في خصائص تجربة محمد بنيس

عبد الواحد لؤلؤة

لا أحسب أننا، في المنظور القريب، سوف نتوصل إلى تعريف الشعر بصيغة ترضينا، أو ترضي الغالبية ممن يعنيهم الشعر. نقرأ في تراثنا أن «الشعر كلام موزون مقفّى يفيد معنى؛ فإن لم يفِد معنى فهو ليس بشعر، وإن جاء بوزن وقافية». لكن جلجامش وهي أقدم ملحمة شعرية عرفتها البشرية قبل حوالي ستة آلاف عام لم تشغل الباحثين بما فيها من وزن وقافية، إن كان فيها ذلك، قدر ما شغلهم ما فيها من «معنى» وصور بلاغية في التشبيه، وتأملات في الحياة والموت، وصورة العالم وغير ذلك كثير.

وفي فجر الحضارة الإغريقية كان الشاعر الضرير (هوميروس) ينشد شعراً فيه إيقاع الوزن دون القافية، لكنه شعر يحفل بالمعنى والحكمة وجمال الوصف وبقصص من تاريخ الإغريق وشؤون ديانتها. وشكل القصيدة وطبيعتها في التراث العربي معروف من حيث شرطَي الوزن والقافية، وهو ما درج عليه شعراء العربية حتى ظهور الموشح والزجل في الأندلس، حيث بقي كل من الوزن والقافية، لكن تطورّاً كبيراً حصل في شكلهما دون جوهرهما. غير أن هزّة عنيفة أصابت الشعر العربي في أواسط القرن العشرين، حيث بدأ التأكيد على إيقاع التفعيلة التي تحدد الصورةُ أو الفكرةُ عددَها في «السطر» من القصيدة، وتَراجَعَ تواتر القافية من حيث «العدد»، مستمدة أهميتها، ربما، من رأي (وردزورث) كبير شعراء الرومانسية الإنجليز بأن القافية «زينة مضافة» إلى القصيدة.

ولأن القافية كانت دخيلة على الشعر الأوروبي، لا نجد اهتماماً أصيلاً بها عند كبار الشعراء الإنجليز. مثلاً، ( جون ملتن) (1608-1674) نظم الفردوس المفقود والفردوس المستعاد بوزن دون قافية. كذلك فعل سلفه ( شكسبير) (1546-1616) في مسرحياته، ولو أنه حافظ على القافية في الغنائيات وقصائده الأخرى. أما دكتور (صموئيل جونسون) (1709-1784) 'دكتاتور' الذوق الأدبي في اللغة والشعر في الأدب الإنجليزي فإنه يسخر من 'الشعر' الذي يحفل بالوزن والقافية دون المعنى، فيقترب بذلك من موقف تراثنا العربي في تعريف الشعر. يذكر لنا (جونسون) بيتين من 'الشعر' بوزن وقافية ومعنى تافه، أعرضهما نظماً سمجاً يحاكي الأصل:

دَلِفتُ إلى شارع الشاطئ
أسير، على هامتي قبعَهْ
هناك رأيتُ فتى سائراً
ويمسك في يده قبعهْ
ألا يشبه هذا قول 'أحدهم'
كأننا، والماء من حولنا،
قومٌ جُلوسٌ حولهم ماءُ

وفي عام 1911 قدّم الشاعر/ الناقد الإنجليزي (أ. ئي .هاوسمن) (1859-1936) محاضرة الموسم في جامعة كمبردج بعنوان «الشعر إسماً وطبيعة» قال فيها «أنا لا أعرف الشعر أكثر مما يعرف كلبُ الصيد الجرَذ. كلانا يعرف الشيء حين يراه».

