نقف عند سيف الرحبي أمام أصالة مذهلة لدى شاعر طوّف طويلاً في الآفاق وعاش في أمكنة وبلدان عربية وأوروبية عديدة، وحاز على تجارب ثرّة وحقّق محصولاً ثقافياً واسعاً، ولكن جذوره بقيت منغرسة عميقاً في التربة المحلية لبلاده. فتشرّب أساطيرها ومعتقداتها وغرابة أمكنتها وتقاليد الشعر العريقة فيها منذ طفولته الباكرة.
ووسيلتهُ في مواجهة كل ذلك وللتعبير عنه هي الحلم.. الحلم الذي لا يتقيد بعقل أو قانون، ويستطيع أن يخترق الزمان والمكان، ويعلو على الواقع ويسمو عليه. ولكنه قد يُصبح فريسة سهلة له حين يتحول إلى كابوس. وهو كابوس يمثل بالنسبة للشاعر إرثاً عائلياً، وليس شأناً شخصياً فقط: “ولدتُ من سلالة أحلامُها وكوابيسُها أكثر وقائعها تعيناً، أو الزمان مناصفةً بين الاثنين”. هذا ما يقوله سيف ويكرره في أكثر من موضع في شعره ونثره.
****
وذلك يعني أن القصيدة لا تخلو من موضوعية ملتبسة وصور غريبة يتدخل الحلم واللاوعي في صناعة أجزاء منها. وإن ظلت هذه القصيدة تفرض على الدارس عودة دائمة إلى الذات وبذل مجهود استيضاحي في عملية الوعي واللاوعي في علاقتهما الملتبسة بالكون الذي أبدعه الشاعر وتخيله في تأملاته الشاردة وجعل منه كينونة لغوية جديدة لا صلة مباشرة لها بالواقع والمكان الذي صدرت عنه. بل إن القصيدة التي تمثل، بهذه الكيفية أو تلك، انعكاساً لذلك الواقع المعيش منذ زمان الطفولة الأولى، قد تتحول إلى حلم آخر لا يريد الكشف عن نفسه ولا يسمح بتعبير الرؤيا وتأويلها بشكل حرفي أو قريب من الأصل.
وربما ألّف هذا جانباً من أسباب سوء الفهم الذي واجهته قصيدة سيف الرحبي على مستوى تداوليتها العامة، وكذلك على مستوى بعض النقد الذي تعرّض لهذه القصيدة في سلطنة عُمان بشكل خاص. فقد ظل أغلب هذا النقد عاجزاً عن رؤية العالم الداخلي الخصب لهذه القصيدة وتقدير أهمية الدور الذي تلعبه العناصر السايكولوجية في بنائها.
وحينما ينفتح خيال الشاعر، المذهول أمام العالم، على صورة ويتجسد في كلمة، فإن الوعي يستمد عناصره أو بعضها من هذا العالم الجوّاني العريق؛ وإذ ذاك لا يجد هذا الوعي العقلاني المنضبط مناصاً من الدخول في الفوضى وما يتبعها من عبث بنظام البلاغة التقليدية وزحزحة للحدود المتعارف عليها في بناء الصورة. وليس ذلك نوعاً من سوريالية متأخرة، وإنما هو مشكلة الشعر الجيد أو ميزته الكبرى في كل زمان ومكان.
ولكن حلم القصيدة عند شاعر ممسوس مثل سيف الرحبي ليس نسخة طبق الأصل من اللاوعي. إذ توجد بين هذا اللاوعي والحلم المباطن له عملية إنتاج وتحوّل. فجوهر الحلم ليس المواد الخام التي تؤلفه، أو ما يسميه علماء التحليل النفسي ب “المحتوى الكامن” وإنما هو عمل الحلم الذي يقوم بتنقيح ثانوي ينظم هذه المواد ويقدّمها في صورة متناغمة وقابلة للادراك إلى أقصى حد ممكن.
