عبدالكريم كاصد
(العراق)

الرحلة الثانية بعد الألف للمرة الثانية أزور البصرة، وفي المرتين أزورها في الربيع، غير أن الربيع هذه المرّة كان متوارياً، خائفاً، متردّداً. لم ألحظ هناك زهرة لأستدلّ عليه. مع ذلك فإنني دعوته لندخل المدينة معاً، وقد نصبت سرادقها للاحتفاء بي شاعر المربد هذا العام، دون أن أدري أهو سرادق عزاء أم عرس؟ لِمَ دعوتهُ ولم تك هنالك أزهار؟

ثانيةً
استوقف
- حبن أجئ إليك -
ربيعاً يتردّدُ عند الأبواب
أدعوه لنأتيك معاثانيةً.سرادقك المنصوب هناك
(أ لعرسٍ أم لعزاء؟)
ما من أزهارٍ
أحملها
فلماذا استوقفتُ إذن
حين أتيتُ إليك
ربيعاً يتردّد عند الأبواب

مدينة هرمت قبل سكانها.
مدينة بلا ظلّ، تمتدّ وتمتدّ وكأنها تزحف إلى طفولةٍ مفقودة لن تجدها يوماً.
أحلامها جمدت كسحب معلقة أصابها العفن واستالجميع.ا السقوط مرّةً ثانيةً.
لا أحد هنا ليرمم ماضيا أو يرسخ حاضراً أو يبني مستقبلا؟
الحفاظ على حياةٍ مهددة دوماً هو ما يشغل الجميع.
مدينة تتشابه أطرافها.. بيوت كالحة تقف على جانبي الشارع لا تقوى حتى على فتح أبوابها فإن صادفك بيت جميل مكتمل أو في طور الاكتمال فهو سرعان ما يغبرّ من زحمة البيوت المتراكمة التي تحيط بها المستنقعات والمزابل، وهي تطالعك في كل مكان وكأنها شارة المدينة.. دليلها الذي يسلمك إلى الضياع أكثر مما يسلمك إلى البيت الذي تتوجه إليه.
مدينة مكشوفة للشمس كمريض مصابٍ بالجذام، عينيه. إن تدخل سوقاً قديمةً حتى تشعر كأنك غادرتَها أوفررت منها ودخلت بيتك بين أناس من لحم ودم يشبهون البشر بأسواقهم وبضائعهم وشحاذيهم ودكات حوانيتهم.. ولكن ما يدهشك أيضا في هذه الحوانيت هو تشابهها، وتكرار سلعها التي لا تختلف عن بعضها إلاّ قليلاً. يلاحقك التشابه فلا تعيره انتباهاً وقد عثرت على ظلال المدينة المفقودة مكدّسة في سوق، فتطمئن وتودّ لو يفاجئك مقهىً في منعطفٍ لتستريح، أو تتناول شاياً لتستأنف نزهتك وتتأمل ما حولك، وليس لكي تمرّ عابراً مستعجلاً سرعان ما يعود إلى انكشاف المدينة للشمس ثانيةً وهي تبدو كمريضٍ مصابٍ بالجذام يضع أسماله إلى جانبه مطأطئ الرأس.
ولعلً أغرب ما يطالعك وأنت تدخل السوق التي تكدّست فيها الظلال كما تتكدّس البضائع هو الجسر الذي يؤدي إليها وقد تغطّى بأسماله التي تصلّبت في الشمس، فعاد هو والخرق التي تعلوه كتلة واحدة وكأنه لا يقف على نهر، بل على أرضٍ مهجورةٍ اقتطعت من المدينة. لا شاراتٌ لماضٍ، ولا أثرٌ لمن مرّوا عليه.
جسر لم يعد شاهداً حتى لو حدثت جريمة أمام عينيه. سيظل راتعاً في أسماله وكأنه لم ير شيئاً. تمرّ جواره وتمضي دون أن تلتفت إليه باتجاه الشط وتمثال السياب، وقد تسير باتجاهه متطلعاً إليه لكي تتعرف عليه، ولكن عبثاً سيظل مطرقاً وكأنه شحاذ يعرفك ويشيح بوجهه عنك.. شحاذ مهموم.
كل شارع هنا يمكن أن يكون مسرحاً في مدينة تحرّم المسارح.
لا ضرورة تتحكم بالأشياء.. الصدفة وحدها هي السيّد.
كلّ شئ هادئ لكن فجأة ثمة حدث ينفجر قد يتكرّر وسط فاصل من الهدوء المميت المترقب، ولأنّ الحدث يبزغ فجأة فهو يختفي فجأة أيضاً، ليعود ثانية بفعل سحر غامض لم يعد غريباً وقد ألفه الناس لتكراره الممل المفزع المخيف.
وعلى مبعدةٍ من الجسر الذي لم يعد جسراً، ثمة جسر آخر هو علامتي إلى ذلك المبنى الذي ألفته والذي لولاه لما شعرت أن لي مكاناً في هذه البقعة التي طالما جلست عند رصيفها المحاذي للنهر ارتشف الشاي ببطء، بانتظار من يجئ من الأصدقاء لنمضي الليلة محتفين بأنفسنا حول طاولة كانت هي العالم .

