و..المفردة تلتزم الصمت أيضاً. تقفل المنافذ والطرق والدروب المؤدية الى ذاكرتها. تصبح عاطلة عن العمل. تتحول قدراً أخرس. يتخلخل النص. يفقد تماساً مرتقباً بالرؤية المتحركة. تتقهقر دلالات المعنى الى حدها الأدنى. تنكشف على عقم في داخلها. تغدو المفردات، في هذا السياق المنكفئ على متاهة الفراغ، عبئاً ثقيلاً على ذاتها. على أجسادها الهشة. على ذاكرتها المنسلخة عنها.
لعل شوقي بزيع في مجموعته الشعرية الأحدث "مدن الآخرين"، الصادرة عن "دار الآداب" في بيروت، يصطدم بهذه التصورات وجهاً لوجه من دون أن تخلّف فيه، على الأرجح، شيئاً كثيراً من تلك المماحكات التي يستخدمها الشعر على سبيل الضلالة والتضليل.
لا يبدو أنه في النصوص الأربعة عشر التي ينطوي عليها كتابه، يقارب هذه التصورات من خارج الفضاء الشعري. كأن يقدم، على سبيل المثال، على ردها الى بوتقتها النظرية ليسهل عليه تجنب ما قد يثيره من تداعيات معقدة هو في غنى عنها. والأغلب أنه يفتح ملفها الصاخب والغامض أيضاً من منطلق ما يفترضه الشعر من تجربة خطيرة لكن حية بمقاييس المعنى ودلالاته وانكساراته كذلك. توحي النصوص بشيء كثير من هذا القبيل. خصوصاً على مستوى المفردة التي لا ينبغي لها أن تُصاب بالارهاق أو التعثر حتى لا تستولي اعتباطاً على حيز قليل أو كثير من المشهد الشعري فتصادره ثم تلقي به في دوامة الصمت المغلق على الصمت. وأيضاً على مستوى التحفز الذي تستقوي به الرؤية الشعرية وهي تنتقل من لحظة الى أخرى أكثر تألقاً وهي تعيد اختراع العالم من جديد. وايضاً على مستوى تمكين المفردة من العثور على احتمالاتها المختلفة وفقاً لاحتمالات المشهد في الذاكرة.
قد تغدو هذه المسائل المشار إليها جزءاً حقيقياً وعميقاً من بنية المشاهد الشعرية في نصوص المجموعة. والأرجح أنه، وفقاً لهذا التصور بالتحديد، تتحول ممراً، بشكل أو بآخر، لقراءة أكثر موضوعية للدلالات التي يتسرب من خلالها المعنى الى الفضاء الشعري. ومع ذلك، لا يخلو هذا التصور من الانكشاف على احتمالات أخرى من النسيج المتحول عينه استجابةً لنمط من الصور تتميز بطبيعتها بشيء كثير أو قليل من ذاكرة متحولة ايضاً. كلما تعددت الاحتمالات الآيلة الى تبصّر مغاير للتكوين الشعري في النصوص، انفتحت هذه الأخيرة على منظومة أوسع من تتبع أثر المفردة في المشهد العام.
ومن جهة أخرى، يتبين على نحو افتراضي إذا جاز التعبير، ما إذا كانت الصورة ودلالاتها منكمشة على اللحظة التي تولد فيها. أو أن لها امتدادات حيوية تمكّنها من الانتقال التلقائي الى أمكنة وأزمنة مغايرة تتجاوز اللحظة العابرة الى سياق من الصيرورة التي لا تتوقف عند حد معين. ولعل شوقي بزيع، كما يلاحظ في نصوص الكتاب، منشغل بكليته بهذا "الهاجس" باعتبار أنه يبدي تيقظاً لافتاً ليتدخل ساعة يشاء في المحطات التي تعبر الصورة من احداها الى أخرى على دروبها السريعة أو البطيئة.
والأغلب، في هذا الإطار، أنه يظهر استعداداً يبدو مبالغاً فيه، مع أنه ليس كذلك، في ان يستوقف المشهد أثناء تعاقبه من صورة الى أخرى، من أجل ان يستكشف فيه نقاط الضعف ونقاط القوة. ينحو هذا المنحى في سائر النصوص من دون استثناء، يسترسل باطمئنان الى دلالاته وهي تلتقطه من دهشة لتلقيه في آتون دهشة أخرى.