والمهم أن شعور الطفل اليتيم في مجتمعه والرجل القادم من الربع الخالي والشاعر الغارق حتى نصفه في مياه أفلاج سرّية لا يستطيع أن يراها ويتذوّق عذوبتها ومرارتها غير من عاناها، هو ما يواجهنا في أغلب نصوص سيف الرحبي. والتأملات الدائمة لهذا الطفل كفيلةٌ بأن تمنح روحه السلام والطمأنينة وتخلق في نفسه التوازن والانسجام، ولو إلى حين. وبفضل ذهنية الطفولة الحيّة هذه ظل الحلم هو الغذاء اليومي الذي يمد قصيدة سيف بعصارتها وقدرتها على الاستمرار والمقاومة ضدّا على تلك الكوابيس الخيالية والواقعية التي لاحقته في طفولته ومراحل مختلفة من حياته التالية التي لم يفارق في أية لحظة منها تلك الطفولة الحالمة والمرتعبة
.
“منذ فترة ليست قصيرة كفت الكوابيس التي تؤلف ملاحمها المفزعة في نومي، أو قلّت بشكل كبير، صارت متفرقات كوابيس يرفس بعضُها في حقول الليالي. وقلّت تلك الملاحقات في الأقبية المداهمة بباطن الأرض، أو على الجبال الجرداء ومنحدراتها المسننة وهاوياتها وأنقالها، وفي المدن والأوتوسترادات والمقاهي الرخيصة الباردة وأنفاق المترو في غياب الأوراق الشخصية..”.
ولبيان هذا وغيره سنحاول أن نتناول واقعة نصية محددة تتمثّل في قصيدة “المياه البعيدة” التي لم ندقق كثيراً في اختيارها:
“في المرايا الداكنة لمياهٍ بعيدة
يحلّق طير الرغبة خلف أُفق مسدود
الوجوه المشطورة بنعيق السنوات
المدن اللاهثة على حافة نومك
العربات النابحة خلف الأسوار
كأنما جئتَ إلى سفر قبل الولادة
تمضي وراء جناز كبير من الذكريات
بقميص ملوّث بدم المسافة
الجمال فقدت ذاكرتَها
وتاهت في الأزقة
السلالات الراحلة عبر الصحراء
غرقت بكاملها في الرمال
تمضي بخطوة وحيدة
تاركاً لكل مكانٍ جرحه الخاص
ولكل منارةٍ زنّاراً من الصرخات
وبجسد مضرّج بالرحيل
استوقفك القادمون من المياه البعيدة
لترى خطيئتك الهاربة”.
“مجموعة “مدية واحدة لا تكفي لذبح عصفور رأس المسافر””
فالثيمةُ الأساسية في هذه القصيدة، كما في قصائد أخرى كثيرة لسيف، هي الزمن.. الزمن بوصفه فضاءً وسيعاً لرغبة محاصرة، وتاريخاً سابقاً على التاريخ، وليس مجرد تسجيل لما مضى وانقضى، أو لما سيأتي من دون أن يحمل جديداً. فهو ماضٍ لأيام آتية وتجارب مجربة، ولكن الشاعر مقذوف نحوها، بطريقة قدرية، يمارس هوايته المفضلة في الهرب منها إلى الأمام، دون توقف كأنه “جاء إلى سفر قبل الولادة” ليمضي وراء “جنّاز كبير من الذكريات” ويسمع “نعيق السنوات”.
إن هذا التاريخ بعيد، ولكنه يلفّ الحاضر في قماطه وينثر عليه من غبار رماله الكثيف. ولذلك فإن مرايا تلك “المياه البعيدة” لا بد أن تكون “داكنة” فلا تنقل من ذلك التاريخ غير صور مضبّبة فقدت فيها الجمال ذاكرتها وغرقت السلالات الراحلة عبر الصحراء في الرمل.
