ ولا تكتب. مظهر ناطق من الطبيعة. شجرةٌ من نوع آخر. أو نبعٌ يتكلم.

كنت في الثالثة عشرة من عمري عندما تركت البيت وانفصلت عنها. لم أعد أراها إلا قليلاً في العُطَل المدرسية. حتى في طفولتي كان أبي هو الذي يدير شؤون «ثقافتي» أو «تربيتي العقلية»، وكانت أمي هي التي تدير شؤون الحياة اليومية. هي في حياتي، منذ البداية، جزءٌ من «الطبيعة»، لا من «الثقافة». تصبح جزءاً من «الثقافة» عندما تبلغ مرحلة الشيخوخة، وهذا ما أكتشفه اليوم. شيخوخة الأم في المجتمع العربي، القائم على ثقافة الأب، مشكلة ثقافية واجتماعية معاً. وعندما يحدث أن يموت الأب باكراً، وتبقى الأم بعده فتيّة، كما حدث لأمّي، فذلك يطرح مشكلات إضافية كثيرة ومعقدة. مثلاً، أين تسكن الأم؟ وحدَها، وكيف؟ في بيت أحد أبنائها المتزوّجين وله أولاد، وكيف؟ وقد لا تطيق زوجته أو قد لا تطيقها زوجته. وقد يكون لهما أولاد لا يفقهون معنى أن تعيش جدتهم معهم في بيت واحد، وينظرون إليها بوصفها «زائدة» أو في غير مكانها. والأمومة، في حالة الشيخوخة، تتغير هي نفسها. يزداد فيها حسّ التفرّد، وحس التملّك، وحس الحضور.

ثم، من جهتي، لا أستطيع أن أتصوّر ابناً يضع أمه في مأوى للعجزة. لكن، من ناحية ثانية، كيف يوفّر لها في بيته العناية اللازمة، الكاملة التي تفرضها الشيخوخة ومتطلباتها؟ ثم، كيف يمكن التوفيق، عبر الأمومة، بين الطبيعة التي هي، غالباً، «ثقافة» الأم، و «الثقافة» التي هي غالباً «طبيعة» أبنائها وأحفادها؟ هناك مشكلات أخرى نفسية، وحياتية عملية. وهي كلها مهمّشة أو مكبوتة. في كل حال، هناك قضية أساسية تتمثل في شيخوخة الأم وعجزها، يجب أن تطرح على مستوى المجتمع، وأن تطرح وتُواجَه وتُحلّ بوصفها قضية ثقافية – اجتماعية.

* أشعر أنك تتكلّم عن الأم كفكرة أكثر مما تتكلم عنها ككائن، وعن أثرها العاطفي والوجداني فيك كشخص. هل تركت أثراً؟ ألم تكتب قصيدة عن أمك؟

- الأم مبثوثة في الكتابة، بالنسبة إليّ، كمثل الهواء والشمس والماء. ذائبة في حياتي وفكري. ليست كائناً مفرداً، مستقلاً، منفصلاً، كأنّه شيء أو موضوعٌ خارجي. هكذا لم أكتب عنها بالاسم، وإنما أشرت إليها. لا أقدر أن أحوّلها الى موضوع «إنشاء» مدرسي، كالربيع والخريف، أو الوطن، أو غيرها. ولا أعرف كيف يمكن شاعراً أن يكتب عن الأم، بوصفها «موضوعاً» أو «شيئاً»، يُناجيه، ويصفه، ويمتدحه، أو يعدّد مآثره وعلاقاته بها.

* وما رأيك بما قاله محمود درويش على سبيل المثال، أخجل من دمع أمي، أو أحنّ الى خبز أمي؟ ألا يترك هذا أثراً وجدانياً فيك؟

- تقصد شعرياً؟ هذا البكاء الشعري، بالأحرى يضحكني.

* هل عنت لك الأم شيئاً كامرأة؟

أدونيس- أيضاً هذه من المشكلات الثقافية – الاجتماعية: وضعُ امرأة يموت زوجها وهي في عزّ صباها كما يقال لا تتزوج، وتنذر حياتها لأبنائها وهي في أوج تألقها وجمالها. أمي للمناسبة، امرأة جميلة. وهذا لم يخطر لي حينما مات الأب. لكن بعد هذه المسافة الطويلة الآن أستعيده وأفكر فيه كجزء من طفولتي. وأنا لم أعرف الطفولة كما عرفها الأطفال غير الفقراء. منذ طفولتي في الخامسة أو السادسة من عمري كنت جزءاً من الحقل ومن الشجر والعمل مع الفلاحين. ما يسمى بفترة الطفولة هي بالنسبة إلي فترة اندماج في الحياة وفي العمل. ولذلك الآن كما أتذكر علاقتي بأمي، أتذكر طفولتي. أعتقد هذه أشياء ترتبط بحياة الريفيين البعيدين عن المدينة. المدينة ابتكار إنسانيٌّ عظيم، لكن نحن أبناء الريف لم نعرفه إلا متأخرين جداً. لذلك الأمور عندنا مختلفة. هناك فرق كبير بين حياة الريف وقيمه وحياة المدينة وقيمها. هناك فجوة يمكن أن تكون السبب في كون حياتي اليوم حتى سن العشرين نوعاً من التذكر، نوعاً من الاستعادة أكثر مما هي جزء مكوّن من حياتي أعيه وأستطيع أن أحلله أو أتأمل فيه.

* متى خرجت على ثقافة العائلة والبيئة والقرية؟

- بدأ هذا الخروج مع عملي في الحزب السوري القومي الاجتماعي. كان، وأعتقد أنه لا يزال حتى الآن، يمارس الحياة المدنية داخل صفوفه، وفي العلاقات ما بين أعضائه.

* من الشخص الأول الذي ربطك بالحزب؟

- لم أدخل الحزب بتبشير من شخص بعينه، وإنما دخلته، مصادفة، بفعل الحادثة التي أشرتُ إليها، وأعني طرد طُلاب ينتمون إليه، من المدرسة – اللاّئيك. غير أن المسؤول الذي تولى إدخالي رسمياً كان الأستاذ إلياس جرجي قنيزح.

* هل تعرّفت الى أنطون سعادة شخصياً؟

- قابلته مرتين. الأولى، عام 1947 كما أتذكر، في أثناء زيارته اللاذقية، أو 1948. كان ذلك في حفلة استقباله، وكنت في السابعة عشرة من عمري. ولعل قيادة الحزب هي التي شاءت أن أتعرّف إليه، لأنني كنت بدأت أبرز في الحركة الطلابية، لا شاعراً «قومياً»، فقط، بل ناشطاً فعّالاً، أيضاً، في صفوف الطلاب. رجل ساحر: هذا هو انطباعي عنه في هذه المرة.

المرة الثانية، كانت في مكتبه في بيروت، عام 1948. المناسبة هي أنني فزت بجائزة «العروة الوثقى» الأولى، في مسابقة شعرية تدور حول موضوع «اليتيم». كان حلماً، بالنسبة إليّ، أن آتيَ الى بيروت. أن ألقي قصيدتي في قاعة «الوست هول» في الجامعة الأميركية، كما أخبرني المشرفون على الجائزة. وقد نَظّم مسؤولو الحزب في اللاذقية أمرَ مجيئي الى بيروت، وكانوا مسرورين جداً. ونظّم لي مسؤولوه في بيروت أمر زيارة الزعيم، كما كنا نسمّيه، في مكتبه. هكذا، منذ وصولي الى بيروت، وقبل ذهابي الى الجامعة الأميركية، زرته، وبقيت معه فترة قصيرة، لم أعد أذكر شيئاً مما قاله لي. أذكر أنني أصغيت إليه، مأخوذاً به – بشخصه، وتواضعه، وبساطته، وحضوره المُدهش. ولم أكن قرأت من كتاباته إلا أشياء قليلة.

في الجامعة، أصرّ القوميون على أن ألقي القصيدة، واضعاً شعار الزوبعة. لكن، عندما رآه أعضاء الرابطة، غضبوا ورفضوا أن ألقيها وأنا أضعه. وعندئذٍ حدثت شبه معركة بينهم وبين القوميين تدخل فيها رئيس الجامعة وقتذاك، الدكتور قسطنطين زريق. وحلّت المسألة بانتصار القوميين، ويبدو أنهم كانوا يشكّلون الأكثرية الفاعلة بين طلاب الجامعة. كانت معركة شكلية، يمكن تفاديها. منذ ذلك الحين، أخذت أقرأ أنطون سعادة، خصوصاً كتاباته حول الأدب، مثلاً كتابه المهم: «الصراع الفكري في الأدب السوري»، وقد أثّر فيّ كثيراً. في كل ما يتصل بالعلاقة بين الشعر والأسطورة، وبينه وبين القارئ. وكانت له في هذا الصدد مقولة بالغة الأهمية، وهي أن الشعر يجب أن يكونَ منارة لا مِرآة.

جذبني في الحزب، في تلك الفترة، الجانب المسلكي، النظريّ والعمليّ. فقد كان أعضاؤه يعيشون في ما بينهم مبادئهم في العلمانية، واللاطائفية، وحرية التديّن أو اللاتديّن، واحترام المرأة والنظر إليها بوصفها، كالرجل، حقوقاً وحريات وواجبات. حتى أن بعض القوميين كانوا يتزوجون مدنياً، في ما بينهم، قبل أن يسجّلوا زواجهم، رسمياً أو شرعياً. وزواجنا، خالدة وأنا، تمّ أولاً في الحزب، ثم سجّلناه، طبقاً لأعراف الزواج الرسمية. وجذبتني أيضاً بعض الأفكار، كمثل موقف أنطون سعادة من العروبة، واللغة العربية. وكمثل رأيه في شخصية أو هوية المجتمع السوري، وفي النظر الى ثقافة الغرب أو الحضارة الغربية.

* هل توضح هنا ما تقصد إليه؟

- مثلاً، كان يقول، وهذا في صلب دستور الحزب، إن الأمة السورية أمة عربية، وإن الثقافة العربية جزءٌ أساسي ومكمّل للثقافات التي سبقتها في سورية: الكنعانية، الفينيقية، والبابلية – الأشورية، والسومرية... إلخ، وإن هذه الثقافات كلها تشكل وحدة لا تتجزأ. لكن، بما أن الثقافة العربية واللغة العربية آخر ما احتضنته سورية، فإن الثقافة السورية ثقافة عربية، ولغتها هي اللغة العربية. كان أنطون سعادة، للمناسبة، يعشق اللغة العربية. وقيل لي إنه كان يتحدث في البيت مع أطفاله باللغة الفصحى.

* هل لديك مثل آخر؟

- نعرف جميعاً أن هذه البلاد تتألّف بشرياً من أقوامٍ متعددين في أصولهم وثقافاتهم. ورداً على العِرْقية في النظر الى الشعب، كما كان يقول دعاة القومية العربية، الذين نظّروا لها كأنها نوعٌ من العنصرية، ابتكر مفهوماً جديداً هو «السلالة التاريخية»، قائلاً إن الشعب السوري مزيج مركّب فريد من السريان والآشوريين والأكراد والأرمن والعرب وغيرهم، وأنهم تمازجوا عبر التاريخ بحيث يشكلون سلالة تاريخية واحدة، في ما وراء الأعراق. وهكذا يكون العرب جزءاً لا كُلاً. ويزول كذلك مفهوم الأقليات. ومن أجل ذلك قال بانتساب الشعب الى الأرض التي يعيش عليها، لا إلى اللغة، ولا إلى الدين، ولا إلى العِرْق. فالناس الذين يسكنون في سورية هم شعبٌ سوري، لا فرق بين فرد أو آخر، وبين أصل عِرقيّ أو آخر. الوطن واحد، والشعب واحد. والمواطنية هي الأصل. لا الانتماء المذهبيّ أو العِرقي أو اللغوي. والمخجل أن بعض كتّاب اليسار لا يزالون يتّهمونه بالنازية.

* كيف عشت لحظة إعدامه الأليمة؟

- أعدم بطريقة لا يقرّها إنسانٌ عاقل، أو يحمل ذرة من احترام نفسه، واحترام الإنسان وحقوقه. وكان إعدامه جريمة مريعة. جريمة بشعة. وسوف تبقى عاراً كبيراً في تاريخ لبنان، السياسي والحقوقي.ولا أزال أتساءل باستغراب كبير، كيف أن الكتّاب والمفكرين اللبنانيين والعرب، لم يقولوا كلمة واحدة ضد هذا الإعدام. باستثناء كمال جنبلاط.

* الشائع أنه هو الذي اختار لك اسم أدونيس...

- هذا خطأ. فأنا نفسي اخترت هذا الاسم. ولهذا الاختيار قصة رويتُها كثيراً، ولا أريد أن أكررها.

* كيف كانت علاقتك ببعض القوميين الكبار من أمثال فؤاد سليمان وغسان تويني؟

- كان لهما احترامٌ كبير عندي. لم أكن اجتمع بهما، غير أنني تتلمذت عليهما في أشياء كثيرة. أذكر انني زرت فؤاد سليمان في مستشفى الجامعة الأميركية، في أواخر حياته. شعرت أنه فرح جداً بهذه الزيارة التي كانت الأخيرة. أما غسان تويني فقد توثقت علاقتي به، بعد أن تخلّى كلانا عن العمل الحزبي. عرفت كذلك سعيد تقي الدين، وكان إنساناً فريداً. ساعدني كثيراً في حياتي الأدبية، وهو الذي كتب مقدمة لقصيدة «قالت الأرض».

* مَن مِنَ القوميين أيضاً كان لهم حضورٌ في حياتك؟

- هشام شرابي. يوسف الخال، وكان قد ترك الحزب عندما التقيته في بيروت، في تشرين الأول (أكتوبر) 1956. محمد يوسف حمود، وكان شاعراً شديدَ الالتزام بالحزب. وكان هناك شعراء انفصلوا عن الحزب، قبل أن أعرفه، غير أنني قرأتهم وأَفَدْتُ منهم كثيراً، مثل سعيد عقل وصلاح لبكي.

* هل كان لديك موقف نقدي معيّن من أنطون سعادة؟ هل حاولت أن تعيد قراءته، على ضوء العلوم الجديدة، والمعطيات السوسيولوجية الجديدة؟

- أبداً. الحقيقة أنني لم أنتقده، وإنما حاولت فهمه وتأويله، بطريقة خاصة، ومختلفة. مثلاً، في ما يتعلق بآرائه في الأدب، وفي الدين، وفي الاقتصاد، وفي السياسة. لكن تأويلي هذا لم يكن يلاقي، غالباً، التأييد أو التحبيذ.

مرة، مثلاً، كتبتُ افتتاحية في جريدة «البناء»، في أواخر الخمسينات، بعنوان: «يسارية الحزب القومي الاجتماعي»، فأحدثت ضجة، وغضب عليّ بعض قادة الحزب، مثل أسد الأشقر، وإنعام رعد. والغريبُ أنهما، بعد فترة، أخذ كلاهما يتحدث عن يسارية الحزب، ويبشّر بها، ويدافع عنها. مقابل ذلك، كنت أنتقد كثيراً، وباستمرار، الممارسة الحزبية القيادية، وبخاصة، على الصعيدين السياسي والثقافي. وهو انتقادٌ أدّى في الأخير الى أن أنفصل نهائياً عن العمل الحزبي، وعن الحزب. وصرت أنظر الى أنطون سعادة، بوصفه مفكراً، وفي استقلال كامل عن الحزب الذي أنشأه وكنت عضواً فيه.

* هل شعرت بأنك أصبحت أكبر من أن تكون حزبياً؟

- لم أطرح بهذه الطريقة مسألة علاقتي بالحزب، خصوصاً أنني كنت، طوال بقائي في الحزب، حراً في فكري وعملي.

* لم تشعر يوماً أنك تنتمي الى فكر أنطون سعادة؟

- لا يمكن أي عاقل يعمل لبناء مجتمع جديد، إلا أن يتبنى كثيراً من أفكار أنطون سعادة، في فصل الدين عن الدولة، والعلمانية، ووحدة المجتمع في سلالة تاريخية، وفي العلاقة بالآخر، وفي كثيرٍ من قضايا الأدب، والثقافة بعامة. أقول: يتبناها، لكن طبعاً، منظوراً إليها دائماً في أفق التغيّر والصيرورة. هكذا لا أزال، شخصياً، أَسْتضيء بكثير من آرائه.

