محمد العامري

النهر وجواره.. في اقتفاء البصر والبصيرة مندلينا وليمون وأسماك

كنت هناك حين حملني أبي على كتفيه باتجاه نهر الأردن حيث الدفلى وشجر الطَّرْفاء والكينا، حملتني البهجة حيث بيارات جدي ورائحة الليمون التي تتجاور، ورائحة النهر التي تفوح حين يشتد الصهد وتنطلق الفراشات واليعاسيب في أفق أخضر في متناول اليد.

إنها البدائية المثيرة للأرض التي تتفجر فرحاً حين يفيض النهر في موسمه الاعتيادي، الموسم الشتائي المنتظَر ليلقي النهر بأحلامه على اليابسة وأرض البيارات، موسم ننتظر فيه الفضة وهي تتحرك على اليابسة، في تلك اللحظة أراه هادراً وغاضباً كونه انحبس طول العام.

يفيض النهر كما لو أنه يريد أن يلبس اليابسة، ويعانق أشجار المندلينا والليمون حتى يغمرها للرقبة، بل يتجاوز ذلك حتى يصل إلى الأغصان العالية كما لو أنه غسول وطهرة موسمية للشجرة، يغسل أشجاره بعفة الماء لمدة ثلاثة أيام ويعود خجولاً من زواج كان للتو طازجاً بالطمي والأسماك، يعود بانكسار هارباً نحو مجراه وحصاه اللامع تاركاً خلفه أسماكا من الكرْب والمشط والبلابيط، تتحرك كفضة تهدر في قدر أخضر محركةً شهيةَ القرى المجاورة، حيث يهرع أهل القرية بالأكياس والعصي مشياً إلى النهر وما تركه من بهجات على الأرض، ويبدأ حصاد السمك الذي فقدَ النهر فجأة ينظر بعيون مدوّرة ولامعة إلى الناس مستسلماً لأكياسهم ليعودوا محمّلين بأسماك وتفاصيل حكايات سحرية، يعودون وقد علقت بأقدامهم أعشاب مقدسة وطميٌ طري كما لو أنه الحناء.

إنها الطبيعة المجنونة التي تتشبث بعشاقها الغوريين الذين آثروا البقاء هناك رغم فقرهم واقتراب قرص الشمس من قاماتهم، فأصبحوا يشبهون الشمس بسمرتهم الجميلة، فرحين بنهر حملهم صغاراً، وأطعمهم من جوع، وآمنهم من خوف، طقس لا يشبه إلا الغور الحنون وبرتقالة مضيئة في أفق الشجرة العامرة بالأغصان والعصافير الشغوفة بالغناء.

حين تثمر الغابة طيوراً

المشهد السحري الذي يراه المزارعون هناك هو ما تحمله الأشجار البرية الصاعدة على كتف النهر، أشجار الطرْفاء والكينا والحور والعلّيق، تلك الأشجار التي تحمل ثماراً حية حين تسقط الشمس في حضن جبال فلسطين، حيث تستقر طيور البطّ على الأغصان ككرات سوداء راكدة تترنح مع ميلان الغصن كما لو أن تلك الأغصان أراجيح صنعتها الطبيعة للطيور التي اعتادت على مراقبة اندلاق الأحمر القاني خلف الجبال الغربية، الجبال المحاذية لطبريا وبيسان ومرج بن عامر..

في تلك اللحظات ترتفع أصوات الحشرات بإيقاعات ليلية مرددة سيمفونية عشبية مجلّلة بالرطوبة وطراوة الهواء الخفيف.. هواء يرفع منسوب رائحة العشب الطري المحمَّل برائحة البرتقال والليمون والنباتات العطرية، أعشاب الخرفيش والقرّيص والسّنيريا والبابونج والدريهمة والبسباس والحمّيضة والخبّيزة والخردلّة والجربوع (الهيليون) والحمَصّيص والقصيقصَة.

كل تلك الروائح نشمّها بلذة غرائبية حين نكون في حراسة البيارات ليلاً من الخنازير، حيث يكون النهر نائماً بجلاله المقدس كما لو أنه الماء المستلقي على وسائد العشب، إنه ليل لا يشبه أبداً سوى ليل الأغوار.. الليل الذي شهد في الستينيات خطى الفدائيين إلى فلسطين عندما كانت الثورة الفلسطينية لا تعرف سوى طهارة الأرض وضرورات التحرير البريئة.

كان النهر حارسهم، وكذلك حارساً لطيوره وأشجاره وأعشابه ومجراه. لم تكن تلك المنطقة الملاصقة لفلسطين سوى موسيقى نسمع فيها الأغاني والميجنا والهجيني في محاولة من أبي لكسر ظلمة الليل ووحشته، وكذلك لطرد الخنازير البرية، لأن الخنازير لا تحب الغناء.

لم أنس تلك الأشجار التي ما تزال واقفة تنظر في مرآة النهر، وتشهد على صفصافه وصفائه وتعكّره، إنها الطبيعة البكر المتصالحة مع موجوداتها.

في كل مرة أعود إلى هناك، إلى بيارات أجدادي أبو فارع، وأبو علي، وأبو حمد، وأبو عمر، لأسترجع تلك الذكريات بعين غير بريئة، عين المثقف والفنان التي نضجت فيها الأشياء، كنت أتمنى أن أعود إلى ذلك الطفل ذي السادسة من عمرة، لتأخذني الدهشة البريئة إلى هناك، ورغم ذلك ما أزال أندهش من عفوية هذا النهر ودفئه وحميمية علاقتي به، كما لو أنه يعيد لي كل ما افتقدته في عمّان.

يعيد لذاكرتي الاغتسال به، وتفحُّصَ الحوّامات فيه، التي أكلت الكثير من أصدقائي، والألوان الحقيقية، والسماء الواسعة، والأفق الرحب المليء بالسحب الملونة، والأرض التي تلوح ك باليتة رسام انطباعي من كثرة الأزهار، من هناك تناولت ألواني وألقيت بها على الورق لتدخل البيوتات الطينية القديمة وانعكاسات الأشجار بمرآة النهر، النهر الذي شرب كل الأشياء وأعاد لها الحياة من جديد، كأن نهر الأردن في تلك المنطقة شريان من الطراوة والخضرة الدائمة، فما يزال يحاول ويحاول أن لا يفقد معناه، رغم الاعتداءات المتكررة عليه.

الرأي
17 ابريل 2009


إقرأ أيضاً:-