تمفصلات مزدوجة بين السردي والشعري

رشيد يحياوي
(المغرب)

1- عن التمفصل المزدوج

-أ-

أمين صالحتتقدم الكتابة عند أمين صالح وفق مقصدين، مقصد ينصب على فعل الكتابة ذاته، حيث تصبح الكتابة موضوعا للكتابة، ويظهر ذلك في اشتغاله على التركيب بين نصوص كتبه، حتى لو ظهر للقراءة الأولية أنها مختلفة عن بعضها في الكتاب الواحد، عبر تعالقات نصية، أو روابط بين الشخصيات والأحداث والأماكن، أو عن طريق الاستعارة النصية، وإعادة الكتابة كتابة الكتابة كما في "والمنازل التي أبحرت أيضا"(ط.1 – 2006)، إضافة إلى حرصه على الوصف ( وصف الأفعال والحالات والأشياء والفضاءات والكائنات) بما يعطيها بعدا غرائبيا ومفارقا للواقع أحيانا، بواسطة الصور الخارقة التي تجتمع فيها المتناقضات والأضداد. وهذا ما يدخل في الشعر.
وينصب المقصد الثاني على الخطاب السردي للكتابة، حين لا يخفي النص ميوله لتقديم حكاية بطريقته، وهو الطاغي على كتب أمين صالح ، وهو ما دفع بالتلقي العام لتصنيفها ضمن القصة والرواية.غير أنها جاءت مختلفة عن السرود التي مقصدها الأول هو السرد. ومرجع اختلافها، حضور المقصد الأول الذي ذكرناه، أي تفكير الكتابة في الكتابة. مما يجعل سرد أمين صالح، وبقدر ما هو سرد، فإنه أيضا محل اشتغال، ومحل كتابة تراجع أدواتها وهي تتقدم على الورق. إن أمين صالح، وحتى حين يفكر في السرد بوصفه طريقة لتقديم وعرض أحداث وشخصيات وفضاءات، فإنه غالبا ما يطبعه برؤية فلسفية وشعرية، وتأمل في الحياة وكائناتها، وملامسة للخفي المحتجب منها، مما يحول السرد إلى وسيلة وغاية معا، يتم الاشتغال عليه كي لا ينمو في خط نمطي ترتبط فيه الأحداث ارتباطا سببيا.
إن ازدواجية القصدية متمفصلة إذن في أعمال أمين صالح مع ازدواجية تمفصل السردي والشعري. فالشعر يحضر في المقصد الأول الذي تكون فيه الكتابة موضوعا للكتابة. حيث يشتغل الكاتب على الجمل بانتقاء ملحوظ، حريصا على المستوى الاستبدالي للكلمات من أجل خلق الاستعارات المفارقة، والصور ذات الإيحاء والإدهاش. وبمعنى آخر، يتجلى الشعر هنا في المستوى التركيبي والأسلوبي، متصاعدا من الجمل إلى الفقرات، وخاصة حين نكون أمام صور جزئية عن المكان والأشياء والذوات.
كما يحضر الشعر في المقصد الثاني، ضمن الخطاب السردي، بما هو خطاب حامل لمنظور السارد، ونماذج الشخصيات، ومسارات الحدث، وتحولات الزمكان. إذ يعطي الكاتب لهذه الأطراف طابع الترميز بشحنها بالقيم وفتحها على الغرابة. وبدل أن يوهم السرد بواقعية الحكاية، تتدخل علامات الغرابة والعجائبي ومتخيل الشعر لوضع القارئ أمام حالة من الذهول؛ شخصيات ذات ملامح تفصيلية دقيقة، وذات ظلال خارقة وشبحية أحيانا. أماكن عمرانية توصف مرات بدقائقها التفصيلية، ومرات أخرى، تتجرد من مكانيتها عائمة في الرمز. كائنات بشرية من صميم الحياة اليومية للمجتمع، لكنها تتجاور مع كائنات حيوانية وأطياف لامرئية، أو تمسخ، وتنسلخ من ذواتها صائرة إلى ذوات كائنات أخرى.
إن الشعر يتدخل ضمن ذلك، ليكون فاعلية نصية ورؤيوية معا. يحرر النص من الواقعية المباشرة، ويحرر اللغة من النثرية التقريرية، ويحرر خيال الكاتب من النماذج القبلية، كما يحرر اللغة من جاهزية التلقي. وكلما تعمق التمفصل المزدوج بين السردي والشعري في النص، زادنا ارتباكا بخصوص ما إذا كنا نقرأ نصا شعريا ساردا، أم نواجه نصا سرديا شعريا.
ومن يقرأ أمين صالح جيدا، سيلاحظ أنه حين يكون له قصد لكتابة الشعر، فإن السرد النثري يأخذ في التراجع. أما حين يكون له القصد لكتابة القصة والرواية، أو السرد إجمالا، فإن الشعر يسبقه إلى النص ويستوطنه حتى قبل كتابته. حينئذ لا يجد أمين صالح حلا أمامه، سوى أن يعترف للشعر والسرد النثري معا بحقهما في تقرير مصيرهما في النص. مكتفيا بإدارة حوار بين طرفين يتناوبان على الهيمنة والسيطرة. ولعل للشعر سلطة أقوى على أمين صالح من السرد النثري. لأنه حين يتجه لكتابة الشعر، المتخفف من آليات وطرائق السرد، يستطيع ذلك، أما حين يتجه للسرد، فإنه الشعر يبقى لصيقا به، لا يفارقه، ليس كظله، ولكن كذاته نفسها.