أما المكان، فلا أثر فيه من آثار هذا الزمن اللعين غير “جرحه الخاص”. وهو عين الجرح الذي يحّول النداء المنبعث من المنارة إلى صرخة أو “صرخات” تلتف حول جسمها النحيل مثل “زنّار”. وإذ ذاك لا يجد الشاعر بداً من مواصلة الرحيل، حتى إذا أستوقفه “القادمون من المياه البعيدة” ليروه “خطيئته الهاربة” وهو ما يشير إلى أن هذا التاريخ الممحو في الواقع يبقى غائراً في الذاكرة مثل جرح نازف مهما كان نوعُ المكان الجديد الذي يؤمه المسافر في رحيله. فهو إذ يهرب إلى مكان آخر يكتشف. بعد لحظه أو لحظات، أن المكان الأول موجود فيه يحمله فوق ظهره كما تحمل الأم وليدها أو الطائر رائحة الدماء الطازجة للبيضة التي خرج منها. ولذلك لا يحتاج أولئك الأجداد القادمون من المياه البعيدة تذكيره بخطيئته الهاربة، حتى إذا اتخذ الفعل “استوقف” في سياق النص شكلاً معترضاً في مظهره اللغوي وصيغته الدالة على الزمان الماضي، خلافاً للجمل الاسمية السائدة في النص، والمثبتة لبنية الزمن الحاضر فيه.
والواقع أنه لا فرق زمنياً بين مجموع الأفعال الأربعة المضارعة “يحلّق، تمضي، تمضي، ترى” والأفعال الأربعة الماضية “جئت، تاهت، غرقت، استوقف” الموجودة في النص. إذ إن الفرق بينهما لا يتعدى الصيغة النحوية إلى تثبيت دلالة زمنية محددة بغير ذلك الإحساس الذي يشكل فيه الزمن داخل سياق النص كلّه حضوراً متواصلاً في تيار الوعي والكينونة التي تحاول لم شتاتها والحفاظ على هويتها الموزعة بين زمنين وعالمين مختلفين.
والأفعال المضارعة الأربعة هي أفعال موجودة في حاضر الماضي وليس في الحاضر الخارجي المعيش فقط، أي في الزمن الذي كان والذي سيكون من دون تغيير يذكر، شأنُها في ذلك شأن صيغة اسم الفعل الذي يتردد في النص بكثرة ظاهرة من دون أن يشير إلى زمن محدّد، عدا عن وظيفته الخاصة بتجديد حيوية الإيقاع في الجملة وتأكيده على سيادة بنية الزمن المضارع فيها. وصيغ اسم الفاعل في النص هي “اللاهثة، النابحة، الراحلة، تاركاً، القادمون، الهاربة”.
وانعدام الفرق بين زمني الفعلين الماضي والمضارع في النص، بهذا الشكل، يشير بذاته، إلى تاريخ راكد غير قابل للتغيير، ينتفي فيه الفرق في الصيغ النحوية الدالة على الزمن، ويتوحد على صعيد الدلالة العامة الحافة بتركيب الجملة. ولذلك نجد أن الفعلين الماضي والمضارع محكومان، حيث وجدا في النص، ببنية إخفاق تتبع متعلقاتها الفعل وتحاصره بطريقة لاشك فيها ولا برء منها.
فطير الرغبة “يحلق” خلف أفق مسدود؛ والشاعر أو الراوي النائب عنه قد “جاء” إلى سفر قبل الولادة. وهو “يمضي” وراء جنّاز كبير من الذكريات، “يمضي بخطوة وحيدة.. والجمال “فقدت” ذاكرتها و”تاهت” في الأزقة و”غرقت” بكاملها في الرمل. وحين “يُستوقف” الشاعر من قبل القادمين من المياه البعيدة فلكي “يرى” خطيئته الهاربة.
ولا يختلف في ذلك الفعل المسند إلى فاعل ضميرُه غائب عن الفعل المسند إلى ضمير المخاطب الدال على الشاعر نفسه من حيث ارتكاسهما في جوّ المحنة وتحليقهما في فضائها الوجودي الخانق. فتلك الصور البعيدة لا تكتفي بإغراق الذات في مياهها الداكنة، بل هي تطوق الوجود بظلال رمادية وتلوّنه بألوانها القاتمة، وتنفي أية مكانية للخروج من مأزق الذات المحاصرة.
