ترجمة: أمين صالح

كيارستمي(نص الحوار الذي أجري مع عباس كيارستمي في National Film Theatre يوم الخميس 28 أبريل 2005، بمناسبة حصول كيارستمي على عضوية معهد الفيلم البريطاني برئاسة المخرج الراحل أنتوني منجيلا..)
بدأ مدير الندوة جوف أندرو التقديم بشكر كيارستمي على الحضور والمشاركة، ثم طرح عدداً من الأسئلة بدأها باستفسار حول فيلم Close Up ..

* لقد عرضنا فيلمك هذا لأنه واحد من أفلامك العظيمة. والشيء الذي دوماً أردت أن أسألك إياه بخصوص هذا الفيلم هو: مع نهاية الفيلم، عندما يلتقي سابزيان بمخملباف، الصوت يختفي. هل يختفي فعلاً؟

- أود أن أرحّب بكل شخص هنا، خصوصاً أصدقائي المقرّبين الذين شاهدتهم لتوّي بين الحضور. "لقطة قريبة" هو فيلم خاص جداً ضمن مجمل أعمالي. إنه الفيلم الذي تحقق بطريقة خاصة جداً.. بالدرجة الأولى، لأنه لم يتوفر لدي الوقت الكافي للتفكير في كيفية تحقيق الفيلم. سوف أعطي إجابة مطوّلة على سؤالك هنا، وربما سوف أغطي بعض الأسئلة الأخرى التي قد تبرز في ما بعد على نحو غير متوقع.
كنت أنوي أن أحقّق فيلماً آخر، بعنوان "مصروف الجيب"، وهو عن أطفال في المدرسة. المجموعة الأولى كانت جاهزة، لكن وقتذاك قرأت تحقيقاً في الجريدة عن الحدث. القصة أثارت اهتمامي وفضولي إلى حد بعيد، حتى أنها راودتني في أحلامي، وأثّرت فيّ بعمق. لذا اتصلت بالمنتج الذي أعمل معه عادة وطلبت منه أن نضع جانباً مشروع "مصروف الجيب" ونشرع في تحقيق شيء آخر، وهو وافق على ذلك. هكذا قررنا أن نحمل كاميراتنا ونذهب إلى السجن بدلاً من المدرسة، وبدأنا التصوير.
استغرق تصوير الفيلم أربعين يوماً، وقد واجهتنا صعوبات جمّة، ذلك لأن الأشخاص الذين كانوا في القصة الأصلية، الواقعية، قد وافقوا على إعادة تمثيل الأدوار السلبية التي أدوها. لذلك كنت بالفعل أتوقع، في أي لحظة، أن يأتي هؤلاء ويطلبوا الانسحاب من العمل، لأنه أمر صعب حقاً أن تقنع شخصاً أن يؤدي مثل هذه الأدوار السلبية وأن يكون هذا الدور موثقاً ومطبوعاً على الفيلم. لم يكن لدي سيناريو مكتوب. كنت أدوّن الملاحظات في المساء ونصوّر في اليوم التالي.. هكذا كان يجري الأمر لمدة أربعين يوماً. قد لا تصدقوني، لكنني فعلاً لم أنم طيلة أربعين ليلة. أنتم شاهدتم بداية الفيلم، حين كنت أتحدث إلى سابزيان. ثمة صورة فوتوغرافية لي مأخوذة عند نهاية التصوير، وفيها كنت قد فقدت كل شَعر رأسي.
صدقوني، حتى الآن لازلت مندهشاً من تمكني من تحقيق هذا الفيلم. عندما أعود وأشاهد الفيلم، أشعر حقاً بأنني لم أكن المخرج بل مجرد فرد من الجمهور، ذلك لأن الفيلم صنع نفسه، إلى أبعد مدى. الشخصيات التي ظهرت في الفيلم كانت حقيقية جداً، ولم أكن أدير أو أوجّه الممثلين بقدر ما كانوا هم يوجهوني. لذلك أقول، هذا فيلم خاص جداً.
من المظاهر المقلقة للفيلم ما ذكره السيد جوف، والالتقاء بـ سابزيان عند إطلاق سراحه من السجن. لم تكن لدى سابزيان أية فكرة عما سوف يحدث في ذلك اليوم ومن سوف يقابل. تلك اللحظة هي حقيقية جداً، عندما يلتقي سابزيان بمخرجه المفضل محسن مخملباف (فتنهمر الدموع من عينيّ سابزيان). الاثنان يركبان على الدراجة البخارية، ونحن نتبعهما بالسيارة دون أن يعلم سابزيان بأننا نصوّر فيلماً. كنت أنصت إلى حديثهما. الأمر الذي كان صعباً جداً هو أن أحدهما لم يكن يعي وجود الكاميرا بينما الآخر (مخملباف) يعلم بأننا نصور ما يحدث، وكان لديه "نصه" الخاص به. مخملباف ناقش معي الكثير من القضايا التي كان ينوي طرحها في الفيلم، بالتالي هو تصرّف كممثل. ونحن صورنا هذا المشهد الذي لا يمكن إعادة تصويره بأي حال من الأحوال. كان سابزيان يطوّق مخملباف بمودة بالغة ويعبّر له عن حقيقة مشاعره، بينما كان مخملباف يردّد الشعارات أو ما يرغب في قوله، لذا فقد نزعت سماعة الأذن وتوقفت عن الإنصات.
هكذا، بعد ليلة مؤرقة لم أنم فيها، توصلت إلى فكرة الإدعاء بأن ما حدث كان نتيجة خلل في الصوت. لذا، أنا أشكر مخملباف كثيراً لأنه كان السبب في الوضع الذي نشأ، والذي أرغمني على حذف الصوت. هذا شيء أثّر في أفلامي وفي الطريقة التي بها أحقّق أفلامي منذ ذلك الحين.
أنا أهتدي بما قاله رينوار، الرسام، عن قطرة الطلاء التي تقع بشكل غير مقصود على القماش. إنه ينصح الفنان بألا يشعر بالقلق، فبدلاً من الهلع، عليه أن يستخدم القطرة كعنصر في اللوحة ويستنبط شيئاً آخر منها. كل ما ننجزه في الأفلام مدين للأخطاء التي نرتكبها.

