عباس بيضون
(لبنان)

عباس بيضونكنت اعرف أن بترا رتبت كل شيء، بطاقات القطار اشتريت سلفا، وكان يكفي أن انظر في الجدول الذي نظمته لأرى كل شيء مدوّنا. موعد الرحلة، من سيرافقني أو على الأقل من سيستقبلني في المحطة. كنت واثقاً من أن خطأ ما لن يحصل لكني لم أكن بالطبع واثقاً بالدرجة ذاتها من نفسي. لا اعرف كيف أُترك لأذهب وحدي إلى المحطة وأجد وحدي قطار دوسلدورف. ميشائيل الذي يعرفني جيدا كان أيضا غير متأكد وهو مثلي يفضل أن لا اترك وحدي لحظة واحدة، كان الوقت فات لإبلاغ السيدة التي ستنتظرني أمام القطار أن من الأفضل أن تذهب لتصطحبني من الفندق، الوقت فات وهذا يعني أن لا داعي بعد للقلق. حلت المسألة على نحو غير سار طبعاً لكن لا داعي بعد للتفكير فيها. أظن أن ميشائيل نفض المسألة من رأسه وعليّ أن افعل مثله، عندما تصل الأمور إلى هذا الحد أتوقف أنا أيضا عن التفكير لكن المسألة تبقى كالحجر الجامد في رأسي. غدا سخيفاً أن أظل اردد أنني لا اعرف الألمانية، الأمر لا يحتاج إلى أكثر من أن اردد اسم المدينة دوسلدورف أمام أي كان فيهم، لكن كان عليّ بالطبع أن أحفظ جيداً الاسم وان ألفظه كما يسمعه الألمان وإلا فلن يفهموا، أو لن يبذلوا أي جهد ليتميزوا شيئا من لفظي السيئ. كان سائق السيارة عربياً وسألته أن يلفظ أمامي الاسم لكي لا أُخطئ في نطقه. للحال اظهر العربي براعته ولفظ الاسم بطريقة أدركت في ما بعد أنها ليست صحيحة، لفظ السين زاياً (حرف الزاي بالمناسبة لا يوجد على الإطلاق في الألمانية) لكني صدقته، لم أتذكر في هذه اللحظة كيف ينطق صديقي هارتمان كل زاي سينا.

لم تكن المحطة هائلة كمطار فرنكفورت، المدينة التي تعد بمئات الآلاف ومع ذلك فهي عاصمة المال في ألمانيا. الردهة لم تكن حاشدة لكني لم أضيع فرصة للوقوف أمام المخبز أو المكتبة أو ماكدونالد الصغير في الزاوية أو المقاهي فأنا أجد متعة في تأمل أسواق المحطات أو المطارات، حيث يمكن انتهاب كل شيء بسرعة في الزمن المعلق الذي يفصلنا عن موعد السفر. لفنجان قهوة بالتأكيد طعم هذه اللحظة الهاربة لكني لم ادخل إلى المقهى. كان عليّ أن اسأل أحدا عن قطار دوسلدورف بين القطارات العديدة الراسية بين الأرصفة، المهم أن أحسن اختيار الشخص، لم أجد في الواقع واحداً تنم هيئته عن انه سيستجيب، تراءى لي أنهم جميعا مستغرقون في أنفسهم ولا وقت لديهم فعلاً ليستمعوا لي، في وسعهم جميعا أن يرفضوني الآن، إلا ينظروا إليّ كمتطفل، أو أن يجيبوا عني وأنا أحاول أن اخرج من فمي تلك الكلمة الوحيدة التي اعرفها "دوسلدورف". اخترت في البدء شاباً صغير القامة، ربما طمأنني حجمه أو هيئته المنمنة، لم انجح حتى في أن اجعله يدير وجهه لي، لحظني هنيهة ثم لوى عني كما لو كنت متسولاً، بدا الأمر أصعب مما خمنت. تفاديت الكلام مع آخرين رغم أنني لم انظر في وجوههم، لقد أرسلتني الصدمة بعيداً. وجدتني في النهاية اسأل رجلاً ضخماً بملامح كبيرة وغليظة تقريباً، لم يبتسم لكنه سار ولحقته إلى أن وصل إلى رصيف وتأمل على اللوحة قبل أن يقرر أن هذا هو القطار. كان القطار فارغاً تقريباً. نفذت من حافلة إلى حافلة بدون أن أرى أحدا. من سنين لم استقل قطاراً، أخذت أتأمل الواجهات الزجاجية القمرات المقاعد المنفردة قرب النافذة الكراسي الجلدية، لا أحب ضيق القطارات لكني أتعجب دائماً من هذا العالم الذي يجري بناؤه في المكان الضيق، قمرات وأمكنة حميمة ومطعم وكوريدورات، كان هذا أشبه بنملية (من النمل).

(ساحة بريمن: مشهد من القرون الوسطى)وصلت إلى مقعدي، لكن المرأة التي سترافقني إلى دوسلدورف لم تظهر بعد، كانت هذه مشكلة أخرى. ماذا لو لم تأت، أما كان هذا سيرميني ليس في لغة لا افهمها فحسب بل في مكان لا اعرفه، شيء لا يمكن تخيله إلا ككابوس. ماذا لو لم تأت، أكان صحيحا أن تعلق شيئا بهذه الخطورة على موعد، على مجرد الثقة بالموعد الألماني، كم هي الأمور التي يمكن أن تتدخل لتمنع موعداً. أليس مستحيلاً أن نجر الزمن بخيط واه كهذا، لم تأت المرأة. كان عليّ أن اهرب إلى الأمام، أغادر ثانية باتجاه فرنكفورت. هممت أن افعل لكن المرأة التي لم تتأخر حضرت في الموعد الذي بكرت أنا عليه.

