رشيد يحياوي
(المغرب)

3-1

أمين صالحقاص من البحرين، تلك هي الصفة التي ظلت تلاحق أمين صالح. والآن أصبح من اللازم تصحيح هذا التجنيس. فأمين صالح حسب خطأ على القصة، ولم يجد النقد المناسب الذي يعيد موضعة أعماله ضمن أشكال الكتابة المنزاحة عن نمذجات السائد التعبيري. وقد أسهم الكاتب نفسه، بطريقة غير مباشرة -أو مباشرة- في هذا التكريس النقدي الذي طال، ليس أعماله فحسب، بل أيضا، جل الأعمال المنفلتة من قبضة الأطر التعبيرية المسلم بها. فقد ظل أمين صالح لمدة عقد ونصف، حريصا على وسم أعماله بنعتي ''قصة'' و''رواية''، فيما كانت تلك الأعمال غير خاضعة للتقاليد النوعية المعيارية لهذين النوعين. وربما كان تثبيته مواثيقه النوعية، ضربا من ''الهدنة'' مع التلقي السائد، أو مراهنة على الحساسيات الثقافية الطليعية المستشرفة عنده. وقد كان قاسم حداد من أوائل من انتبهوا إلى خصوصية وتفرد تجربته في تشييد معمار مغاير لنص يأبى ''الترويض'' في القوالب المعدة قبليا. أشار قاسم حداد على الكاتب بألا ينعت نصه ''أغنية ألف صاد الأولى ''بنعت'' رواية''، لما رآه فيها من بروز للمكونات الشعرية.
يقول قاسم حداد في كتابه ''ليس بهذا الشكل ولا بشكل آخر'': ''بعد أن قرأت مخطوط ''أغنية ألف صاد الأولى''، تمنيت عليه ألا يكتب على غلافها بأنها رواية، فقد رأيت فيها نصا جديدا مغايرا لمثل ذلك التصنيف، نصا يتمتع بحرية تخرج عن حدود الرواية بمفهومها المتعارف عليه، فقد كان فيها من الشعر عناصر كثيرة. وهذا ما يؤكد ارتباك الكثيرين أمام تلك التجربة، خاصة أولئك الذين جهروا بأنها ليست رواية، دون أن يكتشفوا أنها أحد النصوص الجديدة المبكرة للكتابة التي كنا نذهب إليها، والتي بين أيدينا الآن اجتهادات مثلها'' [1].

يتأكد في ما قاله قاسم حداد، أن التلقي النقدي اصطدم بالميثاق الأنواعي المعلن، أي ''رواية''، مقارنة بالميثاق النصي، أي النص نفسه. والاصطدام يحدث دائما بين طرفين. وفي حالتنا هذه، اصطدم التلقي بجدار التصنيف الذي اختاره الكاتب، واصطدم النص بجدار التصنيف القائم في التلقي. ولو أن الكاتب اختار لنصه نعت'' شعر'' لوقع اصطدام مماثل، ولو أنه نشره دون تصنيف، لكان وقع اصطدام مختلف. بدل اصطدام بمثابة ارتطام، يكون اصطداما بمثابة تصادم مستمر. فالنص لن يجد في تلك الحالة جدارا واحدا يصطدم به، سيجد مجموعة جدران لا يعرف أيا منها يكون هدفه، فيظل في تصادم مع جملة من نعوت التصنيف وليس مع نعت واحد. كذلك الأمر بالنسبة للتلقي، سيظل في تصادم مع النص لأنه يجهل الثغرة التي يأتيه منها، أي النعت الأنواعي الذي يواجهه به ويفنده في ضوئه أو يقر له ضمنه بالمشروعية.
بدل أن ينفعل الخطاب السائد بـ ''أغنية ألف صاد الأولى'' منفتحا ومتقويا باختراقاتها الجديدة، واجهها مواجهة جسم ممنع وملقح تجاه جسم غريب عنه، بإبعاده وإخراجه من نسقه المفترض. لم ير أنها رواية، ولم ير أيضا أنها شيء آخر. كأن لسان حاله يقول: ''ليس بهذا الشكل'' يجب أن تكون، ولا حتى ''بشكل آخر'' مادام لا يعرف الشكل الآخر.
أمين صالح في نظر قاسم حداد، ''شاعر أكثر حرية'' حتى في ''قصصه''، وكاتب ''يأتي من عالم النثر إلى التألق الشعري بسرعة متناهية''. فلاغرابة أن وجدنا الكاتبين يشتركان في مشاريع بذاتها، مثل نص ''الجواشن'' وبيان '' موت الكورس''. ولاغرابة إن قلنا أيضا إن الكتابة التي كان يبحث عنها قاسم حداد ويعبر عنها في مقالاته وشهاداته، تجد نموذجها الفعلي في كتابات أمين صالح. بل نذهب إلى القول بأن الكاتبين وصلا في توحد رؤاهما إلى كتابة أشبه بنص واحد بصوتين متمايزين، كل صوت يتشظى إلى أصواته النصية ولغاته. حتى أن قاسم حداد، بعيد صدور '' مدائح''، نراه يصدر كتابه '' ليس بهذا الشكل ولا بشكل آخر'' مصدرا بهذا الإهداء المدائحي:

أكثر الكلمات كثافة لمديحك،
والخفيف الخفيف منها لمؤانستك،
وما يتبقى، حيث لن يكفي،
لوصفك.''

وسواء أتعلق المديح بالكتابة أم السيرة أم باللغة أم بالمرأة أم بالصورة الحلمية أم بالذات التخييلية... إلخ فكلها مشمولات نص ''مدائح'' أيضا. وبإصداره لنص ''مدائح'' يدخل أمين صالح الشعر بامتياز، بالرغم من عدم تصنيفه للنص في الحقل الشعري، في ما يبدو تعمدا أو تشككا أو ترددا أو حتى تقاعسا. وكأن الشعر لم يعد يغري كاتبا بأن يجعل الانتساب إليه جنسية ''أنواعية'' ثانية، وبخاصة إذا كانت الأولى مشكوك في صحتها أصلا. لكن شعرية نص من النصوص لا تتوقف على نوايا أو أختام كاتب أو ناقد. ما يبرهن عليها هو النص ذاته بالطرائق والاختيارات التي يقوم بها في حقول اللغة والدلالة والتعبير. وبعد ما أظهره '' مدائح'' من تمظهرات لشعريته على مستويات أقواله السردية وحوارية معماره وخطاباته واستراتيجيات عنوانه وميتالغته، فضلا عن بهاء متخيله، لا أظن أنه بقي أمامنا سوى '' الاستسلام'' طوعا أو بعناد نقدي، لجاذبيته الشعرية الغائرة في كينونة الخارق والمدهش. ومن باب '' تحصيل الحاصل'' السالف، لنقرأ هذا المقطع:

'' ظبي يعدو في أروقة المطر
يعلن قدومك الذي انتظرناه طويلا
أول ما نرى:
شمسا باردة
فحشدا من الفراشات
فعربة ملكية مرشوشة بالذهب''[2].