ويبدو أن الشعراء العرب كانوا أقل اهتماماً بتعريف الشعر من 'النقّاد'، على قلّة عددهم في التراث العربي. ثمة تعريف 'سلبي' للشعر أورده الراجز القديم: «الشعر صعبٌ وطويل سلَمُه»... يخبرنا بما هو «ليس بشعر» دون أن يقول ما هو الشعر. وأجمل من ذلك 'مانِفيستو' الشعر الذي يعرضه أبو نواس:

غير أني قائلٌ ما أتاني
من ظنوني، مكذب للعيانِ
آخذٌ نفسي بتأليف شيء
واحد في اللفظ، شتّى المعاني
قائمٍ في الوهم حتى إذا ما
رُمتهُ رُمتُ معمّى المكان
فكأني تابع حسن شيء
من أمامي، ليس بالمستبان

وفي بواكير العشرية السادسة من القرن الماضي حدثت هزة لاحقة لهزة الاحتفاء بالقافية أساساً في الإيقاع الشعري؛ تلك هي هزّة 'الحداثة' التي ذهب بعض الكرام الكاتبين في تفسيرها كل مذهب. وربما كانت مجلة شعر البيروتية، بتوجيه الشعراء القائمين عليها مثل يوسف الخال، أدونيس، أُنسي الحاج، أوضح ما يمثل الحداثة والتجديد في الشعر العربي، وبخاصة في ما كانت المجلة تعرضه من ترجمات من الشعر الأجنبي والتعريف بشعرائه. كانت تلك الترجمات 'نثرية' بالضرورة، تخلو من الوزن والقافية، وتحمل في أمثلتها الجيّدة شحنة شعرية وصوراً لم يكن للشعر العربي بها من عهد، في الغالب. هنا ظهرت أوّل الأمثلة الجادّة من 'الشعر الحرّ' بمعناه الدقيق، الذي يخلو من الوزن والقافية، كما ظهرت أول أمثلة 'قصيدة النثر' بمعناها الدقيق أيضاً، حيث يتواصل الكلام الشعري سطوراً تخلو من الوزن والقافية، وتركّز على الصور والإيحاءات غير المرتبطة بعدد الأسطر أو طول الفقرات.

إلى جانب نصوص الشعر الحرّ وقصيدة النثر، ترجمة أو تأليفاً، عرضت المجلة تنظيرات الشعراء والنقاد الأجانب حول هذين الصنفين من الشعر الحديث، ربما كان أهمها عرض خلاصة كتاب (سوزان برنار) بعنوان قصيدة النثر من بودلير إلى أيامنا الحاضرة (1959). هذا إلى جانب عرض أمثلة من شعراء التراث العربي الغنيّ، مما شكلّ مرجعاً مهماً لشعراء العرب الشباب، الذين كانوا في طور التكوين في العشرية السادسة من القرن الماضي، بشكل خاص، ومنهم من لا يتقن لغة أجنبية، فوجد في مجلة شعر وأعمال شعراء الحداثة ما يروي بعض الغليل في تشوّف الشباب إلى توسيع مداركهم الثقافية، على الرغم مما لحق بالمجلة من هجوم، شخصي في الغالب.

كانت الأجواء الشعرية في تلك الفترة تتحدث عن الشعر الإنجليزي إلى جانب الشعر الفرنسي. وكان الشاعر الأنجلو- أميركي ( ت. س. إليوت) (1888-1965) حديث الخاصة من الشعراء، لكن المجلة اهتمت بهذا الشاعر وقصيدته «الأرض اليباب» إلى جانب اهتمامها بالشعر الفرنسي، وعرضت تنظيرات من هؤلاء وهؤلاء. وربما كان مقال ( إليوت) بعنوان «التراث والموهبة الفردية» موضع عناية خاصة عند كتّاب المجلة. يقول الشاعر في هذا المقال ما خلاصته إن من يريد أن يبقى شاعراً بعد الخامسة والعشرين من العمر، عليه أن يحمل في نخاع العظم منه أفضل أمثلة الشعر منذ (هوميروس) حتى المعاصرين، وبلغات شتى بما في ذلك شعر أبناء لغته. ونجد صورة هذه الرغبة في شعر ( إليوت) نفسه وبخاصة في قصيدة «الأرض اليباب» التي نشرت المجلة ترجمة لها، لا تسلم من بعض المآخذ، لكنها أثارت اهتماماً خاصاً عند شعراء الحداثة. وقبل (إليوت) بقرون طويلة قال أبو نواس «ما نطقت بالشعر حتى حفظتُ لستّين من شاعرات العرب، فما بالك بالشعراء؟!».

