سعدي يوسف
(العراق/لندن)

سعدي يوسففي الصين، كل شـيءٍ هو صينيّ!

في الثالث من تشرين ( أكتوبر ) 2009، كنا: جوان وأنا، في الطائرة الفرنسية التي ستنقلنا من مطار هيثرو اللندنيّ إلى العاصمة الصينية بَـيْـجِـين، كما تُعرَف الآن.
في الأول من الشهر بدأت هناك الاحتفالاتُ الكبرى بالعيد الستين لإعلان الصين جمهوريةً شــعبيةً، يومَها وقف الرفيق ماو، في ساحة السلام السماوي ، تين آن مين، معْـلِـناً ولادةَ معجزةٍ من صُنْع البشــر.
لكننا في الطائرة الفرنسية التي ستتريّث في مطار شارل ديغول ساعةً أو نحوَها، قبل أن تنطلقَ
في الرحلة الطويلة التي لن تتوقّف فيها إلا في مطار العاصمة الصينية.
أزور الصينَ، شخصاً، لألتقي صديقاً صينيّاً كنتُ عرفتُه في العاصمة الأردنيـة عَمّان.
هذا الرجل، إدوارد، أو ليباني ني (بالصينية) سيكون في استقبالنا بالمحطة الثانية من المطار الصينيّ.
هل بإمكاني أن أتعرّفَ الرجلَ بعدَ عشــرٍ من غيابٍ ؟
مع النبيذ الأحمر، الدافق دائماً (نحن في فرنسا)، كان السؤالُ يتضخّم ويتضخّم، لكنّ جوان تُطَمْئِنُني إلى الذكاء الصينيّ، ودقّة البورتريت لدى الرسّام هناك! الأمرُ فنّيٌّ إذاً! لا داعيَ للقلق.
ٍعلى أي حالٍ. وصلت الطائرةُ في صباح اليوم التالي، أي صباح الرابع من أكتوبر. ربما كان الوقت ضحىً. لستُ متأكداً. في المطار لم تكن الإجراءات معقّدةً. كانت عاديّةً تماماً. جوان الإنجليزية لقِيَتْ تدقيقاً واضحاً، وإنْ لم يكن ثقيلاً. حقيبتانا الخفيفتان معنا. نخرج ôفي الجهة الأخرى من حاجز الخروج كان مَن يبتسمُ ابتسامةً عريضةً . شابٌّ يبتسمُ ابتسامةً عريضةً. تلَفّتُّ أبحث في الوجوه. أسمعُ اسمي. ألتفتُ. الشابُّ البسّامُ يقتربُ. يا إلهي! أهو إدوارد؟ لقد ازدادَ شباباً، وصار وجهه أسطعَ طفولةً!
أهكذا يمكنُ للوطن العظيم أن يمنح شباباً مضاعَفاً ؟
لم يكن لإدوارد في عَمّانَ هذا العنفوانُ العجبُ.
وصلنا العاصمة الصينية مبكرين، في صباحٍ غير غائمٍ. وكان إدوارد يتدفّق كرَماً. قال: إلى المطعم (يقصد مطعماً ضمن حدود المطار ) . عدس ؟ لكن ليس في الصين عدس!
أفطرنا نوعاً من الحساء مع لفائف الربيع.
أخذنا الرجل إلى المرآب.
السيارات كلّها جديدةٌ متألقةٌ. وبينها سيارة إدوارد، التويوتا، التي فهمتُ في ما بَعدُ، أنه اشتراها لمناسبة زيارتنا.

'التلالُ العاطرة'

واحدةٌ من سلاسل التلال والجبال التي تسوِّرُ بيجين. واقعُ الأمر أن العاصمة الصينية كانت تتمتّع بوضعٍ دفاعيّ مثاليّ في الحروب القديمة.
هي مدينةٌ داخليةٌ، لكنها ليست بعيدةً عن البحر.
وثمّت عوائقُ طبيعية (سلاسل الجبال والتلال)، ومن صُنع البشر ( سور الصين العظيم ).
في منطقة 'التلال العاطرة 'كانت إقامتُنا الأولى، في فندق 'حديقة التلال' البهيج.في هذه المنطقة، متحف 'صن يات صن 'مؤسس الصين الحديثة.
وهي أيضاً منتجَعُ صيفٍ، شعبيٌّ، يؤمُّه أهلُ العاصمةِ.ولأننا كنا ، حتى الآن، في عطلة الأيام العشرة لاحتفالات العيد الستين، فقد رأينا المنتجَع في تألُّقِه الحقّ.
الناس ( شبابٌ في الغالب ) يتبخترون في الشارع، مرَحاً، وزهوَ مَلْبَسٍ.
وهناك مَن يتسلَّقُ التلالَ العاطرةَ.
مطاعمُ شعبيةٌ وحاناتٌ.
شواءٌ.
وباعةُ حُلِيّ، بين المزيّف، والحقيقيّ.
قلتُ إن فندق 'حديقة التلال 'بهيجٌ.
ومن أسرار بهجته، الطيور.
في الصباح الباكر، والطيرُ في وُكُناتها
(كما يقول جَدِّي امرؤ القيس )، تسمع الأغاريد:

نِيهاو
نِيهاو...
لَكأنّ الطير يغرِّدُ صينيّاً!