* لقد أجبت على خمسة من أسئلتي تقريباً. كنت سأسألك عن أفلامك التي تنمو من بعضها البعض، لكنك أجبت بقولك أنك تعلمت شيئاً من فيلمك "لقطة قريبة" والذي طبّقته في فيلم آخر. أعني، على سبيل المثال، فيلماً مثل "عشرة" حيث شجعت الذين شاركوا فيه على تحقيق الفيلم لك. لقد تخليت عن كل المفاهيم الطبيعية في كتابة السيناريو ونبذت فكرة التمييز بين الوثائقي والدرامي أو الخيالي.

- هذه نقطة هامة جداً، وهي متصلة كثيراً بالطريقة التي أثّر فيها فيلم "لقطة قريبة" على أفلامي اللاحقة. أظن أن الحرية التي أتحتها للممثلين في "عشرة" تعود إلى تجربتي في تحقيق "لقطة قريبة". في هذا النوع من الأفلام، سواء عملت مع ممثلين أو لا ممثلين، فإنك إذا سمحت لهم بأن يوجهوك، فإن النتيجة ستكون مرضية أكثر. إن الطاقات الحقيقية والفردية للممثلين مسموح لها أن تكون مجسّدة ومعبّر عنها وهي من الأشياء التي تؤثّر بعمق بالغ في الجمهور.

* المقتطف التالي الذي شاهدناه كان من فيلمك "والحياة تستمر"، والذي كان أيضاً فيلماً نامياً من فيلم آخر هو "أين منزل صديقي؟"، لكنه أيضاً الفيلم الأول لك الذي يتعامل مع قضية كبيرة جداً، والعلاقة بين الحياة والموت. حاولت أن أعرض ذلك في المقتطف، حيث نرى رجلاً يقول: "مهما حدث في هذا الزلزال، مازلنا نحتاج إلى مرحاض". ويبدو لي أن أغلب أفلامك تتعامل مع هذه العلاقة بين الحياة والموت..

- ليس لدي إجابة جاهزة على هذا السؤال. كنت أظن أنني تلقيت شتى الأسئلة، ومن كل نوع ممكن، لكن هذا سؤال جديد عليّ تماماً، ولهذا ليست لدي إجابة معدّة سلفاً. هذا الفيلم "وتستمر الحياة" هام جداً، ذلك لأن ما هو مصوّر كان مستوحى من رحلة قمت بها بعد ثلاثة أيام من الزلزال. وأنا لا أتحدث عن الفيلم نفسه فقط لكن أيضا عن تجربة وجودي في ذلك المكان، حيث ثلاثة أيام فقط قبل أن يموت 50 ألف شخص. بالنسبة للناجين، كان الأمر كما لو ولدوا من جديد، بعد أن اختبروا وجود الموت من حولهم. الزلزال حدث في الساعة الرابعة أو الخامسة صباحاً، لذا فإن كل شخص كان عرضة للموت، والصدفة وحدها خدمت أولئك الناجين. هكذا، لم أنظر إلى نفسي هنا كمخرج سينمائي، بل أيضاً كراصد للناس الذين حُكم عليهم بالموت. لذا كان هذا مؤثرا هائلا عليّ، ومسألة الحياة والموت من تلك اللحظة فصاعداً تتكرّر في أفلامي. هناك أيضاً حقيقة عمري (65 سنة). إنه لا يشكّل لي قلقاً شديداً، لكنها المسألة التي تبرز في أفلامي. ويتعيّن عليّ أن أعود وأرى من أين هي تبرز على نحو غير متوقع.
لكن السؤال الذي طرحته فاجأني، ويتعيّن عليّ أن أفكر فيه.