ولئن كانت السمة الرئيسية للغة في قصيدة النثر التي يكتبها سيف الرحبي هي أنها لغة تفيض خارج حدودها الذاتية، فإنما لتؤكد الكينونة، وتؤكد من خلال ذلك على حضور اللغة نفسها على هامش فعل هذه الكينونة، وهي إذ ترسم وتصور وضعيات خارجية وداخلية تربط الكينونة بالتاريخ وبكثافة الأشياء من حولها، فإنها لغة تملأ قلب الكلمات الصامت بأسماء ودلالات جديدة وأصوات راقدة. وتجعل يقظة الشعور وتحسس الذات لذاتها بهذا الشكل أمراً ممكناً لتجربة ومغامرة ممكنة، وتجعله مختلفاً بعض الاختلاف عن الزمن الخطّي الذي يمثل تعقباً ميكانيكياً للأحداث، أو استرجاعاً له طابع تمثيل موحّد قائم على التسليم بوجود معرفة ثابتة في الشعر والموضوعات التي يدور حولها وينسج، من دون توقف، شبكته العتيقة حول أغراضها.
وإذا كان المكان نوعاً من التكثيف المرئي للزمن، فإن العودة إليه والتحاور معه تُصبح نوعاً من العودة إلى الزمن في أشكاله المتعينة وصوره المرتبطة بالذاكرة.
والفرق بين المكان الموجود في هذه القصيدة والقصيدة السابقة لها فرقٌ في النوع وليس في الدرجة فقط. فقد درج أغلب الشعراء العُمانيين على استخدام المكان بوصفه وعاءً أو إطاراً يجسد ارتباط الشاعر بفضاء جغرافي وتاريخي معيّن. وهو لا يعدو أحياناً أن يكون إشارة إلى اسم علم يخص قرية أو مدينة أو جبلاً، في حين أن المكان في القصيدة الجديدة يمكن أن يتحول إلى رمز وفضاء مختلف يقابل مكاناً آخر واقعياً، ولكنه غريب ووحشي، خصوصاً إذا كان خارج الوطن. وهذا المكان الأخير ذو الطبيعة الهندسية يستثير في ذاكرة الشاعر المكان الآخر.. مكان الحنين والذكريات الدفينة والأحاسيس المختلفة التي كوّنتها أسطورةُ مكان الطفولة ووحشيتُه وجماليتهُ الخارقة. وهذا هو الذي يجعله يتحول بسهولة إلى رمز ومصدر لإيحاءات كثيرة.
إنه مكان نفسي وأسطوري وسحري وليس مكاناً واقعياً فقط. وهو مصنوع من تناقضات تقع بين البحر والصحراء، الجبل والوادي، السماء والأرض وما بينهما من شعاب وقلاع وأفلاج وجمال وغيلان ومشاهد وتفصيلات أخرى لا حصر لها. ويندرج في سياق صورة أو صور شعرية تمثل إعادة إنتاج عقلية وعاطفية غابرة.
وهو، بهذا الشكل، لا ينطوي على مشاهد بصرية مجردة، وإنما على رؤية يمتزج فيها الحسي بالمجرد، المتخيل بالواقع، ويفرض على الشاعر نوعاً من اللغة الحركية المتوثبة والمتساءلة.. المتقدمة إلى أمام، أو المتراجعة إلى وراء، في مقابل لغة ثبوتية ذات طابع هندسي أو منقول عن تقاليد سابقة.
إن المكان في قصيدة سيف الرحبي يمثل حادثة ذهنية وعقدة نفسية ترتبط غالباً بمشاعر واحساسات بعيدة وتراث غائر وتمثيلات أثرية أكثر من كونه ارتباطاً حقيقياً يتجاوز مصادره باستمرار، رغم شعوره العميق بأن وجوده ووجود نصه قد تشكل ويتشكل انطلاقاً من ذلك المكان.فهو ينطوي عليه ويشحنه في حيزه الداخلي ويحيطه بمجموعة من التوترات والأحلام والكوابيس التي من شأنها أن تجعله شيئاً من أشيائه، يتوحد معه ويذوب فيه ليصبح علامة من علامات إثبات لكينونة ونفيها في الوقت نفسه. فهو يشعر بنوع من النفي الكوني الذي يجعل الحنين إلى المكان الأول نوعاً من التسامي الذي تصبح معه أمكنة العالم كلها مضطرباً لروح الشاعر وجسده وهدفاً لرحيله الدائم في الواقع والحلم. والكتابة، كما يقول الشاعر، كالحب “توسع شرنقة المكان، تغوص فيه لتستخرج أبعاده الخفية وتبتكر أبعادا أخرى أكثر جمالا.. تحول القبر إلى فضاء فسيح والحصار إلى جنة موعودة. هكذا بقدرة سحرية لا يعود الكائن هو الكائن ولا المكان هو المكان”.