لا نظن أن القراءة سيقع لها التباس في شعرية المقطع. إذ ليس مقوم الشعرية في حالتنا هذه، هو الحد الوزني والإيقاعي، بل الحد التخييلي. ومن زاوية التخييل، نلاحظ أن اللغة انصهرت في مواضعات نصية جديدة، في مقدمتها تحقيق المبدأ التفاعلي في الاستعارة. تفاعل تبنين أساسا على تدافع بين المحصور والمطلق، بين الخاضع للتسوير والرافض لذلك. أي بين الأروقة المنتسبة لمكان عمراني محدد، والمطر الذي لا ينتسب سوى للمطلق. ثم بين الحشد بوصفه ازدحاما بشريا، والفراشات التي لا تقبل ازدحاما ولا أسرا ولا تختار مكانها سوى في الفضاء ذاته الذي يختاره المطر. ثم أيضا في تلك الاستعارة المكانية الكبرى الباذخة، التي تصبح فيها الطبيعة والكون قصرا للمرأة الملوكية الأسطورية التي تحف بها حاشية من عناصر الكون. المرأة مصدر''العناصر'' والمرأة التي يحلم بها ''ندماء المرفأ، ندماء الريح''، المرأة ''سيدة المساء''و ''الحجرة الكونية''، المرأة التي ظلت تتخمر في نصوص أمين صالح وتظهر في حالات مفارقة لبعضها إلى أن فرضت عليه أخيرا أن يتوجه إليها بالمدائح في ''مدائح''.
المرأة في المقطع المذكور تحدد بلحظة قدومها، ولحظات القدوم أو المرور أو العبور من أهم لحظات متخيل المرأة في جل نصوص أمين صالح. ههنا، قدوم يخلق فيه التخييل الشعري صورة أخرى لامرأة عشتارية، يندفع نحو قدومها وحلولها، الشوق والشهوة، والترقب المتشبع بالأخيلة اللامحدودة للحلم.
خضع المقطع لتقطيع سطري مألوف في الشعر. بيد أن ''مدائح'' يعتمد أيضا استرسال وترابط الجمل في مقاطع أخرى. وليس للاختيار الثاني دخل في إزاحة أو إقرار شعرية النص. ولربما تم تعمده لضرورته الشعرية. كما في حالتنا هذه حيث يتم تشغيل القول السردي.
في هذا النوع من التقاطع، يحضر الشعر بكثافته وسرديته فالسرد يندغم في التخييل الشعري فاقدا تقريريته ولزوم الترابط الحدثي وتبؤر الفضاء. ما نواجهه في المقطع، هو عالم نبحث عنه لكننا لا نستطيع أن نتخيله. ومنه التالي:

''غزالة شاردة من تخوم الزمن، ولا حيز قادر أن يسيج لهاثها الطليق.
حرة تطيش مكتنزة بالشفافية كأنها النفير القزحي.
تستوطن شفرة الغيم حينا، وسديم الغيب حينا.
ورثت أعياد المياه، براعم الضوء.
انتضت قامتها الباذخة وراحت تمرغ ثديا في فم طفل يستدرج الأمومة إلى
حلم غامض.
وثديا في مجرة ناسك خجول يكاتب ندماء الريح''. [3]

إنها غزالة غير غزالة الغزل الشعري العربي القديم. الشاعر القديم لم يخلق غزالته. لقد خلق امرأته بإلباسها صفات الغزالة -الحيوان، لكنه لم يجعل من الغزالة امرأة. الذي جعلها كذلك هو المعتقد الميثولوجي الشرقي القديم. وأمين صالح يتصل هنا بذلك المعتقد بتحويله وفقا لآليات تناصية إلى متخيل شعري جديد. فالغزالة- موضوع المحكي الشعري- لم ينظر إليها بوصفها مجموعة علامات للجمال، نظر إليها بوصفها ذاتا فاعلة، مشتغلة ترميزيا باكتساب صفة الإطلاق والتعالي عن الزمن والمكان، ظاهرة وخفية في الآن عينه.
وأن تكون تلك المرأة في حالة ألوهة، فذلك لا يعني مطلق طهرانيتها. (ومن قال بطهرانية إلهات الميثولوجيا ! ؟) إن الغزالة تحقق في ذاتها مبدأ آخر لتفاعل المتخيل الاستعاري، وذلك بتمثيلها الأقصى للانجرافات الروحية للجسد، أي اختراق المحرم بوجهيه، محرم اللاوعي (الطفل) ومحرم الوعي (الناسك). وفي تلك الانجرافات القصوى، زواج الكوني بالبشري، أو المقدس بالمدنس.
وإذا كان قاسم حداد أشار إلى تلك ''الاجتهادات النادرة''، فنص ''مدائح'' واحد منها. إنه أحد نصوص الحب الاستثنائية في الشعر العربي، الحب الذي يتزاوج فيه الجسدي بالروحي. فهل هي صدفة سعيدة أخرى، أن يتحول أمين صالح وقاسم حداد معا، في فترة واحدة نحو موضوع الحب، ناقلين إياه من موضوع مهيمن عليه، إلى موضوع له الهيمنة كلها، ومن موضوع تتجاذبه خطابات الواقعي، إلى موضوع يتجاذبه خطابه هو.
ينشر أمين صالح ''ترنيمة للحجرة الكونية'' سنة ,1994 في الوقت نفسه تولدت عند قاسم حداد فكرة ''المجنون'' الذي سيصدر بعد ذلك بعنوان ''أخبار مجنون ليلى'' سنة .1996 بعد سنة واحدة يصدر أمين صالح ''مدائح'' مفعما بدوره بروح التشكيل. يختلف الصوتان إذن وتتشاكل الصورة والمرأة، إنها عند قاسم حداد، جسد المقدس والمدنس المحول إلى أسطورة تراثية عربية، أما عند أمين صالح، فجسد المقدس والمدنس المحول إلى أسطورة مطلقة.

لقد قدم أمين صالح تسعة أعمال إبداعية مختلفة الأنواع. ومع حرصه البين على إعلان ''ميثاق القراءة''، فلم نلحظ أبدا إشارة منه في '' مواثيقه'' إلى أي تماس أو تقاطع لأعماله بالشعر. وخاصة أن التلقي الجمعي رسخ في الكاتب صورة القاص رغم عدم مطابقة تلك الصورة لصاحبها مطابقة تامة. فأمين صالح في أعماله السابقة ل ''مدائح'' سارد بالمعنى العام وليس قاصا بالمعنى الحصري. أي أنه اشتغل على السرد من حيث كونه نمطا مخترقا للأنواع ومخترقا بها، دون الانحصار في نموذج ''متواطأ'' على معياريته من النماذج السردية المشخصة في الأنواع. ولا أدل على ذلك من كتابه ''العناصر'' الذي نعته في ميثاق القراءة بأنه ''قصص'' أي ما يفيد مجموعة نصوص قصصية مختلفة. فقد جاء هذا العمل في صيغة تعالقت فيها النصوص ببعضها مكونة نصا واحدا ذا لوحات أو مقاطع سردية ينهض كل واحد منها بدور في المسار السردي العام للنص الكلي، ناهيك بالاختراقات الشعرية العديدة التي اخترقت لغته وخطاباته.
وبإعطائه هيمنة شمولية في النص لكثافة اللغة ورمزيتها وبلاغتها وتمفصلاتها التوزيعية المغايرة، ينتقل أمين صالح من السرد بمطلقه، إلى الشعر بمطلقه أيضا، أي من حيث قابليته لاختراقات النثر والسرد وغيرهما من الخطابات والصيغ. وهذا ما تجلى في عمله الأخير ''مدائح''.
إن أمين صالح وإن لم يفصح عن الشعر في مواثيق القراءة، فإن الشعر متجذر في منجزاته النصية ومحيطاتها الموازية. وفضلا عن ذلك يفصح الكاتب في مواقفه المفارقة لإبداعاته عن وعيه بكون الاستخدام الشعري للغة، يتقدم عنده باقي استخداماتها.