* هشام شرابي، كيف تنظر إليه؟

- أكاديمي من طراز أوّل. كان، بوصفه كذلك، رجل بحث واستقصاء، تركيب وتأليف. أضاف كثيراً الى النظرة النقدية عند العرب، في الثقافة والاجتماع. أطروحته عن البطركية، أو الأبوية، في المجتمع العربي بالغة الأهمية. وما كتبه عن فلسطين، عميقٌ وآسرٌ.

* كيف كانت علاقتك بخليل حاوي؟

- معقدة ومرتبكة. لكن، لم أقل عنه كلمة واحدة سيئة، خلافاً لما كان يقوله عنّي بين أصدقائه وتلامذته.

* هل أثرت السياسة في هذه العلاقة، فهو كان قومياً عربياً على ما بدا؟

- على العكس، كان سورياً قومياً. وكان عضواً بارزاً في الحزب. المسألة بيننا كانت شعرية. كنتُ، لسبب أو آخر، أكثر حظوة منه في صفوف الحزب، على الصعيد الشعري. ولهذا كان يغار مني كثيراً. ولم تنشأ بيننا علاقة صداقة.

* متى انقطعت علاقتكما؟

- لم تكن هذه العلاقة، منذ البداية، أكثر من علاقة تعارف. وأكرر أنني من جهتي، لم أقم بأي عمل يمكن أن يسيء إليه، شخصاً أو شعراً. كنت حريصاً جداً على احترام مكانه ومكانته.

* كيف تستعيد صورة خليل حاوي الآن، بعد هذا الزمن، وهل تقرأه؟

- لا أقرأه. كما انني لا أقرأ الشعراء الذين جايلتهم. غير انني أرى في شعره أمرين مهمين: الأول، هو أنه كسر اللغة الشعرية المتأنقة الزخرفية القائمة بذاتها والتي تتمثل، أساسياً، في شعر سعيد عقل. وهو في ذلك يتابع شعر الياس أبي شبكة. الثاني، هو أن الشعر عنده قائمٌ جوهرياً على رؤية للإنسان والعالم، لا انفصال فيها بين الشعر والفكر. هكذا أحترم تجربة خليل حاوي، وإن كنت لا أتذوق شعريتها، جمالياً.

* لكنّه تحوّل الى القومية العربية؟

- لا أظن. لا أرى في كتاباته انعطافاً نوعياً يفصله عن رؤية أنطون سعادة الثقافية. وهذا لا يعني أنه لم يتعاطَف سياسياً مع القضايا العربية.

* هل هذا ينطبق عليك؟ أصلاً، أنت كنت خارجاً من الأساس لأنك اشتغلت كثيراً على التراث العربي.

- قد نكون متفقين في ما يتعلق بالأمرين اللذين أشرتُ إليهما، على المستوى النظري. غير أن الشعر، كما تعرف، يفلت أخيراً حتى من النظرية التي يُكتَب باسمها، أو يصدر عنها. والأساس إذاً في نقد الشعر أو تذوّقه لا يُلتمس في اتجاه الشاعر أو في النظرية التي يقول بها، وإنما يُلتمَسُ في نسيج الشعر ذاته، في طريقة تعبيره، وفي بنيته اللغوية – الجمالية. وفي هذا نحن مختلفان.

* ماذا باتت تعني لك القومية، السورية أو العربية أو غيرهما في زمن العولمة؟ لقد فقدت القومية في العصر الراهن مسوّغاتها، حتى بات الانتماء القومي أشبه بالتهمة؟

أدونيس - لا أظن أن الانتماء القومي انتهى، أو سينتهي. ربما يحصل ذلك عند أفراد. لكن، أستبعد ذلك عند الشعوب. في ما يتعلق بي صرت بعيداً جداً عن النظر الى القومية نظرة أيديولوجية سياسية. لكن الانتماء الى لغة وشعب وثقافة شيء آخر، وهو أمرٌ مفروض بحكم الطبيعة والواقع.

* هل يمكن القول إن أنطون سعادة صار من التراث؟

- هو من التراث، بالمعنى الإيجابي العميق. وهو لذلك، لا يزال حاضراً، وحيّاً. لكن، بوصفه مفكّراً ورائياً، لا بوصفه مؤسسة حزبية.

* الى أي من شعراء الحزب السوري القومي، كنت تميل؟

- نشأ في الحزب شعراء كثيرون. بعضهم لم أعرفهم إلا بشعرهم. أشرت الى بعضهم ممن سبقوني، وتعلّمت منهم كثيراً. وبعضهم من جيلي. وبعضهم من جيل لاحق. أحببت شعر محمد الماغوط، وسنية صالح، وكمال خير بك، وأورخان ميسّر، تمثيلاً لا حصراً.

الحياة
السبت, 20 مارس 2010

***

أدونيس: القومية العربية لم تجذبني إطلاقاً ... ومجلة «شعر» هذه أسرارها (2)

بيروت - عبده وازن

أدونيسجزء ثانٍ من الحوار الذي أجرته «الحياة» مع الشاعر أدونيس، وفيه يقدّم الشاعر نفسه، كما لم يفعل من قبل، في حواراته الكثيرة التي أجراها سابقاً. إنها المرة الأولى يفتح أدونيس دفاتره التي طالما أخفاها، متحدثاً عن أشخاص دخلوا حياته أو عبروها وكان لهم أثر فيه، إيجابي حيناً وسلبي حيناً آخر. وفرادة هذا الحوار في كونه ينطلق من كلام أدونيس على هؤلاء الأشخاص الذين نكتشف من خلالهم وجهاً آخر لهذا الشاعر الكبير، وزوايا لعلها تكشف للمرة الأولى.

إنه أدونيس ولكن عبر الآخر، الذي هو الصديق أو الأب أو الخصم، وعبر علاقات تراوحت بين الصداقة والمحبة والجفاء والخصومة في أحيان، وعبر قضايا وشؤون كثيراً ما أثارت شغف قراء الشاعر وحفيظتهم.

أشخاص يتحدث عنهم أدونيس بحرية وجرأة، غير متهيب أي عاقبة أو رد فعل. إنها سيرته ومساره يستعيدهما عبر هؤلاء الأشخاص، القريبين والبعيدين على السواء، هؤلاء الذين صنعوا جغرافيته الحميمة وفضاءه الحيّ وأفقه الشعري والفكري.

هنا الحلقة الثانية من «الحوار» مع أدونيس.

* الشاعر السوري بدوي الجبل، كيف كانت علاقتك به؟

- علاقة إعجاب، من جهتي. أما من جهته هو، فلم يكن مرتاحاً الى اتجاهَي الحديث في الشعر. ولا أعرف إن كنت تعرف أنه قريبي. فهو ابن خال أمي، عائلياً.

* بدوي الجبل، ترك فيك أثراً؟

- ربما. وقد يكون أثره فيَّ أكيداً. غير أنني لا أعي ذلك، ولا أعرفُ أن أدلّ عليه. بدوي الجبل هو بالنسبة إليّ، آخر شاعر كلاسيكي عربي كبير.

* كيف تنظر الى كمال خير بك؟

- كان يمثّل في شخصه الوحدة بين الشعر والحياة. كان في عمله شاعراً، وفي شعره عاملاً. كان صديقاً نموذجياً. وقد نذر حياته للنضال في سبيل الحزب والقضية الفلسطينية. ومات في حَلْبة النضال.

* وكيف تراه، شاعراً؟

- كان حسّه الشعري عميقاً وعالياً. وقد جسّد وعيه الشعري في كتابه النقدي عن الحداثة في الشعر العربي، أطروحته لنيل الدكتوراه في جامعة جنيف. وهو كتاب – مرجع.

* هل تعرّفت الى إلياس أبو شبكة، شخصياً؟

- كلا، مع الأسف.

* كيف كانت علاقتك مع سعيد عقل الذي كتب، كما يقال، نشيد الحزب القومي؟ وكيف تنظر الآن الى شعره؟ في أي موقع تضعه، هو الشاعر الطالع من صميم اللغة العربية. وما رأيك في دعوته الى القومية اللبنانية والى الكتابة بالحرف اللاتيني؟

- لم تكن علاقتي بسعيد عقل الشخص، جيدة. مع أنني رأيته أكثر من مرة. غير أنني أفدت من لغته الشعرية في سنواتي الكتابية الأولى. كانت امتداداً متألقاً للغة شاعرين أحببتهما: أبي تمام، وأبي نواس. فقد قبضَ فيهما على مفتاحٍ تخييلي – ذهني، أوصله في النتيجة الى أن «يسجن» لُغته في «غرفة العناية الفائقة»، مفصولة عن العالم وأشيائه. غير أنه ابتكر القصيدة القصيرة التي تبدو كأنها تتدلى على صدر اللغة كمثل «عقد فريد». أما قيمة هذه القصيدة، تجربة ومعرفة وكشفاً، فأمرٌ آخر يصعب الآن الدخول فيه. وقد بالغ في اللعب، والتقليبِ والصقل، بحيثُ انحصَر شعره بين عتبتين: «امتلاء» اللغة، و «فراغ» التجربة. وليست دعوتُه الى القومية اللبنانية إلا نوعاً من الأصيص الوطني لهذه اللغة – الزهرة. أصيصٌ بلا ماء.

أما دعوته الى الحرف اللاتيني فدعوة شاعر يُنكِرُ هو بنفسه ما خلق له هويته الشعرية وجعله هو هو. دعوة شاعرٍ يخرجُ من شعره ومن نفسه على السواء. وهي الى ذلك دعوة من يرى الوجود، إنساناً وشعراً وفكراً، في «الحَرف». كأنه يريد أن يُحل الأداة – الآلة، محلَّ خالِقها، الإنسان. إن مشكلة اللغة ليست لغوية. إنها عقلية – إبداعية. مشكلة اللغة في العقل الذي يستخدمها، لا في الحروفِ التي تُشكّلها.

* أخوتك هل كانوا حاضرين في حياتك أم انهم كانوا على هامش هذه الحياة؟ هل أنت على علاقة بهم تتخطى مسألة الدم والقربى أو كنتَ غريباً حتى في العائلة؟

- أعترف أن العلاقة معهم يغلب عليها الطابع العائلي. بعضهم يدرك، خصوصاً أخي محمد وأختي فاطمة، يدركان بعمقٍ معنى نشاطي الشعري والإبداعي إذا شئت، فعلاقتي بهما ثقافية، لكن علاقتي بالأخوة الآخرين يغلب عليها الطابع العائلي.

* ماذا عنت لك العلاقة بالأخت، فهذه العلاقة دار حولها الكثير من الكتابات في الروايات والشعر؟

- لي أختان: ليلى الكبيرة ماتت. والثانية فاطمة. غيابي عن العائلة منذ طفولتي منذ أن كنت في الثالثة عشرة من عمري، لم يترك لي فسحة أو مجالاً لاكتشاف مثل هذه العلاقة. العلاقات مع الأخت ومع الأخوة جزء من الثقافة أكثر مما هي جزء من الصلات الحية اليومية وذلك بسبب وضعي الشخصي. اليوم أحرص على رؤية أختي فاطمة باستمرار. خصوصاً أنها فنانة تتمتع بموهبة كبيرة في الرسم.

* فوجئ القراء وأصدقاؤك بأنك بنيت لك مقبرة في القرية وكأنك تريد أن تعود، بعد عمر طويل، الى القرية. ماذا يعني خط العودة هذا؟

- أظن أن الرغبة في العودة الى التراب الذي مسته قدماي للمرة الأولى، هو نوع من الاعتراف بالأمومة، نوع من العودة الى الأمومة لا الى الأبوّة. طبعاً لم أبنِ قبراً كما قيل وإنما أشرت الى أنني أحب أن أقبر في زاوية من مكان معين، في حديقة البيت.

* بعد هذا التطواف الأوليسي الذي عشته ستعود الى القرية. هل تحلم الآن بأن تقضي جزءاً من حياتك في القرية؟

- الحقيقة، هناك مشكلة، من جهة أنا كائن متغرّب منفصل غير مرتبط، مدينيّ. من جهة ثانية لم أعش كما ينبغي مرحلة الطفولة، ومرحلة العلاقة بالأمومة، ومرحلة العلاقة بالأبوة. هل رغبتي في العودة الى القرية نوع من الثأر تقوم به الطبيعة فيّ ضد المدينة، ويقوم به الاستقرار الطبيعي ضد الترحل المديني؟ أعترف بهذه المشكلة، ولا أعرف كيف أحلّلها.

* أسألك كشاعر ومثقف، ألم تجذبك فكرة القومية العربية؟

- لم تجذبني إطلاقاً.

* هل قرأت الفكر القومي العربي، كما تجلّى على أقلام روّاده؟

- قرأت الفكر القومي العربي كله تقريباً بدءاً من زكي الأرسوزي الى ميشال عفلق مروراً بالأشخاص الذين بينهما. بدا لي، وهذا ما تزداد قناعتي به، أن القومية العربية، كما نظّر لها كانت مشكلة تضاف الى المشكلات التي يجب الخلاص منها. كانت القومية العربية في هذا التنظير نوعاً من الدعوة الدينية. كانت تزعم أن الحقيقة كامنة فيها، وأنها تجسّد هذه الحقيقة في الوحدة، وفي الدولة الواحدة. وهذا حجابٌ على حقائق الواقع. حقائق الواقع تؤكد أن هناك عناصر كبرى متعددة ومتنوعة ومتباينة تشكل المجتمع العربي. فكرياً وإنسانياً، لا يمكن أن نكون إلا ضد نظريات تتيح في المجتمع الواحد، أن تهيمن عليه الكثرة العددية الدينية، وأن ينظر الى ما عداها من الجماعات، بوصفهم أقليات. أكره هذه الكلمة، ويجب أن تُلغى. العناصر الموجودة في المجتمع سواء كانت مسيحية، عربية الأصل، أو مسيحية غير عربية الأصل، وسواء كانت عناصر تتحدر من التاريخ القديم كالآشوريين والسريان والصابئة أو من عناصر الإثنيات الأخرى كالأرمن والأكراد وغيرهم، هؤلاء جميعاً عناصر تكوينية في المجتمع العربي، ولا يمكن النظر إليها بوصفها أقليات والعروبة نفسها جزء من هذا التكوين وليست كله. إذاً نظرية القومية العربية نظرية حَجب واختزال، تحمل الكثير من العنصرية، وكان طرحها في الماضي يبدو كأن العرب غزاة ومحتلّون، قاموا بالغزو الديني الإسلامي لهذه المنطقة. الإسلام هو أيضاً يجب أن يُنظر إليه بوصفه جزءاً من ثقافة المنطقة وليس كلها. لذلك كنت ضد القومية العربية باستمرار ولا أزال، ضِدّها، في صيغتها العنصرية السائدة.

* هل تعرفت الى ميشال عفلق؟

- مباشرةً، لا. لكن تعرفت إليه مرة بطريقة مداورة. كان يأتي الى فندق «بلازا» في الحمرا لأن صاحبه كان صديقاً له، كما كان يقال. مرة قال لي يوسف الخال: ميشال عفلق هنا. ما رأيك أن نجتمع به ونسأله لماذا سورية البعثية القومية التقدمية الاشتراكية تمنع مجلة كمجلة «شعر»؟ على الأقل نعرف منه لماذا تُمنع هذه المجلة. فقلت له أنا شخصياً أستطيع أن أقول لك الجواب سلَفاً. إنما سأنتظرك في مقهى «الهورس شو». إذهب أنت إليه الى الفندق وسأله أنت بنفسك. بعد ترداد وإصرار قلت لن أذهب معك. سأنتظرك هنا. ذهب وحده، وبعد اجتماعه به، جاء الى المقهى حزيناً. قال لي ميشال عفلق بعد نقاش طويل: إذا كان الحزب في دمشق يمنع هذه المجلة فالحق معه، كانت نظرته أيديولوجية ضيقة لا يتحمل أي نوع من الخلاف ولا يفهم أي نوع من التعدد. هذا دليل آخر على الفساد والفاشية في نظرية القومية العربية. بنية حزب البعث العربي نفسه، والأحزاب القومية العربية التي سبقته، بنية دينية، وليست بنية علمانية، عقلانية تعددية.

* ولكن ألم يكن الحزب القومي أيضاً مماثلاً لحزب البعث العربي؟

- طبعاً. أكرر أن جميع الأحزاب القومية واليسارية ذات بنى دينية بجميع أشكالها. أعتقد أن هذا من العلل الكبرى في العمل السياسي العربي. ونتيجة لانغلاق هذه النظريات، وعدم تطورها، فقد تحوّلت أفكارها الى طقوس ومظاهر. وبدلاً من أن يعيد أصحابها النظر فيها فتتكيف مع التطورات الاجتماعية، فقد بقيت كمثل الأديان ترى أن على الواقع أن يتكيف معها هي. فهي مطلقة لا تتغيّر، رغم أن الواقع يتغير.