وقد أوضح “غاستون باشلار” في دراسته لجماليات المكان كيف أن الخيال يُلغي موضوع الظاهرة المكانية بوصفها ظاهرة هندسية، ويحل مكانها ديناميته الخاصة المفارقة، وعندما يتحول هذا الخيال إلى شعر فهو يُلغي السببيّة ليحل محلها التسامي المحض. وهو تسام يمكن للجبل والبحر والصحراء المترامية بربعها الخالي أمام أنظار الشاعر منذ الأزل أن تستثيره وتحرّض عليه تماماً مثل القرية وبيت الطفولة والجامع الصغير الذي بناه والد الشاعر في القرية الجديدة التي انتقلت إليها الأسرة.
وإن يكن لتلك المظاهر الطبيعية المتناقضة والغريبة في تجاورها صفة الغيرية والأفق المفارق الذي يمكن أن يكتسب بسهولةٍ صفة البعد الكوني، أو “اللامكان” الذي نرى الشاعر يفتتح إحدى مجموعاته بمقولة “انتونين آرتو”: “ما أقسى شعور الإنسان بعدم شعوره بمكانٍ ما” ليشير إلى واحدة من المشكلات الكبرى التي واجهته في حياته ونصه.
وهذا “اللامكان” يرتسم، كما يقول سيف “كعلامة لوعي جيل ممزّق على المستوى الرمزي والواقعي، يلاحقني كقدر، سهماً يشق طرقاً متشعبة في الفضاء اللامتناهي، دائماً باتجاه الأعماق المفعمة بمصائر مرتجفة، إنه متاهتُنا التي بنينا في حدائقها مدننا وأحلامنا التي لا تفتأ تواصل مسيرة انكسارها الخاص”.
وهكذا، فهو مكان أو “لا مكان” ينفتح على اللانهاية ويدفع الشاعر الحالم المستوحد نحوها، قبل أن يعيده منها ذلك المكان الأليف الذي اعتاد أن يسكن فيه ويغلّف روحه بجدرانه مثل قوقعة بحرية. ولكن الفصل قد لا يبدو واضحاً دائماً بين المكانين. إذ إن جدل الخارج والداخل في البيئة والطبيعة العُمانية وغير العُمانية ينمو داخل قصيدة سيف في صورة نشاط مركب هدفه إظهار سعة العالم وعمقه من خلال نقطة أو نقاط ارتكاز معينة فيه.
ومن الطريف أن الشاعر الذي أدمن الرحيل والغربة عن وطنه يقول لنا إنه لا يألف غير الغرباء في كل بلد عاش به ورحل إليه.
“لا أجد أي اندفاع عندي تجاه قاطنيه الأصليين ومواطنيه، وإنما وبشكل تلقائي نحو مغتربيه ووافديه. شجرة الاغتراب الراسخة التي رضعنا حليبها باكراً”. وهكذا، فإذا سلّمنا بأن في الأسفار الشيء الكثير من السطحية وعدم القدرة على التلاؤم أو الغوص في أعماق الأمكنة الجديدة، فإن لها وظيفة أخرى مفارقة وهي تعميق التعرف إلى محيط الشاعر المسافر وعلى مرابع صباه الأولى البعيدة عنه. ومعنى ذلك أن الشاعر يهرب من الغربة إلى الغربة، وأن “عدم الغربة صار لديه هو الغربة”: ما يقول أبو حيّان التوحيدي في الإشارات الإلهية، وعلى العموم، يمكن القول إن الصورة الشعرية في قصيدة النثر التي يكتبها الرحبي تمتح من مصدرين رئيسيين:
الأول الصورة المستعادة من الذاكرة، والمكوّنة وفقاً لما يضفيه الزمن والمسافة المكانية البعيدة على عناصرها من ظلال خرافية أو غير واقعية. ولذلك فهي تظل نائية ومستحيلة على الرغم من قدرة المخيلة على استعادتها بسهولة ونثر تفاصيلها أمام عين الشاعر المندهشة في إطار لوحة مخططة شديدة التباين في ألوانها. وقد تلجأ مخيلة الشاعر أو يده الخفيّة إلى طمس معالمها وجعلها غير مؤكدة لما تضفيه عليها من ألوان رمادية وظلال قاتمة. فإذ يحاول الشاعر، عبر فعل التذكّر، استعادة طفولته الضائعة ومعاودة الحلم بها، فإنه إنما يحاول الولوج عميقاً في ذاته والتخلص من عبء تاريخه، أعني ذلك الذي صنعه له آخرون، ولم يكن دوره فيه يزيد على دور المتلقي السلبي المرتعب مما يرى ويشاهد.
