الصورة الشعرية في منفاها الطوعي. التقاطع الغامض بين السكينة والصمت. النزاع المستحكم بين الرؤية والمفردات. المشاهد التي تتوقف عند تخوم المعنى أو ضفافه المنتشرة حوله. أربعة تصورات مغرقة في الطبيعة النظرية للشعر في اربع مجموعات من بين كثيرات غيرها لاربعة شعراء يتجرأون على قطع المسافة الفاصلة بين ثرثرة اللغة والدخول الى متاهاتها المعقدة المفتوحة على مجاهل الذاكرة، وذاكرة المفردات وذاكرة الرؤية. أولاها بعنوان "خزائن الليل" للشاعر العراقي حسين علي يونس، عن "منشورات الجمل" في بيروت 2011. الثانية: "ماغ: سيرة المنافي" للشاعرة الفلسطينية ريم غنايم، عن منشورات الجمل في بيروت، 2011. الثالثة: "أرملة الفرح" للشاعرة فلسطينية الأصل، ايمان الطنجي عن "دار الغاوون" في بيروت، 2010. الرابعة: "مشاع الجسد"، للشاعر اللبناني رامي كنعان: عن "دار الانتشار العربي" في بيروت، 2011.
تشكل هذه النماذج الأربعة، بنصوصها المتباينة، مساحة لفضاءات في مجال التعبير تقترب أو تبتعد عن الغايات والأهداف التي وضعها أصحابها من أجل تحقيقها. وهي تنطوي، في الوقت عينه، على انشغال حقيقي بما تستبطنه اللغة من قدرات واحتمالات وإيحاءات تصبّ جميعاً في وعاء الشعر. وهي تشير أيضاً بوضوح، الى اعتناء خاص بطبيعة المفردة الواحدة وسائر المفردات في تكوين الصورة الأخرى للذاكرة والعالم والأشياء والحواس.
ولعلّ أبرز ما يلاحظ في هذا السياق، وأيضاً في سياقات أخرى لنماذج شعرية مغايرة، ان المفردة الواحدة باتت تعامل على أنها رؤية مصغرة أو ما يشبه ذلك. أو أنها باتت تعتبر في مصاف الرؤية الأولية التي لا مناص منها لتشكيل الرؤية الكبرى. والأهم في هذا الإطار، أنه بات ينظر اليها رؤية شعرية في حد ذاتها في حال جرى تسليط الأضواء الكاشفة على مضامينها الايحائية.. قد تغدو المفردة، في هذه المعادلة، هدفاً في حد ذاته في حال استخدمت بالشروط المطلوبة المثلى. ومع ذلك، ينبغي التساؤل عن حجم قدراتها التعبيرية، وما إذا كانت المفردة الواحدة تختزن في ذاكرتها القديمة شيئاً كثيراً من إيقاع لغوي واسع لا يفصح عن نفسه. وبالمثل، تستدعي هذه النماذج وسواها، وتحديداً ما يتعلق منها بقصيدة النثر نمطاً حقيقياً من هذه التساؤلات. أهمها على الأرجح، أن قصيدة النثر تعيد الاعتبار الى المفردة الرؤية بدلاً من الرؤية الرؤية.
الإثنتان تكمل احداهما الأخرى، وتستكمل احداهما نفسها بالأخرى. وفي هذا تفكيك للغة الى أجزائها الصغيرة، الى بداياتها الأولى.