عدت إلى مقعدي لكن المرأة اعتذرت بأن بطاقتها في الدرجة الثانية ولا تستطيع أن تجالسني. انتقلت معها إلى الدرجة الثانية وتحدثنا طويلاً، أسعدني أنني أنجزت كل ذلك فطابت شهيتي للكلام. المرأة التي كانت تتكلم فرنسية حسنة استرسلت معي أيضا، اللغة الثانية تحررنا قليلاً، رغم أننا نتصارع معها طوال الوقت. ما أن نتوقف عن الخوف منها حتى نفاجأ بأن رأساً آخر، بدأ يعمل فينا، ليس رأساً آخر تمامآً ولكننا نتكلم بلا مسؤولية كأن شخصا ثانيا يتكلم.

في دوسلدورف قادتني المرأة إلى منزل هانريش هاينه الشاعر الألماني الذي أحببت ما قرأت له، إنها من جمعية هاينه التي دعتني مع ميشائيل كليبرغ للقراءة، فتحت الباب بأن أدارت قطعة معدنية بيضاوية على مقبض له شكلها، صعدت إلى الطابق الثالث، لم يكن هناك بالطبع شيء من هاينه، حتى ولا صورة. كانت هناك آنية رائعة ومناشف جميلة وغالية وسرير عريض تحت وسائد ولحاف ناعم يمكن اعتبارهما رياشا كما يقال في العربية. غرفتان في أعلى الدرج في الدور الثاني مع سريرين ومطبخ، الرائحة هي رائحة الغسيل. أحببت الغرق في السرير. وضبت وسائدي أدرت التلفزيون أمامي ونمت كالعادة وهو يعمل، سمعت وأنا في تشويش ما قبل النوم صراخاً عالياً وأصوات أقدام عادية، من الساحة التي يطل عليها المنزل، ضجة سكارى في الأسفل. كنا في منتصف الليل تقريباً في الوقت الذي تنام فيه الشوارع والساحات، لم ينبهني الصراخ، أحيا ليلي في الواقع وتسرب إلى غفوي التدريجي وكأنه صادر من قصة قديمة. في الصباح قالت لي المرأة انها تأمل أن أكون نمت رغم الضجة، لم اقل لها أن موانعي في داخلي وان ليس لأي شيء في الخارج هذه السلطة على نومي. فهمت انها ضجة معتادة في دوسلدورف، أسعدني ذلك إذ إنني هنا أكاد أخاف من صوتي ومن حركتي وبالطبع من صوت التلفزيون الذي يتعبني التقاطه لفرط خشيتي من أن ينفذ إلى الغرف الأخرى.

في الصباح جاء ميشائيل وحين كنت أحاول أن اصنع شاياً لكلينا فكرت في النص العربي ل(فصل في برلين)، كنت بالتأكيد وضعته في حقبيتي لكني لم أجده فيها. ربما وضعت شيئا آخر، واحداً من تلك النصوص التي حملتها معي إلى فرنكفورت. كان هذا أشبه بأن لا يأتي احد لمرافقتي وان أضيع في لغة ومكان لا اعرفهما. في البداية أحسست بأن اللعبة أطبقت عليّ، أنني لست مغلوبا فحسب بل تقريباً كان كل شيء يسخر مني ولم استطع أن أواجه ميشائيل فوراً. انتظرت حتى أتنفس ولم تتحسن حالي لكنه كان الوحيد الذي يستطيع أن يفعل شيئا، لا اعرف كيف أخبرته، كيف وجدت صوتي لأقول ما قلته. عرف وكان كل شيء متوقفا على رده. ميشائيل كالعادة لم يبد مصدوما ولا خائبا، ملك نفسه تماما وقال لي بهذه القدرة على تحويل الأمور إلى واقع، "هيا سنخترع شيئا".

سنخترع شيئاً

استيقظت مبكراً جداً كما هي عادتي حين يتغير فراشي أو مكاني أو ظرفي. أنام لفرط ما يكد جسدي ويكد رأسي، اسقط نائماً وكأن لم تعد لديّ طاقة أي طاقة لاتحرك أو أفكر، يبدو جسدي ورأسي خرقتين وأنهار ككتلة من التعب، لكن هذا لا يدوم طويلاً، ما أن يرتاح جسدي قليلاً، ما أن تعود إلى رأسي طاقة على التفكير حتى استيقظ، كأنهما تعرضا لخدعة سرعان ما افلتا منها. قرأت قليلاً ثم شعرت بجوع شديد، كنت مهتما أيضا برؤية الساحة التي تحت نوافذ البيت، ارتديت ثيابي ونزلت. رأيتني في ساحة قديمة، كان هذا كافيا لإنعاش روحي. تابعت الحيطان المتراصفة بأبوابها وزخارفها، الأرض المبلطة والقنطرة التي تقطع الشارع، كان هذا كل ما أريده من مكان ليبدو بالنسبة لي ذا إيقاع وشكل، كان المكان برمته في المخيلة قبل بناء المنازل والشوارع، كان موجوداً برمته كقطعة موسيقى. هذا يقنتني في المدن أنا الذي عشت دائما في أمكنة لا يمكن وصفها، ولا تتشكل أبدا كأمكنة، مجرد تفاصيل متفرقة ومتباينة. تجولت كالعادة بحذر لكي لا أضيع الجادة، ابتعد بشكل محسوب عن مركز أعود إليه على خطواتي نفسها. كانت الساعة لا تتجاوز الثامنة والشارع خال تماماً، لكني اسمع خطوات، رجل يطوح في الشارع بلحية مرسلة وعينين محتقنتين وبالطبع ثياب مدهنة وقنينة باليد، ليس هذا منظراً مألوفاً في ألمانيا وقد يكون مألوفاً أكثر في باريس.