ولنأخذ، مثالاً على ذلك، هذا النص الذي أشرنا إليه في ما سبق، وهو “بورتريه لسرور”:
“لن يعود اليوم حطّابوك ورعيانُكِ”
من الجبال
ولن يعود الغجر حاملين فوانيسهم
على امتداد الهضاب،
وكذلك صائد الوعول وعرّاف المياه
لن يعودوا إلى بيوتهم هذا المساء
فالسيول الكاسرة سدّت
منافذك الوحيدة
والبروق، بحيواناتها الجائعةِ تقصف الطرقات.
ولكن وخلف التلال القريبة، ألمحُ الفؤوس
تلمعُ في ليلك الكثيف
وأشتم بخور السَحَرة
هل أبحث عن نيران أخرى لحكمة الأجداد،
وأرحل إلى أسواق بيع “المغيّبين؟”
أم أرجع إلى مسجد الوادي
أحضر قربان الجمعة؟”.
فالحطّابون والرعيان العائدون من الجبال، والغجر الحاملون فوانيسهم على امتداد الهضاب، وصّياد الوعول، وعرّاف القرية الذي يستكشف مواقع المياه، هؤلاء جميعاً لم يعد لهم وجود. فهم محرومون من العودة إلى بيوتهم داخل النص. والأمر لا يقتصر على “هذا المساء” وإنما هم محرومون بشكل دائم، ما دامت “لن” النافية لحاضر الفعل ومستقبله تطوق الحشد وتسد الطريق الذي يمر فيه من بداية النص حتى السطر السادس، حيث تتكرّر أداة النفي هذه لتؤكد استحالة هذه العودة. وذلك لا يحدث فقط لأن السيول الكاسرة تسدّ منافذ القرية، أو لأن البروق بحيواناتها الجائعة تقصف الطرقات، وإنما لأن القرية نفسها لم تعد قائمة في زمن الشاعر الخاص. وهذه السيول الكاسرة والبروق التي تقصف الطرقات، تجري وتقصف في رأس الشاعر وليس في طرقات قريته التي ما زالت قائمة تعيش حياتها الاعتيادية كما عرفتها من زمن بعيد، ويستطيع المسافر بالسيارة بين ولايتي “صور” و”سمائل” أن يراها قابعة ببيوتها العتيقة ونخلها الكثيف في بطن ذلك الوادي المخيف والغريب في تكوينه الجغرافي. و”فؤوس” الفلاحين التي يراها الشاعر “تلمع” في ليل القرية، وبخور السحرة الذي ما زال قادراً على أن “يشتمه” دليل آخر على الوجود الواقعي للقرية. فنفْيُها أو تحويل صورتها في الذهن ليس كافياً لنفيها وتحويلها في الواقع. بل إن بإمكاننا أن نلحظ وجود فرق في النص بين أفعال لها نفس الصيغة النحوية والدلالة الزمنية العامة.