قبل سنوات، كان إدوارد يسكن غير بعيدٍ عن شنغهاي. لكن كان لديه مسْكنُ في بيجين. فكرةُ سفري إلى الصين ليست جديدةً
تماماً. قلتُ له: ما المانع؟ أجيء إلى بيجين وأسكنُ في شقّتك. وحين يكون لديك وقتٌ تأتي إليّ. لا أريد أن أصرفك عن أعمالك!
كتبَ إليّ يقول: لكن عليك، يا سعدي، أن تعرف أن كل شــيء في الصين صينيّ!
إنْ غادرتَ الشقّةَ ماشياً، ونسِيتَ مَعْلَماً من مَعالِم العودة، فلن تستطيع العودةَ إليها.
لن يدلّك أحدٌ. والسبب بسيط: أنت لا تعرف الصينية، والناس لا يعرفون إلاّ الصينيةَ!

أيّ قوّةٍ للثقافة المناضلة!

في مقهى الفندق، تشرّفتُ بزيارة شخصَين، أوَّلُهما الأستاذ تزونغ، الرئيس السابق لقسم الدراسات العربية بالجامعة،
والرئيس الحالي لجمعية الدراسات العربية. وثانيهما الأستاذ بسّام، الرئيس الحاليّ لقسم الدراسات العربية بالجامعة، والصديق الحميم للفقيد هادي العلوي.
الأستاذ تزونغ يقول لي: أنت أخطأتَ حين ذكرتَ أنك ترجمتَ كتاب 'لتتفتّح الأزهار' لـ 'لوـ تينغ ـ يي' في أوائل الستينيات. أنت نشرتَه في العام 1959!
عجباً!
أيّ قوّةٍ للثقافة المناضلة!
كم يحسّ المرء بأن جهوده لم تكن سدىً!
هكذا، بعد نصف قرنٍ، أجلسُ مع أستاذٍ صينيّ مرموقٍ ليحدّثني عن كتابٍ ترجمتُه.
الأستاذ بسّام أهداني قِعْباً جِلْداً، يشبه خوذة جنكيزخان الجِلْدَ، مع ما يشبه القرنَين، وفيه عرَقُ أرُزٍّ منغوليّ ô
في غرفة الجلوس، بمنزلي اللندنيّ، أعلِّقُ خوذة جنكيزخان. لم أفتح القِعْبَ.
ربما لأن الفتوحات أمستْ من أساطير الأوّلين.
عبر زجاج المقهى، حيث نجلس، نحن الخمسة، إدوارد، تزونغ، بسّام، جوان، وأنا، نحتسي شاياً صينيّاً بدا لي بلا طعمٍ ولا لونٍ، كنتُ أرى الجبل البعيد الذي قال الأستاذ تزونغ إنه كان يتسلّقه. الجبل ما زال بعيداً، والأستاذ تزونغ ما زال يتسلّق الوعرَ.
إنه يشرف الآن على مشــروعٍ مرموقٍ:
تقديم أربعمائة شاعرٍ عربيّ من مختلف العصور، مترجَمِين إلى اللغة الصينية.
وهو يتذكّر زيارة الوفد الشعبيّ العراقيّ بعد ثورة تموز. كان مسؤولاً عن مرافقة الوفد الذي كان برئاسة العقيد فاضل عباس المهداوي.
الأستاذ تزونغ سألني عن الشاعرة لميعة عباس عمارة، التي كانت بين أعضاء الوفد عن اتحاد الأدباء العراقيين. قلت له إنها الآن في سان دييغو بالولايات المتحدة، وإنني تحدثتُ إليها طويلاً بالهاتف آنَ كنتُ في نيويورك.
الأصدقاء الصينيون أوفياء لأصدقائهم. هم يتذكّرون بكل احترامٍ: غائب طعمة فرمان. عبد المعين الملوحي. حنّا مينه.
الشيخ جلال الحنفي. هادي العلوي.
الأستاذ بسّام، الذي أقامَ أعواماً بدمشق، يشعر بحنينٍ دائمٍ إلى بلاد الشام.
أبلَغَني الرجل إن جامعة بيجين تدعوني إلى لقاءَين: أحدهما مع طلبة معهد الدراسات العربية. وثانيهما مع أساتذة المعهد.
لم يُحَدِّد الموعدَين.
خوذة جنكيزخان على الطاولة.
ستظل الخوذة أمينةً على أســرارها. الصينيون، على أي حالٍ، ليسوا مغرَمين بالشراب!