-ب-

لقد تعمدت في الفقرة السابقة أن أضيف صفة النثري للسرد، وذلك للتأكيد على كوني لا أضع مطلق السرد في مقابل مطلق الشعر. ما أريده بالسرد تحديدا هو الخطاب الذي يقدم الحكاية أو القصة في الأعمال السردية كما في الرواية والقصة القصيرة.إذ تكون اللغة هي النثر لاستيعابها للتفاصيل وملفوظ الشخصيات ومكون الحوارية، فضلا عن الاستطرادات وخطية الزمن، وما إلى ذلك، مما يجعل من السرد النثري أشكالا بائنة عن أشكال السرد الشعري.
وبالنسبة لأعمال أمين صالح المذكورة في هذه القراءة، وباستثناء "مدائح" و"موت طفيف"، لابد من التنبيه إلى أنها لا تعرض صورتها على القارئ بوصفها قصائد شعر تتضمن السرد، أو حتى شعر سردي، ولكن بوصفها نثرا في المقام الأول. خلافا مثلا للكتاب الأخير لأمجد ناصر المعنون ب" حياة كسرد متقطع"، حيث يعرض الكتاب صورته بأنه قصائد نثر مبنية على السرد. لكن تلقينا لأعمال أمين صالح، ينظر إليها باعتبارها نصوصا نثرية يتمفصل فيها السردي والشعري.
ونحن لا نستدعي هنا المرجعية اللسانية لمصطلح التمفصل المزدوج. ما نقصده به، أن يمضي السرد والشعر وفق خطين؛ أفقي وعمودي، مزدوجين في القراءة السطرية الخطية والتركيبية العمودية معا.
ولكي أوضح أكثر، أذكر بالنقاش الذي رافق توظيف الأسطورة في الشعر الحر. حيث أكد على أن توظيف الأسطورة انتقل من الجزئي إلى الكلي. أي بين أن تكون إشارة جزئية في سطر أو مقطع من القصيدة، وبين أتكون القصيدة بكاملها مبنية على الأسطورة، أو على رؤية أسطورية.
كذلك الحال في هذا الذي نقول به، لا نقصد نصا سرديا نثريا مزخرفا بالشعر، ولا قصة يتضمن أسلوبها صورا شعرية. وبمعنى آخر، ليس المراد سردا نثريا يبث الشعر في جمله في شكل صور بلاغية. ما نعنيه هو نص قائم على السرد النثري، لكن الشعر يتمفصل معه عبر الأسلوب بما هو تراكيب ( مستوى أفقي) وعبر معمار النص(مستوى عمودي). فيكون النص مبنيا سرديا وشعريا معا، مما يجيز وصفه بكونه وضعا سرديا وحالة شعرية أيضا. وقد يكون هذا المقترح مفيدا أكثر في تلقي كتب أمين صالح ذات الطابع السردي النثري المصنفة من طرف التلقي العام ضمن الرواية والقصة. أما كتاباه الشعريان "مدائح" و"موت طفيف" فقد تكون مقاربتها أفيد بوصفهما شعرا في المقام الأول.
إن ما نقترحه هنا، يحتاج - إجمالا- إلى نقاش موسع لأجل بلورته على المستوى التطبيقي، وإحكام تماسكه، النظري، حتى يتسع لاستيعاب مختلف التجارب العربية ذات المنزع السردي الشعري. ولعل وقفتنا هذه عند نماذج نصية من كتاب أمين صالح " والمنازل التي أبحرت أيضا" قد توضح جانبا من مقترحنا التحليلي.