[ خزائن الليل
قرابة المئة وخمسين نصاً. أغلبها قصير الحجم لا يتجاوز أحدها أسطراً قليلة. وبعضها الكثير لا يتعدى أحدها سطراً واحداً، وقد يمتد به الطول ليضم سطرين اثنين أو ثلاثة. يلجأ فيها حسين علي يونس الى ما يمكن اعتباره تقنية في التعبير تقوم على الايجاء المركب من دلالات شتى. ولعله في ما يذهب اليه، يتعمد ان يستجمع مشاهده في بؤرة من الصمت من خلف ثرثرة اللغة. من حيث يخفت الصخب الناتج عن الدهشة المباشرة للمعنى المتجسد في أشكال مختلفة. الصمت، في هذا السياق، هو أقرب الى طبيعة السكينة التي تتقاطر اليها عناصر الرؤية وهي في طريقها الى استكشاف الصورة في هيئاتها المتحولة. ليست السكينة في النصوص صمتاً يغلف الذاكرة بطبقة كثيفة من الإحجام عن الذهاب بالصورة الى أقدارها المتحولة. لا شيء من هذا القبيل على الأرجح. على النقيض من ذلك، ثمة ما يبعث على الاعتقاد بأن الصمت هو أحد مكونات هذه السكينة. تستخدمه ذريعة من أجل أن تلتقط الذاكرة أنفاسها. من أجل أن تتمكن الرؤية من النفاذ عميقاً إذا جاز التعبير، في ذاكرة المفردات المتأهبة للانتقال الى ذاكرة أخرى. السكينة، كما توحي النصوص، بشكل عام، هي الممر الالزامي الذي يستودعه الشاعر مفرداته وهي لا تزال في أشكالها الأولى قبل أن تستعد لارتداء اشكال أخرى. السكينة، في هذه الحال، هي الذاكرة عينها وقد رتبت أوراقها على نحو يتوافق مع محاولة الاقتراب من الصورة في ظلالها الافتراضية. الصمت هو البيئة التي تحتضن السكينة. وهذه الأخيرة هي الذاكرة التي تحيل الصمت أداة جيدة لفكفكة الدلالات تمهيداً لإعادة صوغها في سكينة أخرى. في صمت آخر.
ومع ذلك، لا يبدو أن ثمة بوناً بين الصمت والسكينة. الاثنان توأمان في كل من نصوص الكتاب، على الأرجح. الصمت يترقب السكينة لكي ينثر أجواءه الضبابية على مساحة النص. والسكينة تترقب الصمت بالمثل لكي تستدرج الذاكرة الى المشاهد المتحولة. الصمت والسكينة والذاكرة يتقاطع أحدهما مع الآخر ليصار الى الافساح في المجال أمام المفردات لتقرأ ذاكرتها في ذاكرة محتملة. هذه الأقانيم الثلاثة تشكل جميعاً وجهة انطلاق الصورة إلى ظلالها. إلى ذاكرتها التي لم تتكون بعد. لذلك، تبدو الدلالات التعبيرية في النصوص من نسيج هذه المعادلة. الذاكرة والصمت والسكينة هي المقدمات الأولى لظلال الصورة وهي على وشك أن تواجه مصيرها وحيدة في متاهة ظلالها المتوقعة. غالباً ما يقدم الشاعر على جعلها منفتحة أو مشرعة، قدر المستطاع، على ذاكرة لظلال مختلفة تطل من البعيد بالايحاء أكثر منه بالتصريح. من هنا، تتحول السكينة وسيلة ضرورية في النصوص للنأي بالمفردات عن ثرثراتها التي كانت ومن ثم الذهاب بها الى ذاكرتها التي ينبغي أن تكون عليها. على هذا الأساس من التصورات الأولية، تصبح الظلال، في حد ذاتها، قدراً محتوماً يتلبس النصوص ليصنع لها أقدارها المدهشة. ليصوغها على نحو من مشاهد تلتقط عناصرها مما تصطدم به العين. ثم يبثها الشاعر في فضاءات تنطوي على معادلة مستجدة من المعاني المتحولة.
قدر النصوص أن تقلع في هذا الاتجاه. قدر المفردات أن تستحوذ لنفسها على شيء كثير مما لم يكن جزءاً من نسيجها. أن تصبح على غير ما هي عليه في لعبة البحث الدائم عن وجود مدهش للغة خارج اللغة.
مختارات من حسين علي يونس
قرب النافذة يتكسر،
وكالبرق
يتبع أثر حطامه.
كنتُ أمضي،
وكان الماضي يطلق سراحك، ويأسرني.
حزمة من الضوء كنتِ،
وقد حملتكِ في دمي، يا ابنة النور.
يمدد أرجله
ويتثاءبُ،
سلالٌ من السحب
ترنو إليه.
مضى الزمنُ
وحياتي تدحرجت
وشتاءات وجهك المسافر
غطت أسرار الصمت.