في بيان ''موت الكورس'' المشترك مع قاسم حداد، لا نرى إعلانا عن تبني الاختيار الشعري، لكن الأهداف التي حددها البيان للغة تكشف عن استخدامها الشعري ممثلا في البناء الاستعاري: ''لا تقول لنا اللغة. نقول لها الأشياء. نعلمها المعنى. ربما رأينا القمر قفصا والوردة جنازة والنجوم قطيعا من الضفادع، والإيقاع الغريب المغيب في حرف ما سرادق من العزف والمصادفات. النص يكتب اللغة. نهذي قليلا ليبدأ نظام من الفوضى يخترق حاجز المعنى والمعجم والمستنقعات''. [4]
تتخلى اللغة إذن عن محتوياتها، وبالتالي عن مقاصد النثر منها. فلا معنى لها إلا من خلال النص الذي يكتبها بفوضاويته، خالقا منها بواسطة الاستعارة لغة جديدة. أما الحديث عن الهذيان والفوضى واختراق الحواجز، فمما نجده شائعا في الخطاب النقدي لقصيدة النثر. وسيفصح أمين صالح سنة 1992 عن انحيازه ''المكشوف'' للشعر بقوله عن الاستخدام الشعري للغة: ''تصبح (أي اللغة) مضللة ومحايدة وفاترة وبليدة إذا استخدمت كأداة توصيل فقط، أو كأداة إعلام وتعليم. لكن، لكن عندما يتم التعامل معها شعريا، فإنها تصبح عنصرا جماليا مدهشا وعنصرا خلاقا أيضا. نحن لا نبدع باللغة فحسب، بل أحيانا تبدع من خلالنا. إذ نستحضر المفردات التي سوف تسعفنا في التعبير، تفرض اللغة نفسها عبر تراكيب وتشبيهات وتجاورات لا تخطر على بال وقتذاك، علينا أن نحسن التقاط اللحظة''. [5]

****

2/3

قاص من البحرين، تلك هي الصفة التي ظلت تلاحق أمين صالح. والآن أصبح من اللازم تصحيح هذا التجنيس. فأمين صالح حسب خطأ على القصة، ولم يجد النقد المناسب الذي يعيد موضعة أعماله ضمن أشكال الكتابة المنزاحة عن نمذجات السائد التعبيري.

وقد أسهم الكاتب نفسه، بطريقة غير مباشرة - أو مباشرة - في هذا التكريس النقدي الذي طال، ليس أعماله فحسب، بل أيضا، جل الأعمال المنفلتة من قبضة الأطر التعبيرية المسلم بها. فقد ظل أمين صالح لمدة عقد ونصف، حريصا على وسم أعماله بنعتي ‘’قصة’’ و’’رواية’’، فيما كانت تلك الأعمال غير خاضعة للتقاليد النوعية المعيارية لهذين النوعين. وربما كان تثبيته مواثيقه النوعية، ضربا من ‘’الهدنة’’ مع التلقي السائد، أو مراهنة على الحساسيات الثقافية الطليعية المستشرفة عنده. وقد كان قاسم حداد من أوائل من انتبهوا إلى خصوصية وتفرد تجربته في تشييد معمار مغاير لنص يأبى ‘’الترويض’’ في القوالب المعدة قبليا.

في هذه الحلقة يسلط «يحياوي» الضوء على ممكنات الكتابة لدى أمين صالح بوصفها نسقاً شعرياً.

إذا سايرنا الكاتب في تصوره لشعرنة Poétisation اللغة، فإننا نقف مبدئيا عند ثلاثة مكونات هي:

أ-   اللغة الشعرية مدهشة.
ب- اللغة الشعرية خلاقة.
ج- اللغة الشعرية تلتقط فيها اللحظة بإحسان.

وكل مكون من هذه المكونات يتجه نحو أحد أطراف الواقعة التواصلية للنص. فالأول منها يتجه نحو المتلقي والثاني منها يتركز في اتجاهه نحو ذاته، أي نحو النص، أما الثالث فذو اتجاه مزدوج، يتجه نحو النص بوصفه لحظة من لحظاته، ويتجه نحو الكاتب بوصفه القائم على التقاطه. ولا بد لتلك المكونات من وسائط بانية تتحدد عند الكاتب في التراكيب والتشبيهات والتجاورات التي لا تخطر على بال. (على بال القارئ أو الكاتب أو هما معا).
إن المكونات المذكورة تمثل مداخل مناسبة ل ‘’اختبار’’ شعرية أعمال أمين صالح مادامت تعكس الوعي النقدي للكاتب، الوعي المؤثر في توجيه اختياراته في تشغيل اللغة أدبيا. ويتطلب ‘’اختبار’’ الوعي النقدي في الوعي النصي، آليات خاصة ليست من مقاصدنا هنا، لذلك سنقتصر على إشارات تمثيلية تظهر حضور الوعي النقدي في الوعي النصي:

أ-اللغة الشعرية مدهشة:

لا جدال في أن الإدهاش من المقومات الضرورية للشعر، ولا يعني ذلك أن الإدهاش وقف عليه، ففي المسرح والسينما والتشكيل، إدهاش أيضا. وفي أعمال أمين صالح عامة، حضور قوي لفعل الإدهاش وخاصة بتوظيف الخطاب الغرائبي في السرد، بما فيه السرد الشعري. وفضلا عن ذلك، للشعر شروط أخرى للإدهاش، في مقدمتها الصورة. نقرأ في ‘’مدائح’’:

‘’الحلم يذرف الانتظار أمام أجفانك’’6

في هذا المثال يتبدى لنا بالفعل الأثر المدهش المتولد من التجاور المجازي بين الكلمات. فهل ينسب فعل ‘’يذرف’’ للحلم، وهل الانتظار مفعول لهذا الفعل، وهل مكان ذلك الفعل هو أمان الأجفان، وهل الحلم يرى بالأجفان إلخ؟ إن عدم توقع العلاقات بين مكونات الصورة هو سبب الإدهاش.

