أقحوان بيتي ودوائر الزعفرانمحمد العامري - في الطريق إلى بيتي الماكث في الأغوار، لا أذكر سوى ألوان مسكوبة على أديم الأرض، تحديدا في فصل الربيع، حيث جنون الطبيعة المتفجر في كل سهل وجبل كما لو أنها باليتة فان كوخ .

جدائل من الأحمر المخضب بنفحات عطر الورد ورائحة الفيجن والخشخاش، رائحة تداهمك بليمونها وتفاصيل شجرة الحبر وأجراس الجنبوت وقامات القصل التي تأخذك إلى أهداب الغوصلان على أكتاف جبال القليعات التي تخبئ خلف ظهرها سد زقلاب، ذلك الذي ينام بمائه على وسادة الجبل.
أقحوان بيتي مساحة لغيرة الأرض من أخضرها، مساحة صفراء سجادة طرية تجري بها الريح لتنقل عبقها إلى نوافذ بيوتاتنا المفتونة بالمشهد.

أقحوان أشبه بشموس صغيرة سقطت في السهل، إرباك لمساحة الأخضر الطاغي غيرة من الدحنون، لكن طغيان الأصفر في مساحة الوادي تعطيك وضوح شقائق النعمان لتظهر كنقطة من دم العشاق على ثوب الأقحوان.
طغيان حقول فان كوخ، لكنه أقوى كرهافة سيزان وعمق ألوان جوجان.

نبتة تخجل بأصفرها من شمس الصيف لتزور أرضنا في شتاء طقوسي، نبتة معلقة بارتباك غيمة داكنة تشرب من زخات مطر دفيء يتسلل إلى معطف العشب، يداهمك في ممر البيت وفي الطريق إلى بيارات البرتقال يتسلل إليك من النافذة، لصيق الحيطان والتلال.

لائد نلظمها لصغار العشاق، لزوار الغور الرؤوم، قلائد غيرة على زجاج المركبات تهاليل وأحجيات صدفوية.
كنا نقطف شموس الأقحوان ونبدأ أحجية الحب (تحبني لا تحبني)، نفرح إذا كان العد مفردا ونحزن في الزوجي من العد، علاقة لا تعرف سوى المغامرة بين النفس والطبيعة، نبتة نجمية تبث نورا ينسكب في الطرقات كما لو أنها دليل للغرباء حيث يسمونها في الشام "زهرة الغريب"، فهي المؤنس ورفيق النور في ليل الروح.
ارتعاش الأصفر في فيء البسباس، تسيد الأصفر الغيور على كراسي الأخضر لم يسلم الأقحوان من قافية الشعراء، فمظفر كتب قافية الأقحوان حين قال: "ليس في قافيتي إلا ارتجاف الأقحوان، ينهض الشوق معي عاصفة حين أناديك على قطرة ماء ذات رجع أرجواني".
ما الذي تصنعه تلك الزهرة الرهيفة بالعشاق والشعراء والأمهات وصحن الدار؟
هي جارة الممشى وتاج الأرض،
قلادة نور ومأوى على النحر،
نقيض الخرفيش وشقيق السنابل،
أقحوان بيتي جارنا المطري
ومنديل لدموع الصيف
زائر لا يحتمل الانتظار، رشيق برحيله وطاغ في الحضور.

***

في الحقل البري الأرعن، لا قانون يحكم تنظيم انفجار الأصفر الأقحواني، ولا دروب تأخذه ليذعن لمسير ما ، هو نفسه المسير الحر في الجبل والوهاد والأودية وظلال البيوت، يخرج من بين صلب الجدران ومن شقوق النوافذ الخشبية أيضاً، يدخل البيت بلا استئذان، برائحة توقظ فيك الحنين إلى رائحة الجدات والتوابل الهندوسية.
دوائر زعفرانية تتحرك ككواكب صفراء في فراغ الأرض، تلك هي منظومة الأقحوان في القليعات، تلك الزهرة التي عاشت معنا ، في الصبوح وعلى المائدة البرية للأهل.
شموس تشع زعفرانها الواضح في غموض الطبيعة، دعوة سرية للعشاق ليتقلدوا طوقه المضيء الملظوم بالكتان، عقود لا تشبه اللؤلؤ ولا الفضة، لا تشبه سوى حالها في انسكاب الأصفر على صدور الكواعب القرويات، رائحة تدعوك للركض كأيل مجنون في الشعاب.
شهوة برية توقظ في النفس التمرد على المعادن
وطريق سالكة للحب، مناخات مبللة برشاقة المطر
ومجد ساطع في صحن الأرض، كواكب دوارة على النحر
بحر اصفر ونعاس جبل يحضن خيط الأنس
شراب الرعاة
دعابة مرّة للعشاق
مسير أصهب لا يأخذه ليل
وسجادة تنام في محراب البيت.

الرأي
21-4-2011