عبدالكريم كاصد

عبدالكريم كاصد

قبل أن يرتدي الليل شملته
سبقتنا الجمال
وعبرنا القرى
كان نجم القرى نائياً
فعزمنا الرحيل
وانحدرنا مع النجم
قلتُ: إذن هكذا
صرةٌ ومتاع قليل

(من قصيدة الرحيل عبر بادية السماوة )

كنا ثمانية ... تقدّمتنا الجمال في ليلة لن أنسى صحوها الذي كاد يمطر – كما يقول الطائيّ أبو تمّام – ولمعان نجومها ، وظلالنا الهائلة التي امتدّت حتّى السماء، كأنّنا جزء من كونٍ ليليّ أبيض اشتدّ لمعانه مع اشتداد أملنا بالخلاص .
وبعد مسيرة مرهقة على الأقدام اعتلينا جمالنا ثمّ نزلنا وأشعلنا ناراً من الغضا لم تنطفئ ، ولكنها لم تحمنا تماماً من البرد . كان البرد يهجم علينا كالذئاب ويرتدّ ، إلى أن أطلقت الشمس سهامها النارية الحادّة فأيقظتنا .
كلما سألنا عن الوصول قالوا لنا " شمرة عصا " ، غير أن شمرة العصا استغرقت أياماً وليالي سبعاً في أرض خلاء لا أثر فيها لإنسان وليس فيها من الشواهد غير آثار حيوانات مرّت : خيول ، ذئاب ، أغنام ، وهذا أثر لصبيّ ... أين ترى غادر ؟
آثار تحيط بنا .. آثار فوقنا بيضاء يطبعها الليل نجوماً في سماء الصحراء. ولكن أغرب الشواهد هي الجراء التي صادفتنا في الطريق ... ثلاثة جراء لن أنساها ما حييت واقفة بانكسار وهي تتأمل موكبنا يمرّ .... من أين جاءت ؟ وأين ستذهب ؟ وماذا سيحل بها أو بنا؟

ثلاثةُ جراء
وحيدة في القفر
ثلاثةُ جراء
لم تنبح الركب
ثلاثة جراء
بلاوجوهٍ تتطلّع في السابلهْ
ثلاثة جراء
بعيدةٌ ..
بعيدةٌ ..
مثلي

أما الشاهد الذي يسخر من كلّ ما اعتدناه من كتبٍ وأفلامٍ وخطبٍ فهو ذلك البدويّ الذي أقبل نحونا قادماً من الخلاء ليذهب إلى الخلاء وكأنه سهمٌ يخترق الأبدية .
جاءنا يعلو فرساً ليهبط منها وهو يحدّق مذهولاً في الخبز الذي أولمناه إياه ، والذي لا نملك سواه ، بعد هذه الرحلة الطويلة ، آتياً على الفتات .
لم أعرف من قبل طرب الجمال إلاّ في الشعر ، أمّا سرعتها فلم أصدّق بها حتّى كادت تطير بي في الليل وهي تستروح الماء على بعد أميالٍ وأميال.
يا إلهي أية غرائب في الطبيعة ! وأية مخلوقات تألفنا ونألفها !
في اليوم الثالث اجتزنا أرضاً بوراً بيضاء من الملح فكادت تنزلق بنا الجمال ... أرض اشدّ وحشة من رمل الصحراء.

ولكن
فجأة يمرق أرنب بريّ ذو أذنين حمراوين كأنه يحمل ناراً في هذه الصحراء . في مسائها الموحش.
ويختفي فجأةً
وإذ نجتاز صحراء الملح هذه ، تنفتح سماء أخرى
أرض أخرى
بركة ماء
ونخلةٌ وحيدةٌ مكتظةٌ بالفسائل.
ذهب مهديّ إلى البركة فجاء بماء في إناء تملأه الديدان ، وحين أراها لأحدنا تناول هذا الإناء وشربه دفعةً واحدةً وسط ذهول مهدي الحائر.