* أعتقد أن المسألة برزت في "طعم الكرز" و "الريح سوف تحملنا". فيلم "الريح..." مثير للاهتمام لأن العديد من الشخصيات نسمع صوتها لكن لا نراها. على سبيل المثال، في المقتطف، المرأة (صاحبة المقهى) تتحدث إلى شخص ما يوقف سيارته، والذي لا نراه أبداً. وهناك حوالي 13 أو 14 شخصية في الفيلم تبقى غير مرئية. لم حققت فيلماً يحتوي على العديد من الشخصيات اللامرئية؟

- أفلامي تتقدّم نحو نوع معين من التقشّف، من الاكتفاء بالحد الأدنى، حتى لو لم يكن ذلك مقصوداً أبداً. العناصر التي يمكن حذفها وإزالتها قد تم حذفها وإزالتها. شخص ما لفت نظري إلى هذا مشيراً إلى لوحات رمبرانت وتوظيفه للضوء: كان يركّز الانتباه على بعض العناصر، ملقياً ضوءاً قوياً عليها، بينما يضفي قتامة على عناصر أخرى أو حتى يدفعها نحو الظلمة. وهذا شيء نحن نفعله عندما نسلط الضوء على عناصر نريد أن نؤكد عليها. أنا لا أدّعي أو أنكر أنني فعلت شيئاً كهذا لكنني أؤمن بمنهج روبير بريسون في الخلق من خلال الحذف وليس من خلال الإضافة.

* الشيء الآخر المثير للاهتمام بشأن ذلك المقتطف هو أن بطل الفيلم يبدو وكأنه يعمل في السينما أو ما شابه.. نحن لسنا متأكدين تماماً من طبيعة مهنته. هو يضع نظارة ذات لون خفيف، ويلتقط صوراً فوتوغرافية، ويبدو كما لو أنك تقدم بورتريهاً شخصياً. البعض قال أن ثمة عنصر من النقد الذاتي في عملك هذا.. هناك أكثر من بديل لذاتك في أفلامك.

- قد يكون هذا صحيحاً. أظن أن السؤال يندرج ضمن الأسئلة التي يجيب عليها المرء وهو جالس في عيادة محلّل نفساني. مع ذلك، أظن أننا أحياناً، كمخرجين، نذنب في طلبنا من الممثلين أن يتصرفوا بطرائق معينة والتي قد لا تكون مقبولة أخلاقياً. لكنني لست الوحيد الذي يرتكب هذا الإثم.

* شيء آخر بخصوص "الريح سوف تحملنا". هذا المشهد يدور في مقهى، والذي هو ليس حقيقياً. لكنك وضعت هذا المشهد في قرية حقيقية ثم رحت تغيّر فيها كثيراً. هذا يعيدنا إلى فيلمك "لقطة قريبة" وحذفك للصوت. أنت قلت مراراً بأنك لكي تصل إلى الحقيقة أو الصدق، يتعيّن عليك أن تكذب. هل تستطيع أن تخبرنا لم تؤمن بذلك؟

- هذا صحيح تماماً لأن في القرية الحقيقية حيث صوّرنا، الناس يجدّون ويكدّون في العمل خلال النهار، وعندما يعودون إلى بيوتهم في الظهيرة، هم في الواقع لا يجلسون في المقهى لشرب الشاي كما تشاهدهم في الفيلم، لذا نحن بنينا المكان لتقديم مشهد فيه شخصياتنا تباشر حواراً مع الناس. لقد وجدنا أن من الصعوبة جداً إجراء محادثات مع أهالي القرية لأن ليس لديهم استعداد أو رغبة في ملازمة المكان فترةً تسمح لنا بتبادل الحديث معهم. لذلك اضطررنا إلى بناء ذلك الديكور من أجل هذا الغرض.
في الواقع، السيدة في الفيلم لا تنتمي إلى ذلك الموقع، بل هي قادمة من قرية أخرى، وقد استعنا بها لأننا لم نجد سيدة أخرى في القرية تقبل القيام بالدور. وتجدر الإشارة هنا إلى أن ممثلتنا هذه، بعد يومين من تصوير مشاهدها، أخبرتنا أنها غير قادرة على إكمال التصوير، وأنها سوف ترسل ابنتها بدلاً منها. ولم تجدِ محاولاتنا لإفهامها بأننا لا نحتاج إلى ابنتها بل إليها هي.
أعتقد أن أداءها الرائع كان نتيجة عدم فهمها لهذا الشيء: أن حضورها كان أساسياً ولا غنى عنه. ربما لو كانت تفهم هذا لما أنجزت المطلوب منها على نحو جميل.