ب-اللغة الشعرية خلاقة:

لا جدال أيضا في أن اللغة الشعرية لغة خلاقة. لكن حتى اللغة غير الأدبية لغة خلاقة بدورها. الفيصل في الخلق الذي تقوم به اللغات هو طبيعة الخلق وطرقه وموضوعه. ولو استرجعنا المثال السالف. لتبينا فاعلية الخلق في الشعر، وفي مقدمته خلق الصورة. فقد قدمت لنا هذه الصورة الشعرية متخيلا معينا لا يمكن عرضه بلغة أو صيغ أخرى. ولا يمكن للتشكيل أو السينما مثلا تجسيد الانتظار، وحتى إذا عبرا عنه بأدواتهما، فلا يمكن أبدا أن يكون مماثلا للانتظار الذي تقدمه هذه الصورة. كيف يقدم التشكيل أو السينما مثلا، حلما يذرف الانتظار؟ لا يمكن أن يخلق تلك الصورة سوى الشعر.

ج-اللغة الشعرية تلتقط اللحظة بإحسان:

اللحظة زمن. والزمن قد يكون فعلا أو حالة. والفعل والحالة قد يتجسدان وقد لا يتجسدان، فإذا تجسدا تعرضا للالتقاط من طرف الفنون البصرية. أما إذا لم يتجسدا، فثمة يقع التباين والتنافس في ‘’إحسان’’ التقاط اللحظة. وإذا اعتبرنا الصورة السابقة لقطة، فلا بد لنا من إشارات أربع تبين أن الاحسان في التقاطها لا يمكن أن يكون إلا شعريا:

أ-    لا يمكن أن يحسن التقاط تلك اللحظة سوى من رآها. وهو بالضرورة راء واحد.
ب-  لا يمكن أن تتنافس الفنون في التقاطها لتباين المرئي والأدوات.
ج-   لا يمكن لنا أن نحكم على مدى الإحسان في التقاطها مقارنة بمرجعها، لأنه لا مرجع لها سوى اللقطة ذاتها.
د-   لا يفصح عن الإحسان فيها سوى شروطها الداخلية. وقد تحقق في شروطها عنصرا الدهشة والخلق، مما يفيد أنها لحظة تم التقاطها بإحسان.
لكن أمين صالح لا يريد أبدا من القارئ أن يستسلم للأفق الشعري في تلقي ‘’مدائح’’. فضلا عن كونه لم ينعته في الغلاف بنعت ‘’شعر’’ ولا بغيره من النعوت أيضا، فإن النص يتدخل بواسطة خطابه الميتالغوي، لتنبيه القارئ لعدم نمذجة ‘’مدائح’’ في الشعر، يقول النص عن نفسه:

‘’ليس شعرا
ليس نثرا
مد من البوح ينمو في ويهب’’.7

قد يقال بأن البوح يمكن أن يتم حتى برطانة لهجة ‘’ سوقية ‘’ عارية من بهاء اللغة ‘’ العليا’’ للشعر لنفترض ذلك، ولندع هذه اللهجة لكي تكون ليس بوحا فحسب، بل مدا من البوح، بل مدا من البوح ينمو ويهب. أية لغة إذن في خطاب البوح هذا، إن لم تكن لغة الشعر؟.

ولننظر إلى الموضوع من زاوية أخرى ذات صلة بالمكونات الشعرية المذكورة في الوعي النقدي للكاتب، لماذا لا نعتبر الإشارة الميتالغوية السالفة، ضربا من إدهاش وإرباك القراءة، ونوعا من الخلق النصي الجديد، ثم أخيرا، التقاطا ذكيا و’’حسنا’’ للحظة بعينها في تشييد معمار النص؟ لذلك نرى أن تلك الإشارة، ذات فاعلية استعارية، لأن الكلمات فيها، تتخلى عن مفهوميتها الاصطلاحية، معينة ذاتا كتابية متماهية مع الذات النصية، أي ذات الأنا.

في مقدمة الأسئلة ‘’المصيرية’’ التي تخص رواج الشعر مفاهيميا في التواصل، التساؤل عن ماهية الشعر في المنتج النصي الراهن. ههنا تكشف القراءات السائدة عن عدة ماهيات متضاربة، بعضها تتخيله القراءة، وبعضها تتوهمه، وبعضها تتخبط فيه، وبعضها تعيه وعيا مطابقا لماهية النص. لكن التطابق مع ماهية النص، مطمح تدعيه القراءات حتى الواهمة منها.

فما الذي يجعل من ‘’مدائح’’ أو من أي مدونة لغوية أخرى شعرا؟ ليست هذه عملية هينة، لأن المصهر الغامض واللانهائي للشعر الحديث، انصبت فيه خبرة عشرات القرون ومئات الشعراء، وتزامن ذلك مع الطفرات الفجائية للمعارف الحديثة.

قد يكون في مقدمة شروط تلك المدونة أن تكون نصا. إذ بأخذها وضعا نصيا، تكتسب صفة التنظيم والتبنين الذي يهيئ لفضائها شروط الحوار الدلالي والشكلي. ويمكن بعدها الاستعانة بعلوم النص والعلامات والتبالغ للوقوف على استراتيجيات الاشتغال البنيوي والعلامي والتواصلي واللساني في النص المعني، بيد أن ذلك يقتضي تواطؤا معينا حول نصية النص. والحاصل أنه تواطؤ لايطول سوى مدونات دون أخرى، وكلما تاخمت القراءة حدود الشعر، انهدمت إوالياتها ورهاناتها. فالنص الذي يراد له أن يكون نصا، تتباين في نصيته القراءات النصية، يتحدث عنه مثلا ناقد بأنه نص، ويتحدث عنه آخر بكونه نصا مفتوحا، ويصفه ثالث بأنه نص متعدد وتعددي، ويصفه رابع بأنه ملتقى نصوص، وينعته خامس بأنه نص جامع... وقد ينعته آخر بأنه مجرد ثرثرة لغوية لا نصية.

ونرى أن السائد في راهن الماهيات الشعرية العربية الحديثة اتجاهان، بينهما تقاطع، وبجوارهما احتمال اتجاهات أخرى. نحدد الاتجاهين في :

أ- نصوص شعرية تتغيى البساطة والتعري من البذخ البلاغي والعتاقات الجمالية. ولا تهدف لتقديم سوى الأشياء البسيطة واللحظات الهامشية بما فيها معايشات اليومي وإشراقات الذاكرة الفردية حيث يستعاد من ماضي الأنا وطفولتها لحظاتها الهامشية البسيطة أيضا.

ب- نصوص شعرية تتغيى استبطان الظاهر، حيث تصبح اللحظة التي يبدعها الشاعر لحظة محملة بالحدوس والأكوان اللامرئية المترحلة في الثقافات. يصبح كل نص في هذا الاتجاه، خزانا يمور بميتافيزيقا الرؤى الكونية، حيث تتشبع اللغة باللاشعور الفردي والجمعي متحولة بالتالي إلى سنن علامي من الرموز.