2- نماذج نصية

ينبني نص " مساء يضرم المكائد"، وهو النص الأول في الكتاب، على حكاية ذات زمن خطي: صياد يعود في المساء بسلة نصف ممتلئة بالسمك. وفي طريقه إلى بيته يمر بالساحة العامة بالناس، حيث يكتشف وجود شاب وسط الميدان وقد أعدت كل لوازم شنقه بما فيها الجلاد. لكن الصياد يتذكر أن زوجته على وشك الوضع فيغادر الساحة قافلا إلى بيته.
قوة النص ليست في حكايته، بل في رؤية السارد للزمان والمكان والشخصيات، وهي رؤية قائمة على الشعر. إذ ينطوي النص على حالتين متعارضتين هما: شاب مقبل على الموت، وطفل مقبل على الولادة. ويقدم النص من منظورين، منظور السارد، ومنظور الصياد الذي يجول بعينيه في الساحة العامة كما تجول كاميرا تتحرك عمدا قصد الإحاطة بالمشهد. في المنظورين معا، يتبدى الزمان والمكان والكائنات في صور آهلة بالمفارقات متجهة إجمالا نحو تشكيل حالة من الحزن والأسى والجفاف.إن عناصر السرد ليست مقصودة لذاتها، بل المقصود ما ترمز إليه، لأجل تشكيل الحالة المذكورة في ذات المتلقي.
إن الصياد مثلا، يمكن تلقيه بوصفه علامة تدل أولا على الضعف والوهن مقابل قوة البحر وسفنه الكبيرة، وتدل ثانيا على الوحدة والسفر الذي لا ينتهي، وتدل ثالثا على العبثية في الساحة العامة؛ عبثية البشر ولا مبالاتهم، وعبثية القدر الذي يقود شابا للإعدام رغم براءته، وعبثية في العلاقة بين الجلاد والمحكوم بالإعدام، جلاد غير مكترث يأكل ويدخن، ومحكوم بالإعدام واقف يتأمل في انتظار تعليق عنقه في المشنقة. كما أن علامة الصياد تفيد أيضا قيمة الحياة المتمثلة في طفله الذي في المخاض.
أما الساحة العامة، فيمكن النظر إليها بوصفها علامة لتعارض القيم الاجتماعية، وطبائع الشخصيات والكائنات، وتعدد النماذج البشرية. إنها مكان رمزي لاجتماع المتناقضات. أما الزمن العام للنص، فهو المساء، أي الزمن المؤقت، زمن العتبة بين النهار والليل، لكنه زمن فاعل كباقي الشخصيات، يلتقي معها لحد أن يكون صورتها مادام يضرم المكائد ولا يولد سوى الأسى والحزن شأنه شأن المكان. وبما أن النص يبدأ بالمساء وينتهي به، أي المساء الذي يضرم المكائد، فإن حدث الولادة المرتقب، ينزاح بدوره عن المألوف، مشكلا صورة مفارقة، طرفاها: زمن يولد المكائد، وطفل على وشك أن يولد. أي مخاض إذن لامرأة في زمن عدائي كهذا؟
ويرد النص الثاني تحت عنوان " الغزال الذي مضى مطأطئا". وتقوم حكايته على وضعين سرديين. في الأول، يقف صبي جائع على الرصيف بمحاذاة زجاج مطعم قديم يغص بالزبائن وهم منهمكون في تناول الطعام دون اكتراث بالطفل. في الوضع الثاني يقوم الطفل بنطح زجاج المطعم الفاصل بينه وبين الأطعمة. فيتطاير الزجاج شظايا، ويتناثر الدم من رأس الطفل ليلطخ الزبائن.
يمثل الطفل هنا علامة على الجوع والفقر، فيما يشتغل الزبائن نصيا في صيغة علامة على الشبع والغنى. بين الطرفين يتدخل حاجز مكاني مانع في شكل حائط من زجاج. إنه حاجز شفاف لكن من جهة الطفل وحده الذي يبصر الزبائن، فيما هم لا يرونه لانشغالهم بإشباع ملذات بطونهم. لا ينتبهون إلى وجوده إلا بعد فوات الأوان، حين ينكسر الزجاج ويغدو الطفل دماء متناثرة على ملابسهم.
يشترك النصان، الأول والثاني في فعل القتل. ففي النص السابق، يطالعنا جلاد غير مكترث بالمحكوم بالإعدام، يلتهم شطيرة ويشعل لفافة تبغ في انتظار قتله للمتهم، حولهما الناس غير آبهين بمصير المحكوم عليه، تجمعوا من باب الفضول فقط، كأن القتل أصبح عندهم مشهدا عاديا من حياتهم.
أما في نص"الغزال الذي مضى مطأطئا" فيبرز أيضا زبائن يلتهمون الأكل غير مبالين بطفل، إنهم بمثابة الجلاد الذي يدفع طفلا لقتل نفسه. إنهم قتلة كما أن الجلاد قاتل.