كيف تطلب وجبةً في الصين ؟

في فندق 'التلال العاطرة' سنظلّ يومين، أو ثلاثةً. يرى إدوارد أن علينا التلبُّثَ قبل أن تدهمَنا الحاضرةُ الجبّارةُ.
أخذنا إدوارد، بلُعبته الجديدة، التويوتا، إلى فندق 'البستان 'وسط العاصمة. الحقُّ أن تعبير 'وسط العاصمة 'ليس دقيقاً. وسط العاصمة هو بوابة السلام السماوي، والمدينة المحرَّمة ( مأوى أباطرة الصين حيثُ صُـوِّرَ فيـــــلم 'الإمبراطور الأخير'. نحن على قناة من قنوات المدينة. قريبون، بعيدون. محطة المترو على مبعدة خطوات من الفندق.
يبدو لي أن 'فندق البستان 'مأوىً مرغوبٌ فيه، لدى الغادين والرائحين، من متوسطي الدّخْل، والآتين من نواحي الصين. أمّا أنا وجوان فأحسبُنا طائرَينِ غريبَين يحظيانِ بحفاوةٍ واضحة.
فطورُ الصباح، غنيٌّ بالمآكل الصينية، وأنواعِ خبز الرزّ، وما يُحتَســى مع تجلّيات الصويا العتيدة.
أمّا لنا، نحن الإثنين، فستكون القهوة، مع حليب الصويا، وشرائح الخبز المحمّر قليلاً، والبيض.
الغرفة تطلّ على الشارع. على سقف المبنى المجاور طيورٌ لانعرف لها اسماً، طيورٌ بين الزرياب والحمام.
الشارع، مثل بيجين، لا ينام.
الشارع يهدأ، لكنه لا ينام.
من مزايا 'فندق البستان 'أنه قريبٌ ممّا يحتاجه المرء: مقاهٍ. مخازن. صيدليتان. مطاعم بين ذوات الوجبة السريعة
والمآكل الصينية العريقة.
نذهب إلى مطعمٍ هو في المنزلة بين المنزلتَين.
الصبايا يُحِطْنَ بنا محتفياتٍ متضاحكاتٍ.
كيف نطلب طعاماً ؟
أتذكّر قولةَ إدوارد: في الصين، كلُّ شـيءٍ صينيّ.
الصورُ، إذاً!
وابنُ بطوطة: صُوَرُنا في الكواغدِ على الحيطان.
ويؤتَى لنا بالكتاب...
باذنجان. شــرائح لحمٍ رقيقة. حساء.
وماذا نشرب ؟
جُعَةٌ صينيةٌ خفيفةٌ لجوان نِسْبتُها 4 بالمائة. ولي عرَقُ أرُزٍّ نسبتُه 38 بالمائة.
الطعامُ هنا يأتيك بعد دقائقَ من طلبه.
الصبايا ما زلن يحتفين بنا ويَحْفُفْــنَ.
واحدةٌ منهنّ تجرِّبُ مع جوان، انجليزيّتَها الصينيةَ، أو صينيّـتَها الإنجليزية.
هذا المكان، وهو بين المطعم والمقهى، سيكون بُقعتَنا المفضّــلة. ولسوف نلقى، دوماً، حفاوةً متزايدةً، مع كل إطلالةٍ.

الدخول إلى القلب

والآن يأتي السؤال: لِمَ ذهبتُ إلى الصين ؟
حقٌّ أن صديقاً صينيّاً عزيزاً دعاني إلى بلده، وأنّ هذا الصديقَ ترجمَ قصائدي، إلى الصينية ونشرها في كتابٍ سأوقِّعُه، كما حدث بالفعل، في الجامعة، ونادي الشعر.
لكني ذهبتُ إلى الصين مأخوذاً بكلمة 'الصين' وحدَها.
يقول محمود درويش:
كأننا أجدادُنا
نأتي إلى بيروت، كي نأتي إلى بيروت...
إذاً، أنا أذهب إلى الصين، كي أذهب إلى الصين...
أردتُ أن أرى قارةً مختلفةً. أن أتقرّى كيفَ أمكَنَ لحزبٍ شيوعيّ أن يحقق معجزته في الارتقاء بثُلْثِ البشرية هذا الإرتقاءَ.
أردتُ أن أرى الناسَ العاديّين. العاديّين تماماً. الناس الذين هم الحياةُ صدْقاً.
أردتُ أن أطعَمَ ما يَطْعَمونَ، وأشربَ ما يشربون.
ما معنى أن أذهب إلى الصين لأطوفَ بها مُعَلَّـباً ؟
*
قلتُ إننا الآن في فندق 'البستان'.
نخرج ضحىً، على غير هُدىً.
نمشــي لنرى، حريصينِ على تذكُّرِ مَعالِمَ تُعيننا في العودة إلى 'البستان'.
بَيجين، هي أضخمُ من أن تسمّى عاصمةً.
اأُسَـمِّـيها حاضرةَ الحواضرِ، عاصمةَ العواصمِ ؟
تسيرُ في شارعٍ، وإذا به ينفتح عن شــوارع. تقولُ: هذا حيٌّ سَـكَنيٌّ، وإذا به أحياء.
قد تبدو الوجوه متشابهةً، لكنها ليست متشابهةً.
يَحدثُ أننا ندخلُ دكّاناً، أو مقهىً صغيراً، أو غرفةً على رصيفِ زقاقٍ تقدِّمُ طعاماً وجُعةً، نجلسُ هكذا. العجيب أن الابتسامةَ العريضةَ هي التي تستقبلُنا، دوماً، ليس من لغةٍ نتفاهم بها سوى التحية الأولى: نِيهاو... نِيهاو!
قد نظلُّ في الغرفة أو المقهى ساعتَين وأكثر.
الزبائنُ المألوفون يأتون لتزداد ابتساماتُهم عُرْضاً.
والمارّة في الزقاق يُلْقُونَ نظرةَ وُدٍّ.
ونحن مع صاحب المكان أو صاحبته نبادلهم الابتسام.
كم تبدو الحياةُ جديرةً بأن تُعاشَ هكذا!

الساحة، وما أدراك...