غير أنه يبدو أكثر اطمئناناً وهو يقحم وعيه في خضم هذه العملية على نحو من التشكك في اختيار هذه المفردة أو تلك، أو الانصياع لهذه المفردة أو تلك للشروع في الانتقال الى هذه الدلالات أو تلك، وما إذا كانت تصلح فعلاً لاستخدامها في العبور الأصعب الى الظلال. هناك في تلك المنطقة المظلمة في الذاكرة تتخفّف الصورة من أحمالها الزائدة لتصبح من النسيج المتجدد للعالم والكون، لتمتلك قدرات ذاتية مذهلة على أن تتقمص كل المفردات. كل المشاهد. كل الصور التي فاتتها وهي تتشبث بشكل واحد. بهيئة واحدة.
الصورة قصيرة الأمد
هل يتطرق شوقي بزيع الى نمط من هذه التحولات التي لا تداهم الفضاء الشعري من خارجه، بل من داخله العميق المتجذر في مكونات الدلالة الشعري. الأرجح نعم، وعلى نطاق واسع أيضاً. ولعل أكثر ما يستحوذ على اهتمامه، وهو يقحم وعيه في هذه العملية المعقدة، تعزيز صورته الشعرية بالأدوات المناسبة، على مستوى المفردة والرؤية، من أجل تمكينها من التمرد على لحظتها الآنية تمهيداً لانسلاخها عنها وفك ارتباطها بها وصولاً الى انتقالها تلقائياً الى أزمانها المحتملة في ذاكرة مفرداتها. ومع ذلك، لا يبدو أنه يرجح هذا الخيار على مثيله الأول. بدليل أن ما توحي به المشاهد المتكاثرة في النصوص تشير، بشكل أو بآخر، الى رغبة في الإبقاء على الصورة في بوتقتها الزمنية قصيرة الأمد. مزاج خاص يحمله على أن يتعقب صوره في هذا السياق الزمني القصير. هل يعني ذلك ان الصورة في إطار من هذه الدلالة، على وجه التحديد، قد استنفدت قدراتها الداخلية والذاتية ايضاً للمضي باحتمالاتها الى زمن آخر، الى مكونات مختلفة كامنة فيها وتترقب اللحظة المناسبة للتململ استعداداً للمغادرة الى حالة أخرى على طريق الظلال الصعبة؟. ليس الأمر كذلك على الأرجح، وان بدا للوهلة الأولى، ان المشهد على وشك ان يصطدم بالجدار المغلق للمفردة، وان الصورة قد باتت تفتقر الى ديناميات جديدة من أجل ان تعيد استيلاد نفسها بنفسها. أو أن الشاعر لا يعوّل كثيراً على هذه المسألة. أو أنها لا تشكل لديه أهمية مطلقة في إرساء الفضاء الشعري لنصوصه الأربعة عشر. وأنه يميل بدلاً من ذلك الى مكونات المشهد وفقاً لنزعة ذاتية في مقاربة سيناريوهاته على مستوى المفردة والرؤية ودورهما في اختراع المعنى ودلالاته.
رياح التساؤلات
ولعل الأمر كذلك في الكيفية التي يستدرج بها مفرداته والايحاءات المنبعثة منها في النصوص. ولا جدال على الأغلب، في ما يتعلق بالأسلوب الذي يستقر عليه من أجل أن يعيد انتاج العالم والكون والأشياء في أشكال من المفردات التي تمتلئ بهذا التوجه الخاص به.
ملاحظات أولية فقط تثيرها العملية الشعرية في هذه النصوص وفي سواها على نحو مماثل. يبدو المشهد الشعري، في هذا السياق الغامض، منفتحاً على نفسه، على تلك الاحتمالات المنتشرة بكثافة في المتاهة الشعرية، بشكل خاص. ما أن يخرج النص من كنف صاحبه حتى يصبح عرضة لرياح التساؤلات المفترضة منها والحقيقية. والأهم أنه يصبح برسم الرؤية التي تتكون في أحشائه أكثر من أي شيء آخر. هذه طبيعة الشعر بالدرجة الأولى. صورة يتعذر عليها أن تنغلق على ذاتها.