سنخترع شيئا، لم يكن الأمر يائسا تماما، ثمة ما يمكن عمله بعد. وبالفعل اخترعت ثالثينيا أو أربعينيا كما يقول ميشائيل وجدناهم هناك. كانوا ينتظروننا بهدوء تام في صالة نظيفة وباردة كقاعة مستشفى. على الجدران كانت سيرة هانريش هاينه مرسومة كما في مجلة للأطفال، كانوا يجلسون في احترام تام لمجيئنا ولحضورهم هم أنفسهم، صعب عليّ أن افهم من أين أتوا، تخيلت انهم تقريباً أعضاء مزمنون في أخوية ما، كانوا هادئين كما لو كانوا في قداس أو يؤدون واجبا روحيا. لا اعرف ماذا كنا أنا وميشائيل لهم لكني متأكد انهم سيصغون بالاحترام الخالي من الشغف إلى أي هراء أقوله، ولن يتراءى لهم أنني قد اكذب على المذبح، ميشائيل قرأ مطولا من كتابه "الحيوان الذي يبكي"، أنا ليس لديّ ما اقرأه، لذا بدأت ارتجل، تكلمت عن حياتي في برلين، كنت أريد أن أبدو طريفا، لكن كيف أبدو كذلك وأنا أتكلم لغة ليست لي وما يزيد الطين بلة هو أن ميشائيل سينقلها إلى ألمانية. مع ذلك لم يكن الأمر تماما فاشلا، كان هناك مدخل مجرب، تكلمت عن مفارقة أن أتكلم عن برلين مع ألمان، قلت برلين التي لا اعرفها إلا نتفا ولا استطيع أن اجمعها في رأسي، اعرفها انطلاقا من تجربة الضياع المتكرر فيها. لقد رأيت بالتأكيد أشياء كثيرة وأنا ابحث عن الطريق لكني بمجرد أن أجدها لن تكون هذه التجربة حتى بالنسبة لي سوى فوضى، أي معرفة يمكن استنتاجها حين نمضي ضد الأشياء أو حين نهيم فقط بعيداً عنها. تحدثت عن التجوال وحيداً بمعطف سميك يقطع البرد وقفازين وطاقية، وحشة بالتأكيد لكن مع هذه الوحدة يمكن الكلام عن اختيار للحرية. داخل المعطف السميك ليس هناك سوى ذات وجسد معزولين وفضاء واسع متاح، كنت فقط أتكلم في رأسي طوال الوقت، اسمع ذاتي فحسب وأرى، أرى مراراً الشجرة نفسها اذ لم يكن ممكناً أبدا نسيان العالم الذي أيضا كان يتكلم لي بلغة الوحشة ذاتها التي اسمعها بدون مرارة في داخلي.
ربما قلت شيئا كهذا أو أعددته للكلام، لكني بالتأكيد قلته بخفة أكثر وبمحاولة لم تنجح دائما في أن أبدو هزليا. وصفت دوراني تحت المطر في شارعين والإحساس بالسخف والنبذ الذي يتزايد مع البلل والالتجاء إلى أي حائط أو سقيفة بأنف يقطر وحذاءين مملوءين ماءً. قرأت من الذاكرة قصيدة صغيرة من "فصل في برلين". لقد ارتجلت حقاً، عند هذا فقط وجد ميشائيل الوقت مناسبا ليوصيني بأن لا انسي "النص العربي" في الأمسيات التالية، كانت أخطائي دائما محتملة من ميشائيل الذي لا يعرف أن لا حيلة أمام الواقع، محتملة لدرجة ظننت انه لا يراها، وحين وجدت في يوم مناسبة للكلام عنها بدا انها لم تفته إطلاقا، تذكر قصصا أنا نسيتها، كان هذا من جانبه على الأغلب حكمة.
كأن الدور الآن للحضور، بدأوا يقفون ويتكلمون، تغيرت هيئة الصف المدرسي أو هيئة القداس، كانت هناك لهجات متسائلة، قلقة، أو متعطشة أو مرحبة، أسئلة كبيرة عن الإسلام والإرهاب والعرب وبيروت والحرب اللبنانية لكنها تطلبت شروحا صغيرة. يصعب على المرء تبسيط نفسه، انه يظن أن هذا بحد ذاته تقليل منها، لكن عليك مع ذلك أن تعمل، أن تحول قضاياك إلى دروس لمبتدئين، ولكنهم يتجنبون سؤالك عن الصراع مع إسرائيل، وتتنبه إلى انك طوال جولتك لم تسمع سؤالاً كهذا رغم بداهته، أكان ذلك عن لياقة أم لأنهم لا يريدون أن يسمعوا شيئا آخر.

حقيبتان

رحلة القطار الثانية كانت إلى برلين مع حقيبتين تحولتا مع الشنطة الجلدية طوال تجوالي إلى عقاب حقيقي، ثلاثة أغراض ولي يدان فقط. أضف إلى ذلك تلك الوصية التي تظل في صدغي وصية الطبيب لي عقب عملية القلب المفتوح بأن لا احمل أثقالا. مع ذلك كان عليّ أن ارفع الحقيبتين واحدة قبل الأخرى إلى الحافلة، أن انزلهما بدفعة واحدة إلى الرصيف، أن انقلهما من قطار إلى قطار في عملية تبديل قلما خلت منها رحلة، كان معي سونيا وزوجها جمال المصريان وصديقهما المصري أيضا عمرو.