في اليوم الرابع لاحت لنا خيمتان فاشترينا شاةً فكانت الوليمة التي لا تعدلها وليمة من قبل ، وربّما من بعد .
في تلك الليلة سمرنا ودارت بنا القصص في تلك الصحراء ولعلها ما زالت تدور بي كلّما تذكّرت أولئك الناس وأقاصيصهم عن مغامراتهم العجيبة ، وبراعتهم في القص ، وتكرار جُملٍ وعبارات تتخلّلها ألفاظ عاشت قبل أكثر من ألف سنةٍ واندثرت ولكنّها لم تندثر في الصحراء . لم أصدّق أن مفردات أمرئ القيس وعنترة ولبيد وطرفة ما زالت تسري في أفواه هؤلاء المهربين الشعراء العشّاق الذين لم يشعروني أبداً بمعرفتهم بهويتي ، وكلّ ما قالوه " إذا ما داهمتنا دوريّات الصحراء فاختفيا أنتما حتّى نلحق بكما في اليوم التالي بعد أن نكون قد سوّينا أمرنا مع شرطة الصحراء " .
ولم يكن توقّعهم تطيّراً فقد صادفتنا أكثر من مرّةٍ هذه الدوريات ، ولكن أخطرها كان ذلك الضوء الذي أخذ يقترب منّا شيئا فشيئا. كنّا في أرضٍ منخفضةٍ وكان الضوء يبدو وكأنّه قادمٌ من علٍ فارتعبت الجمال ، واستطعنا الهبوط منها إلاّ جملاً كان يركبه واحدٌ من المهربين فقد فرّ مذعوراً.

لحقتُ به وأوقفته , فدهشوا وظنّوا ذلك شجاعةً منّي ولم يدركوا أن جهلي بعواقب الأمور هو الذي ساقني إلى هذه المبادرة التي كادت تودي بحياتي ، فقد يقتلني الجمل في موقف كهذا .
حبسنا أنفاسنا ، وصمتت الجمال بعد ذعرٍ ، وعادت رجرجةُ الماء في الرحال ، فحسبتُ الجمال وكأنها تخوض في مياه على الأرض ، وبدأ الحصى يتطاير تحت أخفاف الجمال ويرمي شجيرات الغضا التي تصادفنا في الطريق ، فيقلق نوم القطا الذي يفرّ مذعوراً في الليل .

في اليوم الخامس وصلنا غابةً من أشجار الغضا ، والتقينا هناك بقافلةٍ تضمّ مهربين وهاربين أيضاً ، بينهم عرب فلسطينيون وسوريون ، ينتظرون ما يقلّهم إلى الأرض الموعودة .
كنّا نسمر في المساء ، ونشعل نيراننا التي تكاد تلامس سقف السماء .. وحين أبدينا خشيتنا من هذه النار الهائلة قيل لنا إننا في منخفض وإنّ الدوريّات لا يمكنها رؤية هذه النار.

وفي اليوم السابع تركنا وراءنا الجمال يحرسها بعض المهربين من القافلتين .
سينتظر هؤلاء عودة زملائهم محمّلين بالبضائع من الكويت .
تركنا وراءنا الغابة وانتشرنا خلف شجيرات منثورة هنا وهناك لئلاّ تلمحنا الدوريّات إذا باغتتنا وحين قدم ( خزّان الماء ) الذي سيحملنا جميعاً تقدّمنا منه كما تتقدّم الضحايا في الطقوس إلى الموت . تكدّسنا عشرين شخصاً ، بعضنا فوق بعض ، في رحلةٍ رهيبةٍ استغرقت خمس ساعات . توقّفنا خلالها مرّةً واحدةً حين أوشك اثنان منّا على الاختناق فاضطررنا إلى سحبهما إلى سقف الخزّان وتمديدهما فوقه ليستنشقا الهواء. كان هذا المشهد ، لسوء الحظ ، يجري على مقربةٍ من مخفر من مخافر الحدود ولكنّنا نجونا .

قذفنا خزّان الماء كما يقذف حوت ضحاياه ، في أرضٍ قصيّةٍ ليس فيها غير بيوت لم يكتمل بناؤها بعد .
قفزنا كالخراف في اتجاهات شتّى مبقّعين بالرمل والماء ، نقف على الطريق الإسفلتيّ العام بانتظار الباصات العابرة لتوصلنا ...أين ؟