ونعتقد أن انحدار النص من أحد هذين الاتجاهين، مع امتلاكه وعيا جماليا بلغته ومقاصده، في مقدمة ما يكسبه صفة النصية والشعرية. بيد أن السؤال الإشكالي هو في عملية ‘’انحدار’’ النص وتشكله في مختبر البلاغية وخيميائتها. ويلجأ النقاد عادة إلى ‘’ إسكات’’ ذلك السؤال باختيارات منهجية إجرائية، لاتعمل في الواقع سوى على إخماد صوته دون إسكاته نهائيا، والأولى بهم أن يحافظوا للسؤال على حضوره في الدراسة والتحليل، مادام النص نصا سؤاليا وكذلك الشعر والقراءة والتلقي. بسبب ذلك تغيب النصوص عن العديد من دراسات النصوص، بل تغيب حتى ‘’الدراسة’’ عما يفترض أنه دراسة.

ويندرج نص’’ مدائح’’ في الاتجاه الثاني من الماهيات الشعرية الراهنة. ولاستكمال دراسة تمظهرات ماهيته الشعرية، ننتقل إلى ما نعتبره ‘’ أصولا’’ مولدة لشعريته. ونعتبر الأصول بمثابة أنوية مولدة لبلاغية النص، لكونها تخلق تقاطباته وتنظم سيرورة بنياته وتفجر لغته ودينامية صوره. وسنقسمها إجرائيا إلى نوعين مع قابليتهما لتبادل الأدوار.

2- أصول المدائح:
2-1- الأصول النصية الإحالية:

ونقصد بها تلك التي تحيل على معطيات مرجعية نصية. ويهمنا منها في سياقنا، أصول ‘’مدائح’’ المستعادة من أعمال سابقة للكاتب نفسه. وذلك بعد أن لاحظنا أن نصوص الكاتب المختلفة تلتقي في أصول بذاتها مولدة ما نسميه بـ’’ النص الثاني’’ في صيغته التي لا تخترق نصا واحدا أو مجموعة نصوص كتاب واحد فحسب، بل مجموع نصوص الكاتب الواحد.8
وقد يفهم من هذا النوع من الحوار النصي، إذا نظر إليه في سطحيته، بأنه إعادة سلبية لإنتاج اللغة نفسها، وأن الكاتب غير قادر على تجاوز ثبات أصول بذاتها تظل مهيمنة على أبنيته النصية. غير أن النص، لما كان غير مبني على جزئيات معزولة، فإن القول بالاستعادة الاجترارية غير مبرر في حالتنا هذه، وحتى حين تكون تلك الاستعادة مستغرقة في أصول مستعادة ومهيمنة، فيجب النظر في ما إذا كانت قد ولدت وقائع نصية جديدة أم لا.

ونص ‘’مدائح’’ بخلاف الاستعادة الاجترارية، يقوم بامتصاص أصول لصور تعبيرية سابقة موظفا إياها في سياقات نصية مغايرة تنهض من خلالها، بالتالي، بأداء وظائف جديدة، توجه من طرف المتغيرات الجديدة في النص، وهي متغيرات نوجزها بدئيا في ثلاثة:

أ- نص ‘’مدائح’’ هو أول نص طويل من نصوص الكاتب، تسود في كليته اللغة الشعرية وتوجه خطاباته ولغته.
ب - أول نص من نصوصه، يوظف مقاطع شذرية مستقلة جزئيا وترقيميا عن باقي المقاطع المتوسطة والطويلة في النص.
ج - أول نص طويل من نصوصه، يهيمن على التواصل بين ذواته، تواصل الأنا والمرأة.

إذا اعتبرنا هذه المقارنة الاختزالية، قد تضمنت بعض المتغيرات، فإن المتغيرات الأساسية هي تلك التي لا تنجلي إلا بتحليل شمولي للنص. وفي ضوئها نتبين الثبات الظاهري للأصول، ويستحسن أن نصفه بمتغير الثبات انسجاما مع دينامية النص. ولما كانت تلك الأصول تتمظهر من خلال دوالها ومحمولاتها الموضوعاتية وصيغها التعبيرية، ولما كانت تفعل بتلك الاستعادات صيغا تناصية معينة، فسنقسمها إلى ثلاثة أنواع مكتفين في عرضها بالإشارة والإيجاز لاعتقادنا أن التعمق فيها، سيقود هذا المبحث لتفريعات تتعدى حدوده وتحتاج بالضرورة إلى مبحث مستقل.

أ- الأصل المعجمي:

فيه تتمظهر عبر المستوى السطحي للتعبير دوال وعلامات الأنوية العابرة لنصوص الكاتب. وقد اخترنا من الشائع منها ستا، على سبيل التمثيل لا الحصر. ونذكرها في ما يلي مقرونة ببعض أماكن ورودها لأكلها.

  1. دوال المرأة وفعل المشي: (مدائح، ص ...,57,31,24,22,10,7)،
    (العناصر، ص .20)، (ترنيمة للحجرة الكونية، ص ,,.37).
  2. دوال المرأة والشرفة : (مدائح، ص .87,53,27)، ( العناصر، ص .13)، (ندماء المرفأ، ص .18).
  3. دوال المرأة واللوحة: (مدائح ص ,,.44)، (ترنيمة للحجرة الكونية، ص .95,94).
  4. دوال الحلم: (مدائح ،ص11,7,.12)، (ندماء المرفأ، ص.9)، (ترنيمة للحجرة الكونية،30,24,.103).
  5. دوال الفارس: (مدائح،ص,,.53)، (العناصر،ص,,.11)،(ندماء المرفأ، ص ,65,.66)،
    (ترنيمة للحجرة الكونية،ص .37).
  6. دال الحجرة الكونية، (النص الحامل للعنوان نفسه)، (مدائح، ص95).
    ويحتمل أن تحضر هذه الأصول وغيرها في باقي نصوص الكاتب التي لم تتوافر لدينا للحكم عليها.
    ب- الأصل الدلالي والموضوعاتي:
    وله صلة بسابقه، وفيه تهيمن دلالات وموضوعات تنشأ من تشغيل علامات أنوية مستعادة أو محتوياتها في التعبير، ومنها: المدينة والمرأة والبحر والموت والحب والعشق والقهر والظلم والوحدة - العزلة...إلخ.
    ج- الأصل النصي الحواري:
    وفيه نلفي نصوصا ومقاطع من ‘’مدائح’’ تستعيد حواريا، نصوصا ومقاطع من أعمال الكاتب السابقة، وفي مقدمتها بالتحديد نصوص في مديح المرأة وتشكيل صورتها.
    الهوامش:
  7. مدائح. ص 11
  8. الكتاب السابق ص 32
  9. حول مفهومنا للنص الثاني. ينظر كتابنا: الشعر العربي الحديث: دراسة في المنجز النصي. دار إفريقيا -الشرق.الدارالبيضاء، المغرب ط 1 /1998

***

3/3

قاص من البحرين، تلك هي الصفة التي ظلت تلاحق أمين صالح. والآن أصبح من اللازم تصحيح هذا التجنيس. فأمين صالح حسب خطأ على القصة، ولم يجد النقد المناسب الذي يعيد موضعة أعماله ضمن أشكال الكتابة المنزاحة عن نمذجات السائد التعبيري.