* الجمهور شعر بأن فيلمك "الريح سوف تحملنا" كان خيالياً لكن الكثير منه كان حقيقياً تماماً. ومع فيلمك "عشرة"، الجمهور اعتقد فعلاً أنه وثائقي. صحيح أنه كان جزئياً مستوحى من الحياة الحقيقية لممثلته مانيا أكبري وابنها، لكنه يحتوى أيضاً على الكثير من الخيال.
الآن، يبدو أنك في مرحلة معينة صرت مفتوناً جداً بالتقنية الرقمية (الديجيتال).. بالكاميرا الرقمية صوّرت ABC Africa، خمسة، عشرة عن عشرة.. هل مازال موقفك مؤيداً للسينما الرقمية كما كنت عندما صورت تلك الأفلام؟

- هذا سؤال كبير، وأشعر أن عليّ أن أقول الكثير عن هذا الشأن لكن (مخاطباً الجمهور)
أعرف أنكم منهكون وأنكم شاهدتم الفيلم، لذا سأحاول أن أوجز إجابتي. أظن أن هذا يُعرض على بساط البحث كثيراً عند مناقشة مسألة الدرامي مقابل الوثائقي، لكنني أؤمن فقط أن هناك سينما جيدة وأخرى سيئة.
السينما الجيدة هي ما نستطيع أن نصدقها، والسينما السيئة هي ما لا نستطيع أن نصدقها. ما تراه وتؤمن به هو ما يثير اهتمامي كثيراً. والمسألة لا تتعلق بنوعية الكاميرا التي صورت بها الفيلم، سواء أكانت بكاميرا 35 ملي أو بالفيديو الديجيتال. ما يهم هو مدى قبول الجمهور للفيلم كشيء حقيقي.
صحيح تماماً أن الممثلين الهواة أو اللاممثلين يشعرون بارتياح أكبر أمام الكاميرا الرقمية (الديجيتال)، بدون إضاءة وحشد كبير يحيط بهم، وأننا نصل معهم إلى لحظات حميمة أكثر. لذا أنا أعتقد أن فيلماً مثل "عشرة"ما كان يمكن أن يتحقق بكاميرا 35 ملي. الجزء الأول من الفيلم يدوم 17 دقيقة، ومع نهاية ذلك الجزء، يكون الصبي قد نسي تماما وجود الكاميرا. الآخرون كانوا ينظرون إلى الكاميرا، حتى سوّاق السيارات المجاورة كانوا ينظرون إلى الكاميرا، لكن ليس الصبي. إذن الكاميرا الديجيتال لها حسنات كثيرة، وأنا كنت من المؤمنين بأن كاميرا الفيديو الديجيتال سيكون لها تأثير كبير على طريقة صنع الأفلام.
لكنني، إلى حد ما، فقدت حماستي في السنوات الأربع أو الخمس الأخيرة. في المقام الأول، لأن الشباب الذين يدرسون السينما ويستخدمون الفيديو الديجيتال لم ينتجوا إلا ما هو سطحي وتبسيطي. لذا صار لدي شكوك في هذا الشأن. على الرغم من الميزات العظيمة للفيديو الديجيتال، وسهولة التعامل مع الوسط، إلا أن أولئك الذين يستخدمونه بحاجة أولاً إلى فهم الحساسية التي بها يتم استخدام الوسط على نحو أفضل.