فبدءاً من السطر العاشر نجد أن الأفعال “ألمح” و”تلمع” و”أشتم” لها دلالة مختلفة بعض الاختلاف عن الأفعال المضارعة السابقة. إذ إن لهذه الأخيرة دلالة حضور في الحاضر وليس في الماضي، في حين تكتسب الأفعال “أبحث” و”أرحل” و “أرجع” و”أحضر” إمكانية الوقوع في المستقبل وليس في الحاضر أو الماضي. وهي أفعال مقيدة بشروط موجودة في سياق النص تجعل إمكانية تحققها صعبةً أو مستحيلة. والأسئلة الإنكارية التي ترد فيها لا تتطلب إجابات، لأنها “الإجابات” معروفة ومفهومة من السياق أيضاً. وعصا المخيلة الشعرية النشيطة، والمستندة إلى ثقافة العصر وعلومه قد أبطلت أفعال سحرة القرية ونسخت غوايتهم القديمة وأطفأت نيران حكمة الأجداد وجعلتهم عاجزين عن تقديم إغراءات جديدة تعيد الشاعر إلى قريته القديمة.. وهكذا، فحينما يُؤخذ الماضي في شبكة من القيم الإنسانية ويُنظر إلى بعض تفاصيله في إطار من المقايسة المنطقية، كما حصل في المقطع الأخير من هذا النص، فإنه يكف عن أن يكون منبعاً لجمال شعري خاص، وتفقد أسطورتُه ألقَها القديم، ولا يعود إلى الذاكرة لا بنفس الميّزات ولا بنفس قوة الإشعاع السابقة.
والماضي الذي جرت استعادتُه في هذا “البورتريه” المرسوم للقرية هو، باستثناء المقطع الأخير، غير ماضي العقل والإدراك. وإنما هو شكل مؤلّف من جدليات متباينة تعمل وتتفاعل جدليات صور ووقائع، تأملات وحقائق، ذكريات وأساطير، مشاريع وخرافات.. وغير ذلك مما يؤلف البطانة الداخلية الفاتنة لنص سيف الرحبي.
في حين أن المقطع الأخير من هذا النص يمثّل، خلافاً لذلك، صحوةً تؤسس لها معرفة الشاعر بالفوارق الموجودة بين زمنين، واحد قديم وغابر “أو أصبح قديماً وغابراً” وآخر حديث وراهن. وقد ذكر الشاعر مرةً أن مجتمعاتنا العربية خسرت “إضاءات بنيتها القديمة وتضامن قيمها وبساطتها من غير أن تربح معطيات حضارة جديدة. كان عليها أن تدفع الضريبة مضاعفة وبمثل هذه القسوة والتدمير الذي تسحق رحاه أوهام الجماعات بأكملها”.
وهو ما يحيلنا إلى المصدر الثاني من مصادر صناعة الصورة في نصوص سيف الرحبي.
والمصدر الثاني هو الصور أو المشاهد المكانية التي تُلتقط من الحاضر، وتدخل في تفاعل مع قضاياه ومعطياته الحضارية والفكرية الأكثر حضوراً وراهنية. فهذه الصور بَنت التجربة الحيّة والمشاهد العيانية التي تبقى على تماس مع نوع من التأملات العاملة في معنى الأشياء والكائنات والأفكار والمخترعات الموجودة داخل المدينة الحديثة، وما يولده وجودها المفارق في رأس الشاعر من غرابة ودهشة:
“أُغلق الباب وأنظر من ثقب
عاصفة
إلى الحشد البشري
وأعرف، بعد قليل ستنتقل المذبحة
بتفاصيلها
إلى قلبي”.
والشاعر يتخذ في هذا النص الصغير المهدى إلى “هنري باربوس” موقف هذا الأخير وهو يقف على الفراش في غرفته ليرقب من ثقب في الجدار الحياة الدائرة في غرفة مجاورة. ولئن كانت مغامرة “باربوس” الأولى هي أن يراقب امرأة كانت قد شغلت تلك الغرفة لتقضي فيها الليل، وكان يلتهب ويحتدم بينه وبين نفسه كلما رآها تتعرى، فإن سيف الرحبي يغلق بابه ليتأمل الحياة نفسها، ويرى بطريقته الخاصة الحشد البشري عارياً من المطامح والغايات.