وقد أسهم الكاتب نفسه، بطريقة غير مباشرة - أو مباشرة - في هذا التكريس النقدي الذي طال، ليس أعماله فحسب، بل أيضا، جل الأعمال المنفلتة من قبضة الأطر التعبيرية المسلم بها. فقد ظل أمين صالح لمدة عقد ونصف، حريصا على وسم أعماله بنعتي ''قصة'' و''رواية''، فيما كانت تلك الأعمال غير خاضعة للتقاليد النوعية المعيارية لهذين النوعين. وربما كان تثبيته مواثيقه النوعية، ضربا من ''الهدنة'' مع التلقي السائد، أو مراهنة على الحساسيات الثقافية الطليعية المستشرفة عنده. وقد كان قاسم حداد من أوائل من انتبهوا إلى خصوصية وتفرد تجربته في تشييد معمار مغاير لنص يأبى ''الترويض'' في القوالب المعدة قبليا.

في هذه الحلقة يسلط «يحياوي» الضوء على ممكنات الكتابة لدى أمين صالح بوصفها نسقاً شعرياً.

نلاحظ أن المرأة لها حضور بارز في الأشكال التناصية الثلاثة للأصول الإحالية. وستواجهنا بحضور بارز أيضا في الأصول الذاتية. وذلك يفيد أنها بؤرة استقطاب أصول عديدة، وأن كونها كذلك، يجعلها بدورها أصلا أو نواة كبرى ومركزية تتفرع منها أنوية وأصول متعالقة بها، وخاصة في ''مدائح'' الذي سيتبأر كليا حول موضوع المرأة وصورتها، مع استعادة أنوية بذاتها في توليد وتشكيل تلك الصورة. يمكن أن نتتبع إحداها كما يلي:

في المقطع التمهيدي المعنون بـ'' في البدء'' من كتاب العناصر، نقرأ عن المرأة :'' هكذا، فصلا بعد فصل، عاما بعد عام، حتى صارت مثل شجرة ضاربة في تربة الموقع أو مثل بلاد. ومن أطراف جسدها تنبثق- طوعا تارة وعنوة تارة- مخلوقات، عناصر، تودع الجسد الأليف والعذب لتقطن فضاء آخر، طقوسا أخرى''.9

إذا اعتبرنا أن هذا المقطع يولد متخيلا شعريا بالربط بين المرأة والشجرة، وجعلها فضاء معادلا للأرض من حيث هي فضاء مادي ورمزي، فإننا نلفي في نص '' ترنيمة للحجرة الكونية'' مقاطع في مخاطبة الأرض بتشخيصها في صورة امرأة .10 أما في '' مدائح'' فإن الصورة نفسها ستمثل إحدى صور المرأة التي أنتجها النص، كصورة المرأة في المقطع الموالي :

'' ظلك شجرة
والعصافير اللامرئية
- الأكثر تهورا في الغابة-

تخرج من ظلك مثل شعب ممسوس بالأعراس''.11

بيد أن صورة المرأة في أعمال أمين صالح، صورة جامعة لعدة صور. إذ لا يمكن أن نتحدث في أعماله عن صورة المرأة إلا إذا تحدثنا عن بدائل صورية وليس عن صورة واحدة. فالمرأة تخضع في النص الواحد لتحويلات تنقل صورتها بين حالات مفارقة لبعضها ومضادة لها. فإذا كان ذلك يتم في النص الواحد، فكيف بعدة نصوص متباعدة في الزمن والمقاصد وأشكال التعبير؟

2-2- الأصول النصية الذاتية:

لا نقصد بذاتيتها ارتدادها إلى ذات الكاتب بل إلى ذات النص. وارتدادها إلى ذات النص، لا نقصد به أنها لا تتوافر إلا في النص المعين، فهي من مقومات البلاغية عامة، لكن قصدنا ينصرف إلى مقاربة الطرق التي أنتجت بها دلالتها في النص المقصود لا في غيره. ولأن أنواع هذه الأصول متعددة، فسنختار منها ما بدا لنا مهيمنا وحاملا لقيم شعرية. وفي مقدمة ذلك أصول الصور المشهدية والسردية في بنائها لصور المرأة والمتخيل والجسد خاصة.
يفترض خطاب المديح مثل خطاب الغزل وككل الخطابات الواصفة لموضوع خارجي أو يفترض فيه ذلك، أن تنفصل الذات المتلفظة بالخطاب عن موضوعه. كما يفترض في الموضوع أن يكون بمثابة ذات مرئية يتم تشكيل صورتها. وسواء أكانت مرئية بالرؤية أم بالرؤيا، فإن عملية تشكيلها تؤول إلى مقاصد الشاعر أو الكاتب، ودرجة إعمال الصور التجريدية والنفسية أو نظيرتها البصرية.

ويتشكل نص ''مدائح'' عبر مسار صوري ومشهدي تتقاطع فيه صيغ التصوير البصرية والرؤياوية اتكاء على جملة من أنواع الصور، السكونية والحركية، والسكونية والحركية معا.

ويلفت نظرنا بدءا، حرص الكاتب على تشغيل جملة من الكلمات المنتمية لمعجم الرؤية القابلة طبعا، للانتقال عنده من البصري إلى التجريدي.12 وترد تلك الكلمات في صيغتين:

؟ مندرجة ضمن باقي مكونات الجمل.
؟ يتم تمييزها بحيث تصبح بؤرا أو حوافز مولدة لمتواليات جمل أو مقاطع.
ونقدم هنا أمثلة لتلك الكلمات مع إشارة لبعض صفحات ورودها :

- أرى : ص (,30,19,17,15,12,11,,.37)
- أجفان : ص (,27,11,,.38)
- انظري : ص14
- ألحظ : ص(107,110)
- المشهد : ص (,95,26,,.96)
- عينان : ص (,28,,.70)
- أحداق : ص (,51,31,,.64)
- أهداب : ص (,72,51,,.83)
ومن المقاطع التي تولدت بواسطة فعل رؤية، قوله في المقطع رقم (88):
''هكذا أراك:

تمشين على حافة الليل،يرافقك شبحان بيد كل منهما مشعل. اللهب لا يضيء الشبحين، لذا لا أتبين ملامحهم، لكنه يضيء محياك، فأهمس مأخوذا: ياللنقاء''.13

نلاحظ أن المقطع وإن حرص على تقديم صورة بصرية، بحصرها وتشخيصها، فإن الصورة انبنت أصلا على صورة غير مادية، تبأرت مند بداية تشكلها على مقوم استعاري نهض بتخييل الفضاء:'' تمشين على حافة الليل''. فهذه الجملة تجاذبت مع جملة '' هكذا أراك''، عملية تخييل الصورة التي تشاكلت في الجملتين، في الزمن الحاضر. بل إن باقي أفعال الصورة انبنى بدوره على الزمن الحاضر في سيرورة زمنية بدت مستقلة وغير خاضعة للذات الرائية، وكأن هذه الذات غير قادرة على رؤية الصورة التي تريدها، فلا ترى سوى صورة معتمة، تبرز زوايا وتخفي أخرى كما نفهم من هذه الجملة:
''اللهب لا يضيء الشبحين، لذا لا أتبين ملامحهما''.