* ألم يحاول البعث أن يجذبك إليه؟

- لا. منذ البداية قطعت كل علاقة معه. يكرهني حزب البعث – المؤسسة، ولا يزال، لكن، لي صداقات كبيرة مع بعض الأشخاص الذين ينتمون إليه، أو يتعاطفون معه.

* والحزب الشيوعي؟

- أميل كثيراً الى بعض الأفكار الماركسية، وكفكرة الشيوعية بالذات، فهي فكرة عظيمة. غير انني، بالمقابل، كنت ضد جميع الأفكار الشائعة في الأوساط الشيوعية العربية، حول الأدب والفن، باسم الواقعية الاشتراكية.

* لكنك، على علاقة طيبة مع بعض الشعراء الماركسيين والشيوعيين، مثل سعدي يوسف وغيره.

- طبعاً.

* هل تركت لبنان في بداية الحرب الأهلية اللبنانية؟

- لا، أبداً. عشتها بكاملها حتى عام 1983.

* هل وجدت لنفسك موقعاً في هذه الحرب؟ كنت تركت الحزب السوري القومي.

- تركته قبل ذلك بمدة طويلة. منذ 1961. وهذه الحرب لم تكن حرباً. كانت فتكاً ونهشاً ونهباً ووحشية.

* بالنسبة الى القيادات السورية، هل كنت على علاقة بأحدهم؟

- أبداً. ولم أعرف أي شخص قيادي كبير معرفة شخصية.

* حتى حافظ الأسد لم تتعرّف إليه؟

- أبداً. لم أجتمع به في حياتي كلها. مع أنه كان يلتقي أدباء وكتّاباً كثيرين. ومنهم نزار قباني، محمود درويش وآخرون.

* كيف تنظر الى حافظ الأسد؟

- لا أستطيع أن أتحدث عنه إلا من خارج، فكراً وعملاً، خصوصاً أنني لم أعرفه شخصياً. ولهذا يظل رأيي فيه جزئياً و «بعيداً». هكذا أعجبت بسياسته الخارجية، غالباً. كانت تدل على رؤية عميقة، تاريخية واستراتيجية. أعجبت كذلك بقضائه على الطفولة اليسارية، البطّاشة والجاهلة، في حزب البعث، فقد دمّر «قادتها» سورية، على جميع المستويات.

* ذهبت الى سورية وأقمت فيها فترة خلال الحرب اللبنانية، وأصدرت ملحقاً أدبياً لجريدة «الثورة»، ماذا عنى لك هذا الانتقال من بيروت الى دمشق، وكم دام؟

- أولاً، ذهبت وحدي. خالدة، بقيت في بيروت مع أرواد ونينار. لم يكن عندنا بيت، بعد طردنا من بيتنا في الأشرفية. لكن خالدة وأرواد ونينار بقينَ في مدرسة «الكارميل سان – جوزيف»، وكانت خالدة أستاذة الأدب العربي فيها ولم يكن في مقدور المدرسة أن تستقبلني معهن. لهذا ذهبت الى دمشق، وبقيت الى أن تمكنّا من استئجار شقة، قرب مبنى اليونسكو، لا نزال نسكنها حتى الآن.

ثانياً، لست أنا من أصدر ملحقاً أدبياً. أصدره الصديق الشاعر علي سليمان، وكان رئيساً لتحرير جريدة «الثورة». فطلب مني أن أشارك في التخطيط لهذا الملحق، وفي تحريره، مع الصديق الشاعر محمد عمران الذي رئس تحريره. فوافقت تحية له. وكان ملحقاً ممتازاً لم تعرف الصحافة السورية حتى الآن ما يرتقي الى مستواه. غير أن علي سليمان دفع ثمن ذلك غالياً، فقد نُحّي عن رئاسة تحرير الجريدة. ثمّ هُمِّش. ولهذا قصة طويلة.

* كنت ممنوعاً من الذهاب الى سورية، أو غير مرحبٍ بك؟

- لم أدخل سورية طوال عشرين عاماً بين 1956 و1976. ولم أبق فيها إلا فترة سنة جامعية، هي سنة 1976. أقول ذلك، لأنني عندما وصلت الى دمشق، كان الدكتور محمد الفاضل قد أسندت إليه رئاسة الجامعة السورية، وكان صديقاً عزيزاً، فأحببت أن أقوم بزيارته. سُرّ كثيراً بزيارتي له، وطلب مني أن أكون أستاذاً في الجامعة، قائلاً: السيد الرئيس أعطاني ثقته الكاملة وكلّفني أن أبني جامعة مثالية، إدارة وكفاءة ومعرفة. ويسعدني أن تتعاون معي، وتنضم الى هيئة التعليم في الجامعة السورية.

تأثّرتُ كثيراً بحرارة استقباله، وبعرضه الكريم، واعياً، استناداً الى خُبرتي، أن السلطات العليا سترفض قطعياً دخولي الى الجامعة، علماً أنني سأرفض أنا شخصياً هذا الدخول لو افترضنا أنها طلبت مني ذلك، خصوصاً أنني حريصٌ جداً على بقائي كما أنا أستاذاً في الجامعة اللبنانية.

غير أنني لم أشأ أن أصدمه. وقلت له بلطف: أنا شخصٌ غير مرغوبٍ به في سورية، إلا الى حدٍّ معين وضمنه. ولا أتصوّر أن الجامعة تدخل في هذا الحد. قال مؤكداً: السيد الرئيس أعطاني الصلاحية الكاملة في التخطيط والاختيار، وفي جميع الشؤون المتعلقة بهما. لذلك أرجوك أن تقدّم، شكلياً، طلباً للتعليم في الجامعة السورية.

قلت تأدّباً: آمل أن أكون مخطئاً، وأن تكون أنت المُصيب. وأردفت ممازحاً: سأقدّم لك طلباً، ولعله أن يكون مناسبة، لكي تعرف عملياً مدى قُدراتِك التنفيذية.

قدّمت طلباً. وبعد شهر أو شهرين اتصل بي وقال أحب أن أراك. أتيتُ، فرأيته حزيناً. قال: معك الحق. رفضت الطلب جميع المؤسسات الأمنية، وذكرها. كانت أربعاً أو خمساً بين عسكرية ومدنية. لكن، لا بد من الإشارة الى أن بعض أعضاء القيادة في الحزب كانوا الى جانبك. كنت صامتاً، أصغي إليه دون أية مفاجأة. ثم قال لي: سأدعوك أستاذاً زائراً، لهذه السنة 1976، ومثل هذه الدعوة من حقّي، ولا يقدر أحدٌ أن يُبطلها. أرجوك أن تقبلها. قبلتُ، تحية له أيضاً. لكن، لم تنته السنة حتى اغتالَه من اغتالُوه. فهم لا يزالون مجهولين. وقيل إنهم أشخاصٌ مُتديّنون أصوليون، اختفوا. ولم أفاجأ أن يكون المسؤولون في الجامعة أَنهوا دعوتي، قبل نهاية السنة، ولم يتيحوا لي تبعاً للتقاليد الجامعية واحتراماً لها أن أمتحنَ الطلاب الذين تابعوا محاضراتي، وكان عددهم كبيراً.

* ماذا أفادتك هذه الإقامة القصيرة في سورية بعد طول هجر؟

- عرفت في هذه الفترة القصيرة التي أمضيتها في جامعة دمشق، أشياء كنت أجهلها، وتعلّمت أشياء كثيرة.

* هل ما زلت تحتفظ بهويتك السورية؟

- قانونياً، لا تسقط الهوية عن المواطن السوري.

* اذكر إحدى مقولاتك الشهيرة: «لا أستطيع أن أكون لبنانياً، ولا أستطيع إلا أن أكون لبنانياً». ما قصدت بهذه العبارة؟

- الإنسان في لبنان مُمتهَنٌ، فهو يُقَوَّم في الدولة، في الحياة المدنية، بمعيار طائفي، وبانتمائه الطائفي، لا بمعيار إنسانيته ومواطنيته، وكفاءته. بعض البلدان العربية أقل سوءاً على هذا الصعيد. الإنسان فيها يقوّم إجمالاً، بحسب ولائه للنظام القائم، أو عدم ولائه، في معزل، إجمالاً، عن انتمائه المذهبي أو الطائفي. ويزداد الأمر سوءاً في لبنان بتقويم اللبناني، داخل طائفته نفسها، بمدى قربه أو بعده من زعيمها. على هذا المستوى، لا أستطيع أن أكون لبنانياً.

غير أن لبنان، من جهة ثانية، خلافاً للبلدان العربية أو لمعظمها، يتكوّن من مادة بشرية فريدة: إثنيات، وأديان، وثقافات متنوعة. وهذا يقدّم مكاناً لبناء مجتمع تعددي أو تنوعيّ يندرُ مثيله في العالم. وهو، إذاً، مشروعٌ منفتح يبدو فيه لبنان، كمثل الحب أو كمثل الشعر، لا نهاية له، يُبتكر ويُعاد ابتكاره باستمرار. ويبدو في إطار العالم العربي ضروري الوجود، ضرورة مطلقة. وعلى هذا المستوى، لا أستطيع إلا أن أكون لبنانياً.

* هل حصلت على الجنسية اللبنانية بسهولة، أم خضت معركة؟

- كان الأمر سهلاً. اكتشفت، بفضل بعض الأصدقاء، خصوصاً المحامي الراحل نعمة حمادة، والنائب الراحل أحمد إسبر، أنّ لي أرومة عائلية في قرية حجولا، قضاء جبيل. وقد ساعدني كثيراً في هذه المسألة الراحل الصديق ميشال أسمر، مؤسس الندوة اللبنانية. هكذا أخذت الجنسية اللبنانية استناداً الى هذه الأرومة. كانت بمثابة استعادة.

* نعود الى بيروت التي كانت مدينتك، وبالذات الى الستينات، كيف تحدد علاقتك بشخص مثل ميشال أسمر عرفته أنت عن كثب؟

- كنت سعيداً بمعرفته. وقد عملتُ معه في نشاطه الثقافي الذي كان عالياً، وحراً، ومتنوعاً، ومنفتحاً. وفي مُناخ هذا النشاط تعرّفت الى عددٍ من الأشخاص الذين كانوا آنذاك من أهم الوجوه الثقافية في لبنان.

لعب ميشال أسمر دوراً عظيماً في حركة الثقافة اللبنانية، أتمنى، للمناسبة، أن يُقدَّر كما يجدرُ، وكما يقتضي لبنان – الثقافة.

* والإمام موسى الصدر الذي كان أحد نجوم الندوة اللبنانية؟

- تعرفت إليه في إطار نشاطها. كان ذا هيبة وجاذبية وتأثير. غير أن علاقتي به كانت محدودة، لأنني لم أكن أعمل أو أنشط في سياق ديني. وكنت ألتقي به، بوصفه رجل دينٍ، يحمل قضيته، على نحوٍ منفتح، ومحبٍ.

* مثل رجال دين آخرين...

- مثل الشيخ عبدالله العلايلي، والشيخ صبحي الصالح، والمطران جورج خضر، والمطران غريغوار حداد والأب يواكيم مبارك، والأب ميشال حايك، تمثيلاً لا حصراً. فهؤلاء جميعاً كانت لي معهم صداقات، ومشاركات في أعمالٍ ثقافية متنوعة. ولا بد هنا، في هذا الإطار، من ذكر أشخاصٍ آخرين، مثل رينه حبشي، وسلوى نصار، وخليل رامز سركيس، وجواد بولس، ومنوال يونس، وحسن صعب، وبهيج طبارة، وكمال الحاج، وجوزيف زعرور، وفؤاد كنعان، وموريس صقر، تمثيلاً لا حصراً.

* خلال هذه الفترة، بدأتم بإنشاء مجلة «شعر». الآن، يقال إن المؤسس هو يوسف الخال. وأحياناً يقال أدونيس يوسف الخال. أو يوسف الخال وأدونيس.

- صدر العدد الأول من المجلة، شتاء 1957. والتقيته في بيروت للمرة الأولى، في تشرين الأول (اكتوبر) 1956. كان يعمل في هيئة الأمم المتحدة بنيويورك ضمن البعثة اللبنانية التي كان يرئسها أستاذه شارل مالك. كنت أعرفه بالاسم، ولم أكن قرأت له شيئاً. في سنة 1954، نشرت قصيدة طويلة في جريدة «البناء» التي كانت تصدر في دمشق، بعنوان «الفراغ»، نشرت، في ما بعد في مجموعتي الشعرية الأولى التي صدرت عن دار مجلة «شعر»، بعنوان «قصائد أولى». قرأ القصيدة وهو في نيويورك، ويبدو أنها أعجبته. اتصل بي، وكان كما بدا لي، من حديثه، أنه يفكّر بإنشاء مجلة خاصة بالشعر. وقال إنه فرح بالقصيدة، خصوصاً بخروجها على التقاليد الوزنية. واتفقنا على أن نلتقي في بيروت. هكذا التقينا في أواسط تشرين الأول 1956، في «مقهى نصر» وحدّثني عن مشروع المجلة.

هو، إذاً، صاحب الفكرة، والعامل الأول على تأسيسها. غير أننا عملنا سوياً، بوصفنا فريقاً واحداً، منذ العدد الأول الذي صدر بعد حوالى شهرين أو أكثر قليلاً، في شتاء 1957. وعندما نتصفح العدد الأول نرى أنني هيّأت شخصياً حوالى نصف صفحات العدد، وتحديداً 42 صفحة من أصل 109 صفحات. وقد حرصتُ، خلافاً لرغبته، على ألا يظهر اسمي في هيئة تحرير المجلة، وأن يكتفى باسمه وحده، لأسبابٍ خاصة متنوّعة.

* وهو كان صاحب الامتياز؟

- لا. كمال الغريّب كان صاحب الامتياز.

* لم يظهر اسمك في العدد الأول! لماذا؟

- لم يظهر، في هيئة التحرير، كما أشرت. لكن ظهرت لي في العدد قصيدة «مجنون بين الموتى»، وهي ذات شكل مسرحي، كتبتها في سجن القنيطرة العسكري، في سورية، عام 1955، وكان أشدَّ قسوة من سجن المزّة في دمشق. إضافة الى كثير من المواد الشعرية الأخرى، وبخاصة المواد المترجمة التي لم أوقعها باسمي الشخصي.

* سجنت بتهمة سياسية؟

- نعم. ولكن دون جرم، إلا إذا كان يُعد انتمائي آنذاك الى الحزب السوري القومي جرماً. غير أنني خرجت من السجن، دون محاكمة، كما كان الشأن في خروجي من سجن المزّة.

* متى ظهر اسمك في هيئة تحرير مجلة «شعر»، رسمياً؟

- بعد صدور العدد الأول، كان يوسف يصرّ باستمرار على وضع اسمي الى جانب اسمه، قائلاً: هذا حق، وضروري. والأفضل أن يظهر اسمانا معاً رئيسين أو مديرين للتحرير، وصاحبي المجلة. وكنت دائماً أجيبه: ننتظر قليلاً. أخيراً، بدءاً من العدد الرابع الذي ظهرت فيه ترجمة «ضيّقةٌ هي المراكب»، قبلت أن يظهر اسمي سكرتيراً للتحرير. وفي بداية السنة الرابعة، العدد 14، قبلت أن يظهر اسمي مديراً للتحرير. وحلّ شوقي أبي شقرا محلي، سكرتيراً لهيئة التحرير. وفي هذا العدد نفسه نشرت المجلة، للمرة الأولى، ثلاث قصائد نثر لأنسي الحاج. ثم انضمّ في بداية السنة الخامسة، العدد 17، 1961، الى هيئة تحريرها. وبدءاً من شتاء 1962، العدد 21، صار اسمانا يوسف الخال وأنا يظهران مقترنين على هذا النحو: «صاحبا المجلة ورئيسا تحريرها: يوسف الخال وأدونيس». تلك هي الوقائع. ولا أقدر، مع ذلك، أن أمنع الآخرين نقاداً ومؤرخين وشعراء، من أن يتحدثوا عن المجلة وتأسيسها، كما يَحلو لهم.