* * *

إزاء هذه الأرضية الثقافية أختار واحداً من أبرز شعراء الحداثة في العربية، هو الشاعر المغربي ( محمد بنيس) الذي تطوّر تكوينه الشعري في عقد الستينات من القرن العشرين، ونشر أولى قصائده بعنوان «ميلاد» (29,9,1966) في ديوانه الأول بعنوان ما قبل الكلام(1969). على امتداد ما يقرب من ألف ومئتي صفحة من الأعمال الشعرية (جزءان، 2001) يمكن أن نجد تطبيقاً للأفكار والملاحظات التي أوردها الشاعر في مقدمته بعنوان «حياة في القصيدة».ما الذي تقوله الأعمال الشعرية وما الذي تقوله المقدمة؟ أحسب أن جمع قصائد كتبت على امتداد أربعة عقود يرمي إلى تصوير مسيرة الشاعر وتطوّر فنه الشعري؛ وهذه إعانة للباحث ومحبّ الشعر، تنير الطريق وتضع هذا الشعر إلى جانب أعمال شعرية أخرى معاصرة، وهذه إعانة ليست بالقليلة. أما المقدمة فهي أشبه بما كتب شعراء اللاتين بعنوان aciteoP srA أي «فن الشعر» عند هذا الشاعر، أكثر من شبهها بما كتب عدد من شعراء العرب المعاصرين بعنوان «حياتي في الشعر» أو «تجربتي الشعرية». و«فن الشعر» عند (بنيس) هو وصف عملية ولادة القصيدة، قصيدته هو في تميّزها عن غيرها، في كونها تعي تراث الشعر العربي من جهة، وتسعى إلى تحديث ذلك التراث بما تعلّم الشاعر من أفق الشعر الغربي المعاصر، فيورد عدداً من الشعراء الفرنسيين والأوروبيين وغيرهم. وإذا كان (إليوت) قد وعى تراثه الشعري وأظهره في شعره اقتطافاً وإحالة وتطعيماً، فإن (بنيس) يكتفي بالايحاء إلى شعراء غربيين، إيحاءً قد يغيب عن غير المطلّع على الشعر الغربي، وهنا الفرادة في التحديث. والتحديث هاجس المشارقة من الشعراء، وقد ظل كذلك حتى أواخر القرن العشرين. فالمعروف أن التحديث الذي طوّرته نازك الملائكة في خلخلة نظام الشطرين في الشعر العربي مع الإبقاء على التفعيلة والقافية، بعد تغيير نظام ورودهما، قد امتد إلى شعراء مشارقة آخرين من معاصريها، ثم امتد إلى أقطار عربية أخرى بدرجات متفاوتة. لكن شعراء المغرب لديهم ما يشبه العتاب على من يبالغ في إظهار «مركزية المشرق» في الشعر وتطوره. ومن هنا كان شعور (بنيس) في التأكيد على «تحديث مغربي» أداته هذا الاطلاع الأوسع على الشعر الأوروبي مما عليه الحال عند المشارقة. وهذه حقيقة. فباستثناء نازك، ليس بين معاصريها من المجددين من يقرأ بلغة أجنبية، لا البياتي ولا بلند، ولا حتى السياب بحصيلة سنتين بقسم اللغة الانجليزية في «العالية»، وأنا أعرف ضآلة حصيلتها من الشعر الانجليزي.

والمغرب وريث الأندلس بأكثر من معنى. والشاعر الأندلسي هو الذي طوّر المخمّس والمسمّط من الشعر المشرقي في العصر العباسي، فأعطانا الموشح والزجل، شكلاً ولغة ومحتوى، ثم امتد هذا التطور شرقاً. وهذا ابن سناء الملك المصري خير دليل على اقتباس التطوير الأندلسي،فظهر الموشح المشرقي في عصر لم يكن أفضل عصور الشعر في المشرق، ثم انتقل الموشح إلى العراق وبلاد الشام، وبقي اسمه «الموشح الأندلسي». والذي أتوقع حدوثه ان ينتقل التحديث المغربي إلى الشعر المشرقي في وقت ليس ببعيد، مع أن شعراء المشرق حالياً مبتلين بكل ما هو لا شعري، لكن المياه تحد منافذ لها حتى من تحت رمال الصحراء.