بخلاف النص الأول ، حيث قدم السارد نفسيات الشخصيات بوصف الأماكن والحركات والملامح، يستغرق النص الثاني في استبطان نفسية الطفل، جائلا داخل أفكاره وأحلامه مستعينا بوظائف المكان لتعميق الشرخ بينه وبين الآخرين. فمكان الداخل (داخل المطعم) لا يعترف به، ومكان الخارج (الساحة العامة) لا يعترف به أيضا. إنه طفل مطحون بالداخل والخارج معا.
ويتدخل الشعر في تشكيل صورة للطفل، تأسيسا على بعدين: بعد ينغرس فيه الطفل في الواقع اليومي، وبعد ينتقل فيه إلى حالة لا مكانية ولا زمانية. فهو زمانيا، الطفل الواقف خلف الزجاج مند أزمنة غابرة، أي أنه الثابت مقابل الزبائن المتحولين، وهو القديم مقابل المستجدين، إنه الماضي، والحاضر، والمستقبل المغتال الدامي. أما مكانيا، فيمتد إلى ما لا نهاية بواسطة دمه المتناثر. دمه الذي لطخ قميص النادل، ووجه رب الأسرة، والشرشف الأبيض، وإسفلت الشارع، ليمتد فيعلو في السماء بأن يلطخ قباب المدينة، ويمتد كذلك ليسرح في الأرض حين يلطخ غزالا يمضي إلى غابة نائية، كما يسيح في الزمان حين يلطخ بهو المساء الذي يضرم المكائد المتناثرة، ربما كتناثر دماء الصبي الجائع.
الشعر وحده، هو من يتدخل ليخلق انسجام الخطاب، فيجمع بين شارع يسحق الكائنات الضعيفة، وبين مطعم ينقطع زبناؤه عن العالم الخارجي ولا يرون سوى الطعام، وبين غزال دام يمضي نحو مكان مخالف تماما لمكان المدينة، وبين طفل جائع منذ الأزل، يضطر لسفح دمه كي يكون علامة وجوده.

في جل نصوص الكتاب، يشغل أمين صالح عنصر الحلم رابطا إياه بقيمة البراءة. فإذا كان المحكوم بالإعدام شاردا ويحلم، وكذلك الطفل الجائع يحلم، ففي نصوص أخرى حضور أقوى للحلم، كما في نص"نزيل العزلة"، الذي يحكي عن شخص أعمى استرجع بصره، لكنه قرر فقء عينيه حين وجد أن العالم الذي كان يراه بحلمه هو الحقيقة ذاتها، أما الواقع فهو الزيف. وكما في نص"عند عناديل تبارك اليقظة"، حيث اعتاد شاب أن يرتاد مقهى بجانب الساحة العامة، ومنها يطل على المكان الخارجي فينتقي شخصيات، ويزرع فيها أحلاما تعيشها فعلا.. وحين يتأخر أياما عن الجلوس في المقهى، تأتيه تلك الشخصيات (خادمة، وحلاق وبواب، وشحاذة) وتطلب منه ألا يتخلى عن زرع الحلم في حياتها. كما تجدر الإشارة إلى أن الحلم ككلمة وكرؤية، وكفاعلية نصية لها حضور في جل أعمال أمين صالح، إن لم نقل كلها. كما أنه يفصح عن وعيه بذلك، حين يعتبر الكتابة حلما، والكاتب حالما.
وفي النص الثالث من "والمنازل التي أبحرت أيضا" يبرز الحلم بدءا من العنوان: "العجوز التي حاكت حلما خجولا". في العنوان ذاته يمكن ملاحظة لعبة الانشغال على الكتابة. فالعجوز لا تحكي ولكن تحاكي. إذ كان المقصود هو المحاكاة وليس الحكي، فإن المحاكاة تتطلب التأويل فعلا، على اعتبار أن العجوز داخل النص تحكي حلمها. لكن المعتاد في الحلم أن الحالم يحلم بما يهفو إليه، ما لم يتحقق ويريد تحقيقه بالحلم. إن الحلم يتجه هنا نحو المستقبل. أما العجوز فتحلم بما لم تعشه. حلمها هو آخر عتبة لها نحو الموت. إن حلمها صيغة لاسترجاع شبابها. لذلك فإنها، وهي العجوز إنما تخلق حلما تحاكي أي تستنسخ وتقلد فيه صورتها المحلوم بها عندها في شباب عمرها. لم يعد لها أمام الموت متسع للحلم، لحلم جديد، فقط استرجاع الأحلام ومحاكاتها، هو الذي يعطيها القوة للاستسلام للموت بكل اقتناع وطمأنينة.
ولعبة العنوان تتمظهر أيضا في العلاقة الضدية بين الشيخوخة والحلم. فالشيخوخة (وخاصة في حالنا هذه) تمثل نهاية سقف الحياة، فيما الحلم يمثل انفتاح الأفق في الزمان والمكان. كذلك يلاحظ إضفاء صفة الخجل على حلم امرأة عجوز حين تستعيد صورة الفتاة الشابة الجميلة التي كانتها يوما. أليس الخجل ناشئا هنا عن الشرخ بين الماضي والحاضر، بين الشباب والشيخوخة، بين استرجاع الحياة والإقبال على الموت؟
أما ضمن النص، فان الحلم لا يتخذ صيغة الموضوع فحسب، بل أيضا صيغة الفاعلية النصية لتوليد متخيل السرد وتحولاته. وتوجد- إجمالا- عدة جسور عبرت بسرد هذا النص نحو الشعر، أو عبرت بالشعر نحوه. إن نصا حلميا كهذا لابد أن يكون داخل الشعر. فالشعر أيضا، حلم يخترق الواقع والمتخيل معا، ويؤاخي بين المتباعدات. وأن يصبح الموت شخصية ساردة داخل النص، تقدم الوقائع والكائنات والفضاءات، فهذا أيضا مما يعبر بالنص نحو الشعر، خصوصا حين نقف عند الصورة التي تشكلت له في النص.
يشد الموت قارئ النص بحرصه على وصف التفاصيل كما لو كان حامل كاميرا على كتفه المثقلة بالأرواح. هاهو يقدم صورة بانورامية لبيت العجوز من الخارج، جائلا عبر طابقي البيت مركزا أولا على الشرفة(ببلابلها المزقزقة المتقافزة وأصصها الزاهية بالأزهار) بعدها يركز العدسة على الباب. ثم يستمر في التصوير وهو يدخل للبيت محركا الكاميرا عبر الغرفة كي يثبتها على العجوز الراقدة مريضة في سريرها.
إن الموت الذي يأتي عادة لاختصار كل التفاصيل، وتحذير الكائن الحي منها مادامت أعراضا لا جوهرا، ها هو يحرص عليها ويثبتها بواسطة الصورة التي يخلقها عنها. إنه شخصية رحيمة، حنونة وعاطفية، ومقدرة لقيمة الحياة، علاقته بالعجوز علاقة ألفة ومحبة. أما العجوز فمطمئنة للقاء زائر لا يراه أحد من عائلتها سواها، تبتسم له وتسعد بلقائه. الأغرب، أن يكون الموت فاعلا مساعدا على خلق الأحلام، حين يستجيب لرغبة العجوز في أن تقص عليه حلمها الخجول المجنح الذي تحلق فيه بين الغيوم وأشجار الرمان.
يبدو الحلم هنا كما لو كان الرمق الأخير من الحياة والعتبة التي يحقق فيها الكائن أقاصي رغبته في الخلاص داخل الحياة، قبل أن يتدخل الفاعل الثاني (الموت) ليمكن الكائن من خلاص أخير، لكن في عالم السديم والالتباس هذه المرة.