* كيف تنظر الآن الى يوسف الخال؟ ما العلاقة التي ربطتك به، علماً أنكما شخصان مختلفان تمام الاختلاف؟

- عن الشق الثاني من سؤالك أقول كنا متفقين، على الرغم من اختلافنا في أشياء حول إعادة النظر في الثقافة العربية، والشعر بخاصة، والتأسيس لصورة جديدة لهما، وحول الحرية الكاملة في النظر والتأسيس. ولم تكن آراؤنا في التفاصيل متطابقة دائماً. وقد ارتقى اتفاقنا هذا في الممارسة الى مُستوى الصداقة. كنا صديقين، بالمعنى العميق لكلمة صداقة. وقد أعطت لهذه الصداقة بعداً عملياً واجتماعياً وسياسياً، قناعتنا المشتركة بالعلمنة، ومدنية المجتمع، والتعددية الثقافية والانفتاح على الآخر وثقافاته. أما عن الشق الأول من السؤال، فأرى أن ليوسف الخال أهمية كبيرة أوجزها في ثلاثة أمور:

الأمر الأول شعري، وهو أنه أول شاعر عربي حديث كتب قصيدة موزونة مدوَّرة، وغير مقفّاة. وكتبها بشعر قريب الى النثر، أو كأنه النثر – أعني قريب الى الحياة اليومية ولغة الحياة اليومية، دون انفعالية أو حماسية متضخمة وفضفاضة. هكذا كسر للمرة الأولى، فنياً، لغة التأنق الشعري اللبناني: لغة سعيد عقل وأمين نخلة، على سبيل المثال، والتي وصلت الى درجة قتَلت الشعر، وأصبحت رنرنة لفظية.

الأمر الثاني ثقافي، وهو أنه، من ناحية أولى، صدر في كتابة الشعر عن رؤية توحد بين الشعر والفكر. خلافاً للنظرة التقليدية السائدة التي تفصل بينهما فصلاً كاملاً. وأنه، من ناحية ثانية، أدخل البُعْدَ المسيحي في الشعر، بوصفه عنصراً مكوناً من عناصر الثقافة العربية، وجزءاً عضوياً منها، جمالياً وفكرياً وأن فهم الثقافة العربية، في معزل عن هذا البعد، إنما هو فهمٌ ناقصٌ وسطحيٌ.

أدونيسوالأمر الثالث لغوي، فهو يقترح أن نكتب اللغة كما ننطقها. لا يتبنَّى اللغة الدارجة، ولا الحرف اللاتيني، وإنما يتبنّى اللغة الفُصحى نفسها لكن من دون حركاتها الإعرابية.

وهو اقتراحٌ متقدمٌ ورائدٌ، إذا قيس بالمقترحات الأخرى في هذا الإطار. وأنا شخصياً، لا أوافق عليه. لأنني أرى باختصار أن ما يسمى بمشكلة اللغة العربية من حيث تراجعها، لا تُحلّ لغوياً. المشكلة اللغوية هنا هي، في المقام الأول، عقلية – ثقافية. حين يموتُ عَقْلُ أمة تموت لغتها. واستخدام اللغة الدارجة أو المبسّطة أو الخالية من الحركات الإعرابية، لا يُعيدُ لها عقلها. كيف نستيقظ عقلياً؟ تلك هي المسألة.

* ولكن، ألم يسبقه جبران في ما يتعلّق بالمسيحية؟

- لا. رؤية جبران كونية، غير أن المسيحية جزءٌ منها. ويُعبّر عن هذه الرؤية من شُرفة كونية، تتخطى الثقافات الوطنية أو القومية. يوسف الخال نظر الى المسيحية العربية، بوصفها جزءاً عضوياً من الثقافة العربية، شعراً وفكراً ولغة. وهو في ذلك يصحح النظرة العربية السائدة التي تُهمل المسيحية على هذا الصعيد وتنظر إليها كأنها غير موجودة. لا تكتمل القراءة الثقافية العربية إلا إذا اقترنت فيها عضوياً قراءة الكتب السماوية بقراءة الكتب الأرضية. والمسيحية العربية ليست مجرّد كنيسة، وإنما هي كذلك ثقافة وفن، ورؤية ثقافية وفنية.

الحياة
الأحد, 21 مارس 2010

***

أدونيس: السيّاب كتب عشراً من أهم القصائد العربية وقصيدة النثر لا تعني بذاتها شيئاً (3)

بيروت - عبده وازن

بعد جزءين من الحوار الذي أجرته «الحياة» مع الشاعر أدونيس، وفيه يقدّم الشاعر نفسه، كما لم يفعل من قبل، في حواراته الكثيرة التي أجراها سابقاً. ننشر هنا الجزء الثالث.

إنه أدونيس ولكن عبر الآخر، الذي هو الصديق أو الأب أو الخصم، وعبر علاقات تراوحت بين الصداقة والمحبة والجفاء والخصومة في أحيان، وعبر قضايا وشؤون كثيراً ما أثارت شغف قراء الشاعر وحفيظتهم.

أشخاص يتحدث عنهم أدونيس بحرية وجرأة، غير متهيب أي عاقبة أو رد فعل. إنها سيرته ومساره يستعيدهما عبر هؤلاء الأشخاص، القريبين والبعيدين على السواء، هؤلاء الأشخاص الذين صنعوا جغرافيته الحميمة وفضاءه الحيّ وأفقه الشعري والفكري.

هنا الحلقة الثالثة من «الحوار» مع أدونيس.

اليوم يظلم يوسف الخال. بات يعتبر بطريركاً محركاً، أكثر منه شاعراً مجدداً.

- هذا خطأ كبير ومزدوج: في حق الشاعر، وفي حق الشعر. وأكثر أقول: أشك في أنه قُرئ كما ينبغي، حتى من المعنيين بالشعر، أو من الذين يكتبونه.

* لكن، الى أي مدى ترى أن يوسف الخال جدد القصيدة؟

- أولاً، من حيث الشكل والبنية، هو بين أوائل الذين نظّروا للخروج على الوزنية التقليدية، فكتب قصيدة غير شطرية، قائمة على الجُملة، وكتب قصيدة مدوّرة بلا قافية، ونَثْرنَ شِعرية الوَزْن، إضافة الى أنه كتب بدارجةٍ جديدة هي اللغة الفُصحى دون حركات إعرابية. ثانياً، من حيث المضمون، جُرّد الشعر من انفعاليته وتأوهاته العاطفية الغنائية، بالمعنى البكائي السطحي، وأنينه الذاتي الفردي، ورَبطه برؤية إنسانية حضارية. ثالثاً، أسس لمناخ مفتوح يستقبل الشعراء وبخاصة الشبّان، يدعمهم ويشجعهم وينشر لهم، خالقاً هكذا حركة ثقافية – فنية، كانت أكثر نضجاً ووعياً وفاعلية من جميع الحركات التي سبقتها، على أهميتها التاريخية. واليوم، دون اي مبالغة، يمكن أن نقسّم تاريخ الشعر الى قسمين: الشعر قبل مجلة «شعر»، والشعر بعدها.

* الى من كنت أقرب في مجلة «شعر»، ما عدا يوسف الخال؟

- الى أنسي الحاج. وبعده، في مرحلة لاحقة، الى بدر شاكر السياب.

* كنت أول المرحبين بأنسي في رسالتك الشهيرة.

- طبعاً. كان بشارة، كما بدا لي آنذاك، لكتابة عربية جديدة، رؤية وبنية.

* ثم واكبت أعماله. واختلفتما فترة، أم ماذا؟

- حدث بيننا جفاء، منذ أن تركت مجلة «شعر». وأسند إليه يوسف الخال، بذكائه الذي يعرف عمق علاقتنا، أمَر مُهاجَمتي بسبب انفصالي عن المجلة. ثم جاءت الحرب الأهلية، وهجرتي من بيروت الى باريس. هذا كلّه أحدث نوعاً من القطيعة على صعيد اللقاء، لكن، على صعيد الكتابة كنت حريصاً دائماً على قراءته، ولا أزال.

* اتّهمك بعضهم بأنك صرت تشعر بأنك أصبحت أكبر من المجلة، وأردت أن تنفرد بمشروعك؟

- هذا مجرد تأويل. تركت المجلة، بعد أن فشلتُ في تطويرها، في جَعْلِها تُعنى، من جهة، على نحو أشمل، بالتراث العربي، والحياة العربية والقضايا العربية، ومن جهة برؤية أكثر جَذرية وأعمق تأصّلاً في الشعرية الكونية. كانت المجلة أخذت تغرق في مياه العلاقات الفردية السطحية الصداقية، وتخفف من صرامة المعايير الفنية، وتتحول الى نوعٍ من «التحزّب».

هكذا لم أنشئ مجلة «مواقف» إلا بوصفها امتداداً لمشروع مجلة «شعر» الأصلي: العمل على خلق شعر عربي جديد، وثقافة عربية جديدة.

كان لا بُد من تعميق العلاقة بين الشعر والثقافة، بمعناها الإبداعي. مجتمع لا يُبدع ثقافته المتميزة، كيف يمكن أن يقبل رؤية شعرية إبداعية ومتميزة؟ لا ينمو الشعر العظيم، ولا يُقدّر ويفهم، إلا داخل ثقافة عظيمة. ومهما كان النص الشعري أو الفكري عظيماً، فهو يصغر عندما يقرؤه عقلٌ صغير. ومشكلتنا الأولى الشعرية والثقافية والسياسية، في الحياة العربية هي في هذا العقل الصغير المُهيمن. في هذا الأفق، وبالهواجس التي يثيرها، تركت مجلة «شعر»، وأنشأت مجلة «مواقف».

* هل استمرت القطيعة بينك وبين أنسي طويلاً؟

- قلت: جفاء، لا قطيعة. من جهتي، أحبّ أن ألتقيه، دائماً. مع أنه قيل لي: إنه أسقط من كتابه «كلمات»، كلّ ما كتبه عنّي. والحقيقة أنني لم أهتم بهذا القول، حتى أنني لم أقرأ «كلمات» لكي أتحقق من ذلك.

* علماً أن خالدة كتبت المقدمة؟

- يكنّ تقديراً عالياً لخالدة. وهي نفسها تكنّ له تقديراً عالياً. ما كتبته عنه فريدٌ. لم يكتب عنه أحد بمثل هذه الفرادة.

* لكن الأجيال الآن تقرأه بشكل قوي؟

- آمل أن يكون ذلك صحيحاً. لكنني مع ذلك أشعر أن هذه الأجيال لا تفهمه إلا شكلياً وتَبْسيطياً، بوصفه رائداً لقصيدة النثر. فهي لا تفهمه – في رؤيته العميقة، شعراً ولغة، للحياة والإنسان والعالم.

* قلت أكثر من مرة إنك تفضل أنسي على محمد الماغوط. ما السبب؟

- شعر الماغوط طائر جميل مغرّد. شعر أنسي سِرْبٌ من الطيور الجميلة المغرّدة. شعر الماغوط «واحد». شعر أنسي «كثير»: أغنى، وأعمق، وأكثر تنوّعاًَ.

* نستطيع أن نتكلّم عن انقطاع في العلاقة بينك وبين محمد الماغوط، علماً أنك كنت أول من قدمه في مجلة «شعر»؟

- جميع الذين قدمتهم شعرياً، بدءاً من عملي في مجلة «شعر»، ووفرت لهم كثيراً من فُرص التفتّح والنموّ، انقلبوا ضدي. ولا ألوم، هنا، ولا أشكو وإنما ألاحظ.

* أهي مسألة إلغاء الأب؟

- بهذا المعنى «الإلغائي»، قلت مرة في إحدى القصائد: «أمحو، وأنتظر من يمحوني». لكنه «مَحوٌ» شعري. وهو «محو» مجازي لا حقيقي – أي حَيدانٌ، وابتعاد. لكن إلغاء الأب عندنا، اليوم، هو نوعٌ من «القتل». فهو إلغاءٌ قائمٌ على الجهل – كيف تُلغي من لم تعرفه ولم تقرأه؟ وهو إلغاء يتمّ غالباً بلغة الأب ذاته. من يقتل أباه، يجب أن يقتله بلغة يبتكرها، هو. وهو إلغاءٌ يتم غالباً دون أخلاقية فنية أو إنسانية، بأسلحة الكتاب، والافتراء والانتفاخ، والاتهام بأشياء مُختلَقة، والجهل بأبسط قواعد الشعر.

* ما سبب عداء رياض الريّس لك، وحملاته ضدك، علماً انه كان من جماعة «شعر»؟

- لا أعرف. ولا أقدر أن أقول إنني أعرف رياض الريّس، حقاً. فقد التقيتُه مرتين أو ثلاثاً، على مدى نصف قرن، وفي مناسبات عامة. كانت المرة الأولى في مكتب مجلة «شعر»، برغبة خاصة من يوسف الخال. رجاني أن أجتمع به، وأقرأ معه قصائد قدّمها للنشر في المجلة، قائلاً: نحن صديقان، وأخاف أن تؤثّر عليّ صداقتنا في مسألة النشر. اقرأ القصائد وقل لي رأيك. قرأتها. كانت ساذجة. لغتها العربية ضعيفة جداً. ولغتها الشعرية أكثر ضعفاً. أعطيت السيد رياض، وكان لا يزال طالباً يتابع دراسته في بريطانيا، أمثلة على هذا الضعف، وناقشته فيه. وقلت له ما خلاصته أن من الأفضل له، هو شخصياً، ألا ينشر هذه القصائد، وألاّ يبدأ النشر إلا عندما يكتب نصوصاً شعرية قوية ومتميزة. وتابعت: هذا رأيي. في كل حال، أبحث الأمر مع يوسف الخال.

أحسستُ أنه لم يكن مرتاحاً الى ما نصحته به. ولا أعرف إن كان بحث الأمر مع يوسف. أعرف أن يوسف أخذ برأيي ولم ينشرها. غير أن المفاجأة المضحكة هي أنني، بعد فترة قصيرة، رأيت هذه القصائد بين مجموعة أخرى شبيهة في كتاب مستقل نشرته له إحدى دور النشر اللبنانية، وقدّم له جبرا إبراهيم جبرا، صديقه، بمقالة عنوانها: «زحزحة الباب العملاق». قلت ليوسف، ضاحكاً: ما هذا؟ كيف يمكن أن يحدث ذلك؟ لم يجب، وهزّ رأسه، صامتاً. واكتفيت بأن أردد في نفسي، صامتاً: «أيتها الصداقة، كم من الجرائم ترتكب باسمكِ، خصوصاً في الشعر».

منذ ذلك الوقت، بدأ السيد رياض يهاجمني، ولا يزال يتابع هذا الهجوم في كل مناسبة. طبعاً، لا أرد، ولا أعير ما يقوله أي اهتمام، وإن كان يضحكني أحياناً أولئك الذين يدعونه لكي يتحدث عن الشعر.

* أعود الى محمد الماغوط. متى بدأت العلاقة بينك وبينه تسوء، حتى أنه استمر في مهاجمتك، دون توقف؟

- تعرف طبعاً أنني كعادتي مع آخرين كثيرين، لم أرد عليه، ولم أقل عنه اي كلمة مسيئة. كانت بيننا مسألة تتعلق بزوجته الشاعرة الآسرة، سنيّة صالح، أخت خالدة. ساءت العلاقة معه، منذ أن أخذ يعاملها بطريقة وحشية كانت تصل أحياناً الى ضَرْبها. مع ذلك زرته عندما كان مريضاً، في أواخر حياته، في بيته في دمشق، وبدا لي ودوداً، ونادماً، خصوصاً في ما يتعلق بتهجماته عليّ.

* الآن، كيف تقرأ محمد الماغوط؟

- لا أحس باي حاجة ملحّة لقراءته. مع أنه، كما أظن، يستهوي كثيراً من الشبان. وفي الواقع، استطراداً، أنني لا أحس بمثل هذه الحاجة لقراءة أي شاعر من شعراء جيلي. خصوصاً ذلك الذي كان يملأ دنيا التقدم واليسار والشيوعية، عبدالوهاب البياتي.

* هاجمك البياتي بعنف؟

- لا علاقة لهجومه بما أقول. أقول ذلك، موضوعياً.

* هل تعتقد أن البياتي انتهى كما يقول بعضهم؟

- يصعب عليّ إصدار أحكام من هذا النوع، لذلك، لا أقول: انتهى. أقول إن شعره ضَحلٌ، وليست له اي أهمية فنية – جمالية، بالمعنى الحَصْري للعبارة.

* على عكس السياب؟ السياب تحبّه؟

- كتب السياب عشر قصائد، على الأقل، هي بين أجمل القصائد العربية التي كتبت، منذ خمسينات القرن الماضي حتى اليوم. هذا يكفي لكي يبقى. وهذا يكفي لكي أحبه.

* هل كانت بينك وبين بدر صداقة شخصية؟

- نعم. وبيننا رسائل متبادلة. وأنا، شخصياً، اخترت قصائد ديوان «أنشودة المطر» من بين القصائد الكثيرة التي وضعها بين يديّ، وفوّضني بالاختيار.