* ينبغي أن أشير إلى أن فيلمك "خمسة" سوف يعرض هنا، وسيكون استكشافاً حقيقياً لما تستطيع أن تفعله مع الكاميرا الديجيتال. بعد ذلك قمت بتحقيق جزء من فيلم "تذاكر"، بكاميرا 35 ملي. إذن فقد عدت إلى الكاميرا ذات 35 ملي.. لكن هل ستحقق مزيداً من الأفلام بالكاميرا الديجيتال؟

- هذا يتوقف كثيراً على طبيعة العمل. أعتقد أنك إذا كنت ذا ذهنية رقمية، فإن بوسعك أن تستخدم الكاميرا الرقمية. إن من الاستحالة تحقيق "خمسة" بدون الكاميرا الرقمية. الفيلم صُور بكاميرا واحدة، تحت ضوء القمر، بلا أجهزة أخرى. وإذا لم نرغب في الاستفادة كلياً من الديجيتال، فإن كاميرا 35 ملي هي الوسط الأفضل.. خصوصاً في تصوير أعمال درامية. شخصياً لا أعاني من مشاكل مع كاميرا 35 ملي.
يبدو أن المخرجين منقسمون بين أولئك الذين يتعاملون مع الديجيتال والذين يرفضون هذه الوسيلة. لا أظن أن ذلك شيء مقرّر سلفاً، فكل شيء يتوقف على المشروع الذي تريد أن تشتغل عليه، وعلى ذلك الأساس أنت تختار الوسيلة.

* يبدو أننا تحركنا إلى الأمام كثيراً في الحديث عن مسيرتك، لذا فإننا نود العودة إلى البدايات. هل تعتقد أنها كانت مصادفة محضة أن تصبح مخرجاً سينمائياً؟

- هذا سؤال بسيط لكن الإجابة عليه صعبة. أظن أني لا أختلف عن أصدقائي الذين بينهم الطبيب أو رجل الأعمال أو المهندس المعماري. نحن جميعاً بدأنا معاً في مشاهدة أفلام العصر الذهبي. لكن سواء أكنت أحقق الأفلام أو أكتب الشعر أو ألتقط صوراً فوتوغرافية، فهذا متجذر في إحساسي بالقلق وانعدام الطمأنينة.

* سينماك تبدو لي سينما الأسئلة. أنت لا تقترح أجوبةً، بل تجعلنا نفكر في الأسئلة طوال الوقت.. في الواقع، تصويرك الفوتوغرافي هو كذلك، وأيضاً قصائدك..

- أنا هنا سوف أعيد ما قلته سابقاً. لا شيء مما فعلته انطلق من نيّة أو قصد ما في حد ذاته. أبداً لم أكتب الشعر عن سابق عزم وتصميم.. كذلك الحال مع التصوير وتحقيق الأفلام. أنا خرجت والتقطت الكثير من الصور ثم وضعتها في ألبوم. بعد سنوات قررت أن أعرضها، فجأة أطلقوا عليّ تسمية مصور فوتوغرافي. الشيء نفسه مع أشعاري.. هي مجرد ملاحظات وتعليقات دوّنتها في كتاب واعتبرها الآخرون شعراً.

* لم أخذت وقتاً طويلاً حتى تدعنا نشاهد صورك، أو حتى نقرأ قصائدك؟ أنت كنت تمارس الشيئين منذ فترة طويلة لكن فقط خلال السنوات الخمس أو الست الأخيرة صار بمقدورنا أن نرى تلك الأعمال.

- كما قلت، لم أكن أحسب قط أنها منتجة من أجل أن تُعرض على الملأ. هي حقاً مجرد مبرّر لي لأجل أن أقضي وقتاً مع الطبيعة.

* عندما جئت إلى هنا في المرة الأخيرة، عرضت "طعم الكرز" الحائز على جائزة كان، و"الريح سوف تحملنا" الذي نجح في الفوز بجائزة رئيسية في مهرجان فينيسيا. لقد أصبحت سينمائياً مشهوراً على الصعيد العالمي بطريقة لم يسبق أن اختبرتها من قبل. لكن ذلك لم يجعلك تكفّ عن أن تكون سينمائياً إيرانياً، إذ مازلت تعيش وتحقق أفلاماً هناك، في إيران، مع أنك تعتبر مخرجاً عالمياً. هل تتفق مع هذا التقييم، وكيف تعاملت مع الشهرة والضغوطات التي تفرضها؟

- نحن لا نصل إلى أي شيء بسهولة ويسر، وغالباً ما يكون هناك ثمن عال ينبغي دفعه، وفي بلادنا قد يكون الثمن أعلى. الفيلم هو صوت عام وعالمي، ولا يمكن حصره أو ربطه بثقافة خاصة واحدة. تجربتي الأخيرة في تحقيق الفيلم كانت مع فيلم "تذاكر" Tickets، المصوّر في إيطاليا، والمكوّن من ثلاثة أجزاء قصيرة، وقد توليت إخراج الجزء الثالث.
ليس من واجبي الحكم على الفيلم وتقييم ما إذا هو جيد أم سيء. لكن أستطيع أن أقول أن أحداً لا يمتلك نقطة خلاف ثقافية أو لغوية مع ما يُنتج. إذا كنتُ أستمر في الحصول على الفرصة للعمل في إيران فذلك ما أفضّل كثيراً أن أفعله. وأن تمتلك صوتاً عالمياً لا يتصل حقاً بما إذا كنا نتحدث الفارسية أم أي لغة أخرى. أظن أن صانعي الأفلام يبدعون بشكل أفضل عندما يكونون في أوطانهم، تماماً مثل لاعبي كرة القدم الذين يلعبون بشكل أفضل في بلدانهم، رغم أن قوانين اللعبة هي نفسها في أي مكان يذهبون إليه.

