فاروق يوسف

لا تزال ابواب الخراب مفتوحة: الفلوجة هناك. حديقة الرب التي تنتج أزهارا، عطرها ملوث بسموم الأبدية. عار البشرية يمشي بقدمين من رماد. الدرس الذي يأبى أن يغادر اللوح الأسود. الجرح لا أثره. الرصاصة لا دويها.

الدمعة لا لمعتها. نحن في الهلاك معا، مرضى ومجانين ولصوصا وقتلة ومفسري أحلام وكتاب عرائض استجداء وايتاما مأخوذين بماركس وعفلق والحلاج وصاحب الزنج وولادة بنت المستكفي، غير أن الدم الذي يجري في عروقنا صار أزرق، لكثرة المياه المعقمة التي ضُخت في شرايينا. فئران في مختبر وحشرات ميتة على جثة رجل منسي. للذكرى فقط. يُحتشد العراقيون في الملجأ الكوني. قارب ضائع في المحيط الهادىء وكرة من الثلج بيضاء تجرها الكلاب القطبية. رأيت صورتي تزين ملصقا سياحيا في ريكيافيك. يبدو شبحي مرحا بقبعة فاتنة. كان القتل يتم هناك بطريقة سياحية هو الآخر. تقاسم المارينز أعضائي. قدم في نيوزيلاند وأخرى في ايسلاند. اطمئنوا ايها الناجون من الغبار الابيض سيكون لكم يوما ما عراقلاند. الفكرة على الطاولة، النفس الطويل والصبر لا ينفدان. 'صبر، صبر' يقول الخليجي للهندي بعد أن تعلمها الاول من الثاني هاهو يعيدها إليه. الفلوجة معجزة، مَن اجترحها؟

إلى الابد ستكون خالدة. سيجدها اسرافيل وقد سبقته إلى بوقه. ثوبها مستعار من نظرة عزرائيل. سدوم وعمورية هناك، ملح البحر في العين وخثرة دم على الصليب وذوالفقار في زجاجة اختبار. كيف ننسى؟ مَن يصدق ان الجثث التي تقبل من المستقبل لن تكون إلا أثرا من آثار صفقة جرت في الماضي. بين مَن ومَن؟ بيني وبيني. بين القفل والمفتاح، بين الصيحة والفم، بين الام تريزيا والمسيح. مناقصة مادتها الصمت. لن يكتب أحد (الفلوجة حبيبتي) على غرار ما فعلته مارغريت دورا في روايتها (هيروشيما حبيبتي). النسيان داء ودواء. عليكم بأقرب صيدلية للأعشاب الضالة. للتيه مدينته: الفلوجة. عام 2004 كان الليل يغص بالقبرات وكان القبر مفتوحا وكانت البلاد قد استعارت من الحسين صيحته: 'يا سيوف خذيني' كم هي كلفة الحق؟ ملاكان وجرس كنيسة ومؤذن صباحي وشجرة رازقي وحيدة. كان (أبوغريب) يتنفس هديلا متقطعا، صُنعت خرزات مسبحته من حناجر الحمام البغدادي. كوكوكتي. أنا معك. كنا في المطبخ. أشتقت رائحة الثوم من الجمل الغامضة التي تقال لكي لا تُفهم. ليجمان لم يستوعب الدرس قبل مقتله عام 1920. 'عدنا يا ضاري' لم يقلها الانجليز هذه المرة. بل قالها عراقيو الشتات، العائدون بالاقنعة. كان المترجمون يلحسون البنادق الباردة. من فيتنام إلى غزة مرورا بالفلوجة كانت رائحة الثوم تشق الهواء. حفلة شواء بشرية في عيد متنقل.

كانت الفلوجة تسكن المعجم طوعا باعتبارها الأرض التي تُزرع. ولم يكن الثوم واحدا من مقتنيات خيالها الريفي. فجأة ستتحول حسب (فيسك) إلى مستشفى للرعب. تدور الماكنة ليعلن (علاوي) الحرب على المآذن. العلماني قادما من مدينة الضباب يقف متأنقا عند حدود المدينة التي قررت أن تنضم إلى مدن الخيال. مثل ارم ذات العماد، ستكون موجودة في الكتاب، خالدة في المعنى. غير أن المسافة إليها لم تكن لتُقاس بالخطوات، بل بالجثث، بالقبور، بالقنابل، بالصرخات التي لا تعبأ صورها بالاستغاثات بل ببهاء (الله أكبر). كانوا هناك، رجالا ونساء، شبابا وشيوخا، مصلين وائمة، الباب والخندق، الزهرة والرتاج. حين استيقظت الديناصورات بلغ الضمير البشري عتبة الاحتضار. هذه الغابة لمَن؟ لم يكن ابوغريب بعيدا. ستبكي يا بلدي كثيرا حين يهدأ القتل. ولكن حدود الدرس كانت مفتوحة. بلدة مثل الفلوجة لا تكفيها صفحة في موسوعة. ستختفي الجيوش في سنتمترين من صيحة ضاري 'قتلته'. هي الف مما تعدون. بلدة بالف بلدة. الخيال الالهي يلهمها الصبر. أكبر قوة عسكرية في عصرنا، التقنية الأشد دهاء، الكذبة التي تفرخ عالما من الصور بحجم مجرة درب التبانة، تعصف بإطار لوحة رسمها الله. الجمال يرمم دروب متاهته وهو يتحسس ركبتيه. ألا يزال في إمكان المرء أن يتباهى بحياته؟