فهو يواصل مسيرة العبث الإنساني والجهد الزائف المختوم بالموت. وهو يشبه، من هذه الناحية، ذلك الحشد البشري الآخر الذي رآه “ت. س. إليوت” في أعقاب الحرب العالمية الأولى يعبر جسر لندن من دون أن يدري بأن الموت قد طوى كل تلك الجموع.
وقد أصبحت هذه فكرة مركزية في نصوص سيف المتأخرة. كما هي الحال في هذا السطر الذي يرد في الجزء الأخير من نصّه الطويل “هذيان الجبال والسحرة” الذي يقدم للقارئ ما يُشبه السيرة الذاتية الروحية للشاعر:
''ها أنا ألمح الجسر الذي مشت عليه الملايين قبلي وتبخرت”.
علماً بأن “باربوس” نفسه كان يرى في المرحلة التالية من حياته بأن “الموت أهم الأفكار، إطلاقاً”. ولذلك فإن تجربة المشاهدة الأولى لم تعد تتمتّع في خيال “اللامنتهي” بنفس حيويتها السابقة.
وهو يقول لنا: “إنني وقد نفذتُ إلى قلب الإنسانية لم أجد شيئاً إنسانياً في هذا الكاريكاتور الصامت. لقد كان من السطحية بحيث إنه كان زائفاً. إنه إنسان مجرد من خارجيته. وذلك هو ما أريد أن أصوّره ؛ وبينما يميل البعض إلى الخيال أميل أنا إلى الحقيقة”.
وهي كلمات يستطيع الرحبي أن يضعها على لسانه من دون تغيير كبير يذكر، لاسيما في المرحلة أو المراحل الأخيرة من تجربته الشعرية والفكرية. فهو إذ يغلق الباب وينظر من ثقب “عاصفة” إلى ذلك الحشد البشري الزاحف نحو لا شيء، يعرف أنه يقول الحقيقة، وأنه ينظر من هذا الثقب إلى نفسه وليس إلى ذلك الحشد وحده، لأن المذبحة قادمة وستنتقل إلى قلبه بكل تفاصيلها. ورغم أن هذا الإحساس ليس جديداً على نصوص سيف الرحبي، فإن التركيز عليه وبلورته وبروز الفكرة فيه بهذا الوضوح في كثير من نصوصه المتأخرة، من شأنه أن يقلّل من الفاعلية الشعرية في هذه النصوص ويفقدها شيئاً من بداهتها وتأملاتها البسيطة وقابليتها المدهشة على مهاجمة أفق انتظار القارئ بكل ما هو جديد وغير متوقّع.
ومثل بطل “هنري باربوس” تبدو بصيرة الشاعر أو نظرته النافذة أقوى من أن يحتملها قوام قصيدة النثر. والمشكلة هي أن الشاعر حينما يتفلسف قليلاً، ويُلقي على نصوصه مزيداً من نور الوعي، يخاطر بأن يخرج هذه النصوص أو بعضها من حقل الشعرية، ويحيلها إلى نوع من النثر الشعري الذي يختلف بالتأكيد عن النماذج الجيدة لقصيدة النثر. وكما يقول الدكتور صلاح فضل يتعين على قصيدة النثر أن تكون وظيفتُها شعرية.
وهذا “يتطلب أن تكون بنيتُها اعتباطية أو مجانية، بمعنى أنها تعتمد على فكرة اللازمنية، بحيث لا تتطور نحو هدف، ولا تعرض سلسلة أفعال أو أفكار منتظمة، مهما استخدمت من وسائل سردية أو وصفية”.
إن هذا ليس قانوناً أو قاعدة ثابتة بطبيعة الحال سواء في قصيدة النثر أو في سواها من النصوص الشعرية، ولكن ما يدفع إلى التذكير به أن ثمة إحساساً لدى القارئ بأن الشاعر الذي أصبح بمرور الوقت أكثر وعياً بنفسه وبجوهر النص الذي يكتبه، قد صار يميل للإمساك بطرف الخيط الذي يشدّه إلى عالم النهار وتفاصيله اليومية، أكثر من ذلك الذي يشدّه إلى عالم الليل وما ينطوي عليه من أحلام وخيالات وكوابيس.
الخليج
2007-11-24