* أنا لا أعرف شيئاً عن كرة القدم، لذا سوف أدع الجمهور يطرح أسئلته عليك..
* سؤال من أحد الحضور: هل ظللت على اتصال مع سابزيان بعد إنجاز "لقطة قريبة"؟

- آخر مرّة اتصلت به كان منذ ثلاثة أيام. قبل ذلك لم أسمع منه مدة خمسة أو ستة أشهر. كان من المفترض أن نحضر معاً مهرجاناً في كوريا، لكن لم توجه إليه الدعوة. هو اتهمني بأني السبب في ذلك، وهو في الواقع محق في اتهامه، لأنني طلبت من إدارة المهرجان أن لا توجّه إليه الدعوة، لأن الأمر سيكون صعباً جداً على أشخاص مثله إن هم غادروا البلاد. أخبرته بأنني سأعود، وإننا سوف نصوّر فيلماً قصيراً معاً. كان سعيداً جداً. وأنا الآن أتساءل عما يمكن أن أصوره معه.
لا شيء تغيّر في حياته. هو لا يزال يعيش مثلما شاهدتموه في الفيلم. أحياناً هو يتاجر بأشرطة الـ DVD الأجنبية في السوق السوداء. ظننت أني سوف أرى نسخاً من أفلامي عنده في الكشك. في الواقع، هذه الأيام هو معروف أكثر مني في طهران. في المهرجان الذي عرض فيه فيلم سيرجي بارادجانوف، لم أحصل على مقعد في الصالة، وكان هو هناك بين الجمهور، فلما رآني جاء إليّ ودبّر لي مكاناً في الصالة.

* سؤال آخر من الحضور: كيف تحصل من هؤلاء اللاممثلين على أداء طبيعي؟ هل تعتمد على السيناريو؟ وما هو شعور الحكومة الإيرانية تجاه القضايا التي تثيرها أفلامك؟

- أنا لا أكتب سيناريوهات كاملة لأفلامي. عادةً لدي مخطط تمهيدي عام مع شخصيات مرسومة في ذهني، وأنا لا أدوّن الملاحظات حتى أعثر على هذه الشخصيات، المتصورة في ذهني، في الواقع المحيط بي. عندما أجد الشخصيات، أحاول أن أقضي وقتاً معها وأن أعرفها جيداً. بالتالي فإن ملاحظاتي ليست مستمدة من الشخصية التي في ذهني سلفاً، بل هي، عوضاً عن ذلك، مبنية على الأفراد الذين ألتقي بهم في الحياة الواقعية. إنها عملية طويلة، قد تستغرق ستة شهور.
أنا أدوّن الملاحظات فحسب، أنا لا أكتب الحوارات كاملة. والملاحظات هي منطلقة كلياً من معرفتي بذلك الشخص. لذلك عندما نبدأ في التصوير لا أجري بروفات معهم على الإطلاق. هكذا، بدلاً من سحبهم نحوي فإنني أنتقل قريباً منهم. أكون أقرب إلى الشخص الحقيقي من أي شيء آخر أحاول خلقه. إذن أنا أعطيهم شيئاً لكنني أيضاً آخذ منهم.
بالتالي، عندما تشاهد النتيجة النهائية، يكون صعباً عليك أن تقرر من هو المخرج، أنا أم هم. جوهرياً، كل شيء ينتسب إلى الممثلين، نحن فقط من ندير الوضع أو الموقف. أظن أن هذا النوع من الإخراج شبيه جداً بتدريب فريق في كرة القدم. أنت كمدرب تؤهل وتهيء لاعبيك ثم تضعهم في مراكزهم المناسبة. لكن ما إن تبدأ المباراة فإنك لا تستطيع أن تفعل شيئاً. بإمكانك أن تدخّن سيجارة أو توتّر أعصابك، لكنك لن تقدر أن تفعل الكثير.
أثناء تصوير فيلمي "عشرة" كنت جالساً في المقعد الخلفي لكنني لم أستطع التدخّل. أحياناً كنت أتابع الممثلين وأنا في سيارة أخرى تسير خلفهم، أي أنني لم أكن حتى حاضراً في "الموقع". ذلك لأنني أعتقد أنهم سيعملون بشكل أفضل في غيابي.
المخرجون لا يخلقون في كل الأحوال، أحياناً يكون بوسعهم أن يخربوا ويدمروا عندما يفرضون مطالب كثيرة.
استخدام اللاممثلين له قوانينه الخاصة، هذا يقتضي أن تسمح لهم بأن يفعلوا أشياءهم الخاصة.