توجد رحلتان نحو الخلاص، الأولى خلاص من الشيخوخة بالحلم، والثانية خلاص من الشيخوخة أو ربما من حلمها، بالموت. في الرحلتين لا يقطع الكائن صلته بذاته. في الرحلة الأولى ترحل العجوز بالحلم وجسدها مشدود للسرير، وفي الرحلة الثانية ترحل العجوز وظلها مشدود للبيت حيث لا يقطع الكائن الراحل الصلة بين المكان الأخروي وبين المكان الدنيوي. وكما في لقطة من فيلم للأرواح والأشباح، ينهض جسد العجوز ذات السنوات السبعين، بخفة فراشة، وبكل استعداد واطمئنان، وهي التي كانت لا تقوى على مغادرة الفراش، نحو الرجل الواقف(الموت) طالبة منه بدء الرحلة الأخيرة. أي شباب إذن هذا الذي يتولد في عجوز قبيل موتها؟ شباب يسري في الروح على شكل حلم، وشباب يسري في الجسد على شكل خفة فراشة. وبمعنى آخر، أي حياة هذه التي تولد فجأة في حضرة الموت؟
تنهض العجوز روحا وجسدا لتغادر نحو المكان الأخروي، فيما يبقى خلفها ظلها يطل عليها من شرفة البيت، أو ينساب مع ظلال المتنزهين تحت أشجار الرمان مؤكدا لهم قرب حدوث المخاض. أي مخاض إذن يعد به ظل ميت؟ وأي حياة أخرى لهذا الظل في مكان الرمان، وهو المكان المتخيل بواسطة حلم العجوز الراحلة؟ وأي تناظر أيضا بين أن يبدأ النص بتقديم شرفة تتقافز في جنباتها البلابل وتنمو في أصصها الأزهار، وبين أن ينتهي النص بالشرفة ذاتها، لكن الذي يطل منها هو ظل امرأة ماتت؟
أسئلة كهذه، هي ما حملني على القول بانباء نصوص أمين صالح على ازدواجية التمفصل بين السردي والشعري وبكون الحكاية ببساطتها واختزالها، ليست هي الغرض الوحيد للسرد، فالغرض أيضا اندغامها مع الشعر خطيا وعموديا، رؤية ونصا، تخييلا ورمزية، لأجل أن يكون الخفي أكثر إشراقا من الظاهر، والحدسي أقوى من الحسي.
ولقد تعمدنا الوقوف عند النصوص الثلاثة الأولى من الكتاب بالترتيب، حتى لا يفهم من قراءتنا أننا انتقينا النصوص لنية في هوانا النقدي. بل لأنها هي كذلك في قراءتنا التفاعلية معها.