ما من رائحةٍ لأستروحها
ما من أثر لأتبعه
ما من ظلّ لأستريح إليه

مع ذلك كان ثمة فرح في المجيء.. فرح في الذهاب إلى الشط والوقوف قليلاً عند تمثال السياب بانتظار صديقةٍ ستأتي بعد قليل لأصحبها إلى كازينو السياب :

خلف زجاج المقهى
كان القاربُ يدنو..
لكنْ
لا ماءَ هناك
هواءٌ
حسْبُ
هواءْ
قلتُ :
" ألا نجلسُ في القارب؟ "
قالتْ :
" أيةُ قاربْ؟ "
قلتُ :
" هواءٌ
حسْبُ
هواءْ.. ! "

هنا لم يزل الهواء هو الهواء، ورائحة الشط هي رائحة الشط والناس... وحين يجئ الليل ويختفي هؤلاء ماذا سيفعل التمثال؟

حين يجئ الليل
يخرجُ من جلدهِ
يتقدّم خطواتٍ ثم يعودُ إلى موضعهِ ثانيةً
هل أبصرَ شيئاً؟
هل أشهرَ أحدٌ سكينَهُ في وجههِ؟
هل أرعبَهُ شبحٌ يتقدّم نحوهُ؟
هل صرّتْ عجلاتٌ في زاوية الشارع ثم مضتْ مسرعةٌ؟
هلْ أيقظهُ وقعُ خطىً راكضة ٍ
منظرُ فجرٍ مشبوهٍ؟
وجهٌ لطّخهُ الدمُ؟
ماذا سيقول؟
إذا جاءهُ عشاقٌ
يضعون الوردَ غداً بين يديهِ
ويمضون
ترى ماذا سيقول
التمثال؟

من قصيدة (عن السياب وتمثاله)

أضحى ترددي على التمثال عادةً واستذكاراً وحنيناً إلى ما يتجاوز التمثال.. إلى صاحبه فلم يهدأ لي بال إلاّ بزيارة جيكور عابراً قرىً طالما قطعتها في باص خشبيّ في طفولتي، عندما كنت أزور جدتي في المدينة، في نهاية كلّ أسبوع. هذه القرى التي ذكرتها مرّة في قصيدةٍ قصيرةٍ لي بعنوان (مرثية ليلى مراد)، هاهي الآن أمامي ثانيةً بعد أن استحالت في القصيدة قرىً وهمية منثورة في غابة الطفولة التي يجتازها الباص.
قلت لقريبي : لندخل قرية حمدان لا لأزور أهلها أالأبواب.تي الراحلة، بل لأراها كما يرى الشاعر الجاهليّ طلله.. عابراً.. مختفياً متردّدا كربيع مثانية،لملطخ بالدم عند الأبواب.
وحين توقفنا عند قريةٍ ثانية، قلت : هل القصيدة نبوءة؟ حدس؟ من يدرك ذلك؟ من أين لقارئ عابر أن يكتشف السرّ؟

مثل ليلى التي حملت سلة الكعك
أجتاز غابة الطفولة
إلى جدتي التي تسكن المدينة
في باصٍ يهتزّ
كلّما لاحت قريةٌ أو لوّحت عباءةٌ
قاطعاً مئات الأميال في ساعة واحدة
ومئات الساعات في ميل واحد
مترنّحاً من الدوار
(والفرح)
أصحب ليلى وهي تغني : " أكتب لك جوابات "
ناسياً في الظلمة الحبيبة
جدّتي التي أكلها الذئب

كيف استحال هذان البيتان اللصيقان بالحكايات الخرافية إلى واقع :