* هل تفضّل هذا المنهج بسبب الطريقة التي بدأتها في "مركز التنمية الفكرية للأطفال والشباب"، حيث عملت غالباً مع الأطفال، مستخدماً ذلك المنهج في العمل؟

- هذا متجذر بعمق في تلك الفترة من حياتي. لو لم أعمل مع الأطفال لما توصّلت إلى هذا الأسلوب. الأطفال أشخاص مستقلون وأقوياء جداً، وبإمكانهم التوصل إلى أشياء مثيرة للاهتمام أكثر من مارلون براندو. أحياناً يكون من الصعب جداً أن توجّه الأطفال أو تأمرهم بفعل شيء ما.
عندما التقيت بـ أكيرا كوروساوا في اليابان، وجّه إليّ سؤالاً واحداً فقط: "كيف جعلت الأطفال يمثلون بالطريقة التي نراهم فيها؟ أنا أحياناً أشرك الأطفال في أفلامي لكنني أكتشف بأنني أختزل حضورهم شيئاً فشيئاً حتى أضطر إلى التخلص منهم لأنني لا أجد أي طريقة مناسبة أستطيع بها أن أديرهم وأوجّههم".
وجهة نظري هي أن المرء يكون شامخاً ومهيباً ، مثل إمبراطور على ظهر جواد، والطفل يجد صعوبة شديدة في إقامة علاقة معه. من أجل أن تكون قادراً على التعاون مع الطفل، يتعيّن عليك أن تنخفض حتى تصل إلى مستواهم في سبيل أن تحقق الاتصال معهم. الممثلون أيضاً هم أشبه بأطفال.

* سؤال آخر من الحضور: هل يمكنك أن تحدّثنا عن علاقتك بالسيارات؟

- سيارتي هي صديقتي الحميمة. هي منزلي، مكتبي، الموقع الذي أتواجد فيه أكثر من أي موقع آخر. يتكوّن لدي إحساس حميمي حين أكون في السيارة مع شخص يجلس إلى جواري. نكون في وضع مريح جداً لأننا لا نواجه بعضنا البعض، بل نجلس جنباً إلى جنب. أحدنا لا ينظر إلى الآخر، ولا نفعل هذا إلا إذا أردنا ذلك. في السيارة، ومع حضور الآخر، مسموح لنا أن نتلفّت وننظر خارجاً دون أن نبدو فظين أو غير مهذبين. لدينا شاشة كبيرة قبالتنا مع نوافذ جانبية. الصمت لا يبدو ثقيلاً أو صعباً. لا أحد يخدم أحداً. وهناك العديد من المظاهر والأوجه الأخرى. أيضاً من الأشياء الهامة جداً، أن السيارة تنقلنا من مكان إلى آخر.

* سؤال من الحضور: أنا أمريكي، وأحياناً يرعبني التحامل المضاد لإيران في وسائل الاتصال (الميديا) الأمريكي. أود أن أعتقد بأن أفلامك يمكنها أن تخلق فهماً أوسع بين الأمريكان والإيرانيين، لكنني أخشى أن الميديا الأمريكية تشجع المواطنين الأمريكان على التفكير بطرائق مبسطة إلى حد ما. أنا أتساءل إذا كان بإمكانهم أن يقدّروا رهافة وبراعة الثقافة الإيرانية وأفلامك بشكل خاص. ماهو رأيك في هذا؟

- أشكرك على هذه الرؤية الإيجابية جداً بشأن هذه القضية. للأسف، عدد نقاد السينما في أمريكا قليل جدا، إذ يتراوح عددهم بين 400 و 500 شخص، بينما هناك أعداد كبيرة من الذين ينتقدون إيران. كسينمائيين، من المهم جداً لنا أن نجد أرضية مشتركة بين الثقافات. السياسيون ربما أقل اهتماماً بهذا الشأن لأنهم يستفيدون أكثر في إيجاد التعارضات والاختلافات بيننا.