طويلاً
حدقتُ في وجهك
ولم أعرفكِ
ولا أنتِ عرفتني.
في الظلمة
تركتُ حرارة يدي
توقد القناديل
التي نفد زيتها.
عندما يتبللُ الصمت
ويلقي نظرة أخيرة على الأصيل
ألمحُ وجهكِ
الذي يمر جميلاً وشاحباً
وتسوره غصون
من الحرائق.
خلف صراخ شمعةٍ
أرى
وداعاً
على كتفه يجثم الليلُ.
أبداً تشتعلُ
بعتمة أوراقها اليابسة.
في بئر العالم
سأل حزننا
الذي كان مجهداً
غاب في رحلة غامضة
[ ماغ: سيرة المنافي
يكاد عنوان هذه المجموعة المكونة من خمسين نصاً أن يشكل مدخلاً موضوعياً، اذا جاز التعبير، لقراءة الكتاب على نحو أكثر اقتراباً من مضمونه. سيرة المنافي تمثل، على الأرجح، توق الرؤية الشعرية الى أن تحسم قرارها في اتجاه الذهاب طواعية الى المنفى. الى العزلة. الى الوحدة التي لا يشاطرها إياها أمر آخر. ولعل المنفى في هذا السياق، هو الذهاب بالصورة الشعرية الى منفاها التلقائي الارادي في اقاصي المشهد لتمارس توارياً حقيقياً وقسرياً عن الأنظار. لتحكم على نفسها بالعزلة المطلقة بعيداً عما قد يكشف هذا الاختباء على أي تطفل من خارجه. العزلة القاسية هنا هي أمر يتعذر حصوله من دون استباحة خصوصية المفردات التي من شأنها أن تحيل المشهد ضرباً من الانكفاء المتشدد نحو الذات الضيقة والاغلاق عليها قدر المستطاع. الفضاء الذي يكتنف النصوص من أقصاها الى أدناها ينطوي على هذا الايحاء المكثف الذي يختطف الصورة من ذاتها الى ظلالها المهجورة في قاع الذاكرة.اختطاف لذاكرة الصورة من عزلتها القريبة الى نأيها الأبعد. الى حيث تقيم لنفسها عالماً من الوحشة، من الاسترسال المدهش للمضي في تنقية المفردات من "شوائبها" التي قد تبعث فيها احساساً بأن لها ماضياً حافلاً من التواصل والتقاطع مع بيئات مختلفة.
هل تؤدي هذه التصورات الأولية الى الاعتقاد بأن ريم غنايم تستهدف ذاكرتها بالدرجة الأولى وقبل أي شيء آخر، لتحملها على ارتياد دروب الذهاب وفي حوزتها بطاقة واحدة الى المنفى؟ الأغلب انها تسعى الى ذلك بشكل أو بآخر. تستخدم، في هذه المنحى، ما قد يشير الى صعوبة نفي الرؤية من دون نفي الذاكرة. الرؤية، في هذا الاطار، هي الذاكرة عينها وهي تتلون بسلسلة من التحولات المتعاقبة. الرؤية ابطال لعمل الذاكرة.اما ان تقدم الرؤية على التخلص من ثقل الذاكرة ومفاعيلها وتداعياتها، وإما أن تقدم الذاكرة على التخلص من الرؤية وإفراغها من التوثب الكامن فيها لتغيير مضمون العالم وشكله ومشاهده. ولعل الرؤية في نصوص الكتاب، تلافياً لهذه الاشكالية المعقدة، تتجرأ على ارسال الذاكرة الى منافيها البعيدة. كلما انتفت الذاكرة، في هذه المعادلة، انتعشت الرؤية. وكلما استبعدت الذاكرة وأحكم اغلاقها في عزلتها، خطت الرؤية خطوات اضافية الى منفاها المستهدف. شيء كثير من هذه التصورات تعيد صوغها غنايم لتقتنص لنصوصها نصيباً واسعاً من الاقامة في العزلة المنشودة. كل من النصوص يشكل، في حد ذاته، انغماساً أعمق في تسوية هذه الاشكالية بين الرؤية والذاكرة.