ويمثل الربط بين الصورة والتشكيل، مظهرا آخر للوعي النصي بلغة الصورة، وخاصة في ربط المرأة باللوحة. وفي ''مدائح'' يستعين الكاتب الشاعر بلغة التشكيل لتعزيز طرائقه التعبيرية في خلق الصورة. من ذلك المقطع رقم (64) الذي يعرض صورة لرسام ولوحة مع حضور المرأة المخاطبة. فالأنا السارد يتدخل في المقطع مهدما الصورة المفترضة للمرأة في لوحة الرسام. فبواسطة السرد الشعري تتحول صورة المرأة من حالة إلى حالة، من حالة الثبات في اللوحة إلى حالة الذات القادرة على إنجاز أفعال في المسارات السردية :
''الرسام، الذي قهره النعاس، ترك صورتك على القماش، ليتدحرج على قش النوم.

بعد قليل، تغادرين اللوحة، كما لو استجابه لنداء خفي، وتنضمين إلى حيث لا أحد يدري. (ربما لتنزهي نبعا، مسه الفجر، في حقل حلم مرح)''. 14
وسينبني المقطع الموالي (رقم 65) على صورة تشكيلية لغوية للوحة التشكيلية المفترضة. ففيه يتم انتاج صورة المرأة بلغة تشكيل شعري تستعير هذه المرة لغة التشكيل السينمائي. إذ لا يقدم لنا المقطع صورة مكتملة إلا عبر لقطات جزئية تستقل الواحدة منها عن الأخرى في السطر وتندغم في الصورة الكلية، كما في صور الشاشة، فيما تتكامل الصور وهي تتعقب اللقطات في مونتاج سينمائي. وهكذا تتوالى صور استعارية وتشبيهية وسردية عبر ''عدسة'' متجولة بين أطراف ومفاتن امرأة اللوحة، متتبعة على التوالي امتدادتها بدءا من اليد نحو العنق نزولا حتى أصابع القدم، لتعود العدسة في ختام رحلة تفاصيل، مقدمة صورة '' مكبرة'' للمرأة متمثلة في الجسد. قبل ذلك قدمت لقطات لما يلي :( اليد، الذراع، الابط، العنق، الصدر، النهد، الحلمة، الخاصرة، الساق، القدم، الأصابع).
لكن لغة الصورة الشعرية، حتى في استعارتها للغة التشكيل أو لغة السينما، تظل محتفظة بخصوصيتها التي لا يؤديها سواها. ولابد من مراعاة التباين الشاسع في خلق الصورة وتقديم '' لقطاتها'' بين الشعر والسينما.
وأنى للصورة السينمائية أن تشخص اللقطة الأخيرة التي قدمها الشاعر للجسد في قوله:

''الجسد المغسول بمياه الليل الشقراء، يحاول يقظة الدهشة
في ثمرة اللذة، يراوغ حلبات الاغتصاب، وللمنتخب
وحده تهيئ الطمأنينة.. وللجسد أجمل النشيد، وأنقى المديح.''.15

لقد حرص الرائي على التنويع في عرض لقطات الصورة، ما بين الصورة الثابتة كما في صورة الأصابع:'' الأصابع جسر المتعة، حاسة الأشكال''، والصورة الحركية كما في صورة الخاصرة: '' الخاصرة ينضج فيها عرس الحواس''.

وتوظيف الحركة والفعل في الصورة، من مقومات الأصول المشكلة للصورة الشعرية في ''مدائح''. مابين أفعال جزئية في صور بلاغية مكثفة، وأفعال منتظمة في متواليات سردية في مقاطع بكاملها مثل المقطع الطويل رقم (118). ويمثل المقطع رقم (54) نموذجا مركبا للصورة. إذ يتكون من وضعين سرديين، وضع تمهيدي، فيه يتم تقديم وصف للجمال الجسدي للمرأة بما يخلقه من فتنة وإغواء، بدءا من الجملة الأولى التي تتوالى بعدها جمل تنعت المرأة بمواطن فتنتها. وبخلاف صورة المرأة - اللوحة في المقطع رقم (65)، فإن هذا المقطع سيضيف إلى تفاصيله عناصر غير بصرية مثل الصوت والعذوبة والرائحة. وهذه هي العناصر التي شكل من خلالها الرائي صورة المرأة في الوضع التمهيدي من المقطع رقم (54): '' ذات الصوت، ذات الحركة، ذات القسمات، ذات الرائحة، ذات القامة، ذات اليدين، ذات القدمين، ذات العذوبة، ذات البهاء، ذات الأهداب).

وحين ننظر إلى المقطع من ناحية مستواه التركيبي النحوي، فإننا نجد أن الوضع الأول أو الحالة الأولى، ليست سوى الجزء الأول من جملة كبرى تستغرق النص كله رغم طوله (أربع صفحات)، موزعة إياه إلى حالتين، هما، حالة الوضع التمهيدي وحالة الانتقال إلى الفعل بتعبير سيميائي، أو حالة المبتدأ وحالة الخبر بتعبير نحوي:

- الحالة الأولى (بداية المقطع):
''الجميلة التي كانت تعرف أنها هبة الله للعالم..
ذات الصوت المدغدغ للحواس برنينه المسكر،
ذات الحركة المتناغمة مع تموج الهواء وتمايل السنابل في حقل القمر،
ذات القسمات المشعة فتنة ونبالة،..............'' 16

- الحالة الثانية :

''الجميلة التي كانت تعرف أنها منذورة للحب، موعودة بأعياد يومية،
تمشي فخورة في بهو الفجر. ملكة تقود رعاياها غير المرئيين
إلى منبع الأجنحة لتهبهم غبطة العصافير وحرية المدى ...........................'' 17

في الحالة الثانية تتوالد متوالية من الأفعال السردية المرتبطة بالمرأة بوصفها ذاتا مركزية، وبذوات جزئية طبيعية وبشرية تابعة لحركة المرأة :
(المذنبات، الشجرة، الطفل، الأنا الرائي، ملوك، رعاة... إلخ). أما المرأة نفسها فيتم التركيز فيها على فاعليتين، فاعلية جسدية وفاعلية خارقة.
كما في قوله:

''تعصر العنب في أفواه من يتطوع لطحن الحبوب، ثم تهيئ الساحة المحفوفة بالجداول لرقص سوف يستمر حتى اليوم السابع. تفك أزرار قميصها وتعري صدرها الباذخ، وأن تضطجع على العشب يشرئب الثديان المتكوران المكتنزان بأناشيد لا تحصى، للبحر، للحقل، للمراكب، للثلج، للخيول، لملوك تخلوا عن ألقابهم، لعشاق مخذولين، لميادين مزدحمة بكائنات ضاجة''. 18

وبذلك تصبح الصورة الخارقة ملتقى خطابات عديدة، رومنسية وأيروتيكية وأسطورية واجتماعية... ولم يكن لها أن تتحاور بتلك الصيغة لولا الطاقات التوليدية التي تكتسبها اللغة في الشعر. فهي تسمح بتشغيل السرد والوصف مع إقامة علاقات حوارية جديدة بين الكلمات.