ومما يستدعي الاهتمام في مقدمة الأعمال الشعرية ملاحظة (بنيس) أنه أحسّ بأن قصيدة السياب كانت الأقرب إلى نفسه، لكنه مثل السياب لم تصاحبه القصيدة الرومانسية طويلاً. بدأ السياب، مثل شعراء الأربعينات، رومانسياً، غَزِلاً: «ديوان شعري كلهُ غَزَل/ بين العذارى بات ينتقل» وهو ديوان أزهار ذابلة الذي كان يحمله عبدالوهاب البياتي ويدور به ليبيعه للطلبة في «العالية». لا أجد الكثير من شعر الغزل في الأعمال الشعرية لأن الحب فيه قد تطور إلى حب الوطن والمكان والتراث. ويجتمع ذلك كله في «آخر مذكّرات المعتمد بن عبّاد» على ما فيها من رومانسية حزينة تذكّرنا بقصائد السياب «غريب على الخليج» في الجرس والإيقاع.

و«مذكّرات المعتمد» كما يخبرنا (بنيس) تطلّبت منه «بحثا» في التاريخ والجغرافيا ليستعيد الحالة المأساوية التي عاشها «عزيز قوم ذل». وهذا البحث لتكوين أرضية للقصيدة، قد يخرج فيها الشاعر عن المألوف مما روي عن المعتمد، ظاهرة نادرة في الشعر العربي المعاصر، وأغلبه مما يدور في فلك العواطف الرومانسية أو الحماسة السياسية أو الدينية. هذه القصيدة مزيج بين «المناجاة» كما عند (هاملت) وبين «المونولوج الدرامي» كما عند بعض شعراء العصر الدكتوري الانجليزي أمثال (براوننج) و(تنسن) حيث يكون المعتمد هو الممثل الوحيد على المسرح والقارىء هو «الجمهور» الوحيد. مثل هذا البحث والمسحة الدرامية نجدها عند عبدالرزاق عبدالواحد، آخر فحول الشعر العراقي، في مسرحيته الشعرية بعنوان الحرّ الرياحي. هنا بحث في التاريخ وتحليل للشخصيات التي أحاطت بمأساة الحسين، يحلل الشاعر فيها موقف (الشمر) و(الحرّ بن يزيد الرياحي) الفارس المسيحي اللامنتمي سياسياً. وقد يخرج الشاعر في الحالين، نتيجة بحث، بآراء ومواقف تختلف عما شاع عن مأساة الحسين والمعتمد، فتغدو القصيدة إلحاحاً على القارىء ان يعود إليها متأملاً، مقلّباً وجوه النظر، وهو ما لا تحتمله القصيدة الرومانسية أو القصيدة المثقلة بالايديولوجيا، وهو ما تخلّص منه (بنيس) في وقت مبكّر.