3- بين العناوين ولازمة النصوص

-أ-

لا يخفى أن العناوين تعد من العناصر التي تبني بها القراءة تلقيها للنص، ولا يخفى أيضا أن العناوين عند أمين صالح تدخل ضمن مختبر اشتغاله على الكتابة بوصفها موضوعا. كما أن العناوين، وإن كانت تقبل أن تقرأ خطيا وأفقيا ارتكازا على علاقات التجاوز بينها داخل الكتاب، فإنها تدخل أيضا ضمن التمفصل العمودي لأي نص، اعتبارا لعلاقات الحوار النصي والدلالي الناشئة بينها وبين نصوصها.
أما هذا الكتاب، فإن شعريته تعلن عن نفسها ابتداء من عنوانه. ولو لم يكن العنوان طافحا بشعريته كما تحمل طرح أسئلة كهذه: ما لها هذه المنازل التي أبحرت؟ أين أبحرت وفي اتجاه أي مصير؟ ما الذي أبحر قبل المنازل حتى تبحر هي أيضا؟ أي علاقة استعارية هذه بين المكان الثابت في الأرض والوجدان والذاكرة، وبين فعل الإبحار وهو فعل مكاني حركي؟ لماذا اختار الكاتب فعل الإبحار وليس السفر أو الرحيل؟ وما دلالة السفر ضمن المكان البحري؟ ثم أي المنازل هي هذه المنازل؟ هل هي المنازل بمعنى البيوت والمساكن، أم المنازل بمعنى القيم المرتبطة بتلك البيوت، أم أنها المنازل بمعنى الفصول والمراتب؟
لا شك أن القراءة التي لا تستسلم لأحادية الدلالة في العنوان، ستبحر في النص وظلال الدلالات المتنامية تسبقها. وعلى سبيل المثال، فإن فعل الإبحار محفوف بالمجهول، وبقدر ما يعد نقطة لانطلاق السفر، يعد أيضا نقطة لرحلة لا يعرف مآلها. كما أنه فعل يتم في مكان فسيح يمتد إلى ما بعد الأفق، لعله أرحب من الأفق في الامتداد.
تتجاوب هذه الدلالات وتتحاور مع عناوين داخلية في الكتاب. مثل أن يكون الإبحار "بابا مفتوحا على خاتمة"، أو أن يكون "الغزال الذي مضى مطأطئا " جريحا، كالمنازل التي مضت، ربما مطأطئة، وكان لابد أن تظل حافرة وجودها في المكان شامخة فيه. أو أن يكون فضاء إبحار المنازل "مدى فسيحا تتراكض فيه الرياح" أو" أفقا لا يمسه جناح" أو أن يكون الإبحار" هو والهاوية...وجها لوجه"، ولعله إبحار بسبب "مساء يضرم المكائد"، حيث "مصائر تهرول نحو ضفاف سماوية"... وكل هذه عناوين فرعية في الكتاب، وتتشاكل مع العنوان الرئيس في دلالتين كبريين هما:
- الإبحار بما يعنيه من سفر ورحيل، حيث يبحث الكاتب عن مصير آخر له، بالحلم تحديدا كما في أمثلة كثيرة ضمن الكتاب.
- شساعة المكان، بما يعنيه من مجاهل وانفتاح مطلق، وهذه الدلالة حاضرة في صورة المكان في الكتاب، حيث لا يظهر المكان المغلق والضيق أحيانا، إلا لإظهار الشساعة في المكان المفتوح.

