سعدي يوسف
(العراق/لندن)

سعدي يوسف أمام منزله في ضواحي لندنفي قرى جبال الأبَنين الإيطالية، حيث أقمتُ ما يقاربُ الشهرَ ( مُعْظَم أكتوبر2008 هذا)، كنتُ مستغرقاً الاستغراقَ كلّه، في ما حولي، وفي ما ينعكسُ ممّا حولي على ما في دواخلي. لقد أردتُ أن أُعطيَ المكانَ حقّه ما دامَ هذا المكانُ متاحاً. هل من غرابةٍ في هذا الأمرِ؟ ليس من غرابةٍ لو كنتُ في أرضي الأولى، مع المشهد الأوّل. لكني منذ أواسط الستينياتِ كنتُ: بعيداً عن السماء الأولى ...
وما زلتُ .
إذاً أين المكانُ ؟
ليس من مكانٍ ، إنْ كان الأمرُ محدداً بالجغرافيا.
السماء الأولى إيّاها كانت ممنوعةً أو شِبْهَ ممنوعةٍ. أتذكّرُ أنني أردتُ زيارة أبو الخصيب مودِّعاً وداعاً أخيراً، نهايةَ السبعينيات. استقللتُ سيارة أجرةٍ، وبلغتُ المكانَ، مقهىً عند مرآب السيارات. طلبتُ شاياً. لم أُتْمِمْ شُربَه. كان شرطيٌّ يقف بمواجهتي يسألُني لِمَ أنا هنا. ماذا أفعلُ في المكان. نصحَني بالعودة من حيث أتيتُ. وهذا ما حصلَ.
هل كان بإمكاني التأمُّلُ بأمواهِ دجلةَ؟
لم أعرف الفراتَ إلاّ حينَ سبحتُ في الرّقّةِ بأعالي سوريّا ، متنعِّماً بمائه ، خيرِ ماءٍ .
سألتُ طالب عبد العزيز، الشاعر، مؤخراً، عن مدرسة المحمودية بأبي الخصيب حيث أتممتُ الإبتدائية. قالَ: هُدِمَتْ.
إذاً ، أين المكانُ ؟
والآن؟
إنْ كانت أسبابُ الذكرى مُنْبَتّةً ، فعلى أيّ أرضٍ تتأسّسُ الذاكرةُ؟
العراقُ كان مُغَيَّباً عني.
وهو الآنَ ممعنٌ في الغياب.
لقد استولى عليه آخَرُ ثانٍ أو ثالثٌ بعد آخرَ سالِفٍ.
هذا الآخَرُ سيظلُّ مستولياً، مُطْلقَ الزمانِ. والسببُ بسيطٌ : إنه امبراطوريةٌ صناعيةٌ ، وليسَ شخصاً.
العراقُ مُسِخَ مستعمَرةً .
هل أعتبرُ الأرضَ المغصوبةَ وطناً ؟
إنْ كانت الصلاةُ نفسُها لاتجوزُ في أرضٍ مغصوبةٍ ، فكيفَ الخَلْقُ ؟
أعليَّ أن أنتظرَ مُطْلَقَ الزمانِ ، ابتغاءَ المكانِ ؟
جسدي، الواهنُ مع ماراثونِ العذابِ المديدِ ، لن يفعلَ ذلكَ حُكْماً.
إذاً، أين المكانُ ؟

*

ببساطةِ مَنْ يفتحُ عينيهِ، بعد مطرٍ، ليرى الشمسَ ساطعةً، تُمْكِنُني الإنتباهةُ إلى أن الوطنَ لم يَعُدْ قائماً، أمامي، أنا ، في الأقلّ.
حتى ألوانُ الطفولةِ ، البهيّةُ بأفوافِها ، نَصُلَتْ وشحبَتْ.
لقد ذهبَ الوطنُ . استولى عليه الآخَرُ المدجّجُ.
ذهبَ الوطنُ.
استراحَ منّا ، واسترحْنا منه!

*

هل أجريتُ الذهابَ مُجْرى الفُجاءةِ ؟
لا أحسبُكَ تنسى أن سيرورةَ الأمرِ استغرقتْ نحواً من خمسين عاماً !
*
أكتبُ، والساعةُ تجاوزتْ، قليلاً، الثالثةَ فجراً. بقايا المطرِ النّزْرِ شرعتْ تغدو صقيعاً خفيفاً. لا صوتَ. النقرُ على لوحة المفاتيحِ أسمعُهُ عنيفاً شيئا ما.صديقتي ذهبتْ تزورُ أهلَها في مرفأ صيادي سمكٍ قديمٍ. الوحدةُ تسحرُني. منزلي دافئ.أمسِ ، في المساءِ المبكِّرِ رأيتُ قنفذاً يطوفُ. لم يُجْفل القنفذُ. ليس من دِيَكةٍ في فجرِ الضاحيةِ.
سيمون بوليفار رحلَ فجراً ، مع جنودِهِ القليلين، عن سان دييغو دي بوغوتا (كولومبيا) حين لم يسمعْ صلاةَ دِيكةِ الفجرِ. قال سيمون بوليفار لجنوده : لنرحلْ من هنا. إنها قريةُ كُفّارٍ!