قاطعاً مئات الأميال في ساعة واحدة
ومئات الساعات في ميل واحد

من أين لمدّعي نقدٍ اعتاد اكتظاظ الألفاظ وفراغها من المعنى أن يدرك العلاقة بين ليلى التي حملت سلة الكعك وبيني؟ بين ليلى الحكاية وليلى القصيدة وهي تغني " أكتب لك جوابات "؟
كيف نسيتُ وقد سحرتني الشاشة أن لي جدةً هناك بانتظاري سيفترسها الذئب؟ ما علاقة ذلك بليلى الحكاية التي كُتبت عنها آلاف الصفحات؟ ما علاقة ذلك بمرثية ليلى مراد؟ ما علاقة المرثية بزوجتي الراحلة؟ ما علاقة ماضي القصيدة بما حدث لي فيما بعد؟
أ هي مرثية للجدّة أيضاً؟
يقول نوفاليس عن الحكاية الشعبية إنها نبوءةٌ أحداثها لا تقع في الماضي بل المستقبل وكذلك القصيدة، ولعلني في رحلتي التي اتخذت اتجاهاً معاكساً لقصيدتي قادماً من البصرة إلى أبي الخصيب، وليس العكس، كنت أستحضر القصيدة، وأعيش أحداثها ثانيةً، محققّا، بمعايشتي هذه، ذلك المفهوم الذي طالما استخدمه بعض النقاد، مطلقين عليه (التناص المقلوب).
أرهقني الوصول إلى جيكور مارّاً بالمنخفض المظلل بالنخل حيث عائلتي كانت تسكن، قريباً من جسر باب سليمان وقد شقه طريق عريض للسيارات، وقبله بدقائق زرتُ عائلتين مهدّدتين بالرحيل.. إلى أين؟ ولماذا؟..
أحقّاً كنت هنا ذات يوم؟ عند هذا الشارع المبلط وأنا أركض بين الأطفال لنعبر النهر سابحين لا تخيفنا حيات الماء ولا أعشاب النهر، أو ندور بين أغاني العمال من أقاربنا ونسائهم الجميلات المرحات رغم الفقر.. أين اختفى ذلك الكرنفال حين تعبر المراكب الخشبية الكبيرة وقد امتلأت بصناديق التمر والبشر وعلا مقدمتها تنور يُسجر في الليل... أين اختفى ذلك المشهد؟
وصلت جيكور مترنحاً من الدوار.. دوار الرحلة التي امتدت ساعات وهي لن تستغرق، في المعتاد من الحالات، غير نصف ساعة، لا دوار الفرح الذي اعتدته في صالة السينما المطفأة الأنوار ، كلما قدمت من أبي الخصيب إلى المدينة، حيث صدى أغنية ليلى مراد يتسع ويتسع ليشمل الليل بأسره.. ليل حياتي فيما بعد.. في لحظة من الزمان لن تنطفئ أبداً غير أن الصدى عاد صوتاً آخر :

ذلك الغائب أبداً
متى يكفّ عن مراسلتي؟

ما أسهل الشعر وما أصعبه !
ما أسهل الحياة وما أصعبها !
أتذكر قولاً لأراغون يتحدث فيه عن بساطة الشعر وما تتطلبه من مهارات لا حصر لها في الشعر، وأستاذية لا تصدق، وأشفق على هؤلاء الشعراء الذين لم يدركوا بعد أن وضوح الشعر هو غموضه بالذات.

في جيكور التي زرتها للمرة الثانية لم يستوقفني البيت الذي امتلأ بالأشباح فجأة وحل به الليل عند الظهيرة مثلما استوقفني النهر.. النهر الصغير.. بويب وهو يحدّق بي بعينيه الواسعتين أو بعينه الواحدة تحت الظلال الكثيفة وكأن الأبدية تحدق بي وتسأل. ماذا تسأل؟ وعلى مقربة منه ثمة نهر آخر وديع هو (نهر العذارى) حيث أمضى السياب طفولته وشبابه هنا

في بيتك ذاك المهجور
بجيكور
كيف تُرى حالأبواب؟
(جئتك ظهراً)
كيف ترى أُُشرعتِ الأبواب
وجاء الناسُ
- وقد رفعوا في الليل مشاعلهم
وانحدروا
           من جهة التلّ؟ -
كيف ترى جاء
ولم يهرمْ
ذاك الطفلْ؟

**

مكتهلاً
عاد مع الموتى
يتأبّطُ عكّازينْ
قال :
أنمضي الليلَ هنا
والبحرُ على بعد ذراعين
............................
.............................
" بويب.. "
" بويب.. "
جاء المدّ
واتسعتْ عينُ النهر
ونام البحر
           صغيراً
                      في المهدْ

من قصيدة (عن السياب وتمثاله)

عدت من جيكور مرهقا لأجتاز غابة الكهولة لا الطفولة. لم تلّوح لي عباءة هذه المرة بل صادفتنا عشيرتان تقاتلتا أمس وهما اليوم تتفاوضان وقد سدتا الشارع بجموعهما بعد أن ملأتا الحيطان بثقوب رصاصهما قريبا من سوق أبي الخصيب. لم نتوقف بل اجتزنا الحشد بحذر وانطلقنا محدقين في ما بقي لنا من آثار. لم تكن جدّتي تنتظرني هذه المرة فقد أكلها الذئب منذ زمنٍ. لم أدخل السينما قبل ذهابي إليها وقد أغلقت السينمات وأصبحت خرائب لصور وأشباح أخرى.

كان الذئب لا الجدّة بانتظاري.

Kasid3@hotmail.com


إقرأ أيضاً: