فاروق يوسف

فاروق يوسف بعد ثلاثة كيلومترات من المشي، قلت لزوجتي: 'الآن حان وقت السؤال عن الطريق؟' سألت فتاة كانت تقف أمام متجر صغير عند الطريق التي تؤدي الى ساحة الكسندر.
قالت: 'تستمر في هذا الشارع إلى أن تصل إلى ساحة هانريش هاينه، حينها تأخذ الشارع الذي يقع على يمينك. ذلك الشارع سيأخذك مباشرة حيث تريد' من غير أن أقصد كنت قد قاطعتها حين ذكرت اسم هاينه بسؤالي: 'الشاعر؟'. ما أن انهت البائعة جملتها حتى عادت إلى سؤالي مبتسمة وقالت باعتزاز واضح في عينيها: 'نعم إنه الشاعر نفسه'. حين وصلنا إلى ساحة هاينه اتفقنا على أن لا نغادرها مسرعين. عثرنا في الجوار على مقهى صغيرة واخترنا مائدة على الشارع وجلسنا. لم يكن هناك شيء من الشاعر سوى اسمه. ولكن كان ذلك يكفي للشعور بالراحة. هاينه الذي علمني المشي المتأمل يستحق أن يكون موضع احتفاء استثنائي.

'الوقت لنا' قلت مؤكدا.
هزت زوجتي كتفيها وقالت: 'يتناول المرء شوكولاتا بالقهوة في ذكرى هاينه حدث رائع'. كان التناسب عكسيا بين قدحي الشوكولاتا والاكسبرسو الذي طلبته لنفسي. وهنا تذكرت الفنان البلجيكي فرانسيس اليس وقارنته بهاينه. اليس المقيم في المكسيك يعود من رحلته خالي الوفاض بعد أن كان قد بدأها بقالب ثلج من الحجم الكبير. بيديه العاريتين ظل يدفع قالب الثلج، مخترقا شوارع مكسيكو ستي إلى أن ذاب القالب وانتهى إلى قطعة صغيرة صار الفنان يركلها بقدمه. في المقابل فقد قرأت كتاب رحلات هاينة المترجم إلى العربية قبل أكثر من عشرين سنة، ولا تزال لغته تدوزن كائناتها في خيالي، كما لو أنها تأبى أن تستعاد في صيغتها الأولى. قبل عشر سنوات اكتشفت هاينه من جديد، من غير أن أعود إلى قراءته. كانت الغابة السويدية قد وضعت خبرته بين يدي. صرت أقول لنفسي: 'هو ذا النشيد الكوني الذي اقتبس هاينه منه مفردات قاموسه، لكن بعبقرية حساسيته الشعرية'.
كانت أمامنا على منضدة المقهى خريطة قطار الانفاق. كنت أفكر في الغابة السوداء التي مشى في دروبها هولدرن وهايدغر وهيسه. لو اضفنا إلى تلك الاسماء اسم هاينه، لكنا أمام متاهة رباعية الاضلاع. اقنع نفسي ان كل ارض هي الغابة السوداء تلك. الطقس الالهامي يطلق أصواتا تشبه تكتكة الساعة. يغمر الحواس بصفير اجنحة عصافيره ليفتح أمام الحدس أبواب بداهته المسترخية. أنت أيها السعيد بمفاتيح البيانو تأمل قدميك. هناك طاووس يرعى ظلك. هناك ناي يرقق حنجرتك. هناك حجلة تمشي بقدمك. هناك قندس يبني لك بيتا. هناك غزال تسيل على رقبته لفتتك. وهناك حلزون يعلمك الرضا. يا جميل، اضرب الموجة بكفك لتنال صفح البحيرة كلها. كان المطر قد صنع مشهدا ضبابيا لبرلين. المدينة تقع خلف زجاج المعنى. في تلك اللحظة اكتشفت عذاب فرانسيس اليس. هو نفسه ذهب إلى فلسطين ليصنع حلا اعتباطيا. صنع حدودا بين دولتين بأصباغ البنتلايت. مشى طويلا ليصنع خرافة. تمثاله السائل على الارض. في هذه الحالة علينا أن نفكر بقيمة ما يفعله الفن من أجلنا.
كنت أتوقع أن يمر هاينه بنا. شبحه ربما. ضيفاه الاستثنائيان يجلسان في انتظاره في مقهى صغيرة. كانت هناك ثلاث نساء قد جلسن إلى منضدة قريبة ولم يتوقفن عن الحديث بالالمانية وهن يؤشرن بأقلام حبر جاف على خريطة فرشنها على المنضدة. لم تكن تلك الخريطة شبيهة بخريطتنا. كانت خريطة بانورامية للمدينة، بشوارعها وساحاتها وفضاءاتها وحدائقها ومتاحفها واماكن التسوق فيها. 'ربما بسببهن لن يمر هاينه' همست لزوجتي. كان المطر قد توقف. هل وصل اليس إلى هدفه؟ اختار اليس أن يمر بالأزقة الضيقة، بباعة الخضراوات، بمحطات الوقود، بمطاعم الفاست فود، بالمتقاعدين الجالسين على كراس من خشب عتيق أمام البيوت. برلين لا تصلح لمغامرة من هذا النوع. لمَ لا؟ قلت لنفسي: 'احدهما ينبغي أن يمر. على الاقل من اجل ان أتأكد من أنني قد غادرت فراشي منذ ثلاث ساعات وانا الآن في كامل يقظتي، ولم تعد الأحلام سوى ذكرى'. كنت منزعجا أفكر في الماضي. ماضي حواسي الذي صار رهين فكرة غامضة عن المشي.