نقاش حول خلافة مبارك "جمال" الفخور باسم جمال عبد الناصر الكامل الذي يحمله يتوقع أن يكون عمرو موسى الخليفة، ذلك في أكثره حدس زميله "عمرو" الذي يبدو انه يمثل ما يمكن تسميته بالنخبة السياسية الجديدة لا يظن أن موازين القوى الحالية تسمح بذلك. لفتني النقاش فهذه من المرات القليلة التي أصادف فيها مصريين يتكلمون من داخل النظام المصري. المثقفون الذين ألتقي بهم عادة هم غالباً من الهامش. كنت أتابع من النافذة أيضا الغابات المتصلة والروابي والمعالم البعيدة للبلدات والمدن، كنا أمام المهد القديم للرومانطيقية الألمانية، منطقة هي أجمل ما في ألمانيا، عمرو الذي لفتني إلى ذلك قال أن فيها جمال ايطاليا وتنهد قائلاً لو أن فيها أيضا جمال الايطاليات وسونيا لم تشارك كثيراً في الحديث، عربيتها اقل من ألمانيتها لذا تفضل أن تتبادل مع عمرو الذي درس هنا كلاماً بالألمانية، زوجها المصري لا يحسن الألمانية بهذه الدرجة ويقول انه لم يعتد إلى الآن على ألمانيا وانه ينسى أحيانا أن يرتدي معطفه ساهياً عن انه الآن في ألمانيا وبردها.

رافقتني بترا إلى مركز الشرق الحديث الذي تديره سونيا والذي يستضيفني طوال إقامتي في برلين، انه منزل جميل في مكان ناء شبه ريفي، بوابة وممر طويل مبلط وقنطرة ولبلاب وفناء دار وأجنحة. كان عليّ أن أمر من حجرة المدخل إلى غرفة تنصب واجهتها الزجاجية العريضة على منظر رائع. المنطقة نائية لكنها في برلين نفسها لا ضاحيتها، مع ذلك المكان مقفر يصفر، حين سألت بترا عن اقرب دكان، نصحتها المدبرة بسلوك ممر ترابي بدا لنا أطول من أن يكون حقا قادومية، حين تُركت وحدي جازفت بأن اسلك الطريق الرئيسي ووجدتني في وقت اقصر أمام مطعم وسوبر ماركت.

فكرت انه حتى مدبرة المنزل لم تبتعد كثيراً عنه. انه بيت الأحلام ومغطى باللبلاب وتسبقه بوابة ضخمة ودرب مبلطة. بيت الأحلام مهجور لكنه نظيف ومرتب وكامل كأنه ينتظر أحدا. غابة تصفر وطرق واكمات خالية. كان نهار عطلة وحين عدت وقد خيّم المساء ومعي أشياء اشتريتها لعشائي وجدت نافذة مضيئة في الجناح الرئيسي، سعدت في البدء بالغابة والمنزل والسكون، لكن الأكل وحيداً حيث لا يوجد نَفَس إنساني غدا آليا، لم اشعر بطعم نصف الدجاجة ولا السمكة المكبوسة ولا ثمرة الفطر الكبيرة، بعد اللقيمات الأولى فقدت هذه نكهاتها ولم استسغ أن استمر طويلاً في مضغ رتيب. كنت في شقة من حجرة نوم ومكتب ومطبخ وحمام، مكتب جميل وصوفا وهذه الواجهة الزجاجية المشرعة على مدى شجري واسع. وعدت نفسي بأن أتجول في الناحية، لم يكن يحق لي أن استوحش كثيراً، في هذا المكان المسحور الذي تكاد الأشجار والحيوانات أن تغني فيه. كنت اعتدت على هذه الوحدة الغنية. على البقاء غارقاً في نفسي وهي في سباق خفي مع الأشجار التي اسمعها من وراء أفكاري وفي داخلها. اعتدت لكن ذلك يتطلب أيضا شيئا من الإرادة لأبقى على مستوى ذلك الجمال ولا يلهيني أمور أكثر يومية عنه.

تلفنت لماري كلود دون أن أتلقى جواباً، مرات ولا احد على الجانب الآخر من الهاتف النقال. كنت اعرف أن رينهارت مريض للغاية واسمع من هنا وهناك تلميحات عن وضعه، لكني انتظرت حتى مجيئي إلى برلين لأعوده، انتظرت حتى مجيئي إلى برلين لأكلم ماري كلود. لا ادري لكني في مواقف كهذه أعذب نفسي بالانتظار، أتأخر طويلا في وزن الأمور، احسب انه في وضع كهذا ينبغي أن نتأنى قبل أن نقوم بأي بادرة، علينا أن نكون ملائمين وأن نتقدم بالخطوة المناسبة، انها لحظة خاصة، لنقل درامية، ننتظر أسلوبا في مستواها. أظن أن مخيلة مسرحية تجعلني أخاف دائما من أن أسيء الدخول، من أن لا أكون ملائما. لم اتلفن من فرنكفورت، لم اعرف إذا كان لائقاً أن أقص على امرأة في حال ماري كلود تفاصيل رحلتي، تلفنت من برلين على الهاتف النقال فلم اسمع جواباً، اتصلت بهارتمان الذي قال كأنه يبلغ غريباً انه حزين لأن صديقه رينهارت توفي اليوم. رينهارت الذي ضيعته في آخر مشوار له، دعاني مع ماري كلود إلى مطعم بحثت عنه طويلاً في غير ناحيته، كان هذا الموعد المعلق هو آخر ما جرى بيننا، والآن يتكرر هذا بصورة كارثية. كنت آمل أن أزوره فلم أجده كأني بحثت عنه ثانية في المكان الخطأ. رينهارت. تباً. كيف ألفظه مع دال أم تاء، كنت أناديه رينهارت لكن حازم صاغية سماه في مقالة "رينهارد"، أكنت أيضا أناديه بالاسم الخطأ. كانت أشهر فقط والرجل الفاتن الذي بدا دائما فوق المتناول، لم تدافع عنه جاذبيته ولا مرحه ولا اللغات العديدة التي يتكلمها كأهلها. دفع فجأة إلى الزاوية ولم يصدق ما حدث ولم يتسنّ له الوقت ليشبهه، وربما ظل يظن أيضا انها لعبة وفي النهاية سيصل العفو العبقري. سيصله وهو على عمود الإعدام. هذه بالطبع قصة أخرى، من قال ذلك، في الواقع لم تكن أبدا أخرى. لقد غيّرت طعم فمي ومنذ تلك اللحظة سيظل خبر رينهارت خلفي وسأقفز من قطار إلى قطار عالما بأنني فقط لا استطيع أن أتراجع.