في هذا النوع من السرد الشعري، يتخلى السرد عن منطق الحكاية، مشكلا لحالات فعلية لا يحكم تعاقبها منطق سببي سوى المنطق الثاوي في البنية العميقة للتعبير والمرتد إلى مسار البناء الدلالي، لا إلى مسار البناء التعاقبي للأحداث بالضرورة. فمنطق البناء الدلالي يتوقف على القراءة، أما منطق البناء السردي فينظمه النص، وخاصة حين يزيد من هيمنة الحكاية بوصفها موضوعا للسرد.

إن السرد الشعري كما يذهب إلى ذلك تاديي Jean-Yves Tadiè 19 لا يتقيد بمواضعات السرد النثري. ونلحظ ذلك في '' مدائح''، حيث التباس الشخصيات التي لا يركز على أعماقها، ولكن على رمزيتها، وتشظي الأماكن، وتداعي الأفعال، وتداخل الأزمنة. وفي هذا النوع من الصور المبنية على الأنوية السردية، يشتغل المتخيل في درجات قصوى من بهائه، متشكلا تيميا ومتناميا ديناميا ومتوالدا دلاليا، وخاصة في احتفائه الشعري بنواة تيمية مركزية، هي تيمة المرأة في كينونتها الجسدية خاصة، لما يفجره هذا الجسد من تقاطبات:

- جسد المرأة /جسد الأنا.
- جسد المرأة / جسد العالم.
- جسد الأنا / جسد العالم.
- الجسد الظاهر / الجسد الخفي.
- الجسد المادي / جسد الحلم .
- جسد الآن / جسد الذكرى
..... إلخ.

إن احتفال المتخيل بالأصول الإحالية والذاتية المشكلة لخطاب الجسد الأنثوي في النص، يمثل إحدى تجليات الثراء الرؤياوي الذي تنغمس فيه ميثولوجيا الحب وأعراس الرغبة. وخلافا لأي أيروتيكا أحادية، يواجهنا'' مدائح'' بتخييل عميق لوجود الجسد بالنسبة للكائن، حيث تنمو لحظات النص وحركاته مفصحة عن تشكلات تيمية وصورية، تتضافر فيها الأصول المشهدية والسردية، خالقة لغة شعرية تتداخل فيها موضوعات اللذة مع موضوعات الفقد والتيه(ص 47)، وحالات الجسد الطافح بعطائه اللامحدود واللامشروط (ص36) بحالات عذريته وبراءته وطفولته (ص110).
إن متخيل الصورة، إذ يحتفل بعري الجسد، فإنه يجعله عريا كونيا، يستطيع فيه الكائن أن يختبر لحظة وجوده بالتواصل المباشر مع لحظة خلق الكون في حميميته وسريته، وفي أغواره المخترقة باللامرئي.

الجسد الأنثوي هو المعبر الرمزي للكون، فيه يستعاد الجسد الأمومي، منبع الخلق والحنان واندلاق الحياة:

''بين ذراعيك الحنونتين
- يا توأم الألق -
ينهمر عمري
ويغمرني اليقين
بأني لم أولد إلا لحظة التقيت بك''. 20
لكن فيه أيضا الصورة الفاجعة لحقيقة الموت:
''أي موت أعذب
من الغرق في سديم عينيك ؟؟ '' 21

والجسد الأنثوي، شاهد العطاء الألوهي وقرين الأسرار المبثوثة في الكون بما فيها من رغبات غائرة في الشهوة يتنازعها الوجد والطهر (ص 72,34). إنه جسد الشمولية الأسطورية التي تتماهى فيها الكائنات وتتخاطب المرئيات واللامرئيات. الجسد الذي يشحب وجه العالم إذا غضب (ص76) ويذبل الورد إذا لم يلتفت إليه (ص 77) ولا يكون ذلك العالم جميلا إلا إذا انتحل وجهه (ص 78).

إنه أيضا، الجسد المقصود لذاته، دون أن يحتاج الكائن لرؤية أعراضه، فاشتهاؤه يتجرد عن الجزئي منغمسا في الجوهر الطهراني الذي لا يتطلب في رؤيته بصرا. وكأن الذات تقف موقفا خيميائيا من موضوعها متلبسة بالعرفان الصوفي الذي يمتلك الحقيقة الصافية المطهرة لموضوعه بالحدس والتماهي الوجداني والروحي لا بالأعيان والإمساك بالكثافة المادية. يقول أحد المقاطع الشذرية
:
'' أشتهيك أيتها الثمرة
كما يشتهي الأعمى
ما لايراه.'' 22

يستحق هذا الجسد إذن '' أجمل النشيد، وأنقى المديح'' كما عبر عن ذلك النص نفسه. لأجل هذا المتخيل الجسدي يتجه المديح في '' مدائح''، ببوحه ووجده، وبشهوانيته الملتهبة. لأجل مقدسه ومدنسه، ومجسده ومجرده، محولا من المرأة ومن الجسد كما ذكرنا، أسطورة مطلقة لا يمكن بلوغها والتواصل معها إلا بلغة قادرة على اختراق كثافة العالم وماديته وسطحيته، وهي لغة الحلم الممثلة لأصل مركزي في عدد من نصوص أمين صالح، فضلا عن تمثلها في الوعي النقدي في ''موت الكورس'' 23 خاصة.
أما في ''مدائح'' فإن دوال الحلم بارزة بشكل لافت للقراءة بحيث تتوزع في مفاصل النص مؤطرة بنيته الدائرية، في بدايته ونهايته على حد ما نرى في هذين المثالين:

؟ أول سطر في أول مقطع من ''مدائح'': ''شاخصا نحو حلم آسر يستل من مياه العينين مراياه.'' 24
؟ آخر مقاطع '' مدائح'': ''
كالحلم العاصف
تفتحين الباب
فتخترقني شهب الشهوة
وتدخلني ظباء الهذيان
آنذاك أتفتت وجدا
وأصير رهين الغيبوبة.'' 25

وفضلا عن دواله، يتعزز خطاب الحلم في ''مدائح'' بأصلين أخرين مندغمين فيه، هما لغة الذاكرة بدوالها كذلك، ولغة التخييل بداله (كلمة تخييل) الممثلة لبؤرة توليدية كما في المقطع رقم (109). كلها أصول تبرز الطرق التي اشتغلت بها اللغة الشعرية في '' مدائح'' بوصفه نصا، وإن بدا ملتبسا أنواعيا، فإن شعريته لا تنحجب أمام القراءة المتأنية. نص عرف كيف يحسن التقاط '' لحظته'' الإبداعية- إذا استعرنا لغة أمين صالح- وكيف يستثمر حوارية الخطابات والنصوص في خلق المتخيل وإدهاش التلقي، مشكلا في بلاغيتنا الحديثة، نصا فريدا من كتب العشق الشعرية المفتوحة للمعابر الأنواعية.


إقرأ أيضاً:-