كانت الفلوجة يومها فكرة.
المدينة التي لا تُرى على خارطة العالم قيض لها أن تتماهى مع قدرها عاصمة لعارنا. حتى لو ظهر نوح ثانية بعد طوفان جديد، حتى لو حضر جلجامش حاملا عشبة الخلود بيده، حتى لو ابتسم الحظ لتشي غيفارا ولم يُقتل في غابات بوليفيا ومات في فراشه شيخا طاعنا في السن، حتى لو لم تشق الفأس طريقها إلى رأس تروتسكي وتحقق حلمه في الثورة الدائمة، فان عارنا في الفلوجة لن يُمحى. لا لأنه كتب بحبر اسطوري، ولا لأن المدينة تملك عينين تحرقان من تنظران إليه بغضب، ولا لأنها لا تزال تقف بتوازن على نصل السيف بعد أن تعرفت على كلفة الحق، بل وأيضا لأن الفسفسور الأبيض لن يغادرها إلى يوم القيامة. صار أطفالها يولدون موتى. ولكن الجثث (هل لمن يولد ميتا جثة؟) لا يزال في إمكانها أن تقول شيئا مختلفا عن الشر. كابوس لن يستيقظ منه المرء. سوف يكذب العراقيون من أجل أن يخترعوا طبا شرعيا مجاورا. الميت يذهب بأسباب موته. ولكن اطفال الفلوجة لن يكونوا أطفالا. لم يولدوا لكي يموتوا. لم يمشوا سنتمترا واحدا خارج الارحام لكي ينتقي عزرائيل أجملهم. لم يكتبوا حرفا واحدا على اللوح الأسود في قاعة الدرس. يقال انهم ولدوا موتى. هل يولد الميت؟ كائنات صغيرة تشبه البشر، لكن بنصف رأس، بعين واحدة، بفم سمكة، ودائما هناك أورام رمادية في الرأس. هذا هو ارثنا. حديقة جنوننا ومستقبلنا العضوي وحضارتنا.

'أمريكا كم نحبك' يقول المترجم من وراء قناعه.
نسي ذلك المترجم انه تعلم الانجليزية في الجامعة في زمن كان فيه التعليم الزاميا ومجانيا للجميع. وكانت الفلوجة مدينة طريق هادئة يمر بها الذاهبون إلى منتجع الحبانية. كانت يومها فكرة عن حياة ريفية منذورة من أجل النبات. كان الصيف يومها أحمق وكنا نحلم بالمياه. ما كان في إمكاننا أن نتخيل شكل العدو وهو يضع قدميه في خطواتنا. الآن وقد محيت الفلوجة (هل محيت حقا؟) ما من اثر مؤكد نبحث عنه في الخارطة. لن يقول النسيان كلمته. هناك خطأ في المعادلة الجغرافية. الفلوجة ليست مدينة. هذا ما فهمه العدو أكثر من العراقيين. الفلوجة فكرة. لذلك دفعت ثمن هذا التجريد غاليا. غير أن العدو بدلا من أن يمحو تلك الفكرة وهبها أبعاد حياة جديدة، وإن عن طريق الموت. كل طفل من اطفال الفلوجة يولد ميتا هو فكرة مستقلة عن حياة لم يعشها أحد. وهكذا تكون الفكرة التي عذبت أمريكا قد تشظت لتشكل الاف الأفكار التي هي كوابيس حقيقية، لا أحد في إمكانه أن يتوقع نهاية لها. لا ينفع في حالة من هذا النوع كذب المثقفين العراقيين حين يتحدث البعض منهم عن رخاء متوقع، عن ديمقراطية سلسة تقود إلى تبادل مريح للسلطة، عن تفاؤل بفشل أصحاب العمائم في ادارة السلطة، عن عودة قريبة لرايات اليسار الحمراء. هنالك موت لا يزال مقيما، باعتباره مفردة في معجم الحياة اليومية. 'ولدنا ميتين' يقول اطفال الفلوجة للملائكة التي تجهل ما نعرفه. ستشعر الملائكة بالعار الذي لم يشعر به مثقفو العراق المجندون في خدمة الاحتلال الامريكي.

ماذا عن الآخرين؟
(الفلوجة حبيبتي) هو العمل الروائي، الشعري، الملحمي الذي لو كُتب، سيكون في إمكانه أن يغسل جزءا من عارنا. الفكرة التي تستعرضنا بشرا مثل الآخرين، مساوين لهم في الكرامة والحياء والمروءة. تبا للجمال.

القدس العربي- 2012-08-13