أرغن باخ

من برلين إلى ليبزيغ، خرجنا من المحطة الرائعة أنا وميشائيل كأننا نخرج من قصر. كانت في انتظارنا تلك الفتاة الأنيقة التي تحمل اسماً توراتياً، بترا تقول انها ليست يهودية لكن الأسماء التوراتية انتشرت بعيْد الحرب في شبه اعتذار عن تعذيب اليهود. الفتاة شابة جميلة وأنيقة ولا اعرف لماذا ركز في ذهني انها من وسط برجوازي وإنها هكذا تشبه مدينتها. قادتنا إلى فندق مواجه للمحطة، فندق متواضع، غرفه ضيقة وحمام محشور بدون حوض وتلفزيون صغير، ميشائيل الذي يصر على الدرجة الأولى انزعج في الغالب من الفندق، كان يتوقع في الغالب واحداً أكثر رفاهاً. لا اعرف لماذا كان ذلك يهمه هو الذي لا توحي حياته الشخصية بأي تعلق بالرفاه. وغالبا ما يبدو في ثيابه السوداء أشبه براهب نكث نذره، لا شك في انه يبني على ذلك شيئا آخر. كنت دائما اخشي أن يصل تواضع الفندق إلى حد خلو حمامه من الشامبو، ارتحت لأني وجدت أنبوبا صغيراً برائحة فاكهة ذكرتني بالعطر البلدي الرخيص الذي يباع في حوانيتنا. دخل ميشائيل ليمضي قيلولة قصيرة وخرجت أنا أتنزه، كان ذلك صعوداً، كالعادة شملت بنظري وعلى نحو متساو كل شيء، من بسطة الفاكهة المقطعة، إلى المكتبات إلى الأبنية الفريدة والكنيسة التي استوقفتني صفحتها الصارمة الهندسية ولما انعطفت لأراها كان جانبها الثاني مبسوطا كجناح. هنا لعب باخ ذات يوم كما علمت بعدئذ من ميشائيل، من الداخل كانت شبه فارغة كأنها تركت هكذا لتملأها ذكرى باخ، ويبقى حاضرا بالدرجة الأولى فيها الأرغن الشاهق الذي عزف عليه، عدة بنايات قريبة من الكنيسة تشكل في ما بينها متحفا معمارياً صغيراً، ثم هناك فوق الحديقة وساحة القصر الكبير والقنطرة التي تتوسط بين جناحيه الهائلين.

قالت لنا مستقبلتنا أن الكاتب السويسري الذي حاز جائزة فرنكفورت سيقرأ الليلة أيضا في لايبزيغ، قلنا وقالت الفتاة انهم سيفضلونه ولن نجد أحدا يسمعنا، لكن الثلاثين والأربعين الذين لنا كانوا أيضا في انتظارنا، تجمعوا ببطء لكننا أخيراً ظفرنا بالعدد نفسه. بدأ ميشائيل وقرأ مطولاً فيما كنت اعد في رأسي الديباجة التي سأستهل بها قراءتي. كانت الأفكار جاهزة وسأعيدها تقريباً مع النصوص ذاتها من دوسلدورف إلى بريمن. سيضاف هذا إلى تعب الرحلة وسيجعلها كلها تعبا، الأفكار الجاهزة مع الوقت لا تعود بحاجة إلى تفكير، ويغدو من الصعب التأكد منها، تتحول إلى تخريجات ومراسم كلامية. لكن شخصا مثلي لا يملك حتى جسديا هذه القدرة الآلية، لذا أتوه غالباً عما أعده وأجد نفسي مجبراً على أن ابتكر، خاصة إذا انتبهت إلى أن الفكرة الجاهزة تخرج ركيكة مسلوقة حين أقولها من وراء رأسي ووراء لغتي. لا ادري كيف خطر لي أن الإقامة على ارض أوروبية تفتح لنا أن نتناول أمثال نيتشه وتوماس مان وبريخت بدون وهلة، سيكونون قريبين إلى الدرجة التي لا يمكن أن يكونوا فيها فوق متناولنا، لن نقدر على أن ننظر إليهم بالإبهار الذي يعني إننا لا نستطيع تجاوز رهبتنا، سنتجرأ على النظر إلى قيافتهم وهذا مهم وحتى على ممازحتهم، هكذا وجدت فجأة هدفا لرحلتي.