*

مستقرٌّ في مُنْتبَذي هذا استقرارَ دوحةِ التوتِ.
دِيَكةٌ أو لا دِيَكةٌ !
هل تقودُ نُعْمى الاستقرارِ إلى مدخلٍ معيَّنٍ ؟
نعم . إنها تؤكدُ أمرَينِ : ذهابَ الوطنِ وذهابَ المنفى في آنٍ.
لكنْ كيفَ أقولُ بذهابِ المنفى وأنا أحِلُّ خارجَ أرضِ المشهدِ الأوّلِ ؟
التساؤلُ معقولٌ لو لم أكُنْ انتهَيتُ، روحاً وجسداً، من وطأةِ تلك الأرضِ التي لن أقولَ عنها أبداً :
بنفسيَ تلكَ الأرضَ . ما أطْيَبَ الرُّبى !
وما أحسنَ المصطافَ والمُتَرَبَّعا ...

*

أيّ مشهدٍ أوّلَ هذا الذي يتغنّى به رونالد بارْت؟
مبارَكٌ له، التغنِّي بفرنسا الحُرّةِ، التغَنّي بأرضه، ماءً وشجراً.
أمّا أنا فلم يكنْ لي من أرض المشهدِ الأول سوى السجنِ والانتهاك والاحتقار وسوءِ القولِ والفِعل.
بل لم يَنْجُ وجهي من بصاقِ أهلِها البذيءِ ، حتى وأنا على هذه المَبْعدةِ .
أيُّ مَشهدٍ أوّلَ هذا ؟

*

منذ أن حللتُ الأرضَ الجزائريةَ، في العام 1964، أي بعد عامَينِ من الاستقلالِ، بدأتْ ثنائيةُ الوطنِ- المنفى تتبلورُ لتتعقّد. كان التعقيدُ جارحاً ، راديكاليّاً.
إنْ كانت الجزائرُ منفىً ، وهي الأعَزُّ لديكَ بلداً مختاراً، والأكرمُ وِفادةً ، فلِمَ الإقامةُ ؟ لِمَ الإقامةُ بالزّوراءِ، لا سَكَني فيها، ولا ناقتي فيها، ولا جَمَلي ...
بالرُّغمِ من هذا التساؤلِ الحادّ، والجادّ، ظلّت ثنائيةُ الوطنِ- المنفى قائمةً ، تنخرُ في الروحِ والنصّ، مثل سُلِّ العظامِ.
من أسبابِ ذلكَ، قُربُ العهدِ بمفارقة الدارِ، والاحتمالُ النغّارُ بعودةٍ وشيكةٍ.
لكن الأيامَ تكِرُّ ، والأعوام . الأعوامُ تغدو عقوداً. والعقودُ تتراكم ُ.
في لحظة ما، قرّرتُ، ببرودةِ دمٍ، أن أحاربَ الحنين. تساءلتُ مع نفسي: إلامَ أحِنُّ ؟ وجاءَ الجوابُ بَدَهيّاً: إلى لا شيء. هل كنتُ، إذاً، أقلِّدُ الآخرين؟ معنى ذلك أنني كنتُ كاذباً ، مع نفسي، ومع الناس.

*

أعتقدُ أن لحظةَ برودةِ الدمِ تلكَ، كانت لحظةً مبارَكةً.
لقد حرّرتُ نفسي من نفسي الأمّارةِ بما لا يليقُ.
في تلك اللحظةِ، إيّاها ، أخذَ المنفى يبتعدُ. لم أعُدْ أعتبرُ أني مَنفيٌّ. أنا ، مُذّاكَ ، مقيمٌ أنّى حللتُ. هوائي ومائي هنا، لا في مكانٍ آخر. أنا أعملُ وأغتذي هنا، لا في مكانٍ آخر. كذلكَ الأمرُ مع روحي وفَنِّي. مادّتي الخامُ هنا ، كذلك مختبَري.