اليوم نذهب إلى تين آن مين، إلى ساحة السلام السماوي، ساحة إعلان الصين العظيمة جمهوريةً شعبيةً.
احتفالات العيد الستين لا تزال قائمةً، شعبيّاً، والناس يمضون إلى الساحة، كمن يمضون إلى إعلانِ حُلْمٍ.
نأخذ المترو من المحطة اللصيقة بفندق 'البستان '، مُقامِنا. الحال مقبولٌ. مترو بيجين يمكنُ لبيجين أن تباهي به الأمم. إنه أفضل مترو استقللْــتُه. ( سَبْواي نيويورك خارج الحديث لفرْطِ رداءته القياسيّـة ).
مع كل محطةٍ، يصعد ركّابٌ جُدُدٌ، ولأن المحطات ليست قليلة العدد، فإن الركّاب الجدد ليسوا قليلي العدد بالطبع.
لكنّ عليك أن تضع كل شــيء بالمقياس الصينيّ، هكذا سيختنق المترو براكبيه. المعجزة أن كلّ راكب (راكبة) في خير مقامٍ. لا شــدّ، ولا ردّ. محطة الساحة أغلِقَتْ، وعلينا النزول في المحطة التي قبلَــــها. ننزل. متطوِّعون ( ومتطوعات ) بمكبرات الصوت، يوجِّهون السيلَ البشريّ الدافق. أفلحْنا أخيراً، مثل الآخرين، في الصعود إلى الشارع المؤدي. يا أُمَّ الله المقدّسة! أكلُّ هؤلاء الناس يمكن أن يجتمعوا في مكانٍ واحدٍ ؟ لكن المكان ليس مكاناً. إنه فضاءٌ سُــمِّيَ شارعاً. شـسـاعةٌ فيها خطوطُ مساربَ للعجلات والسابلة. وبالرغم من هذا كله، تشعرُ أنك ما زلتَ في المترو!
كنتُ أتصوَّرُ أنني لن أجد مكاناً خانقاً أكثر من ميدان العَتَبة بالقاهرة.
لكنّ الصين عصيّةٌ على التصنيف!
هكذا أيضاً، عليك أن تتصوّر أن تلك الجماهير الـمُجَمْهَرة، ستمرّ عبر أجهزة فحصٍ أمنيّ قبل دخول الساحة!
Impoible! تقول جوان:
لكننا في الساحة أخيراً...
ليس في الساحة ما يعلَنُ.
الأعلام ( رايات الوطن ) يرفعها الكبار مثل الصغار. هم يشترونها، وهناك ما يُلصَق منها على الوجه، إنْ شـــئتَ، شأنَ هواة كرة القدم.
شــاشــةٌ عريضةٌ جبّارةٌ، تعرض باستمرار برنامجاً سينمائياً عمّا تحقّقَ. وهناك تركيزٌ على الأولمبياد 2008.
أحتفظُ في المطبخ اللندنيّ، برايتَين حمراوَين جئتُ بهما من ساحة السلام السماويّ. سماءٌ حمراء فيها أربعُ نجمات صغيرة، وخامسةٌ كبيرة، باللون الأصفر.
لا استعراض في الساحة.
الساحةُ كانت في واقع الحال، حديقةً، متَنَزَّهاً.
الأطفال يمرحون، والعشّاقُ يتلاصقون.
وعمّال النظافة وعاملاتُها لا يتركون حتى أضأل قصاصة ورقٍ، على الأرض.
مهنةُ سيزيف!
ساحة تيان آن مين ليست كالساحة الحمراء بأية حالٍ... بيجين ليست موسكو.

الشعراء في ناديهم

عند الفراش، تتكوّم الكتب حتى السقف
أمامَ السهوب، تتعالى الأشجارُ حتى تبْلغَ الغيمَ
الجنرال لايحبّ الشؤونَ العسكريةَ
أبناؤه الفتيانُ متعلِّقون بالأدب.
آنَ نصحو من النبيذ، نسمح للنسيمِ بأن يدخل،
ننصت إلى القصائد، ونُمْضي الليلَ هادئاً.
عباءاتُ الصيف الخفيفةُ منشورةٌ على دوالي العنب حيث ضوءُ القمر، الباردُ، الأبيضُ، يتلامَعُ.

الشاعر الصينيّ تو فو ( 712-770)

مساء الحادي عشــر من تشرين الجاري، هذه، ذهبنا إلى 'نادي الشِعر 'الصينيّ، لأقرأ قصائدَ، وأوقِّع ديواني الصادر باللغة الصينية.
'نادي الشعر' مقرُّه مبنىً يضمّ 'نادي القصة' أيضاً، ومطعماً ممتازاً.
كانت القاعة (وهي متوسطة) ، امتلأت مقاعدها، بحضورٍ فهمتُ أنهم جميعاً من الشعراء والمهتمّين بالشعر.
وللمرة الأولى، أحظى في حياتي الفنية كلها، بقراءة كالتي جرت في 'نادي الشعر' هذا. لقد تناوبَ على قراءة قصائدي المترجمة حوالي أربعة عشر شاعراً وشاعرةً. كان الواحد من القوم يلقي قصيدةً واحدة.
بعد القراءة، جرى حوارٌ مفتوحٌ.
كنت حريصاً على تعريف الحاضرين بالشعر العربي وتطوره وأشكاله، أكثر من حرصي على تقديم نفسي وأشعاري.
كما حاولتُ أن أقدمَ صورةًما للوضع الشائن في العراق المحتلّ.
جوان ماكنلي قرأت أيضاً قصيدتين بلغتها الإنجليزية، تلتْهما قراءةٌ لترجمتهما باللغة الصينية.
نُسخ الديوان التي جيءَ بها إلى النادي نفدتْ كلُّها.
الأستاذ تزونغ، العميد السابق لكلية الدراسات العربية بجامعة بيجين، قرأ بنفسه قصيدتَين لي، باللغة العربية أوّلاً، ثم باللغة الصينية، وكانتا من ديوان 'الشيوعيّ الأخير يدخل الجنة'.
أتذكّر أن الحاضرين صفّقوا، طويلاً، لقصيدة 'الشيوعي الأخير يشتري قميصاً'.
قدّمَ الأمسية د.بسّام، العميد الحاليّ لكلية الدراسات العربية، كما تولّى بنفسه إدارة جلسة الحوار.
ليان بِن إدوارد 'الذي ترجمَ ديواني، لقِيَ تقديراً وحماسةً دفعاه إلى أن يلقي قصيدةً من قصائده.
سوف أزور الصين، ثانيةً، حين تصدر مجموعتي الشعرية الثانية باللغة الصينية، وتضمّ حوالي مائة قصيدة. وسوف أذهب إلى 'نادي الشِعر' مستعيداً زمناً عرفتُ فيه أن الشعر فاتحُ ممرّاتٍ.

السورُ العظيم

في اليوم التالي، كان موعدنا للذهاب إلى 'سور الصين العظيم'، أو ما تبَقّى منه قرب العاصمة.
الحديث عن السور يطول، لكني أقول في عجالةٍ غيرشـافيةٍ إن السور بُنِي قبل حوالي 2500 سنة، أيام امبراطور الصين الأول كين شــي هوانغ دي ( 221-206) قبل الميلاد. طولُ السور في الأصل يبلغ خمسة آلاف كيلومتر.
وقد لحقه التجديد، مع تطور السلاح، إذ بُنِيتْ عليه أبراجٌ، ونُصِبَتْ مدافعُ.
كان الإمبراطور الأول يريد أن يحمي الصين الموحَّدة، من غارات 'البرابرة'.
من الصعب، هذه الأيام، صيانة السور بكيلومتراته الخمسة الآلاف، لكنّ ما تَبَقّى منه شاهدٌ على العزيمة والمثابرة والطموح إلى المعجزة.
ذهبنا، إلى السور، بالقطار، في صباحٍ باردٍ، تعوي فيه الرياح. محطة بادَلين، وهي من منافذ السور، كانت سبيلَنا إليه. ربما كانت السبيل الأفضلَ.
باراك أوباما، في زيارته السورَ، أُخِذَ إلى بادَلِين!
بعدَ ما رأيتُ في ساحة تيان آن مين من حشودٍ بشريةٍ لم جدْ غرابةً في أن أرى مَدارجَ السور العظيم تكاد لا تتّسِع للصاعدين والهابطين...
والسورُ نفسُه يَصّاعَدُ، السورُ يَصّاعَدُ ومعه الأبراجُ التي تبدو بلا نهايةٍ. والناسُ يصعدون... إلى أين؟
نحن في محاولتنا البائسةِ لم نتعَدَّ البرجَ الثاني. كنتُ ألهثُ، لكنني حاولتُ أن أبدوَ متماسكاً. المحاولةُ خائبةٌ. إذاً علينا الهبوط، والاكتفاء من آلاف الكيلومتراتِ ببضع عشراتٍ من الأمتار!
الريحُ الصرصرُ تشتد. سنحتمي بما يشبه مقهىً. لكنْ ليس في الصين مقاهٍ كالتي في الشرق الأوسط وشماليّ إفريقيا. في الصين: ثقافةُ المطعم.
طلبتُ شاياً (ليس من قهوةٍ في المعتاد)، وكذلك طلبتْ جوان. إدوارد ورفيقته الصينية طلبا حساءً خفيفاً يريان أنه كالشاي، يمكن للمرء أن يشربه، أيّأنَ شــاء!
في تلك المنطقة من السور، دكاكينُ لسِلَعٍ محليةٍ، ودُمى، وبطاقات بريد لصُورَها علاقةٌ بالســور
أو لا علاقة.
نعود إلى محطة القطار.
ونعود بالقطار نفسه إلى بيجين.
القطار في الصين، حديثٌ جداً، ومُريحٌ. حتى لتكاد تحسب نفسد مسافراً في طائرةٍ، وبالدرجة الأولى.
كم تذكّرتُ القطارَ النازلَ من بغداد إلى البصرة!
تذكّرتُ كيف كنا ننحشر في رفّ الحقائب لننام.
تذكّرتُ كم من المرّاتِ سُفِّـرْتُ ، مغلولاً إلى المقعدِ الخشبِ، في القطار نفسِهِ: قطارِ البصرة.

اللغة العربية ومُحِـبّوها في الصين

تشرفتُ، مرّتَينِ، بأنْ دُعِيتُ إلى جامعة بيجين، في زَورَتي هذه.
في المرة الأولى، وكانت في الثالث عشر من تشرين، كان لقائي مع طلبة كلية الدراسات العربية.
على مدخل الكلية كان مُلْصَقٌ (بوستَر) ضخمٌ، يحمل صورتي، مع عبارة: سعدي يوسف في بيجين (بالعربية والصينية).
كان اللقاءُ حميماً. قرأتُ قصائدَ.
واستمعتُ إلى قصائدي تُتْلى باللغة الصينية.
إحدى الطالبات قرأت قصيدتي 'أميركا، أميركا' بالصينية. وفي منصف القراءة شــرعتْ تنتحب. المشهد مؤثرٌ حدَّ أنّ عينَيّ اغرورقتا دمعاً.
قراءاتٌ أخرى بالعربية والصينية.
إحدى الطالبات غنّتْ أغنيةً لفيروز.
بعد ذلك جرى حديثٌ مفتوحٌ مع الطلبة. أسئلةٌ في الثقافة والسياسة.
أُخِذْنا إلى العشاء، في غرفةٍ خاصةٍ بضيوف الصين البارزين ، في مطعمٍ شهير.
المائدة الصينيةُ الدوّارةُ ظلّتْ تدور، وكان الأستاذ تزونغ حريصاً على أن أتمتّعَ بكل دورةٍ من دوراتها التي لا تنتهي!
كانت الكراســي ذات لونٍ بُنّيّ خفيفٍ.
كرسيّ الضيف البارز (وهو أنا) كان وحده باللون الأســود.
سألَني أستاذٌ في كلية الدراسات العربية عن تصوُّري لمستقبل العراق.
أشــرتُ إلى كرســيّي، قائلاً: في لون هذا الكرســيّ!
'''
المرة الثانية، كانت في الخامس عشر من تشرين. لكنّ اللقاء ، هنا، كان مع الهيئة التدريسية لكلية الدراسات العربية، وقد حضر اللقاءَ عميدُ جامعة بيجين.
اللقاءُ مفتوحٌ.
طُلِبَ مني أن أتحدثَ ، كما أشاء، عن واقع الشعر العربي، والثقافة العربية بعامّة. وكذلك عن المشهد السياسي في العراق، والمنطقة العربية.
بعد الحديث جرى نقاشٌ مستفيضٌ.
قر الأستاذ تزونغ، كما فعل في 'نادي الشعر' قصيدتين لي باللغتَين العربية والصينية، وكانت إحـــداهما قصيدة 'الشيوعيّ الأخير يشتري قميصاً'.
جوان قرأت أيضاً قصيدتَين من قصائدها بالإنجليزية، ثم قُرِئت القصيدتان مترجمتَين إلى الصينية.
كان العشاء على مائدة عميد الجامعة.
المائدة عامرةٌ بمآكلَ صينيةٍ لا أعجبَ منها، ولا أغرب!

عن المدينة المحرّمة وأشياء أخرى

يبدو أن 'المدينة المحرَّمة' هي ثالثة الأثافي التي تستند إليها أيّ زيارةٍ للعاصمة الصينية، أمّا الأُثْـفِـيَـتانِ الأخريان فهما الساحة والسور.
وهكذا جاءتْ طالبةٌ من كلية الدراسات العربية لتأخذنا من فندق 'البستان' حيث نقيْـمُ، إلى 'المدينة المحرَّمة'.
لم تَعُد المدينة محرَّمةً ، بعد ن رحل عنها 'الإمبراطور الأخير' (أتذكّرُ الفيلمَ الشهيرَ الذي جرى تصويرُهُ فيها). إنها الآن مفتوحةٌ للزوار: ادفعْ ستين يُواناً وادخُلْ!
لكن الدخول لا يعني أنك قادرٌ على رؤية كل شــيء، وبخاصّةٍ في أيام العطلة هذه التي تستمرّ عشرة أيامٍ، والمتزامنة مع احتفالات العيد الستين.
تماماً، كما في الساحة، والســور، تجد نفسك وسط حشْدٍ لا نهاية له منم بشرٍ قدِموا من أقاصي الصين إلى عاصمتهم ليروا كل شــيء ، ولو لَـمْحاً.
وأنت لا تدري ما تفعلُ.
المكانُ الأهدأُ في المدينة المحرَّمة هو 'جناحُ الـمَـحْـظِيّات'.
تقول: لأَتَلَـبَّـثْ هنا!
لأتأمّلْ هذا الفنّ العجيبَ الذي حوّلَ الخشبَ إلى بهجةِ ألوانٍ وأشكالٍ وزخارفَ ومعانٍ.
بعضُ هذا الخشب شــرعَ يتآكلُ تحت وطأةِ الزمن والطبيعة. لكنك تجلس على المصطبةِ الحديدِ، تُسَـرِّحُ النظرَ وتُديمُ الرحلةَ...
الأقدامُ الصغيرة للمَحظيّاتِ ترفرفُ.
وأثوابُ الحريرِ تهفهف.
زمنٌ يحِطُّ بُرهةً على جبينك، ثم يتناءى، غائباً وبهيّاً، مثل فراشةٍ من جبال الأنديز.
'''
في الخامس عشــر من تشرين، أي قبل السفر إلى شانغهاي بيومٍ واحدٍ، كان لي موعدٌ مع محطة التلفزيون المركزية الصينية.
كنتُ مررتُ بالمحطةِ، في خلال تجوالي، وكنت أتساءل مع نفسي عن هذا المبنى الغريب في العاصمة. المبنى غيرُ صينيّ إطلاقاً. وكنتُ أقول: ما أشبه المبنى بالعمائر الروسية!
قالت لي الآنسةُ الصينيةُ التي رافقتني من فندق 'البستان 'إلى محطة التلفزيون: البناءُ من الخمسينيات. بناه الروس.
على أي حالٍ.
دام اللقاء، أي المقابلة، ثلاثين دقيقةً. شاهدتُ اللقاءَ وأنا في لندن.
كان اللقاء باللغة العربية.
وأنا سعيدٌ لأن الصين أتاحتْ لي فرصة الكلام عن وطني المحتلّ عبر شاشة تلفزيونِها المركزيّ.