من هنا، الأسلوب التجريبي الذي تتوسله الشاعرة وسيلة الى نسج خيوط منافيها من ظلال المفردات وهي تتملص شيئاً فشيئاً من ذاكرتها القديمة. وأيضاً من مشروعها القديم، ومن هيئتها القديمة وتاريخها القديم، على حد سواء. المنفى في النصوص هو محاولة جادة للقطع مع الذاكرة المألوفة، مع المفردات المتداولة، مع النظرة المسبقة الى العالم. المنفى، في هذا المجال هو البداية لذاكرة جديدة. ومع ذلك فهو بداية أيضاً للانتقال الى منفى أبعد.
و... ريم غنايم
كبرياءُ الأبيض
برهان صوتٍ صاخبٍ.
الآن. في فضح الرؤيا
كلّ شيءٍ صارَ اشتهاء
النوايا
والبغايا
وشتاء الصّبية
ومجونُ الزمن
ومخاض اللؤلؤ
معركة
بين الذات والذات
مبشورة من قاعها
يرتع الصفر في عنقها.
يتدلى النوم عارياً
يراقب أسيرات فجوره
كم أخشى!
عليهن
من مفارقاته...
وأنا
حبة رملٍ
على ظهر أتان
كل جنون فاسد
دمٌ يواري فراغ الذبيحة
كل جنون فاسد
فرخ ظليم يتلمس الفراغ
كائنان ميتافيزيقيان
يفركان الفجر
يلتصقان بالبرد
ينفقان وقتاً في الامل
يقتسمان الكنى
والجمل الرطبة
يغرسان طفلة في رحم التيهاء
يثقان في الغبار
يبصقان على شرف الالوان
ويكفنان وجعاً مستقلاً بذاته.
وحدها! مغفرة الألم ستبيح لهما الجنة يوماً.
أيتها الأمل الذي يصيبني في عيني كهزيمة اللؤلؤ
مبارك كل إثم غلل فيك
وكل غيظ مكظوم فيك
وكل عبء كسيف
كزجاج مندفع بطيشه
جهة موته
بوركت يا ماغ
على
أقدارك المرسومة عنوة
آخر النشء
تحولات.
حقيقة يملؤها التراب
ورهان منذور للخسارات
[ أرملة الفرح
نصوص متعددة تنحو صاحبتها منحى متميزاً للإفراج عن مكنونات رؤيتها الشعرية من خلال جعلها منكشفة على معان لا يبدو ان الوصول اليها أمر تلقائي. ومع ذلك، تجتهد ايمان الطنجي، من نص الى آخر، في ان تستشرف لمشاهدها الشعرية ابعاداً تتخطى، في طبيعة ما ترمي اليه، الحدث والواقعة والذكرى وسواها، الى دلالاتها الكامنة في الرؤية والتجربة والاستنباط. يغلب على نصوص الكتاب جميعاً على الارجح، انماط من المفردات والصيغ التعبيرية التي يبدو انها تضيق ذرعاً بقدراتها على اعادة تشكيل كل شيء تقريباً. يلاحظ ذلك من خلال اقدام الطنجي على استخدام هذه المفردة او تلك على نحو من عدم الاكتفاء بها. وكأنها ترغب في الاستغناء عنها، على الفور، واستبدالها بأخرى على الفور ايضاً. وهي توحي بذلك ان رؤيتها الى العالم غالباً ما تسرع الخطى فتسبقها. ولعل من تداعيات ذلك، انها تقارب المعنى عينه او الفكرة عينها مرات متتاليات في النص الواحد، وفي ظنها ان هذه المحاولة كفيلة بالكشف عن المعنى المستور قبل ان يتحول صورة ذات كيان افتراضي في فضاء النص. او انها تقصد جراء ذلك ان تستمهل رؤيتها قليلاً او كثيراً لتتمكن من اللحاق بها. وفي كلتا الحالين انحياز واضح الى المشهد في دلالاته البعيدة. وانسياق في الوقت عينه الى الدلالات الغامضة التي لا تأتي الى النص بسهولة. وقد لا تأتي الا في نص آخر او ثالث او رابع وقد لا تأتي على الاطلاق.