*

ربما كان لطريقتي في الكتابة دورٌ في تسريع الوعي بالإشكالِ هذا .
أنا لا أستطيعُ أن أكتب منطلِقاً ممّا هو مجرّدٌ. لا أستطيعُ ذلك مطْلَقاً.
عليّ، أوّلاً أن أجدَ أرضي ، مكاني، مساحتي الواضحة، مَعالِمَ خارطتي الفعليّة. بتعبير آخرَ: عليّ أن أتوطّنَ، وأُوَطِّنَ نفسي.
هل بمقدوري أن ألمُسَ جذورَ النخلِ المعَرّاةَ عند حافةِ الجدولِ، وأنا أسكنُ كوخاً خشباً في قريةٍ بجبالِ الألْبِ؟ صحيحٌ أن بمقدوري التخيُّلَ، والتجريدَ، والترميزَ. لكني لا أتحدثُ عن هذا. أنا أتحدّثُ عن الإرتطامِ الأوّلِ الذي يقْدَحُ شرارةَ البدءِ بالعملية الفنيةِ، وهي عمليةٌ سايكولوجيةٌ بالغةُ التعقيدِ والشروطِ، أساساً.
كنتُ أتحدثُ مرةً مع محمود درويش حول التخييلِ. قلتُ له: ليس شرطاً أن يعيش المرءُ في القطبِ كي يعرف الثلجَ.
لكن المسألة ليست في المعرفة.
مَن قال إن الشعر معرفةٌ؟
البَدْئيةُ والبِدائيةُ، مبدآنِ جوهرانِ في الشعر.
الإحساسُ أوّلاً.
المعرفةُ تاليةٌ، أو لا لزومَ لها !

*

الأمورُ ليستْ بذلك اليُسْرِ المتخيَّلِ.
الطفولةُ تأتيكَ، بهيّةً ، في الحُلْمِ. والجلاّدُ يأتيكَ، عِلْجاً، في الكابوس.
دمُكَ من هناك.
واللغةُ التي تتخذها أداةً، تلقّيتَها هناكَ، أساساً. أنت تتذكّر مُعَلِّمَكَ والقصائدَ التي أمَرَكَ بحفظها وإلقائها. ما العملُ إذاً ؟
هل بمقدوركَ إلغاءُ الذاكرةِ ؟
لا أظنُّ ذلك . لكنّ بمقدورِكَ تعطيلَ الذاكرةِ مؤقّتاً، والعملَ تحت تأثيرِ ذاكرةٍ مستحدَثةٍ.
في قرية كوستا دي مورسيانو، بين جبال الأبَنين الإيطالية ، كنتُ أتحدّثُ مع فوزي الدليمي حول هذا الأمرِ، حين يأتي مع سيلفانا، من ميلانو، في عطلة الأسبوع. هو، مثلي، مثقَلٌ بذكرياتٍ تتحوّلُ كوابيسَ مؤلمةً كلَّ ليلةٍ. أحَسَّ فوزي بأنّ المسألةَ هي أكثرُ من اختيارٍ جماليّ، وأدَقُّ، وأَوْلَى. سوف يتخلّصُ، في الأقلّ ، من كوابيسِ الليل!
تعطيلُ الذاكرةِ القديمةِ، والعملُ تحت تأثيرِ ذاكرةٍ مستحدَثةٍ ...
قلتُ: سأجرِّبُ!
في تلك الجبال الوحشية، بشجرِها وطيرِها وحيوانها، البعيدِ عن البصرةِ، بُعْدي عنها الآن.. شرعتُ أكتبُ وأكتبُ. أنجزتُ نصّاً من ثلاثين صفحةً يتعاملُ مع المشهد الإيطاليّ المباشر. "شِعابٌ جبليّةٌ " نصٌّ يستلهمُ ذاكرةً مستحدَثةً تماماً. الزمانُ، لا المكانُ فقط، ينتمي إلى هذه المنطقة الجبلية وتاريخها. لم أتعمّدْ إغفالاً. كنتُ غافلاً تماماً عن ذاكرتي القديمة، مأخوذاً تماماً بذاكرتي الجديدة.
أتظنّ هذا تجريباً مَحْضاً ؟
في المسعى قدْرٌ من التجريب. بالطبع.
لكنّ تجريبَ الخبيرِ له تصنيفٌ مختلفٌ.

*

إلى متى سأستمرُّ هكذا؟
أعتقدُ أنني الآنَ في مرحلةٍ جديدةٍ، ولسوفَ أعملُ، مخلِصاً، على أن أمنحَ هذه المرحلةَ ما تستحقُّهُ.
لستُ في ترَفِ الوقتِ المديدِ، على أيّ حال!

saadi@yousef5757.freeserve.co.uk

خاص كيكا
لندن 31.10.2008