ويتعذر عليها كذلك ألا تنكشف على العالم في تحولاته المختزنة في ذاكرته الكونية. على هذا الأساس الاحتمالي، إذا جاز التعبير، قد تجدر الملاحظة بأن شوقي بزيع يدرك، على الأرجح، المآل الذي قد تفضي إليه المفردة عندما تستهلك بالكامل طاقتها الحيوية على الإيحاء، من جهة، وقدرتها على الانتقال بالرؤية الى بعض ظلالها من جهة ثانية. وهو يدرك أيضاً أن لا مأزق أو ما يدعو الى ذلك في هذا الجانب المحدّد من العملية الشعرية. لذلك يعمد، على الفور، الى تعويض الآنية الزمنية التي قد تحدّ من توثب صوره الى ما يتجاوزها في مضمون الرؤية، الى صور مماثلة من جنسها. يرسي معادلة هي من نسيج فضائه الإيحائي، مؤداها استلحاق الصورة بأخرى تعقبها مباشرة. تنقذ الصورة الثانية نظيرتها الأولى من التلاشي بعد أن أخذت مفرداتها تصطدم بذاتها بدل أن تبحث عن أجسام أخرى تصطدم بها خارج بوتقتها الضئيلة. حتى ولو اضطر أحياناً، بدافع هذا الهاجس، الى الاستعانة بمفردات ذات قيمة وصفية فقط، وذلك من أجل أن تدب الحركة فيها قبل أن تصاب بالخمول فتسقط في منتصف الطريق. بناء عليه، يتحول المشهد في هذه النصوص سلسلة من الصور الآنية. كل منها ينقذ ما قبلها من الاصطدام بالجدار المغلق للمفردة. تقنية يستأنس إليها الشاعر ويرى فيها، في الوقت عينه، مبرراً موضوعياً ليضفي على النص مشروعية من التحوّلات في المعنى ودلالاته التي تفترضها بالضرورة السيناريوهات الشعرية. ولكن هل تنال المفردات الوصفية من حيوية المشهد؟ الأرجح نعم لو اكتفى الشاعر بها أو خيّل إليه أن الوصف مرادف أحياناً للمعنى المتحوّل. وهذه من الضلالات التي يبثّها الشعر في ذاكرة صاحبه لينحرف به عن الكشف عن احتمالات الصورة الى البقاء في دائرتها الضيّقة. غالباً ما يلجأ بزيع الى الاستعانة بالوصف في حالات كهذه ثم يتجاوزها ثم يعود إليها ثم يتفلّت منها. كم يبدو العالم مدهشاً في الشعر. كم يبدو مستحيلاً أحياناً أخرى!!.
مختارات من الكتاب
من المجموعة نقتبس:
التماثيل
لو أنك ناديتها
ربما كنت أحييتها
ربما كان يمكن
أن تستردّ التماثيل من عهدة الموت،
إذ
لا حياة لمن لا تنادي!
دكّان
من دكّان الريح
اشترت المرأة بضع نسيمات
لتهبّ،
وقد أنهكها الحب،
على مخدعها الخاوي
واشترت الغيمة قبل تبدّدها
تذكار وداع،
واشترت النشوة أعلاماً
لترفرف فوق رؤوس المنتصرين،
الأغصان حفيفاً لتشابُكها،
والموجة في عرض البحر
عواصف هوجاء
لئلا تسقط هامدة
قبل بلوغ الشاطئ،
والقمح الأخضر قنطار هواء
ليربّت فوق ظهور سنابله الكسلى،
والماء الراكد في الغدران
ابتاع، لئلا يغدره الصيف، نسيماً
ليجعّد غُرّته
واشترت الأيام وقد غربت
شرفاتٍ شاهقة الحسرات
لتزجية الأحزان
لكن الدكّان
لم ينقص أبداً
مدن الآخرين
حجاباً حجاباً
تُميط القصيدة عن أعين الشعراء
اللثام
وترقب يائسة
عجزهم عن مجاراتها
ومن فرط إمعانها في التخفّي
تؤرجح قرّاءها
مثلما يفعل الهلواناتُ فوق
حبال الخداع،
ولكنها وهي تمخر ليل المعاني
التي لا سبيل الى فك
ألغازها أبداً
لا تؤاخي على طرقات الخلود
سوى نفسها
غير آبهة
بمصائر كتّابها الراحلين
زقاقاً زقاقاً
نقلّب أرض المدينة،
أو نستقلّ صباحاتها
وهي تنهض مثل الدمى
فوق ساقين من معدن ودخان
لندفع من خلفها عجلات الكلام
هنا تستطيل بلا هدف
ناطحات لمنع السحاب
من الاقتراب،
أو الارتياب بما يجعل الناس
أحصنة للرهان
على حلبات تراوغ سكَّانها كالثعالب
إذ تتدافع أصواتهم بالمناكب
وسط الزحام
زقاقاً زقاقاً
نطوّف في مدن
لا تُدافع أبراجها الخلبيّة
عما أصبناه من ثَمَل بارتفاعاتها
لا يفسّر،
في مدن لا تصادق أسماءنا.