هل أنا في شنغهاي؟

في السادس عشــر من تشرين، ذهبنا بالطائرة إلى شنغهاي. وكانت إقامتُنا في 'فندق البراعم'، على مبعدة أمتارٍ من شارع نانجين الشهير: شـريانِ المدينة، وعنوانِ تجارتها وأناقةِ أهلِها.
شنغهاي، في الذاكرة السياسية والثقافية، قد تكون أقربَ حضوراً من بيجين العاصمة.
شنغهاي هي التي استعمرَها الأميركيون والأوربيون، الإنجليز أوّلاً، في حرب الأفيون المخزية في القرن التاسع عشـر.
وشنغهاي هي البؤرة الثورية التي ظلّت تمنح الصين طاقةً للتمرّد مُثْلى.
شنغهاي هي التي كتب أندريه مالرو، عن انتفاضتها الشيوعية في الثلاثينيات، عمله الروائيّ العظيم: الوضع البشريّ.
في المساء، بعد أن استرحنا قليلاً في 'فندق البراعم'، كان موعدنا مع شعراء المدينة، ومن بينهم رئيس تحرير مجلة 'شعراء شنغهاي'.
الشعراء الذين التقيتُهم في ذلك المطعم القريب من 'فندق البراعم 'كانوا من النخبة الفعّالة في الشعر الصينيّ الحديث، إغناءً، ومحاولةَ انفتاحٍ.
هم يفخرون بأنهم ينظِّمونَ لقاءً شعريّاً غير حكوميّ . ويحقّ لهم الفخرُ بأنهم أوصلوا الأصوات الشعرية الصينية الجديدة إلى العالَمِ عن طريق الترجمة، والإتفاقِ مع دور نشرٍ أوربيةٍ.

أقول لإدوارد:

عزيزي إدوارد... أريد أن أرى مبنى الجمارك القديم، والكنيسة التي بناها الغزاةُ بعد حرب الإفيون، وأماكنَ محدّدةً وردتْ في رواية 'الوضع البشريّ'.
يقول: نعم.
لكنه لا يأخذني.
وحين ازددتُ إلحاحاً، قال: لِـنَـمْضِ إذاً!
ذهبنا في سيارة أجرةٍ. المنطقة كلّها مسَوَّرةً. لا سبيل إلى الدخول. عملياتُ التطويرِ لا تتوقّف. وشنغهاي القديمة ستمَّحي ملامحُها!
لا بأسَ بأن أقول إن شنغهاي تتباهى بناطحات سحابها وأبراجها، أكثرَ من نيويورك!
قالت لي جوان: لندن تبدو قِزمةً أمام شنغهاي.
كانت تقول ذلك ونحن في منطقة المصارفِ والتجارة اللندنية، حيث اعلى العمائر!
'''
يبدو لي من متابعتي، ما يُنشَر من أشعارٍ صينيةٍ باللغات التي أعرفُ، وما يُنشَرُ حول هذه الأشعار، أن الحركة الشعرية في شنغهاي تمثِّلُ ذروةَ التجديد في الشعر الصينيّ المعاصر، إذا استثنينا الشعراءَ الصينيين المقيمين خارج بلادهم.
هناك جدلٌ محتدمٌ باستمرارٍ حول الأشكال الطليعية، وتلك التقليدية، وحول الموقف النقدي للشعر فـنّاً.
وشعراءُ ' المنفى' ظلوا، مثل شعراء المنفى الآخرين، أســرى الحالةِ المستحيلة.
قصيدة دو- دو ' أنهار أمستردام' مثالٌ على ذلك:
أُغلِقُ النافذةَ، لكنْ لا جدوى
فالأنهار تجري إلى وراء.
...........
بعد أمطار الخريف
ذلك السقف الزاحف بالحلازين
بلادي تُبحِرُ، بطيئةً، في أنهار أمستردام.
قد يتّخذ التمرُّدُ في الشعر الصينيّ المعاصر شكلَ اختيارِ ما يَصْدِمُ، اختيارِ ما يخالفُ المعتادَ من أعرافٍ.
قصيدة يي شــا 'عبور النهر الأصفر' تصلُحُ مثالاً هنا:
حين كان القطار يعْبرُ النهرَ الأصفرَ
كنتُ، في المرحاض، أبولُ .
آ... أعرفُ أني مهمِلٌ
وأنه كان علَيّ أن أجلسَ لِصْقَ نافذةٍ
أو أقف عند بابِ العربةِ
يدي الشمالُ على مؤخّرتي
ويدي اليمينُ تظللُ عينيّ
ناظراً مثل شخصيةٍ كبيرةٍ
أو مثل شاعرٍ في الأقلّ
متذكراً حادثاً متّصلاً بهذا النهر
أو حكايةً من تاريخـــه.
كلُّ امريءٍ كان ينظر من النافذةِ
بينما كنتُ في المرحاضِ، فقد دهمَني وقتي
وكنتُ أنتظرُ هذا منذ أربعٍ وعشرين ساعةً.
لكني بعد أن أنهَيتُ تبوُّلي
كنتُ خلّفتُ النهرَ الأصفر، بعيداً، ورائي.

هُــنـــا يُـبــاعُ الــقــات!