* أين تكمن حداثة السيّاب برأيك؟

- في مُقارَبته للأشياء، وفي طريقة تعبيره عنها. وفي لغته الشعرية، بخاصة: كأنه داخل اللغة الشعرية العربية الكلاسيكية وخارجها في آن: فلحظة يبدو لبعضهم «قديماً»، يبدو، في العمق» «حديثاً» بكامل المعنى. كأنه من التراث كالموجة العالية من البحر: لا هي هو، ولا هي غيره.

وتلك هي «المعادلة» العالية التي نعرفها عند شعراء الحداثة الغربية الكبار.

* أعود الى مجلة «شعر». لم تكن على صداقة مع شوقي أبي شقرا؟

- ... ولكن، لم أكن على عداوة. شعرياً، لم أنجذب كثيراً الى لغته الشعرية. كانت، بالنسبة إليّ، نوعاً من اللعب، سهلاً ومجانياً وفيه شيءٌ من الاصطناع.

* لم يَعْنِ لك شيئاً شعره؟

- احترمته، وأفسحتُ له المكان في مجلة «شعر»، قبل أن ينتمي الى هيئة تحريرها، بوصفه جزءاً من حركة الحداثة الشعرية في لبنان. غير أنني لم أتذوّقه. كنت أراه شبيهاً بعَزفٍ على وترٍ واحد. قد يريحك، للوهلة الأولى، لأنه يخرجك من الفصاحة البيانية في الشعر اللبناني. لكن سُرعان ما يخبو «عِطره» ويتلاشى.

* الفانتازيا لم تحبّها؟

- لا أحب الفانتازيا التي لا تصدر عن عمقٍ في الحس وفي النظر. والتي تفتقر الى جمالية الرؤية والتعبير.

* هو يقول إنه كان يصحح بعض قصائد الشعراء؟

- ربما. لكن، بعد أن تركتُ المجلة.

* فؤاد رفقة، كيف تنظر إليه بشعره المتواضع، علماً أنه آتٍ من الثقافة الألمانية؟

- تصف شعره بأنه متواضع. وهذا صحيح، لأنه امتدادٌ لشخصه المتواضع. فؤاد رفقة يوحّد، أكثر من أي شاعر آخر في جيله، بين ما يحيا عملياً، ويرى ويفكّر نظرياً، وبين ما يكتب شعرياً.

* نازك الملائكة، ألا ترى أن جزءاً من أسطورتها كان واهياً؟

- تكتسب نازك أهميتها الشعرية من كونها أولاً شاعرة في مجتمع يتردد كثيراً في الاعتراف باستقلالية المرأة، وحريتها.

وتكتسب، ثانياً، أهميتها من كونها امرأة مثقفة. أعطت للرومنطيقية بعداً غنائياً أنثوياً كان جديداً في وقتها. كانت تتويجاً للغنائية آنذاك، والتي كان يمثلها أفضل تمثيل الشاعر المصري محمود حسن إسماعيل.

* كيف تنظر إليها كناقدة ومنظّرة للشعر؟ هل قرأت كتابها «قضايا الشعر»؟

- طبعاً قرأته. كان عندها في هذا الكتاب زادٌ معرفي، وآراء ثاقبةٌ في كثيرٍ من القضايا التي طرحتها.

* نشرتم لشاعر من الشعراء المهمّين هو سعدي يوسف. كيف تنظر إليه، وإلى تجربته؟

- منذ البداية، قدّرت هذا الشاعر. افتتحنا بقصيدة له العدد الأول من مجلة «شعر»، وازددت، مع الوقت، تقديراً له ولتجربته. واستحسنت كثيراً تأثره، في ما بعد، بالشاعر اليوناني ريتسوس، الذي عرفته شخصياً في بيته، في أثينا، واهتمامه بتفاصيل الحياة اليومية. وهو اتجاهٌ بارزٌ، اليوم، في الكتابة الشعرية العربية، يعيد الصلة بكثير من الشعراء العرب القدامى الذين اهتموا في شعرهم بهذه التفاصيل، بدءاً من الشاعر الكبير ابن الرومي، مروراً بالصنوبري، والشعراء الآخرين الذين سُمّوا بشعراء «يتيمة الدهر» للثعالبي.

* لماذا حدثت قطيعة بينكما؟

- من جهتي، لم أفعل شيئاً يُوجب اي قطيعة. وإذاً، عليك أن تسأله هو، إن كنت مهتماً بهذا الأمر.

ولئن كانت هناك قضايا شخصية، فأنا لا أحب الخوض فيها.

* كيف ينظر إليك هو كشاعر؟

- مسألة لا تهمّني أبداً. لا سلباً، ولا إيجاباً. ولم أسأل مرة نفسي هذا السؤال.

* لم يكتب عنك كشاعر؟

- له آراء حولي كان يفصح عنها في أحاديثه الصحافية، وبين أصدقائه.

* نشرتم أيضاً لسركون بولص، كيف ترى سركون؟

- سركون شاعر متميّز.

* هل كنت على علاقة طيبة معه؟

- نعم. وكنت أستضيفه أحياناً في بيتي. غير أن علاقتنا تعكّرت فترة، ثم عادت الى طبيعتها.

بدأ سركون الكتابة، وزناً. غير أنه لم يكن يتقنه تماماً. وكنت أدفعه، بسبب من ذلك، الى التخلّي عن الوزن، والكتابة نثراً.

* كيف ترى الى تجربته الشعرية؟

- تمثّل نبرة متفردة وعميقة في الشعر العربي الحديث. وللمناسبة، أجرى معي حديثاً طويلاً لا يزال مخطوطاً. ولا أزال أتردد في نشره.

* وزميله فاضل العزاوي، مثلاً، هل قرأته؟

- أميل الى الظن أنه أقوى روائياً منه شعرياً.

* سنية صالح، كيف تجدها كشاعرة؟ هل ترى أنها أهم من محمد الماغوط وكما يقال أحياناً؟

- أتردد في المفاضلة بين الشعراء. سنيّة شاعرة مهمة جداً، لم تُكتَشَف بعد كما ينبغي. في شعرها فرادة تراجيدية، ذات قرار أنثوي، جديدة كلياً في الحداثة الشعرية العربية. ولو سألتني، في أفق المفاضلة، من تختار أن تقرأ الآن، إذا خُيّرت بين الماغوط أو سنيّة؟ لأجبتك: سنيّة.

* أذكر مرة أنك سئلت في الثمانينات عن الشعراء الشباب أو الجدد، وقلت عنهم إنهم غابة أصداء، وقامت القيامة. لعلك تذكر ذلك. لكن سئلت مرة أخرى، قبل فترة عن أهم الأصوات الشابة المؤثرة، فسميت ثلاثة: عباس بيضون وقاسم حداد وعبدالمنعم رمضان.

- سمّيت هؤلاء، انطلاقاً من وجهة نظر شخصية معينة في الثقافة العربية، وفي الشعر العربي بخاصة. وهي تنهض على فكرتين: خلخلة المستقر، والتأسيس لأفقٍ كتابي شعري مختلف. وأرى أن ذلك موجودٌ في كتاباتهم. شاعر كعبدالمنعم رمضان، يُفلِت تماماً من الأُطر المستقرة في الشعرية التي أرساها شعراء مصر، بدءاً من شوقي. وهذا مهمٌ جداً. والقول نفسه يصح في عباس بيضون، وقاسم حداد.

* هل يمكن اختصار المشهد الشعري العربي الراهن بهؤلاء الشعراء الثلاثة؟

- كلا، طبعاً. سمّيت لكي أعطي مثالاً، لا لكي أختصر. وقصدت أن أسمّي هؤلاء لأن في شعرهم، كلٌّ بطريقته الخاصة، بعداً هُرْطُقياً، على الصعيدين الفكري والفني. إن شعراً يكتب، اليوم، باللغة العربية، لا هرطقة فيه، متصالحٌ مع الأشياء، إنما هو شعرٌ يكتب خارج التاريخ. وأعني بالبعد الهرطوقي إعادة النظر المستمرة، جذرياً، في الحياة والأفكار والأشياء. فيما تتم خلخلة الراهن، المستقر، السائد.

أعرف أن هناك شعراء يمكن الاستشهاد بهم، في الأجيال اللاحقة، وبخاصة جيلك أنت، شعراء ذوي حضور مضيء، على مستويات أخرى. لكن، لا يمكن الكلام على جميع الشعراء فرداً، فرداً.

* كيف تنظر الى حركة الشعراء الشباب الداعين الى التحرر من وطأة اللغة والفصاحة و «الذكورة» اللغوية والى الميل الى بلاغة «الركاكة»؟

- لمثل هذه الدعوة جذورٌ في التاريخ العربي. وليس على هؤلاء إلا قراءة شعراء مثل ابن سُكّرة وابن الحجاج، وبقية الشعراء من إخوانهم، شعراء الحياة اليومية بمباذلها، ومكبوتاتها وممنوعاتها ومحرّماتها كلها. ولا أعترض، مبدئياً، على هذه الدعوة. الحرية، مرة ثانية، يجب أن تكون حرة.

غير أن النتاج الذي يصدر عن هذه الدعوة يجعل منها، استناداً الى ما قرأته، دعوة سياسية – ثقافية، أكثر منها دعوة شعرية. الشعر هو أولاً شعر، ويجب أن يُقوّم بوصفه شعراً، لا بوصفه «دعوة» – أياً كانت، سياسية، أو وطنية، أو أيديولوجية. المهم في اي «دعوة» شعرية هو شعريتها، لا «سياستُها»، ولا «اتجاهها»، ولا «قضيتها».

الشعر أوّلاً، لا «الدعوة».

* طالما تحدثنا عن مصر، لماذا نلاحظ أن بينك وبين الحداثة المصرية حالاً من القطيعة؟ مثلاً، لم تكتب مرة عن أحمد عبدالمعطي حجازي، أو أمل دنقل، أو صلاح عبدالصبور. كيف تنظر الى هذه الحداثة المصرية؟

- لست ناقداً لكي أكتب عن الشعراء. أقوم بين وقت وآخر بتحية لشعراء أقدّرهم. وهذا ما فعلته، بالنسبة الى صلاح عبدالصبور، ويبدو أنك لم تقرأ ما كتبته عنه.

ثم، من أين أتيت بالقطيعة التي تشير إليها؟ معظم المبدعين المصريين في مختلف الميادين، فنوناً تشكيلية، وشعراً، وقصة، ورواية، ونقداً، تربطني بهم علاقات وصداقات متينة. وأظن أن ما قلته عن صلاح عبدالصبور أساسي، ولم يكشف عنه أحدٌ قبلي: كسر لغة شوقي، السيدة المهيمنة، على صعيد الذائقة، وعلى صعيد المؤسسة، معاً. وهذا مهم جداً، فكرياً ولغوياً وجمالياً. إضافة الى الأهمية الشعرية، بحصر الدلالة. فقد كان ذلك بداية النقلة من أفقٍ شعري، الى آخر مختلف كلياً.

* لكن، ألا تعتقد أنه كانت هناك مرحلة وسيطة بينه وبين شوقي؟

- حتى لو سلّمنا بوجود هذه المرحلة، فقد كان صلاح عبدالصبور الأكثر جذرية، خصوصاً على صعيد اللغة الشعرية.

* وأمل دنقل؟

- موهبة شعرية عالية. وأنا أقدّر هذه الموهبة كثيراً، دون أن يعني ذلك، أنني أُعجَبُ بمنجزها الشعري. فالرؤية التي تقود هذا المُنجز كانت غالباً وظيفية – سياسية. وهذا مما جعل شعره وصفاً للواقع يهجس بإصلاحه أو تغييره، أي جعل منه إعادة لإنتاج الواقع بعناصره ذاتها، لكن، مهذبة، مُنقحة.

أميل، شخصياً، الى الشعر الذي لا يعيد إنتاج الأشياء، وإنما يهدمها برؤية جديدة وشاملة، ويعيد تكوينها، مبتكراً عالماً آخر، بلغة أخرى، وفي أفقٍ آخر.

* عموماً، كيف تنظر الى الحداثة الشعرية في مصر؟ يحاول النقاد المصريون والشعراء أنفسهم في مصر أن يخلقوا حالة حداثية خاصة بهم، كيف تنظر الى هذه الحالة؟

- لا أرى مثل هذه الحالة. الحداثة في مصر جزءٌ عضوي من الحداثة في البلدان العربية كلها. ربما كان هناك تنويع، لكنه حتى الآن، ليس واضحاً، لي على الأقل.

في كل حال، ليست الحداثة، شعرياً أو فنياً أو فكرياً أو أدبياً، مصالحة أو توفيقاً. الحداثة انشقاق وقطيعة. لكنها، قبل ذلك، رؤية للمستقر الموروث، مغايرة، وجذرية، وشاملة للحياة والإنسان والعالم.

مجرّد الكتابة بالنثر، أو قصيدة النثر، في هذا الإطار، لا تعني في حد ذاتها شيئاً. ما يعني هو الآفاق التي تصدر عنها الكتابة، والآفاق التي تفتحها – فنياً وجمالياً وفكرياً.والحداثة العربية، على هذا المستوى، لا تزال في بداياتها. وما يلفت النظر في هذه الحداثة هو نسيان الجمالية ولغتها، أو هو إهمالها. قلّما نجد دراسة تُعنى بجمالية الكتابة العربية الحديثة أو بلغتها، تراكيب وصوراً وموسيقى. الدراسات كلها تعنى بما هو ثانوي: الموضوعات والاتجاهات... الخ. فهذه لا تأخذ أهميتها إلا بكيفية التعبير عنها، أي بمستوى لغتها وجماليتها. وهذا ما نهمله جميعاً، تقريباً، شعراء ونقّاداً. أي أننا نهمل ما لا يقوم الشعر إلا به.

* كيف تقرأ أحمد عبدالمعطي حجازي؟

- أقرؤه في سياق الشعر المصري الغنائي الذي يمثله، على نحوٍ خاص، محمود حسن إسماعيل، وعلي محمود طه، وإبراهيم ناجي. فهو في شعره استمرارٌ لهؤلاء مع شيء من التنويع، شكلاً ومضموناً، يرتبط بالحدث السياسي – النضالي، وبالحدث الواقعي الاجتماعي. وسواءٌ قرأت شعره، من حيث بنية القصيدة، أو بنية اللغة الشعرية، أو من حيث الرؤية الفنية، بعامة، فإنني لا أجد فيه مُنعطفاً، على غرار ما أجد، مثلاً، في شعر صلاح عبدالصبور.

الحياة
الإثنين, 22 مارس 2010

*****

أدونيس: محمود درويش شاعر المصالحة عرف كيف يرثني وجماهيريته كانت ضده (4)

بيروت - عبده وازن

يواصل الشاعر أدونيس حواره مع «الحياة» في جزء رابع، ويتناول فيه الشعر الفلسطيني الحديث متوقفاً عند الشاعر محمود درويش في قراءة نقدية. ثم يتحدث عن الشعر المغاربي والاختلاف بين المشرق والمغرب، ويتناول الشعر العربي المكتوب بالفرنسية وبعض الشعراء العالميين وصورته كما قدمت الى القراء الفرنسيين في الترجمات التي أنجزت لشعره.

إنه أدونيس ولكن عبر الآخر، الذي هو الصديق أو الأب أو الخصم، وعبر علاقات تراوحت بين الصداقة والمحبة والجفاء والخصومة في أحيان، وعبر قضايا وشؤون كثيراً ما أثارت شغف قراء الشاعر وحفيظتهم.

أشخاص يتحدث عنهم أدونيس بحرية وجرأة، غير متهيب أي عاقبة أو رد فعل. إنها سيرته ومساره يستعيدهما عبر هؤلاء الأشخاص، القريبين والبعيدين على السواء، هؤلاء الأشخاص الذين صنعوا جغرافيته الحميمة وفضاءه الحيّ وأفقه الشعري والفكري.

هنا الحلقة الرابعة من «الحوار» مع أدونيس.

ماذا عن الشعر الفلسطيني؟ كيف تنظر الى طابعه الإشكالي؟

- هو الآخر جزءٌ من الشعر العربي، غير أنه يتحرّك في مدار من خصوصية المأساة الفلسطينية: شعراء فلسطين يعيشونها، ونحن الشعراء العرب، خارج فلسطين، نُعايشها. والفرق كبير. وهذا يلقي مسؤولية كبيرة وخاصة على الشعراء الفلسطينيين.الخلل، كما يبدو لي هنا، وهذا ما قلته مراراً، ومن زمن طويل، هو أن فلسطين تحوّلت في الشعر العربي كله، لا في الشعر الفلسطيني وحده، الى «موضوع» – بدلاً من أن تتحول الى «تجربة»، كما كان مُفترضاً.