في لايبزيغ وجدنا في المركز معرضا لفنان من أصل فلسطيني، قيل لنا انه معروف هنا، لكن النقاش بعد القراءة لم يتطرق بالطبع إلى فلسطين. حين انتهت القراءة وبدأنا نوقع على كتابينا، حمل إلي احد الحضور الشبان كتاباً قال لي وأنا اخط بالفرنسية الجملة المأثورة "بصداقة" انه يهودي من لبنان هاجر مع أبويه أثناء الحرب، كان صغيراً جداً آنذاك، وحين سألته إذا كان يريدني أن اكتب له بالعربية، قال أن هذا يسر والده أما هو فلم يتسنّ له أن يتعلم العربية. لم أبادله حديثاً أطول، كان الوقت شارف على النهاية، لكني كنت قرأت بين قصائد "فصل من برلين" قصيدة "المتحف اليهودي". من النوادر أن يكتب عربي عن الهولوكست، لكني أحببت أن أتجاوز الحاجز وان اشترك مع البشرية في هذا الموضوع، أن أتناوله بدون خوف من أن يظهر عليّ أنني أتلصص أو خوف أن تظهر بصمتي وانتسابي على كتابتي. اشترى اليهودي اللبناني الكتاب، ولا اعرف كيف سمع القصيدة. لا اعرف لماذا قام في رأسي أن هذا هو المعيار. انه أفتى مني بكثير وولد مثلي في لبنان فلماذا انتظر منه أن يكون معياراً لما يسمعه غربي من قصيدة عن الهولوكست، أتذكره واقفا قبالتي، نحيل بوجه ملموم هادئ وقصّة شعر كلاسيكية وأناقة عادية، لم يكن يحمل في ثيابه وقيافته أي فارق، نظارتاه زادتاه شبها بموظف في بنك، هو الذي بادر إلى القول إنه لبناني، كان يريدني أن اعرف ذلك، لكنه قاله بدون حماسة. انها واقعة لا يملك حتى ذكرى عنها، اهتم مع ذلك بأن يخبرني وكان عليّ أن استلم طرف الخيط هذا ولم افعل.

بحيرة توماس مان

كنا نواصل جنوباً، إلى أقصى الجنوب، الطريق تقتضي أن نبدل القطار ثلاث مرات، انها أيضا ست ساعات تقريباً من السفر. القطار قديم نسبيا ولم يستبدل بعد بواحد أسرع، ذلك كان اختصر الوقت إلى نصفه، قطار دوسلدورف السريع وفّر نصف الوقت فعلاً. يقول ميشائيل أن الوقت طال ولم تتجدد شبكة الطرق رغم إمكان ذلك لأن الحكومة لا تستطيع بسهولة إكمال خطتها، السكان في القرى والبلدات الواقعة على جانبي الخط الحديدي الجديد يسارعون إلى مقاضاة الدولة، يعتبرون الخط السريع خطراً على البيئة وهكذا يتأخر بناء الخط إلى أن تفصل المحكمة. ميشائيل يقول انه فقط تمسك بالقديم، أظن انه هكذا يعبّر عن مقته للنوستالجيا، لا دخل لهذا بانجذابه للتاريخ. ميشائيل حكاء مدهش للتاريخ وللسير، أظن أن شيئا من المؤرخ يدخل في عمله الروائي، أشخاصه ليسوا فقط أفرادا، انهم ينتمون إلى ثقافة كاملة، ثمة متعة حقيقية في سماعه يروي صفحات من التاريخ الألماني أو السيرة العائلية لتوماس مان. ونحن ننظر من القطار يدلني: هنا ولد شيلر، هنا ولد نيتشه، عند ذلك لا يعود المشهد بالتأكيد هو نفسه.

في واحدة من محطات الطريق إلى فردريش هافن يقول لي أن هذه هي بلدة بريخت، انها محافظة ولا يبدو انها معتدة بابنها، لا نلاحظ هنا أي تذكار له، يقول هذا بدون حسرة هو الشديد الإعجاب ببريخت، هذا صحيح، لكن إهمال بلدته له يبدو شبيها بخلاف عائلي على إرث، لا شيء في ذلك يهم أحدا آخر.

فردريش هافن بلدة عاش فيها ميشائيل طرفاً من طفولته حين كان أبوه يعمل فيها. يخبرني ذلك وافهم انه عائد ليبحث فيها عن صباه الأول. في البداية الفندق، احتفت بنا مديرة الفندق، منحتنا فنجان قهوة قبل أن تخرج بنا من المبنى إلى آخر خلفي مختف وبلا مدخل، حملنا المصعد إلى فوق، هناك وجدت شقة كاملة، صالة واسعة مع حمام واسع مليء بالمرايا والموزاييك وبالطبع حوض حمام وكل شيء. لا بد أنني تحدثت مع ميشائيل عن الشقة، لا اشك انها أعجبته، اعرف اهتمامه بغرف الفنادق. كانت هذه تقريبا مؤشراً لرحلتنا، إذا بنينا على ذلك فستكون رحلتنا بعد فردريش هافن انحداراً متصلاً، لم تكن من الفنادق الفخمة إلى المتواضعة فحسب بل من الفنادق إلى البنسيونات، في اوتين الصغيرة بتنا في بنسيون اقتطعته امرأة مدبرة من منزلها الخاص وتعتني به عنايتها بغرفتها الخاصة، النظافة والعطر وأنواع الصابون والشامبو العديدة في الحمام فضلاً عن الأرضية الخشبية والسرير الصغير تحت قوس الغرفة. لم نشعر بتدني المستوى إلى أن وصلنا إلى بريمن حيث وجدنا في بنسيون غرفتين شبه عاريتين تطلان من جهتين متقابلتين على حمام واحد. كان التعب قد اخذ منا مأخذه، وبدا البنسيون شبيها بالركاكة التي وصلنا إليها.
قادني ميشائيل إلى المدرسة التي قضى فيها طفولته، كانت تابعة لدير في الأصل لكني ذهلت حين اخبرني انها كانت بجناحين، جناح لأبناء الكاثوليك وآخر لأبناء البروتستانت. كان هذا شيئا فوق تصديقي، لا اعرف إلى أين تصل دلالة هذه الواقعة، لكن وجود ألمانيا كاثوليكية وأخرى بروتستانتية يتردد في شتى منعطفات التاريخ الألماني من الوحدة الألمانية إلى النازية وحتى الزمن الحديث. ميشائيل يقول أن الرقعة الكاثوليكية في ألمانيا اليوم هي ما كانته ألمانيا في إمبراطورية شارلمان، أما البقعة البروتستانتية فهي خارج أسوار الإمبراطورية أي حيث كان من سمّوا أيام شارلمان بالبرابرة.