لا أعرف كيف أنطقُها: يِـيْ وُو أمْ وِي يُــو..Yiwu مدينة
هذه المدينة ليست بعيدةً عن شنغهاي.
أنت تبْلغُها بالقطار ( حوالي خمس ساعات ).
لماذا نذهب إليها؟
أوّلاً لأنها بلدة إدوارد الأصلية، ولأنّ فيها، حتى الآن، مكتبه التجاريّ الأصل.
أمّا السبب الآخر، وقد يكون الأهمّ، فلأنها مدينةٌ يباعُ فيها القات!
ليستْ مزْحةً ما أقول...
هذه البلدة، وهي من مُدُن الأنهارِ، الكثيرة في الصين، هي قِبْلةُ التجّارِ العرب، متوسطين وصغاراً، ويأتيها أفارقةٌ مسلمون أيضاً.
كانت البلدةُ من أفقرِ بلْداتِ المنطقة، لكن واضعي خطط التنمية دفعوا يي وو إلى الواجهة بأن جعلوها بلدة معارضَ تجاريةٍ دائمة ( حين كنّا هناك، كان وزير التجارة الأميركي هناك أيضاً في افتتاح معرضٍ ما ).
ليس في المدينة ســوى المكاتب التجارية.
هناك بُرجٌ قديمٌ عمرُه ألفُ عامٍ، وحديقةٌ عامّةٌ ناضرةٌ، ونهرٌ يمرّ وسط البلدةِ، وســوقُ ليلٍ مفتوحٌ من تلك الأسواق التي نحبّها، نحن العرب، والتي تُذَكِّرُك بأسواق حلب ودمشق والقاهرة.
هناك أيضاً، الشواءُ في الشارع، والقتارُ المتصاعد مع الشواء.
بل لقد رأيتُ، بالفعلِ، عربيّاً كسيحاً، يزحف على الرصيف، زحفاً، ويمدّ يده مستجدياً. هل اكتملت الصورةُ العربيةُ في المكان الآخر؟ تذكّرتُ نجيب محفوظ، أستاذَنا في قولة الحقّ، أ زِيطةُ صانعُ العاهاتِ دبّرَ إقامتَه في الصين أيضاً ؟ هل الكسيحُ العربيّ، إذاً، في هذه البلدة الصينيةِ، كسيحٌ حقاً ؟
تمشي في المساء المبكر، وتقرأ اللافتاتِ بالعربية:

مطعم بغداد
كافيتيريا الرافدَين

مطعم اليمن ( وهو أكبر مطاعم العرب هناك ).
ثم، في زاويةٍ، في مكانٍ ضيّقٍ على الطريقة اليمانية:

هــنــا يُبــاعُ الــقــات
يا أُمَّ الله المقدّســة!

في أحد لقاءاتي الأولى مع محمود درويش، وكان لا يزال في القاهرة، أخذني إلى مطعمٍ يعرفه (غير بعيدٍ عن مسكنه في العادة، سواءٌ كان في القاهـرة أو باريس).
جلسنا.
قال محمود لصاحب المطعم: ألَديك أفاعٍ ؟
نظر إليّ محمود كأنه ينتظر مني ردَّ فِعْلٍ ، فزَعاً أو ما يماثله. غير أني كنتُ محايداً، لأني أعرف ما تعني العبارةُ Eels إنها تلك الأسماكُ التي تماثلُ الأفعى هيأةً. وقد كنتُ أصطادها في الصباح المبكر ، في خليج عدن.
أفاعي النيلِ شــهيرةٌ بطًَعْمِها الشهيّ.
لماذا تلِحُّ عليّ الأفعى ؟
بعد وصولنا إلى البلدةِ، بالقطار، كان في استقبالنا بالمحطة ابنُ أخٍ لإدوارد، نسِيتُ اسمَه، الآن، لكنه كان ذا شَعرٍ فوضويّ أعجبَني. قلت له ذلك.
أخذنا ابنُ الأخ إلى أشهر مطعمٍ في البلدة.
اخترنا مائدةً معيّنةً، ثم هبطْنا كي نختار مآكلَنا.
المطعم عجيبٌ. الطهاة فيه أكثر من النادلين. وعليك أن تختار: أسماك، ومَخاليقُ بَحرٍ... إلخ.
وقريباً من الأسماك الحية والسراطين، كان قفصٌ مشبّكٌ، فيه أفعى. أفعى حقيقيةٌ ترفعُ رأساً مرِحاً. لم تكن ضخمةً. ولا أظنها من الأفاعي التي تبدِّلُ جِلْدَها. أظنّها أفعى عُشبٍ. قالوا لي: هي على القائمة!
صعدنا إلى حيث مائدتُنا.
شــربتُ نبيذَ أرُزٍّ محليّاً، من تخمير المطعم نفسه. كان لذيذاً.
طلبْنا أطعمةً. أنا طلبتُ وجبةً نباتيّةً.
والأفعى ؟
الأفعى التي تنتظر ضربةَ الساطور؟
الآن أستعيدُ صورتَها:
كانت في قفصها، حرّةً. الأفعى لا تحتاج إلى فضاء. في بيتنا بأبي الخصيب كانت أفعى، نسمِّيها الجارةَ، وهي تحظى منّا بالمهابةِ، وبالتزام ألاّ نسيء إليها، أو نحاول قتلَها. هي البَرَكةُ في البيت.
ربما كانت أفعى بيتِنا بأبي الخصيب، أفعى عُشْبٍ كهذه التي في المطعم الصينيّ!
هنا في بيتي بالضاحية اللندنـية ،
في الليلِ الطويلِ
تأتيني تلك الأفعى، أفعى المطعم الصينيّ
إنها ما زالت رافعةَ الرأسِ، مرِحةً، حُرّةً.
أدعو الآلهةَ كلَّها ، آلهةَ الأزتيك والمايا والإغريق ، آلهةَ أجدادي العربِ الوثنيين، أن يُجَنِّبوها ضربةَ الساطورِ الصينيّ التي لا تخيب!

لندن
14.12.2009

القدس العربي
31/12/2009