-ب-

وإذا كانت عناوين الكتاب تمثل أوضاعا نصية بدئية، مشتغلة بلغة الرمز والاستعارة، فإن ما يلفت نظر القراءة، أن مجموعة نصوص القسم الأول من الكتاب تنتهي بلازمة شعرية عن المساء الذي الذي يضرم المكائد في الفراغ. تكرار هذه اللازمة يجعل النصوص واقعة داخل دائرة شعرية مزدوجة أو متمفصلة بدورها. أولا دائرة يمثلها العنوان الشعري للكتاب وكذلك اللازمة الشعرية للنصوص، ثانيا دائرة تمثلها العناوين الشعرية الداخلية وكذا اللازمة الشعرية ذاتها. مما يعطي اللازمة وظائف داخل عدة محاور: محور تدخل فيه في علاقة مع عنوان النص الأول " مساء يضرم المكائد"، ومحور تدخل فيه في علاقة مع عنوان الكتاب ، ومحور تدخل فيه في علاقة مع كل نص على حدة، ومحور تتعالق فيه مع النصين الأخيرين من الكتاب وإن لم يأتيا مختومين بها، هذا فضلا عن خلقها للاتساق النصي بين النصوص المختومة بها مادامت تتكرر في نهايتها.
وكل واحد من هذه المحاور يقتضي وقفة مطولة. لهذا نقتصر على هذه التساؤلات: أي دلالة لهذا الفراغ الذي تلح عليه اللازمة؟ ولماذا يكون موضوعا لفعل المساء تحديدا؟ وأي دلالة للتقابل الضدي بين الماء (البحر) في عنوان الكتاب، وبين النار ( الإضرام) في لازمة نصوصه؟ وهذا الفراغ الذي تلح عليه اللازمة، وتملأه بالمكائد، إلى أي حد يتوازى ويتناظر مع الفراغ المخلف أكيدا من طرف المنازل بعد إبحارها؟ إن الطبيعة إذا كانت لا تقبل الفراغ، فإن الشعر قادر على اكتشافه داخلها، أو اكتشافها داخله.
لقد لاحظنا أن عنوان الكتاب يستثمر فعل الإبحار بما يعنيه من سفر ورحيل، كما يستثمر موضوع الفضاء الشاسع، وفي اللازمة يحضر أيضا موضوع الفضاء الشاسع ممثلا في الفراغ، حيث يمكن اعتباره فضاء لا حد له، بمرجعيته المكانية وبمرجعيته الرمزية والنفسية. وتقودنا الملاحظة الأخيرة إلى الربط بين موضوع الفراغ وبين فعل الإبحار أو السفر داخل نصوص الكتاب.
وحين نعيد مراجعة النصوص الثلاثة الأولى التي اتخذناها نماذج للتمثيل لا للحصر، نرى مدى التلازم بين الفراغ والسفر. ففي النص الأول،يعود الصياد من سفره أو رحلته وإبحاره حاملا شبكته من السمك. وكي يلتحق ببيته يجد نفسه كالمسافر في رحلة عودة طويلة وثمة وراءه في البحر سفن يقول عنها النص:" سفن تشف عن ربابنة وملاحين لا يكفون عن السفر، وعندما تشاطئ أحداقهم المرافئ الأليفة يراودهم ثانية شغف السفر كأنهم أسرى رحلة أبدية لا تنتهي عند شاطئ أو ميناء" (ص10) . ولا ننسى أن آخر نص من الكتاب يحمل عنوان " صورة شخصية لعائلة في سفر".
إن رحلة الربابنة والملاحين، قد تكون شبيهة برحلة المنازل، أو برحلة الصياد الذي ما أن تطأ قدماه عتبة بيته حتى يتذكر أن أمامه رحلة أخرى بحثا عن صيد السمك. أما الميدان العام الشاهد على قرب إعدام الشاب، فميدان غاص بالجمهور، ومع ذلك فهو صورة جلية للفراغ، الفراغ من القيم، ومن الأهداف، لأن قيمة الحياة وهي أهم قيم الكائن الحي، غير مكترث بها عند جمهوره. يقول النص عن جمهور الميدان العام: " جمهور يستعين بالضجيج كي لا ينصت إلى ما يهمس به ضميره، وكي لا يفصح عن مشاعر لا تنسجم مع طبيعة التجمهر، مولع بالفرجة هذا الجمهور الذي يتوسل خطوة المصادفات ويتملق الوقت ليهبه فيضا من الإثارة قبل أن يداهمه النوم" ( ص 14).
أما في النص الثاني المعنون ب " الغزال الذي مضى مطأطئا" فتشكل فيه فعل السفر رمزيا في رحلة دم الصبي في المكان والزمان كما ذكرنا، فيما تشكل موضوع الفراغ بمقارنة ذات الصبي بذوات الآخرين ضمن المكان. حيث أن وجوده بالنسبة للمشاة في الميدان العام ليس سوى فراغ ما داموا يسحقونه دون أن يمثل لهم شيئا ذا قيمة إنسانية.
أما الزبائن داخل المطعم فلم يروه رغم وقوفه خلف الزجاج الشفاف.إنه أيضا مجرد فراغ بالنسبة لهم. يقول عنه النص: " لا أحد يعيره التفاتة أو اهتماما..ولو من باب الفضول أو التعاطف، كأنه غير موجود. كائن أثيري، أو محض شبح لا يرى"(ص 19).
ولعل الموت وحده في النصين المذكورين هو الذي يثبت وجود الكائن ويثير فضول الجمهور. فقد تجمعوا في الميدان العام ليروا دم المحكوم بالإعدام، وأما بالنسبة للصبي فلم يتم الانتباه إليه إلا بعد أن تناثر دمه مع شظايا الزجاج.
وأما في النص الثالث، فيتشكل السفر من خلال فعل السفر الحلمي للعجوز، وفعل سفرها الأبدي عند مرافقة الموت لها. وحين تجمع أفراد العائلة حولها كان الموت واقفا هناك، تراه العجوز وهم لا يرونه. إنه الحضور والغياب معا. البيت شاهد عليه، والعجوز شاخصة بنظرها نحوه، أما أفراد عائلتها فلا يرون مكانه سوى الفراغ.
إن متخيل الفراغ، ومتخيل السفر، ومتخيل الموت إذا اجتمعت، جاء النص على غير المعتاد من السرود ذات المنزع التفصيلي، ورغم بعض التفاصيل التي تطالعنا في الكتاب حول الشخصيات والأشياء والأماكن، فإنها تتحول إلى علامات متعددة الدلالة، تخص الكائن المقيم في السفر، داخل الواقع وخارجه.