* سؤال من الحضور: ما هو رائع بشأن أفلامك أنها تصور واقع الشعب الإيراني بعد الثورة. كيف تنظر الحكومة الحالية في إيران إلى أفلامك؟

- الحكومة الإيرانية ككل ليس لها علاقة بأفلامي. هم لا يكترثون بها. ربما هذا النوع من السينما لا يثير اهتمامهم. وأنا لست واثقاً من أن أفلامي تُظهر واقع الحياة في إيران. نحن نعرض مظاهر وأوجه مختلفة من الحياة. وإيران مكان واسع، رحب وفسيح. أحياناً حتى بالنسبة لنا، نحن الذين نعيش هناك، ليس من السهل إدراك الواقع. لكن إجمالاً، الحكومة تتشبث بالقضايا الأكثر أهمية، إلى حد أن أفلامنا قد لا تعتبر موجودة بالنسبة لها. ليست المسألة ما إذا كانوا يحبون أفلامنا أم لا، بل أنها غير هامة جداً في نظرهم.

* سؤال من الحضور: لدي سؤال عن الاستشهاد المذكور على غلاف كتاب ألبرتو إيلينا عنك من كلام لجودار يقول: "الفيلم يبدأ بديفيد جريفيث وينتهي بعباس كيارستمي".. ما هو شعورك تجاه هذا؟

- هذه فرصة طيبة جداً لي أن أتحدث عن هذا، وأعتقد أن جان لوك جودار سيكون سعيداً لقيامي بالتعليق عما قاله. هذا التعليق صدر من جودار قبل ست أو سبع سنوات بعد أن حققت "والحياة تستمر". لذا، لو تم طباعة هذا الكتاب قبل ست أو سبع سنوات لكان سعيداً بذلك. لكنه لم يعد مقتنعاً بهذا الآن. في كل مقابلة تجرى معه منذ ذلك الحين، ودون أن يثير هذا استيائي، هو يطرح تعليقاً سلبياً عني، لهذا لا أعتقد أنه لايزال يؤمن بصحة ما قاله عني. ولهذا أنا أصحح، بالنيابة عنه، ما قاله آنذاك، وآمل أن يكون سعيداً بهذا التوضيح.
أظن أني أقوم بتحريف السينما عن مسارها قليلاً، خصوصاً مع فيلمي "عشرة".

* ينبغي أن أشير إلى أن زميلاً لي أجرى حواراً مع جودار، الأسبوع الفائت، وطرح عليه السؤال ذاته، وقد اتضح أن جودار لم يشاهد لك فيلماً منذ سنوات. لم يعد على اطلاع جيد بما تنتجه، مع أنه ينبغي أن يكون مطلعاً على أعمالك.
عند هذا الموضع، يتعيّن علينا أن نختم هذا اللقاء، ونرحّب بمدير معهد الفيلم البريطاني Anthony Minghella.

أنتوني منجيلا: عندما توليت إدارة معهد الفيلم البريطاني لم أكن أفهم إلى أي مدى سوف يسمح وقتي في محاولة تعيين أهمية المعهد، عن سبب وجوده، ومن يخدم، ولأي غاية، ولماذا يحتاج إلى دعم مالي. ثم تحدث أمور كالتي اختبرناها الليلة، حيث نشاهد فيلما رائعاً ونصغي إلى واحد من كبار السينمائيين.. والأمور تصبح أكثر وضوحاً. وكم كنت أتمنى لو حضر أمسيتنا جميع الذين تبرعوا بالمال لصالح المعهد. لكننا في المقابل نود أن نرحّب بكل أصدقائنا الإيرانيين.
المعهد وُجد لكي يحتفي بكل شعراء السينما العالمية، في الماضي وفي الحاضر. وبيننا الليلة شاعر سينما عظيم.
ثمة تقليد ممتاز يتبعه المعهد في منح عضوية لشخصيات سينمائية هامة. وهي المرّة الأولى، منذ توليتي المنصب، التي أقوم فيها بتقديم هذه العضوية، بالنيابة عن الهيئة الإدارية للمعهد، والممنوحة بالإجماع، إلى عباس كيارستمي. إنه لشرف عظيم وامتياز كبير لنا، نحن العاملين في معهد الفيلم البريطاني الذي يهتم بالفيلم وبالسينما العالمية وبالفنيّة العالية التي نجدها في السينما العالمية.
كيارستمي فنان عظيم وشاعر كبير. أعتقد لو كان صمويل بيكيت راغباً في صنع الأفلام لحقق الفيلم تماما كما يفعل كيارستمي. لهذا يشرفني يا عباس أن أمنحك هذه العضوية.
كيارستمي: شكراً جزيلاً. إنها لغبطة بالغة ومصدر شرف كبير أن أتلقى مثل هذه الجائزة الثمينة.. خصوصاً من حضرتك.

The Guardian) )