كانت هناك البحيرة الشهيرة التي تمتد إلى سويسرا والتي تظهر أوقات الصحو جبال الألب على جانبها الثاني. لم تكن بحيرة كانت بحرا ولم استطع ملاحظة الفرق، صعدنا إلى أعلى البرج وأطللنا لكن المشهد لم يتغير كثيراً، ثمة بحر هادئ ممتد ساكن، لم يكن في ذلك ما يثير.
ذهبنا للقراءة إلى مكتبه وجدنا واجهة تحوي كتبا عن العرب وترجمات من العربية، نسقتها كما علمنا زوجة لبناني غائب، بعد القراءة تقدمت امرأة نصف ممتلئة قالت بلهجة لبنانية بلا لكنة، انها زوجة ألماني راحل، تعيش هنا بعد وفاته ولها منه ابن يتكلم العربية بطلاقة. ذلك في أقصى الجنوب، على الحدود الألمانية، كنا قطعنا كما أوضح ميشائيل على الخارطة ألمانيا من الشمال إلى الجنوب. وبقي أن نعود إلى برلين لقطعها هذه المرة من الشرق إلى الغرب.

هذه المرة كانت الرحلة مرضا، لم تكن هناك عودة إلى برلين، قضى برنامج بترا بأن انتقل إلى سويسرا من بريمن منتهى جولتنا في ألمانيا. كان عليّ لذلك أن اجر حقيبتين صغيرتين حشرت فيهما ثيابا ل22 يوماً، صغيرتين لكنهما اثنتان ومعهما حقيبة يدي وعليّ أن أشيل الثلاث بيدين اثنتين، هذه المرة كان تبديل القطار هما حقيقيا، اذ يعني أن ادفع حقيبتي وفوق إحداهما حقيبة اليد وان أوازي بين حركتي يدي، حتى إذا اختل التوازن لحظة انقلبت إحداهما أو عاضلت وجهة قبضتي، لتلتوي يدي عليها وأضطر إلى حملها لأعيدها إلى الجادة. كان عليّ أن احمل الحقيبتين إلى الرصيف أو ارفعهما إلى الأعلى كل مرة انزل من القطار أو اضطر إلى الصعود لملاقاة القطار التالي. الأرجح أن شيئا كالرهاب كان ينتابني كلما اضطررت إلى هذه المشقة، أوصاني الطبيب بعد عملية القلب المفتوح بأن لا احمل ثقيلاً وها أنا كلما اضطررت إلى الحمل اشعر بأنني افعل ذلك بقلبي، لا بد من التنويه بأن ميشائيل الذي شعر بورطتي ساعدني وكذلك ستيفان فايدنر في سويسرا.

بابل

"اوتين" صغيرة، أو هكذا قيل لي: انها بعشرات الآلاف. الرجل الذي دعانا متخصص بأدب الرحلات، قادنا من المحطة إلى ساحة معمرة مرصوفة بالبلاط، وقفنا أمام مبنى وضعت أساساته في العصر الوسيط وأكملنا إلى مقهى مطعم في ناحية الساحة، من هناك جلست أتأمل المباني المتحاذية على سوية واحدة والتي تشكل بعضها مع بعض لوحة معمارية تتدرج من التقليدي إلى الحديث لكن بدرجة من التجاوب والتكامل. كانت جداراً واحداً ثابتا ومريحا وشعرت بانشراح مديد وأنا أتملى من مشاهدته. غمرني ذلك بسلام قلما يواتيني في ذلك الطقس الغائم، كانت تمطر لكن الجو لم يكن مقبضاً. الفسحة التي أمامي جعلتني لا أحس بأن السماء مغلقة. تراءى أن النساء في المطعم كن جميلات مثلهن مثل مضيفنا ذي اللحية الحمراء والذي كان يشرح لميشائيل اهتماماته بكثير من الجد والود أيضا، حين قلت لميشائيل ذلك لم يبد انه لاحظه، لم يكن تغير هنا شيء كما أحببت أنا أن أرى، كان هو الشعب نفسه. فكرت أنني أحب لو أعيش هنا، لم يزاولني هذا الشعور وأنا أجوس مع ميشائيل الأزقة المبلطة. وددت لو أعيش هنا، كان هذا مقابلا لإحساس مضاد ثقيل بأنني لا أعيش حقا. في الصباح ذهبت مع ميشائيل لنرى وراء صفين من الأشجار الرفيعة التي تبدو شبه شفافة أو شبه ذائبة قصر الأساقفة. لجأ إلى هذه البلدة أساقفة كيبيل، مدينة توماس مان الحرة التي طردتهم في الغالب. كان هناك أيضا البحيرة، نعم بحيرة رائعة درنا حولها وعدنا عبر ممر مشقوق وسط دغل كثيف. زرنا المكتبة العامرة والأنيقة جدا حيث وجدنا أيضا واجهة عربية. كانت هذه اوتين البلدة التي سكانها بالآلاف. كان يوما ماطرا وليلة احد، لم يتوقعوا كثيرين في الأمسية لكن كالعادة ها هم أربعين يتوافدون إلى قاعة واسعة ببار جميل ورفوف ملأى بالكتب. قدمنا المتخصص بالرحلات وبعد القراءة طرح أسئلة بحت فنية على ميشائيل. كان الحديث بالألمانية وأخذت ألهو بالنظر إلى الجميع، فيما كان ميشائيل يترجم لي السؤال الوحيد الذي طرح عليّ ولم يكن مهماً.