فلسطين انفجارٌ مأسوي – كارثي في الحياة العربية، اجتماعاً وسياسة. فناً وفكراً. انفجارٌ يأخذ أبعاداً كونية. ولا أرى أن شعرنا ارتقى الى مستوى هذا الانفجار.

* ألا تعتقد أن محمود درويش استطاع أن يحقق هذا الإنجاز في شعره الأخير؟

- عرف محمود درويش، بذكاء كبير، كيف يستقطبُ اهتماماً كبيراً، عربياً وأجنبياً، في كل ما يتعلق بالقضية الفلسطينية. ومن هنا يتقاطع في شخصه الشاعر والسياسي، البعد الواقعي للنضال الفلسطيني وبعده الرمزي. غير أن شعره في حد ذاته مسألة أخرى. وأجد، شخصياً، صعوبة في الكلام على شعره، بسبب أساسي من صداقتنا في أثناء إقامته في بيروت، وبخاصة في أثناء إقامته بباريس. وقد كان، كما تعرف، عضواً في هيئة تحرير «مواقف»، فترة، ثم أنشأ مجلته «الكرمل». ذلك أن الصداقة قد تكون حجاباً، في حالات كثيرة، بينها مثل هذه الحالة.

في كل حالٍ محمود وارثٌ ذكي لمن سبقه من العرب: نزار قباني، سعدي يوسف وأدونيس. هذا على صعيد طرائق التعبير. أما على صعيد المضمون فهو أيضاً وارثٌ ذكي للثقافة العربية، خصوصاً كما تُعاش في الحياة العربية اليومية. ومعنى ذلك أن شعره لا يصدر عن تجربة ذاتية اختراقية تساؤلية، وإنما يصدر بالأحرى، عن موقف ثقافي جمعي. فشعره، على هذا المستوى، كمثل حياته العامة شعر مصالحة. لم يُصارع في حياته أي نوع من أنواع الطغيان الذي تحفل به الحياة العربية، بل كان صديقاً لجميع الأنظمة، بدءاً من نظام صدام حسين. وكثيرٌ منها كان يستقبله بوصفه رمزاً شعرياً وطنياً، وكان يتقبّل أوسمتها. ولم يصارع في شعره كذلك أية مشكلة، صراعاً ذاتياً فنياً: لا التراث، ولا اللغة، ولا الدين، ولا الذات، ولا الآخر. حتى المشكلات التي كان يطرحها أحياناً، كالموت والمنفى أو غيرهما، إنما كان يطرحها، ثقافياً، وفي إطار ثقافي معروف. شعره مكتوبٌ بلغة الجمع، ورؤية الجمع. غير أنه مكتوبٌ بذكاء غير عادي. يشهد لذلك «الإجماع» عليه.

وفي رأيي أن هذا «الإجماع» يشهد، شعرياً، لا معه بل ضده. لسبب أساس: ليس في الفن، والشعر بخاصة، إجماع. كلّ إجماع على ما هو ذاتي يتم بعناصر ليست من داخله، بل من خارجه. يتم بتلفيق ما. كلُّ إجماعٍ اصطناع.

* والغنائية لديه، كيف تنظر إليها؟ لا تحب الغنائية أو لست بميالٍ إليها؟

- لستُ مَيّالاً الى غنائية البكاء والندب، غنائية الرثاء الذاتي أو المدح الذاتي. لكن كل شعر عظيم إنما هو شعر غنائي من حيث انه يحوّل الكون كله الى نشيد، والإنسان الى صوتٍ وموسيقى.

* هل استوقفتك تجارب أخرى في الشعر الفلسطيني؟

- هناك، لا شك، كتابات مهمة، خصوصاً تلك التي تُفلت من الغنائية السهلة. تابعت بعضها، لكن يؤسفني أنني لم أقدر أن أُتابعها كلها.

* هل قرأت سميح القاسم؟

- قرأت ما وقعت يدي عليه. هو في طليعة شعراء جيله.

* والشعراء الفلسطينيون الجدد؟

- طبعاً، هناك شعراء فلسطينيون آخرون. ويؤسفني أنني لم أقرأ لمعظمهم إلا قصائد متفرقة، محدودة لا تسمح لي، أو لا تُجيز لمن يحترم الشعراء والشعر، أن يُصدر أحكاماً، سلباً أو إيجاباً.

* سنتحدث عن الشعر المغاربي. أقول مغاربي، قصداً، لأن الشعرية هناك، في المغرب العربي، في شكل عام، تختلف عن الشعرية المشرقية. هل توافقني على هذا التقسيم أنت الذي تعرف الشعر المغاربي جيداً، وأنت الحاضر جداً في المغرب العربي؟

- لا أظن أن في المغرب وحدة شعرية، فنياً. ما يكتب باللغة العربية في تونس مثلاً يتميز عما يكتب في المغرب والجزائر. فهو الأكثر قرباً الى اللغة الشعرية المشرقية. وما كتب أو يكتب باللغة الفرنسية، يختلف كلياً عما يكتب بهذه اللغة في لبنان، مثلاً. هذا أولاً.

ثانياً، الكتابة المغاربية الأدبية، الشعرية والروائية، باللغة الفرنسية أكثر قوة منها باللغة العربية، إجمالاً. لا نجد في الدول المغاربية حتى الآن روائيين أو شعراء باللغة العربية في مستوى كتابها باللغة الفرنسية: كاتب ياسين أو محمد ديب أو رشيد بوجدرة، أو ياسمينة خضرة، أو آسيا جبار، أو محمد خير الدين أو عبدالكبير الخطيبي، تمثيلاً لا حصراً.

ثالثاً، الشعر المغاربي، باللغة العربية – وأعني شعر الأجيال الراهنة الشابة، أعمقُ ثقافة، وأقلّ هجساً بالذاتية (وهما مزيتان)، من شعر الأجيال الراهنة الشابة في المشرق العربي.

رابعاً، وإذا ربطنا بين الشعر والفكر، في المغرب والمشرق، فإن الفكر في المغرب، متمثلاً في محمد أركون، وعبدالله العروي، وهشام جعيط تمثيلاً لا حصراً، أكثر غنىً وعمقاً من الفكر المشرقي.

خامساً، تتجلى الإبداعية المغاربية، بشكلها الأكثر خصوصية، في الفنون التشكيلية، وسؤالي هنا هو: ما يكون في هذه الظاهرة، دور التوترات، والصراعات اللاواعية والواعية، التي تعيشها «لغات» المغرب العربي، غير التشكيلية: العربية الفصحى، العربية الدارجة، الأمازيغية، اللغة الفرنسية؟

* كيف تفسّر ظاهرة قبولك في المغرب العربي، شعرياً، والأثر الذي تركته في النص الشعري المغاربي؟

- إن كان هذا القبول وهذا الأثر صحيحين فهما يسعدانني كثيراً. أعرف شخصياً معظم الشعراء والرسامين والروائيين والمفكرين المغاربيين. وتربطني بعدد منهم صداقات قديمة وعميقة. وكنت في المشرق بين أوائل، وربما أول من تنبهوا لأهمية الشعر والفكر في المغرب باللغتين العربية والفرنسية، ورحبوا به، ونشروه، خصوصاً في مجلة «مواقف»، بدءاً من أواخر ستينات القرن الماضي. وكانت مجلة «الثقافة الجديدة» التي أسسها الصديق الشاعر محمد بنيس أختاً لمجلة «مواقف» وامتداداً مغربياً عالياً لجذريتها وانفتاحها، ونظرتها النقدية الشاملة.

* طالما تحدثنا قليلاً عن الكتاب الذين يكتبون باللغة الفرنسية، أود أن أسألك عن رأيكَ في الشعر العربي الفرنكفوني، وعن بعض الشعراء الذين كتبوا بالفرنسية، ومن هم الأقرب إليك، سواءٌ في المغرب أو المشرق؟

- في المغرب كاتب ياسين، ومحمد ديب، ومحمد خير الدين. في المشرق جورج شحادة، وفؤاد غابرييل نفاع، وصلاح ستيتية. أما مستقبل الشعر العربي الفرنكفوني، فأمرٌ يصعب عليّ التكهن به، خصوصاً في أفقٍ يزداد فيه تراجع اللغة العربية وأكاد أقول: انهيارها، فنياً وفكرياً.

* هل تعتقد أن الشعر الفرنكفوني العربي، ساهم في ثورة الحداثة التي خضتموها أنتم الشعراء الذين تكتبون باللغة العربية؟

- كلا، لا أعتقد. كان جمهور هذا الشعر محصوراً بعارفي اللغة الفرنسية. وكان قرّاؤه بينهم محدودين. الحداثة جاءت «غريبة» على جمهور القراء العرب، إجمالاً. كان حتى المثقفون والأساتذة الجامعيون يسخرون منها، وكان بعضهم يأسف على مواهبنا التي تضيع فيها. حتى الآن لم تنشأ قراءة حديثة في مستوى الكتابة الحديثة. لا يزال النمط السائد في القراءة قديماً.

* كنت أول من قدّم الشعر العربي الفرنكفوني في مجلة «شعر». ترجمت كاتب ياسين وجورج شحادة وفؤاد غابرييل نفاع وعبداللطيف اللعبي وآخرين وقدمتهم الى القراء العرب. كيف تقرأ نفسك اليوم مترجماً الى الفرنسية؟ هل تشعر أنك كنت تحلم بالكتابة بهذه اللغة؟

- أبداً. ظلّت، بالنسبة إلي، لغتي الثقافية. إبداعياً، تربطني باللغة العربية علاقة كيانية. اللغة – الأم هي لغة الإبداع الشعري، وليس للإنسان إلا أمٌّ واحدة. أشك في أن يكتب شاعرٌ بلغتين بالحيوية ذاتها، وبالطاقة الإبداعية ذاتها. وإن كان هذا ممكناً في النثر. غير أن اللغة الفرنسية أفادتني شعرياً بوصفها لغة ثقافية. مثلاً، بفضل شعرها، ممثلاً على الأخص برامبو وبودلير ومالارميه، أعدتُ اكتشاف الشعر العربي، ففهمته بشكل مغاير تماماً للفهم الذي كان سائداً عندنا، وبخاصة في مدارسنا وجامعاتنا، وصرت أقرؤه في أفق الشعرية الكونية. عندما قرأت بودلير، وقرأت في ضوئه أبا نواس، رأيت مطابقات بينهما، في ما يتعلق بحس المدينة، وبالعابر الزائل في أحضان الأبدية، وبالجمال الخاص بالمدينة وحياتها اليومية. ورأيت أن بودلير يكرر في شعره أجواء ومناخات نواسية. وعندما قرأت مالارميه، فهمت دور اللغة، ومكانها في العالم الشعري الذي يخلقه الشاعر.

ثمّ بعد ذلك في ضوء السوريالية، أعدت اكتشاف اللغة الصوفية، في معزل عن الدين. ورأيت أن هناك مفهومات مشتركة بين الصوفية والسوريالية. مثلاً، ما سمّته السوريالية بالكتابة الأوتوماتيكية، أو الآلية، كانت الصوفية تسميه إملاء، أو شطحاً. وهو الكتابة الخارجة على كل رقابة عقلية. وما سمّته «النشوة»، كانت الصوفية تسمّيه «الانخطاف». وما كان يقوله رامبو: «الأنا آخر»، كانت الصوفية تقوله، بطريقتها: «الأنا لا أنا»، أو «الآخر هو أنا» – بحيث ان الإنسان لا يصل، في سفره نحو ذاته، إلا عبر الآخر. فالآخر عنصرٌ تكوينيٌّ من عناصر الذات. وعَبر ذلك أعدت اكتشاف معنى الهوية. الهوية في التصوّف ليست إرثاً، أو ليست جاهزة مُسبقاً، وإنما هي ابتكارٌ دائم. فكأن هوية الإنسان لا تجيء من ورائه أو ماضيه، وإنما تجيء من الأمام، أو من المستقبل. إضافة الى مفهومات أخرى كثيرة، فصّلتها في كتابي الذي صدر منذ سنوات، وأعيد طبعه مراراً: «الصوفية والسوريالية».

هذا كله يحتّم على الشاعر العربي أن يعيد قراءة تراثه باللغة العربية. ذلك أنه لا يستطيع أن يكون حديثاً فيها، إلا إذا عرف قديمها، ولا يستطيع أن يخلق بها جمالاً جديداً، إذا لم يعرف جماليّتها، وتاريخها الجمالي. ومن هنا لا تزال الحداثة عندنا مُلتبسة.

* عندما تقرأ نفسك مترجماً الى الفرنسية، اللغة التي تجيدها، ما يكون شعورك، وكيف تقرأ لحظاتك الشعرية في لغة الآخر؟ هل ترى نفسك غريباً؟

- لا أرى نفسي تماماً في لغتها الأصلية، دون ترجمة، فكيف أراها في الترجمة. وإذا كان الشعر ترجمة أولى للنفس، في لغتها الأصلية، فإن ترجمة هذه الترجمة الى لغة ثانية، ستجعل النفس أكثر بعداً، وأكثر تغرّباً. الترجمة تقدم علامات، إشارات، أفكاراً، علاقات من النص الشعري المُترجم. هكذا تقدّم «عالمه»، بالمعنى الواسع. غير أنها لا تقدم ما لا تتم شعرية النص إلا به: موسيقى اللغة، العلاقات بين الكلمة والكلمة، الحرف والحرف، ومن ثم الصور وكيمياءها الشعورية واللغوية. فالشعر يُترجَم رؤية ومُقاربة، لكنه لا يُترجم لغة وفناً. المهمّ إذاً في ترجمة الشعر أن يضع المترجم رؤية النص ومقاربته للأشياء في لغة عالية يستطيع أن يخلق بها مُعادِلاً للغة المنقولة في كل ما يتعلق بالموسيقى، والصور، والمخيلة والعلاقات في ما بين الكلمات، وبحيث يتم هذا كله وفقاً لعبقرية اللغة الناقلة، وخصوصياتها.

* سأقلب الآية، وأقول إنك ترجمت سان – جون بيرس، ترجمة إبداعية الى حد أنك خنت بعض المقاطع، كما قيل عنك؟ ماذا تقول عن علاقتك بشعره، وعن هذه الترجمة؟

- ليس هناك تطابق بين لغة ولغة، لا في تركيب الجملة، ولا في علاقة الكلمة بالكلمة، ولا في العلاقة بين الكلمة والشيء، ولا في الموسيقى اللغوية، أو في الصورة الفنية. انعدام هذا التطابق يدفع بعضهم الى ترويض لغته الناقلة، وجعلها تستسلم كلياً للغة التي تنقلها بحيث تصبح الترجمة نوعاً من الاستنساخ، بحجة الدقة والأمانة والعلم – وما إلى ذلك من الحجج التي تُقال، خطأ في غير مَوْضعها. وتأتي هذه الترجمة مضحكة، إجمالاً، ليس فيها شيء من الشعر، وإن كانت «أمينة» و «عالمة». وبعضهم، وأنا منهم، يرفض هذا الاستسلام. يحاول أن يخلق بلغته الناقلة لغة لا تكتفي بأن تعادل اللغة المنقولة، وإنما تحاول كذلك أن تتفوّق عليها، تعويضاً عما لا يمكن تداركه في اللغة المنقولة. وهذا عملٌ يُعطي معنى جديداً لترجمة الشعر: لا تعود نقلاً أميناً، وإنما تُصبح إبداعاً. وفي كل إبداع خروج. وفي كل خروج نوعٌ من الخيانة. غير أنها خيانة تحول دون أن يُخطئ الشعر، في حين أن الأمانة تحول دون أن يُخطئ الحرف. وشتّان بين الأمرين: أفضل، شخصياً، أن أخطئ حرفياً، على أن أخطئ شعرياً.

في هذا الأفق، وعلى هذا الأساس، نظرت الى شعر سان – جون بيرس وترجمته. وها هو نصه بالعربية يكاد أن يكون تأسيسياً. مضارعاً بذلك لغته الأصلية. ونعرف جميعاً أنه خلق تياراً في الكتابة العربية. وبعضهم لا يزال يترنح في مَهب رياحه العالية. في هذا الأفق أيضاً، حلمتُ ولا أزال أحلم بأن أترجم ثلاثة شعراء فرنسيين: بودلير، ورامبو، ولوتريامون.