-ج-

وبصفة عامة، نود التأكيد على أن هذا الكتاب وكتبا أخرى لأمين صالح، وإن جاء خطها العام ضمن السرد النثري، فإن تحليلها من حيث المكونات السردية وحدها لا يستقيم مع أفقها الكتابي. ولقد تطرقنا بتركيز لمكونات سردية كالحكاية، والشخصيات، والمكان، ومنظور السارد، كي نبين أنها غير مفارقة للشعر، سواء على المستوى الأسلوبي والبلاغي أفقيا، أو على مستوى الرؤية السردية المتمفصلة مع الرؤية الشعرية، فضلا عن أثر كل ذلك على تلقينا لنصوص الكتاب.
ولعل المقصد العام الذي دفع أمين صالح لتأليف الكتاب، تزدوج فيه بدوره رؤيتا السرد والشعر. حيث يبدو لنا أن المقصد العام للكتاب، هو الكتابة عن الحارات القديمة في مدينة عتيقة، ومقصد كهذا قد يزدوج فيه الحنين إلى الماضي بزمن قيمه الجميلة مع وصف المكان ومؤثثاته وشخصياته، مما نرى له تجليات كثيرة في الكتاب. كما أن الطابع الشذري والتقطع النصي المناسب إجمالا للشعر حين يتغيى التقاط حالة معينة، له حضوره في الكتاب.
لم تكن عند أمين صالح نية كتابة عمل موحد الشخصيات ومتسلسل الأحداث، لهذا السبب حرص على فصل نصوص الكتاب عن بعضها بتذييل كل واحد بتاريخه. لعله أراد من الكتابة أن تمضي نحو مصيرها دون سابق مخطط، متقدمة في المتخيل وفقا لتقدم الذاكرة والرؤى فيه. ولعله كان يوازي بين المغامرة في الكتابة بوصفها فعلا نصيا وبين المغامرة التخييلية ذاتها.
ويتبدى حرصه على استرجاع فضاء الحارات القديمة، في استبعاده شبه المطلق لكل ما يمت بصلة للتكنولوجيا والصناعات العصرية والعمران الحديث. فالأحداث المتفرقة تدور غالبا في بيوت ومنازل ومحلات قديمة، وفي الساحة العامة، أو تغادر فضاء الحارة لمكان المتخيل الطبيعي، مياه، بحار، طرق نائية، غابات...الخ.
كأني بالكتاب جاء تمجيدا لتلك الأماكن العتيقة التي ما فتئت ترحل تحت تأثير زحف البناء العصري، أو ترحل لأن سكانها هجروها. وقد يكون هذا هو المقصود بإبحار المنازل، أو لأنها أبحرت في ذاكرة الكاتب وأحلامه فخلفت كتابه هذا. فأكثر من دلالة تتحملها أماكن أمين صالح، تماما كما تتحمل شخصياته المركبة أكثر من دلالة.
لقد كتب أمين صالح أشكالا كتابية تتجاوز حدود الرواية. وتتجاوز حدود القصة كما تتجاوز حدود القصيدة. لقد دمج بين السرد النثري وبين الشعر. وسواء أكان ما كتبه سردا شعريا وهو المرجح، أم كان شعرا سرديا، ففي كل الأحوال، يبقى شاعر السرد العربي الحديث بكل امتياز.