وقد تغدو هذه المسألة من النسيج العميق للمشهد الشعري في تقلباته، وايضاً في انكساراته او تراجعاته تمهيداً لاعادة الكرة من جديد. يظهر ذلك في نصوص ايمان الطنجي بشكل واضح على الاغلب. وقد يطغى ايضاً على الاسلوب الذي تلجأ اليه وهي تبحث للصورة عن صورة اخرى وللمعنى عن معنى جديد. لا يبدو ان هناك ما يحول دون ذلك في وقت يتملك الشاعرة احساس حاد ومزاج عنيف بأنها تواجه في النص نزاعاً حقيقياً مع المشهد وهو يتبدل من حال الى حال.
ولربما يعبر ذلك عن الحافز القوي والملح الذي يدفع الشاعرة الى قراءة الصورة من جوانبها كافة مرات عدة قبل ان تستقر على هذا المشهد او ذاك. ومع ذلك، لا شيء يشير في النصوص الى قابلية لديها من اي نوع كانت لتقتنع بهذه الصورة او بذاك المشهد. من هنا، القلق الذي يلف النصوص ويهيمن على فضائها في آن. قلق مبرر، في الغالب، مرده الى الشعر نفسه قبل اي شيء آخر. وهو ان الصورة اثناء تكونها في هندسة النص الداخلية تكون على قاب قوسين او ادنى من ان تتنكر لذاتها. تريد ان تحتل حيزا اوسع في صورة اوسع. الشاعرة مأخوذة في النصوص بكليتها بهذه المعادلة. على قاعدة ان لا خلاص من الشعر الا بالشعر.
و... إيمان الطنجي
من نقطة لا تبدي سوءتها
ممسوسة هي الاشلاء
بلعنة الآتي..
الآتي
شرخ يتطاول
نزعة حصن همجية
تتسلق سلم الارواح الملبدة بالطين
خوذة تلبس رأس الحلكة
حتام نظل نقبع خلف الجدار
والآرائك تعرض عن نوايانا؟
لن يغفروا للذئب هذا العواء
ينامون في كنف الرؤى
بضع هزائم
ليقتنصوا للذنب شاة بكراً.
جبلت على ثؤابات المنى
خاطت فمها
باعت نهدها للضجر
استرخي
خلف الغمام
وحدي وجهتك
مع طائرة سافرة
عرّت بطنها للأرض
سافري ناسية وجهك
في الفجر المخضّل
اقفزي فوق سياج حنينك
دون ان يرتطم ظلك بالهشيم
عرّشي همومك
على سقف مدينتك المكتظة بالغرق
كم والت للجفاف نواياها
بحثاً عن جنادل تطمئن الى صدرها
فهوت في مأزق النهايات
تختبئ في جسدي روح قصيدة
تزمّلني من برد المسافات
البست قلبي جميع الطرقات
ما زلت اتعثر بالبعد
وانا اخطو صوب دفئك
كنت الملم تفاصيلك المسجّاة على اعناقها
فوق الارصفة العرجاء
كان الطريق يتمايل
وحكاياتنا تتشجر في الحنايا
تورق في دمي
اشعل الحلم سراجاً.
كيف نلبس الريح
ثوب سلحفاة
نكفن الليل بالغيم
نسرج العتمة للضياء
نزيح اللثام
عن وجه الغضب
نصرخ
في وجه نعامة
تدفن رأسها
في عقر قلوبنا
نتكئ..
على جرح النهر
وهو راكض نحو الفرح
آفة
كسرب نهم
يلتهم الحروف
الفواصل شرود
والتشكيل بغاء.
ها هو الفتور الاعظم
يداهم خيبتي
يقرض الخيالات
يتركها خاوية على عروشها
الا من جسدي المكتظ بحبره.
يرحل في الافق
تاركاً ثرثرته على عضدي
والكلمات تجف
تتساقط
جفافاً جفافاً...
على صفحات بور.