* ومالارميه؟

- ترجمته، بالنسبة إليّ، متعذّرة لطبيعة اللغة التي يكتب بها. ثم إنني لا أجد في شعره ما يأسرني حقاً، وإن كنتُ أجدُ فيه حساً باللغة عالياً وفريداً.

* لكن عملك على سان – جون بيرس، كان تأسيسياً. وقد أثر في شعراء عديدين. لماذا اخترته؟

- لِنَفسه الملحمي الذي يتدفق في لغة غنائية كونية، ينصهر فيها الحِسُّ والذهن، الواقع والمخيلة، المرئي واللامرئي، الشعور والفكر، المجرد والمحسوس، على نحو مُدهش. وللمناسبة، لا يحبه الشعراء الفرنسيون الشبان، ولا الشعراء المتأثرون بالشعر الأميركي الراهن. يكاد أن يكون معروفاً في الشعر العربي، أكثر منه في أي شعر آخر، راهن، ولا أستثني الشعر الفرنسي الراهن ذاته.

* هل أثّر فيك سان – جون بيرس؟

- طبعاً. خصوصاً في القصائد التي كتبتها، فيما كنت أترجمه. أخصّ بالذكر: «مرثية القرن الأول» و «مرثية الأيام الحاضرة» و «أرواد، يا أميرة الوهم». والقصائد الثلاث منشورة في كتاب «أوراق في الريح». وتأثيره هنا اقتصر على طريقة تركيب الجملة الشعرية عنده، وعلى بنية الصورة الشعرية. حتى أنني استعرت منه في هذه القصائد، أكثر من جملة. لكن تأثيره الأكثر أهمية هو أنه أقنعني ألاّ أكتب قصيدة نثر، بالشكل الشائع، القصير الموجز. فبتأثير منه استخدمت النثر بوصفه «وزناً» آخر لكتابة الشعر، وكتبت بالنثر قصائد طويلة ذات نَفَسٍ ملحمي بلغت ذروة أجدها مهمة جداً في كتاب «مفرد بصيغة الجمع». غير أنني تابعت، في ما بعد، كتابة القصائد الطويلة، نثراً.

* لماذا وفّقت في ترجمة سان – جون بيرس، أكثر مما وفقت في ترجمة إيف بونفوا، وهذا ما لمسناه فعلاً؟

- لأن شعره «عاقل» و «هادئ»، وبعيدٌ عن «الجنون» الذي يُتيح «الخيانات». بونفوا يكتب شعره بحضور العالم. سان – جون بيرس يكتب شعره، مقتحماً العالم، معيداً تكوينه.

* ما الذي جذبك الى ترجمته؟

- صداقتنا. كانت ترجمته نوعاً من التحية الشخصية.

* ترجمت الكثير من الشعر الفرنسي. من استوقفك، إضافة الى الشعراء الذين ذكرناهم؟ مثلاً، رينه شار، ماذا يعني لك؟

- شاعر مهم. يمكن وصفه بأنه متوسطي، كمثل صديقه ألبير كامو.

* تحدث مرة أندريه فيلتير عن حضورك في الشعر الفرنسي، عبر شعرك المترجم الى الفرنسية. كيف تفسر هذا الحضور؟

- شعري متأصلٌ في الذاتية العربية، غير أن الآخرية، وبخاصة الفرنسية، متموجةٌ في هذه الذاتية كما لو أنها جزء منها. ولهذا يبدو شعري مختلفاً عن الشعر الفرنسي، وفي الوقت نفسه مؤتلِفاً معه. وفي هذا ما نبّه القرّاء الفرنسيين وبخاصة الشعراء الى أبعاد شعرية وفكرية يهتمون بها: كمثل الوحدة بين الشعر والفكر، وكمثل الغنائية الأرضية الجسدية، نقيضاً لتلك الانفعالية الغضبية الفردية، أو الحُزْنية. وكمثل الشفوية، والترحل، والوحدة بين المرئي واللامرئي، المعقول واللامعقول... هذا كله خلق مناخاً من الاهتمام بشعري في فرنسا – قراءة، وتأثيراً.

* يلاحظ أنك على الرغم من اهتمامك بالفرنكوفونية الشعرية، لم تكن بعيداً عن أجواء الشعر الأنغلوسكسوني. شاركت، مثلاً، يوسف الخال في ترجمة قصيدة إليوت «الأرض الخراب». كيف تنظر الى علاقتك بهذه الضفة الثانية – الثقافة الأنغلوسكسونية؟

- علاقتي هنا بشعراء، لا بمدارس أو اتجاهات، شعراء هم إجمالاً من الفترة الكلاسيكية، باستثناء إليوت، وعزرا باوند. واليوم، لا أهتم كثيراً، إلا من باب الاطلاع، بالشعر الأميركي الراهن، أو الإنكليزي الراهن. لا أجد فيه ما يفتح أفقاً للتأمل، أو ما يُغني.

* «الأرض الخراب»، هل أثّرت في شعرك، من حيث انها حضرت بشدة في الشعر العربي الحديث؟

- أظن أن القراءة العميقة للشعر لا يمكن إلا أن تؤثر في القارئ، قليلاً أو كثيراً، بشكل أو آخر. لكن التأثر شعرياً لا يعني التماثل، وإنما يعني، على العكس، التمثل. التأثر بشاعر ليس أن نأخذ جملة منه، أو فكرة وندمجها في كتابتنا، بطريقة أو بأخرى. التأثر هو أن نتمثل كيفية رؤيته للأشياء، وكيفية مقارباته لها. هو أن نخترق عالمه، ونرى الضوء الذي يشعُّ منه، وكيف؟ وهو تأثّر طبيعي وضروري، مارسه وعاشه الشعراء الكبار في العالم. وكل شاعرٌ لا يقرأ الشعر الكوني، في مستوى هذه القراءة، أتردَّدُ في تسميته شاعراً.

* أتذكر هنا توفيق صايغ. كيف ترى الى هذا الشاعر؟

- توفيق صايغ حالة خاصة في كتابة الشعر نثراً. فهو، فنياً، لا يصدرُ عن جمالية اللغة العربية وشعريتها، بقدر ما يصدر عن جمالية اللغة الإنكليزية وشعريتها. وقد يسمح ذلك بالقول إن لغته الشعرية بِنيَةٌ إنكليزية بألفاظٍ عربية. وهو، مضمونياً أو فكرياً، يصدر عن ثقافة سيكولوجية – مسيحية مُغَربَنَة حضارياً، أكثر مما يصدر عن مسيحية مشرقية – عربية تشحنُها التجربة الذاتية بغَربٍ مُشَرْقَن. وفي هذا ما يجعل «هويته» في كتابته الشعرية تبدو وكأنها «ثقافية» أكثر منها جمالية. ويجعل شعره سفراً في الأفكار، أكثر منه سفراً في أرض اللغة التي يكتب بها، أو في «جسدها» و «ما وراءه».

مع ذلك، تبقى كتابته، كما يبدو لي، ظاهرة تدفعنا، شعرياً وإنسانياً، الى أن ندرس معنى « الجسر» الذي حاول أن يقيمه بين اللغة العربية وثقافة كونية لا يَبدو فيها من محيط الثقافة العربية إلا «قاربٌ» لغوي، شعري عائمٌ، غائمٌ، بعيد.

الحياة
الثلاثاء, 23 مارس 2010

****

أدونيس: لا يضيرني أن ألتقي شاعراً اسرائيلياً ونجيب محفوظ وليد القرن التاسع عشر (5/5)

بيروت - عبده وازن

جزء أخير من الحوار الذي أجرته «الحياة» مع الشاعر أدونيس. وفي هذا الجزء يتناول أدونيس مفهوم العالمية الذي استطاع أن يرسخه بعدما ترجم شعره إلى لغات شتى وبات اسمه مطروحاً للفوز بجائزة نوبل للآداب. ويتحدث أيضاً عن عدم ميله الى قراءة الرواية وعن بعض الروائيين، عطفاً على حياته العائلية والعاطفية.

هنا الحلقة الخامسة الأخيرة من «الحوار» مع أدونيس.

أعود الى الشعر الغربي انطلاقاً من كونك أصبحت شاعراً عالمياً. وفي هذا ما يدفعني الى الحديث عن الشعر الإسرائيلي، شعر دولة عدوة هي إسرائيل. كان محمود درويش يقول إنه عندما كان يقرأ لبعض الشعراء الإسرائيليين الذين كتبوا عن أرض فلسطين التي احتلت، يشعر بالغيرة لأنهم كانوا يكتبون عن الأرض نفسها التي يفترض أن يكتب هو عنها. كيف تنظر الى هذه الإشكالية القائمة في الشعر الإسرائيلي الطالع من أرض فلسطين؟

- لهذه الإشكالية جذورها القديمة في التوراة نفسها. وقد دخلت هذه الإشكالية القديمة في الثقافة العربية عِبْر أنبياء التوراة الذين يعترف بهم الإسلام، ويعدّهم أنبياء له. وفي هذا يلتقي الديني والسياسي والشعري على نحو تناقَضي يُلغي فيه أحدها الآخر. فالشعر الديني السياسي ليس قتلاً للشعر، وحده، وإنما هو قتلٌ للغة ذاتها، من حيث أنه يحوّلها الى مجرد أُدْلوجة أو نظرية سياسية. وكنت وما أزال ضد هذا الشعر، خصوصاً عندما يتناسل في أشكال وطنية – قومية، كما هي الحال في معظم الشعر الإسرائيلي، الذي أتيح لي أن أطّلع عليه، عِبْر الترجمة.

* في إسرائيل جيل من الشعراء ليسوا قوميين عنصريين.

- أعرف. لكن يؤسفني أنني لم أقرأهم. أستثني الشاعر ناثان زاخ، فقد قرأته، مترجماً، ورأيت أنه ذو نزعة إنسانية، وأنه كان صديقاً لياسر عرفات، وهو يقف الى جانب الفلسطينيين وحقوقهم.

* هل يضيرك أن تلتقي بشاعر إسرائيلي في أحد ملتقياتك العالمية، مثلاً.

- كلا. بل أجد في مثل هذا الالتقاء، مناسبة للعمل على كسب هذا الشاعر وجذبه الى القضية الفلسطينية. لكن، شريطة ألا يكون هذا الشاعر قومياً عنصرياً، معادياً للقضية الفلسطينية. لأنه، إذّاك، يكون في صفٍّ واحد مع الذين يُطيلون أمدَ هذه الكارثة الإنسانية الكبرى، ويصرّون على تدمير الهوية الفلسطينية.

* بات معروفاً أنك أصبحت شاعراً عالمياً، وأنك الشاعر العربي الوحيد الذي استطاع أن يبلغ هذه المرتبة العالمية. وهناك رديف لك هو جبران، ونعلم أنك مرشح دائم لجائزة نوبل، وهذا لم يَحْظ به جبران. هل تشعر بسباق بينك وبين جبران؟ هل تغارُ عندما تسمع اسمه؟

- إطلاقاً. على العكس، أبتهج، وأشعر أنني أوسعُ وأقوى. الشاعر يكون كبيراً بين الكبار، لا بين الصغار. لذلك أشعر بالقوة وبمزيد من الحضور، بقدر ما يكثر الشعراء الكبار. كتبتُ عن جبران، وعلّمته في الجامعة، كما لم يكتب عنه أو يعلّمه أحدٌ قبلي. كتبت عنه، بوصفه، قاعدة رؤيوية أولى للحداثة العربية في طورها الثاني، بعد الحرب العالمية الأولى. فأنا أعتقد أن الحداثة العربية الأولى، بدأت بأبي نواس وأبي تمّام.

* لكنك قلت أيضاً في جبران إن أهميته ليست في ما كتبه، وإنما بالأحرى، في موقفه ورؤياه؟ أليس هذا إلغاء له؟

- موقفه من الثقافة العربية، ورؤياه الثقافية، والأفق الذي يتفتّح منهما أكثر أهمية بكثير من منجزاته الكتابية باللغة العربية. وهو في ذلك مؤسسٌ للحداثة العربية. جبران أكثر من شاعر. إنه راءٍ. وكونه رائياً أعمقُ وأغنى وأشملُ من كتاباته باللغة العربية.

* كيف تفسّر، إذاً، سرّ نجاحه العالمي، وهو ليس روائياً كبيراً، ولا شاعراً كبيراً؟

- السر في كونه رائياً، مُفصحاً عن رؤياه بنبرة نبوية. وبِحَدْسٍ شعري، موحداً في ذلك بين النقيضين: الدين والشعر. «والضد يُظهر حُسنَهُ الضدُّ». يجرّك، يوقظ في نفس من يقرؤه شاعراً، شهوة الدين، وشهوة الشعر في من يقرؤه رائياً أو «نبياً».

* أنت حاضرٌ في العالم وآثارك بيّنة في شعراء كثيرين الآن في العالم، خصوصاً في اللغة الفرنسية. لكنك على سوء تفاهم مع الشعراء العرب الشباب. أنت تهاجمهم أحياناً، وهم يهاجمونك أحياناً. ما سبب سوء التفاهم هذا؟

- من جهتي، ليست لي مشكلة مع أي شاعر، أكان شاباً أم لا. ولم أهاجم، شعرياً، بالاسم أي شاعر. أنت تبالغ وتعمّم.

صحيحٌ هناك أشخاصٌ يهاجمونني. والغريب أنهم كانوا ممن شجعتهم، ونشرتُ لهم، خصوصاً في مجلة «مواقف». غير أنه هجومٌ أتفهمه، شعرياً. ولم أردّ عليه، إطلاقاً. فهو، في العمق، لا يكشف عن حالة شعرية، بقدر ما يكشف عن حالة نفسية.

وصحيح أن بعضهم تجاوز المسألة الشعرية الى مسائل أخرى، معظمها تخريصاتٌ وأكاذيب. وهذا لا يليق بالشعر، ولا بالشاعر، وكان كلّه عابراً ومحدوداً.

يبقى أنّ لي مآخذ كثيرة على حركة الحداثة الشعرية العربية. فهذه الحداثة نشأت في مناخ الحداثة الغربية، ولكن دون أن تتمثل مُشكلاتها، أو تبنّتها، دون نقد، أو إعادة نظر، في ضوء التاريخ الشعري والفكري للغتنا العربية.

ولقد قامت الحداثة الغربية على ثورات صناعية وعقلانية واجتماعية، أدت الى نشوء حركات علمية وفنية أدت بدورها الى انقلابٍ معرفي عظيم في جميع الميادين. وهذا كله تختزله الحداثة الشعرية العربية، أو تكاد أن تختزله في مجرد الخروج على أوزان الخليل، في «قصيدة النثر».

كيف يمكن إذاً ألا تكون هذه الحداثة مجرد استعارة شكلية؟ كمثل السيارة، والطائرة، ومختلف الأدوات التي ابتكرتها الحداثة الصناعية الغربية.

كان يُفترض بالخروج على عشرين قرناً من الكتابة الشعرية، أن يكون هذا الخروج قائماً على تجارب كُبرى في اللغة والدين والتراث والحرية والفرد والمجتمع والبحث والسؤال والكون والإنسان والله. أما أن تختزل الحداثة في مجرد الكتابة بقصيدة النثر، فذلك أمرٌ كنت، منذ مجلة «شعر»، أعدّه اختزالاً لا يدلُّ على جَهْلٍ بالحداثة وحدها، وإنما يدل كذلك على جَهْلٍ بالشعر نفسه.

* هناك شباب يقولون إن الشعر لا ضرورة أن يحمل قضية. قضيته هي نفسه.

- بشرط أن يكون شعراً، أولاً. الشعر العظيم هو الذي يمكن وصفه بأن قضيته في نفسه ولنفسه، ولا يوصف هذا الوصف إلا لأنه إنساني – كونيّ تذب فيه متلألئة قضايا الإنسان والوجود.

عندما نقول شعر، نقول ضمناً الإنسان والوجود والصيرورة، وفي هذه تنطوي القضايا الكبرى كلها.

وعندما نقول لا قضية للشعر إلا نفسه، فذلك يعني أنه ليس وسيلة لغاية، أو أداة أيديولوجية أو سياسية لحمل قضية ما، أو الدفاع عنها.

* ما رأيك بالقصيدة اليومية التي تكتب الآن، مثل قصيدة التفاصيل، القصيدة الحميمة، الخفيضة الصوت؟

- لا أعترض على الشاعر في أي شيء يقوله، أكان يومياً تفصيلياً، حميماً، أو كان إنسانياً، كونياً. يمكن الشعر أن يتحدث عن كل شيء، دون حدٍّ أو حصر.