كنت كائنا واقعيا أكثر مما يجب.
كائنا يشرب اكسبرسو ويجلب كرسيا لتضع زوجته عليه حقيبتها ويرتدي جاكيته بعد ان كان قد وضعه على ظهر كرسيه وينظر إلى قائمة الحساب بعينين جامدتين ثم يمد يده إلى جيبه فيُخرج محفظته ليخرج منها نقودا، يتركها على المنضدة. تسليني حركات ذلك الكائن فيما كنت أجلس منتظرا بقلق. أتخيل اليس جالسا في بيته وهو ينظر إلى فيلم الفيديو الذي صوره وهو يدفع قطعة الثلج في شوارع مكسيكو سيتي. كان ينظر إلى رجل آخر. رجل يشبهه، لكنه لا يقوم بذلك الفعل إلا مرة واحدة. مثلي تماما. جلست في تلك المقهى مرة واحدة غير انني سأظل أتذكر اني انتظرت هاينه ذات مرة في حياتي. ولا أكشف سرا إذا أقول أنني وثقت تلك اللحظة صوريا. الآن حين انظر إلى تلك الصور، يخيل إلي أن رجلا يشبهني كان يجلس في تلك المقهى وهو في حالة انتظار، لا تشبه أية حالة انتظار سابقة. ذلك الرجل الذي في الصورة اخترع حالة انتظار خاصة به. عيب ذلك الرجل الوحيد انه كان يشبهني في تلك اللحظة بالذات، وهي لحظة الهام.

لا بأس سننجو جميعا من المصيدة.
لم يكن وجود ساحة تحمل اسم الشاعر الالماني مجرد صدفة. كنت أفكر بالقدر الذي جعلني اسكن في منطقة قريبة من تلك الساحة، بالرغم من انني كنت جاهلا تماما بجغرافيا المدينة. وهو القدر الذي جعلني أتعرف في أول أيامي البرلينية على المغزى الشعري الذي تنطوي عليه رحلتي. 'جئت لأتعلم' قلت لزوجتي. لم يتأخر الدرس. ذهبت الكراسات كلها إلى الموقد. صارت لدينا مع الشوارع لغة مشتركة، لا علاقة لها بالحدائق العامة ولا بالمجمعات التجارية ولا بالمتاحف ولا بالمطاعم. لغة تخترع مفرداتها وهي تنصت إلى الأقدام التي تمشي. أنا في برلين. فلوبير في مصر وبول كليه في تونس. لن تكون تلك المقاربة عادلة. لقد كنت أبحث عن شيء مختلف تماما. بالنسبة لي لم يكن هاينه إلا مشاء. مثله مثل البلجيكي اليس تماما. ستكون صفته شاعرا نوعا من التحلية. فأنا حتى هذه اللحظة لم أقرأ أشعاره. إنما قرأت كتاب رحلاته في الغابة السوداء. لقد تعرفت عليه ماشيا ولذلك اعجبت به. بالنسبة لي فقد اخترع هاينه لغة للمشي. لغة ضرورية من أجل أن يكون المشي ضروريا بالنسبة لشاعر. تخيلوا الذريعة الفاسدة. ها نحن ننسب الشاعر العظيم إلى أفعاله اليومية. ولكن تلك الافعال كانت مصدرا للالهام. لو لم يمش هاينه كل تلك الكيلومترات لما كان الشاعر الذي نعرفه. أفكر بطريقة افتراضية وأنا أراقب قدمي وهما تعبثان بالعشب النائم الذي ابتل بماء الغابة. الشاعر وأنا نراقب البجع المهاجر وحيدين.
'كيف عرفتني؟' يسألني.
'كيف عرفتني؟' أسأله.

القدس العربي
2011-11-15