[ مشاع الجسد
ثلاثون نصاً تقريباً، بعضها اكثر طولاً من بعضها الآخر. يستقطبها جميعاً فضاء متماثل في محاولة لايصال الرؤية الشعرية الى مديات ابعد نفاذاً في دلالات المعنى. كل من نصوص الكتاب يشكل، في حد ذاته، شيئاً كثيراً من هذا القبيل. يسعى رامي كنعان جراء ذلك الى الذهاب بمفرداته الى حيث تتمكن من الصمود في متاهات الصور المتحولة. ولعل المقصود بذلك ان يختبر الطاقة الايحائية لمفرداته وهي تنحو هذا المنحى. لا يخلو نص من هذا الاقبال المحموم على الدفع بالمفردات الى حيث تثبت قدرتها على البقاء والاستمرار والتطور. او الانكفاء عن خوض هذه التجربة الصعبة. والاغلب، في هذا السياق، انه لا يتردد في اختيار المشاهد التي من شأنها ان تضع مفرداته على المحك. تتوافر هذه الملاحظة في السياق العام للنصوص وان كانت تتفاوت بين احدها والآخر. بدليل انها تبرز واضحة في نص معين وأقل وضوحاً في نص آخر. ثم تعود الى الواجهة مشحونة بطاقة قوية من الايحاء في نص ثالث. وهكذا دواليك.
يتعمد كنعان، على الارجح، استدراج المعاني التي لا تنطوي، في طبيعتها، على الحاجة الملحة الى ان يكون للصورة الواحدة اكثر من ظل واحد. غالباً ما يلاحظ انه ينأى بنصوصه عن الظلال المركبة او المتناثرة التي يؤول بعضها الى بعضها الآخر. يفضل في هذا الاطار ان يوجه مفرداته نحو البحث عن ظل واحد هو الاقرب الى المعنى او انه اكثر التصاقاً به. وفي هذا اصرار وحذر في آن. اصرار على اطلاق المعنى في مساحة اوسع من الرؤية. وحذر من الا تكون المفردات معبأة بما يكفي من الايحاء يمكنها من الانتقال من معنى الى آخر. وفي هذا ايضاً. يقدم كنعان على موازنة رؤيته الشعرية جيداً قبل ان يقرر مسار الخطوات اللاحقة. ولعله يتطلع، في ذلك، الى ان يظهر دراية حقيقية ومدروسة في الكيفية التي يعالج من خلالها النصوص. والمهم، في هذا المجال، انه لا يأخذ مفرداته الى حيث لا تبلغ الرؤية. حتى لا تنهار الرؤية ولا تنهار المفردات. ثمة تناغم ملحوظ بين الرؤية والمفردات. بين المعنى وظله. بين الرؤية وظلها. تبدو هذه التصورات وسيلة مفترضة لقراءة النصوص في خلفياتها وابعادها. وايضاً في ما تنفتح عليه من ايحاءات تنكشف بدورها على منظومة اخرى من الايحاءات. تبدو هذه من الميزات التي تحيل النصوص كتلة متدفقة على طريق اكتشاف ذاتها في اللغة والرؤية والمفردة.
و.. رامي كنعان
غداً أعود مارداً من ورق
اشعلي سيكارتك
ارمي بقاياها
هناك يطيب البقاء لي
كتلة من رماد تعانق الأرض!
"أكل الولد التفاحة"
وما انتهى منذ مدى!
كان طفلاً،
سرقها،
لم تكن البساتين له،
بل كانت،
زرعها في كل ذاكرة
ولوح
تفاح السوق غال
ما عادت البساتين له
ما كانت
ولن...
الصف بستان الاماني
في درس الجملة الفعلية
كتب شقي بالطبشور الابيض:
سأسرق تفاحة!
وخيّم الضحك على الوجوه
- لم الأصدقاء؟
- لكي يستمر البقاء
خياراً بلا دم
شاهداً في ظلال العدم المخيم
على المقابر الماشية!
أمس كتبت لك،
عند ضفاف كأس،
عيناك كم من لقاء بها...
بعد ارتحالك،
اوقدت ساعة ورد،
لست التفاحة التي ترسمين،
لانني ما زلت خارج جنتي!
حين يزور الخريف الغابات،
لا تموت الاوراق جميعاً.
حين تتساقط الاوراق،
لا تفنى جميعاً.
تبقى ذكريات
لاوراق لمسناها معاً،
رأيناها معاًُ
ولأخرى احببتها أنتِ!
المستقبل
الاحد 7 آب 2011