لكن المهم، أو الأساس هو كيف يقول الشاعر هذا الشيء؟ كيف يقاربُه، وما مستوى هذه المقاربة، رؤية، ولغة؟ والشعرية هي هُنا في كيفية قول الشيء، وليست في الشيء بحد ذاته. فلا فضلَ للكونيّ على اليومي، أو لهذا على ذاك إلا بالشعر.

* هل قرأت ريتسوس الذي كان له تأثير كبيرٌ على الشعراء العرب اليساريين، خصوصاً شعراء الحياة اليومية وتفاصيلها؟

- طبعاً قرأته. وقابلته في أثينا، وزرته في بيته. كان يهوى جمع الأحجار المصقولة، طبيعياً، والكتابة عليها، أو الرسم. شاعر كبير. قد يكون أكبر شاعر شيوعي. أكثر أهمية من نيرودا. لم يتخذ من الشيوعية موضوعاً، خلافاً لشعرائها جميعاً، وإنما شَعْرَنها – خالِقاً، في أفقها، عالماً شعرياً، يمكن وصفه بأنه مُعادلٌ جمالي – شعري لماديّتها، وقضاياها المتنوعة.

* وكيف تفسّر أنت رضى النقاد عنك، الى حد أنك الشاعر الوحيد الذي تصدر عنه كتب نقدية بوفرة، في معظم العواصم العربية. كيف تنظر الى عين الرضى هذه التي يوليك إياها النقد العربي، وما رأيك في ما يكتب عنك من دراسات؟

- أنظر إليه بوصفه وعياً عميقاً يعنى بالشعر الذي يطرح أسئلة، ويثير قضايا ترتبط بالوجود والمصير. وبوصفه كذلك أرى فيه رداً ثقافياً ضرورياً على موقف المؤسسة العربية الرسمية، وبخاصة التربوية والجامعية، والحركات والجمعيات والأندية، الناشطة ثقافياً والتي هي رسمية أو شبه رسمية. ففي هذه كلها لا مكان لشعري أبداً. وإنه لشيءٌ يُضحك ويُبكي في آن، أن نرى كتباً مدرسية – تربوية تتحدث عن الحداثة الشعرية العربية، مثلاً، ولا يخطر في بال مؤلفيها العباقرة الفطاحل أن يشيروا حتى الى اسمي. كما ترى، مثلاً، في سورية وفي غيرها من البلدان العربية، وإذاً، في مثل هذا المناخ الثقافي المريض المتخلّف يسعدك أن ترى مثل هذا الوعي النقدي المتقدم، والخَلاّق.

والحق أن معظم الدراسات النقدية التي كتبت حولي، وبينها ما أخالفه في أشياء كثيرة، يُمثّل استبصاراً شعرياً وفكرياً أعتز به، ويجدر بالثقافة العربية الإبداعية أن تعتز به هي أيضاً، قَبْلي.

* كيف تواجه نصاً نقدياً؟

- أنظر إليه متسائلاً: كيف قرأ، وكيف فهم، وكيف كانت مقاربته النقدية، وما الأفق الذي يتحرّك فيه؟

نقدُ الشعر إبداعٌ آخر. النقد، بعامة، إبداعٌ مُركّب: وعيٌ للمادة المنقودة، ووعيٌ لصياغة هذا الوعي في سياقٍ فكري خلاّق.

* ألا يُخيفك هذا الإجماع النقدي؟

- ليس هناك إجماعٌ، خلافاً لما تظن. شعري، على العكس، يشطر النقد العربي، كما لا يشطرهُ أي شعر آخر.

* أرى أن النظرة الإيجابية إليك، تغلب النظرة السلبية.

- إذاً، ليس هناك إجماع.

* وأين موقع خالدة في هذا السياق؟

- بين أعمق من يفهمني.

* عندما تقرأ خالدة، ناقدة، هل يرد طيفها، زوجة، أم تقرؤها بتجرّد؟

- أقرأ ما تكتبه عني وعن غيري بحيادٍ كامل. أحياناً أخالفها الرأي، لكن لا أفرض رأيي عليها، إطلاقاً، حتى في ما يتعلّق بنظرتها الى شعري. وأحياناً تكتب عن أشياء لا أجد فيها ما يستحق تعَب الكتابة. حتى في هذا لا أتدخل.

زواجنا هو قبل كل شيء صداقة عميقة. واختلافنا في الآراء جزءٌ من هذه الصداقة.

* إذا سئلتَ عن المرأة الأولى في حياتك، بعد أمك، فما جوابك؟

- عبلة الخوري. هي المرأة الأولى التي بدأتُ، بسحرها، أتعرّف على الأنوثة، وأكتشف الحياة، وأتعرّف على نفسي.

الى ذلك، هي التي عرّفتني بخالدة.

* هل كان بينك وبين خالدة قصة حب؟

- طبعاً. قصة طويلة. بقينا ست سنوات بين 1950 و1956، نسبح في أمواجٍ مُتلاطمة من مَدّ الحب وجَزرْه. وعندما تزوجنا في اللاذقية عام 1956، قام والدها بدفع نفقات زواجنا، دون عُرسٍ أو احتفال، وذهبت هي الى دمشق لتمضية فترة من الحكم عليها بالسجن، بسبب نشاطها السياسي، وجئت أنا الى بيروت.

هكذا حللنا مشكلات الزواج بوصفه مؤسسة، قبل زواجنا، وأحللنا محلها الصداقة وروابطها، مُستضيئين بما يقوله أبو حيان التوحيدي: «الصداقة آخرُ هو أنتَ».

* هكذا، لم يكن زواجكما مؤسسة تقليدية.

- كما أوضحت لك، غير أن هذا لا يعني أننا لم نُواجه في زواجنا – صداقتِنا، إشكالات كثيرة، ومتاعب متنوعة. غير أننا انتصرنا عليها، وتجاوزناها، بقوة الصداقة. خالدة امرأة نادرة.

* لكنك معروفٌ بحياتك العاطفية على هامش الزواج. هل كنت تشعر بأنك تخونها، مثلاً، إذا أحببت امرأة أخرى، ولو أن هذا من حق الشاعر؟

- لا أحبّ كلمة خيانة. الجسد خُلاصة كونيّة. وإذا كنا نَكْتنِهُ الكون وأسراره بالعقل، فإننا نحسه ونتذوقه بالجسد. وهذا هو الأكثر غنً. إنه الحياة في نبضها الأعلى، وفي حضورها الأكثر بهاءً وإنسانية.

يجب تدمير جميع القيود التي تُشوّش أو تُعرقل هذا البهاء.

* تتحدث عن الجسد لا عن الحب؟

- عندما تقول حب، فذلك لا يعني بالضرورة حضور الجسد. لكن، عندما تقول جسد، في هذا المستوى الذي نتحدث عنه، فأنت بالضرورة تقول الحب، في شكلٍ أو آخر، قليلاً أو كثيراً.

غالباً، يُختزل الجسد بالجنس. وهو اختزالٌ مُهين. الجسد عالَمٌ بقاراتٍ متنوعة، كلما أوغلت فيه تكتشف مزيداً من العوالم والقارات.

الجسد هو الكون كله في شهيقٍ واحدٍ، وزفيرٍ واحد، أو في ثوب واحد.

* هل عشتَ تجاربَ حبٍّ أليمة، أو ما يُسمى عذاب الحب؟

- لا. أبداً.

* هل أحببت امرأةً لم تحبّك؟

- تمنّيت كثيراً أن أقعَ في مِثل هذه الهاوية. لكن لم يُسعفني الحظ .

* نلاحظ أنّك لم تكتب كثيراً قصائد حب؟

- صحيح. بالمعنى الذي تراه عند شعراء كثيرين، حيث يتحوّل الحب الى «موضوع»، والمرأة أو الرجل الى «محبرة» تُغَطّ فيها ريشة الشاعر أو الشاعرة.

الحب، بالنسبة إليّ، مدارٌ كوني، والمرأة أنوثة والكون. وعلى هذا المستوى، كتبتُ كثيراً في الحب، كما لم يكتب أي شاعر عربي. أَعِدْ قراءة شعري.

* هل يمكن أن تحدّثنا عن بعض علاقات الحب، دون أن تسمي؟ عن المرأة التي تجذبك، وتمارس سحرها عليك أكثر من سواها؟

- لهذه العلاقات، لهذه المرأة، سرٌّ خاصٌ يتعذر تفسيره. كيمياء تذوب فيها التناقضات، وتتعانق الأقاصي. منطقٌ مادي – حيوي يتضاءل أمامه منطق العَقْل. ذلك أنه ضوءٌ أبعد من الضوء.

استناداً الى خبرتي المحدودة أجد في المرأة العربية ما يُوضح المعنى الذي أشير إليه، وما يجسّده، أكثر مما أجد في المرأة الغربية، مثلاً. فهذه، مِن جهة العلانية، من جهة الثقافة. أما تلك، فمن جهة الكتمان. عندها ذخيرةٌ من الغرائز، والمكبوتات على جميع الأصعدة، تجعلك تشعر أنها مكانُ اكتشافٍ دائم. وتجعلك تشعر أنّك معها أكثر التصاقاً بعوالم الخفاء، وعوالم اللذة والمِتعة، وأُنوثة الكينونة.

يمكن أن نذكر في هذا الإطار نفسه المرأة في الشرق الأقصى: الهندية، الصينية، اليابانية.

* هل تستطيع أن تقيم علاقة مع امرأة جميلة وليست مثقفة، مثلاً؟

- الثقافة، أحياناً، في هذا المجال، حجابٌ وحاجز. إلا، في حالاتٍ استثنائية.

* والمرأة الشاعرة، هل تعتقد أنها اكثر جنوناً في الحب؟

- يصعب الجَزْم. بالنسبة إليّ، على الأقل. علماً أن المرأة الشاعرة مهيأة، بحكم تاريخها الأنوثي، وأوضاعها الدينية والاجتماعية، أن تخترق، وتَرُجَّ، وتعلوَ أكثر من الرجل الشاعر.

* أي امرأة ترتاح معها أكثر في لحظة حب؟ الشاعرة؟ المفكرة...؟

- الأساس في مثل هذه الراحة أن تكون المرأة تحبّك، بكل ما في هذه الكلمة، من أبعادٍ ودلالات.

لا تتفتح طاقات الرجل إلا مع امرأة تحبّه بجميع طاقاتها.

* لم تعش أية خيبة حب؟

- أبداً.

* هل مرّت في حياتك فتيات صغيرات جددن فيك نارَ الحب؟

- نعم.

* لكن علاقاتك لا تدوم؟

- كل ما هو جميلٌ معرّضٌ لزوالٍ سريع. ولكن يجب الحرصُ على ان يكون هذا الزوال جميلاً، هو أيضاً.

* هل اختلفت مع امرأة، ولا تزال على خلاف معها؟

- نعم.

* خالدة لا تفاتحك بهذه القضايا؟

- أبداً. كذلك أنا، لا أسألها عمّا تفعل.

* إنها ديموقراطية جداً.

- ديموقراطية وحرّة.

* وعلاقتك بابنتيك، أرواد ونينار، اللتين لم تحضر كثيراً في تربيتهما؟

- علاقة صداقة وديموقراطية. نتحدث بصراحة كاملة عن كل شيء، وفي كل شيء. الكتاب – الحوار بيني وبين نينار مثلاً، مثلٌ حيّ. وهو كتابٌ صدر بالفرنسية عن «دار سوي» في باريس، وتُرجم الى لغات عدة، وسوف تصدر قريباً ترجمته العربية عن «دار الساقي» في بيروت.

* من هو أدونيس في مرآة أدونيس؟

- هو الباحث عن نفسه باستمرار. وكلّما بدا له أنه يرى صورته في هذه المرآة، يرى أنها تبتعدُ وتتلاشى. لذلك سأل مراراً، ولا يزال يسأل: من يقول لأدونيس من هو؟

* أنت، بهذا المعنى، نرسيس؟

- آتياً من المستقبل، لا من الماضي. نرسيس ضد نرسيس.

* مَن هو علي أحمد سعيد إسبر في مرآة أدونيس؟

- لا شعورٌ فرديّ وجَمْعيّ في آنٍ، حيناً. وشعورٌ فرديّ – جمعيٌّ، حيناً آخر.

* ما رأيك بما قاله جابر عصفور عن «زمن الرواية»، وقد باتت هذه المقولة مضربَ مثل سائر. وغالباً ما تردّد أنك لست من قراء الرواية؟

- النثر، تأملاً أو سرداً كان عند العرب، بدءاً من نشوء المدينة أو الحاضرة، أكثر من الشعر، كمّاً، ولم يكن نوعاً أقل أهمية – خصوصاً على الصعيد اللغوي – الفني. الجاحظ، أبو حيان التوحيدي، النَقري، وبعض مؤرخي الأحداث كالمسعودي في «مروج الذهب»، والأصبهاني في «الأغاني»، كانوا في نثرهم شعراء كباراً.

لو أن الرواية العربية في هذا الزمن أسست أو تؤسس لعالمٍ سردي جديد، فنياً وفكرياً، لغوياً وإبداعياً، لكان يصح وصفه بأنه «زمن الرواية». غير أن انعدام هذا التأسيس يجعل من هذا الوصف إشارة الى نوع من التخلّف عن «زمن الشعر» عند العرب. ويبدو، تبعاً لذلك أنه إشارة الى نوع من التخلّف عن «زمن الشعر» عند العرب. ويبدو، تبعاً لذلك أنه إشارة الى انحسار الوعي الخلاّق، واللغة الخلاّقة، والقراءة الخلاّقة.

وعندما أقول لستُ من القراء الذين يتابعون بشغف قراءة الرواية العربية، فلأنني أفتقد في حركتها العامة الغالبة هذا التأسيس، أو هاجس هذا التأسيس.

ولا يعني ما أقوله هنا أنني أنفي وجود روايات مفردة بالغة الأهمية، وروائيين مُفردين خلاّقين.

* كنت صديقاً للروائي يوسف حبشي الأشقر. ما هذه العلاقة التي جمعت بينكما؟

- يوسف حبشي الأشقر روائيٌّ يسير في أفق الروائيين الكبار في العالم: لا يفصل في رؤيته وشخوصه بين الكينونة وهاجس المصير، بين جسد الواقع وجُرح الغَيب، بين ضوء الطبيعة والعتَمة الماورائية. لا يقف عند حدود الجسد – الفرد. مشروعه الروائي قائمٌ على إعادة النظر في أسس العالم القائم، وفي القيم التي تحكمه، والآلة التي تُسيّره، بحثاً عما يتيح للإنسان بوصفه كلاً، كينونة شاملة أرضية – سماوية، أن يؤسس لعالمٍ أفضل، أي لإنسان أكثر انعتاقاً. بحيث تكون الحرية هي نفسها حرة، وفقاً لعبارة رامبو.

هذا مما ولّد بيننا صداقة عميقة، شخصية وثقافية.

* ونجيب محفوظ؟ هل قرأته؟

- قرأت نجيب محفوظ مع طُلاّبي في الجامعة اللبنانية، في كلية التربية وبعدها في كلية الآداب، في سبعينات القرن الماضي. روائيٌّ كبير، أكبر ما فيه أنه أوصل الفن الروائي في القرن التاسع عشر الأوروبي الى ذروته في اللغة العربية في القرن العشرين الروائي العربي، وأن كلَّ من سار في طريقه من العرب كان دونَه، أو في ظِلّه.

* هل شعرت يوماً أنك في حاجة الى كتابة نص نثري؟ هل تعتقد أن الشعر أتاح لك أن تقول كل ما تبغي قوله؟ وهل تعتقد أن العصر عصرنا بات يحتاج الى النثر؟

- كنت دائماً أكتب النثر، منذ أن بدأت كتابة الشعر. هما بالنسبة إليّ أمران متلازمان، كلاهما يستضيء بالآخر، ويكتمل به. لا يقول الشعر كل ما يحلم به الشاعر أو يريد أن يقوله. التعبير، نثراً أو شعراً، يُضمر بطبيعته عدم الاكتمال. يقوم، جوهرياً، على حركية توالدية، ذاتية – موضوعية، تظل في حاجة الى الابتداء والاستئناف.

وليس العصر، وحده، هو ما يحتاج الى النثر. يحتاج اليه الشعر نفسه. استطراداً، يمكن القول إن النثر عند بعض الشعراء العرب، أنسي الحاج ومحمود درويش، تمثيلاً لا حصراً، يُضيء شعر كليهما وشعريته بعناصر وأبعاد لا نراها في شعرهما ذاته.

الحياة
الاربعاء, 24 مارس 2010