"كيل" مرفأ مهم. تنزهنا أنا وميشائيل على المرفأ حيث شاهدنا سفينة عملاقة حمراء، البحر هو سطح تلك الرابية الخضراء التي تسلقناها إلى "بيت الثقافة". في البداية لم ارتح إلى المسؤول، بدا لي مجرد موظف وشككت في أن يكون ألقى نظرة على كتابينا، كان يريدنا أن نقول له كيف يقدمنا، أو هكذا شعرت، فجلّ الحديث كان بالألمانية.
قال ميشائيل انه لطيف لكنه أيضا قال ذلك عن فتاة لايبزيغ التي أخذتنا إلى مطعم كان أغلق مطبخه ونمنا تلك الليلة على جوع.

في الأمسية قابلت ألمانية تتكلم العربية ومعها زميلتها التي تتكلم الفرنسية، كانتا لطيفتين حقا. وحين انتهينا من القراءة وبدأت الأسئلة كان واضحاً أن اربعيننا المعتادين هذه المرة جد مهتمين، تلقيت هذه المرة معظم الأسئلة، "فصل في برلين" يستدعي "فصل في الجحيم" لرامبو هل ترى برلين جحيما، "قرأنا أن الأدب العربي أدب استبداد وان الأدباء في خدمة السلطات"، هل اللغة العربية متحجرة للدرجة التي لا تستطيع معها أن تنتج أدبا حديثاً. أسئلة بعضها ملتقط من كتابات بالألمانية لكتّاب عرب يعيشون في ألمانيا ويحسنون الكتابة بلغتها، قرأ الحضور هذه الكتابة، لم يأتوا خالي الوفاض، جاؤوا وفي رؤوسهم أسئلة وحاجات.

لا بد أن "بريمن" وعد، فهذه المدينة التي في أقصى الغرب تحفة باقية من العصر الوسيط، بريمن القديمة بالكنيسة والمباني والسوق والأشخاص بملابسهم وموسيقاهم، استديو متكامل للقرون الوسطى، بدءا من التمثال المنصوب لأمير المدينة وانتهاءً بالأزقة والقناطر والأشكال الحلزونية والدائرية للأحياء. كان هذا فعلاً فوق الخيال، لم يدر ببالي وأنا أتأمل من فوق المندرجات المنحدرة إلى النهر الجميل أننا أنا وميشائيل كنا نتوجه على أقدامنا إلى عالم آخر، إلى نوع من حلم صاح، زمان ومكان مسحورين حقاً.

اعتذرت الجزائرية التي استقبلتنا عن البنسيون لكننا اعتبرنا ذلك بادرة سيئة. حين قالت أن الوقت لم يتسع لإحضار الكتب تحققنا من السوء. لم يتسع الوقت أيضا للدعوة الكافية. لم يكن هنا ما يبشر بخير، كان اللقاء في مقهى، ذهبنا مبكرين إلى القاعة ووقفنا جنب البار ومع كل منا كأسه، مروا قربنا وهم يتوجهون إلى القاعة ووقف بعضهم معنا يتعرف علينا، "أنا أبو عليا" عليا الصديقة لكلينا، أبو عليا الفلسطيني لم يكن العربي الوحيد، لقد تقاطروا مغاربة وفلسطينيين. قالت الجزائرية أن اللبنانيين لم يتبلغوا لكن بعضهم حضر مع ابتداء الأمسية وهكذا ضاقت الحلقة أكثر. كانت هذه المرة الأولى التي أصادف فيها حضوراً عربياً، كأنما غير هذا فكرة اللقاء نفسه. سألوا بالعربية وانتظروا بالتأكيد جواباً بها لكن هذا يجعل الأمسية اثنتين ويجعل الألمان ومعهم ميشائيل في الضفة الأخرى، تابعت بالفرنسية التي ينقلها ميشائيل إلى الألمانية. شعرت بأن فكرتي تجتاز هذه المرة لغات ثلاثا، انها تعاني في الفرنسية والألمانية قبل أن تعود إلى عربية لم تنطق، كأن في الأمر مسرحاً إلى حد. على العشاء ستفلت هذه الرغبة وسنتكلم طويلاً عربية بعدة لهجات، سألوا أسئلة لا يغيب عنها المكان الألماني: الديمقراطية أولا، استتباع المثقفين والثقافة للسلطات، عجز العربية عن أن تكون معاصرة، معرض فرنكفورت والتجربة العربية منه. كانت في معظمها من متابعة الصحافة كانوا كثيرين وطال الكلام لكني لم انتبه إلا فيما بعد إلى أن الجميع تجنبوا أن يجروا الحديث إلى إسرائيل.


ميشائيل كليبرغ في أوتين

كنيسة سان توماس حيث عزف باخ

السفير- 2005/01/28