* * *

وهذه الأفكار والملاحظات تصوّر الكثير من ملامح الأرضية الثقافية في عقد الستينات التي بلوَرها (بنيس) في الأعمال الشعرية. فإلى جانب العدد الكبير من شعراء التراث في العربية، «سلالة شعرية تتقاطع مع سلالتي العربية، من امرئ القيس إلى المتنبّي، أو من طرفة بن العبد إلى ابن خفاجة...» هم «قدماء وحديثون يجتمعون في مكتبتي وذاكرتي. عرب واوروبيون.» (ص 41)، يقول الشاعر «أحسستُ بأن قصيدة بدر شاكر السياب (ومعها القصيدة العربية المعاصرة) هي الأقرب إلى نفسي» (ص51) ثم يورد عدداً من الشعراء العرب المعاصرين ]حديثون[ عرب و]أوروبيون[ هم فرنسيون في الغالب، مثل (بودلير) و(مالارميه) قرأهم بالفرنسية؛ ومثل (هلدِرلين) و(ريلكه) و(ييتس) و(وِتْمَن) و(إليوت) و(جاوند) و(دانته) وقد قرأهم في الترجمات على أغلب الظن. وأهمية «التراث» في ثقافة التكوين عند هذا الشاعر أنه في أواخر الستّينات طرح على نفسه «سؤال القرآن... لماذا، مثلاً، لم يبدأ التحديث الشعري (القصيدة المعاصرة) من القرآن، واختار، بدلاً من ذلك، البناء الخاص بالقصيدة الأوروبية؟»(ص71). هذه العناية بالتراث على تنوّع تلاوينه، قادت الشاعر إلى الموهبة الفردية في كتابة الشعر، كتابة تقوم على «تحديث التراث» أو «تحديث الثقافة بالأفق الأوروبي» كما يقول في كتابه النقدي الحداثة المعطوبة (ص76). وكانت بدايات ذلك «التخلّص من علامات الترقيم... ومغافلة الحدود بين الشعر والنثر، بين الموزون وغير الموزون، ثم بداية الانصراف إلى غواية المكان في بناء القصيدة» (المقدمة، ص71). أحسب أن الشاعر قد تعلّم شيئاً من هذا من خلوّ النسخ الأولى من القرآن الكريم من علامات التنقيط والترقيم التي لم يكن أصحاب العربية الفصيحة، في أفقها الأول، بحاجة إليها. ومع ذلك كانت روعة الآي تأخذ بقلوبهم فظن بعضهم أن ما سمعوه شعر، حتى انبرى لهم الوليد بن المغيرة بقوله المشهور. ومغافلة الحدود بين الشعر والنثر، والموزون وغير الموزون هي الأخرى تعلّمها الشاعر، في أغلب الظن، من بنية الآية القرآنية: «إنا أعطيناك الكوثر»: فَعْلن... أربع مرات (من المتدارك) يعقبها: «فَصلِ لربِك وانحر» غير الموزونة. «لن تنالوا البر حتى/ تنفقوا مما تحبّون» فاعِلاتنْ، فاعِلاتن (من الرَمَل) يعقبها «وما تنفقوا من شيء فإن الله به عليم» غير الموزونة. ولكني لا أحسب الشاعر كان موفّقاً دائماً في مغافلة الحدود بين الشعر والنثر، وبين الموزون وغير الموزون. ففي ديوانه الثالث بعنوان وجهٌ متوهّج عبر امتداد الزمن (1974) نجد (38) مقطعاً يصفها الشاعر بأنها «قصيدة مضادة» ولا أدري إن كانت هذه الصفة تعني الكثير للقارئ إذا كانت نصوص القصائد هي المرجع هنا أجد الموزون ملائما في كتابة الشعر، لكن تداخل غير الموزون لا يخدم شعرية الكتابة. والقصائد ذكريات طفولة، في أسلوب صوريّ حميم، يقوم على التفعيلة. نقرأ في المقطع (16)؛ (ج1، ص210):

بين لهيب الصُور القديمة
           أودعتها
تلك التي مزَقَتْ فَينَا نجمةً وفَرِحَت
           أودعتها بحلمنا مصفّداً
على الجدران ...
           أودعتها ثم يختم المقطع بهذه الأسطر:
حرّرتُ طاقَة الكلامْ
           أودعتها من فَزَعٍ يُصيبُ قلبي كلمّا أبصرتها،
مقبِلةً
           أودعتهاكشَبحٍ لم يَعدْ يعرفُ الضِياء والظَلامْ
تشبهُ نفسها كثيراً
           أودعتها وكثيراً
تختفي عنها الأصوات

هنا لا وجود لعلامات التنقيط، لا فاصلة ولا نقطة على امتداد المقاطع الثمانية والثلاثين، سوى علامة استفهام ترد أربع مرّات متناثرة وحسب. أحسب أن هذا يتماشى مع تأكيد الشاعر في مقدمته على «الكتابة البطيئة» التي تتطلّب «القراءة البطيئة» والعودة إلى النصوص دائماً، طلباً لاستجلاء الصورة والمعنى، الذي تعينه كثيراً علامات التنقيط. يذكّرني هذا بحرص من نوع آخر ورد في احدى رسائل الشاعر المسرحي الروائي الايرلندي (أوسكار وايلد) (1854- 1900) حيث يقول ما معناه: قضيتُ هذا الصّباح جميعه أعيد النظر في قصيدة؛ فأضفتُ فاصلة؛ ثم قضيتُ العصر جميعه أعيد النظر، فحذفتُ تلك الفاصلة! إضافة إلى حرص الشاعر على الكتابة ببطء والقراءة ببطء، يخبرنا أنه كان يقضي الساعات والأيام بحثاً عن اللفظة المناسبة، أو القافية الموحية. يذكّرنا هذا بأحد شعراء التراث الذي كان يقضي ليلة متقلباً في فراشه على أمل العثور على لفظة أو قافية مناسبة. وهذا غير بعيد عن «الحولّيات» أي القصائد التي يستغرق نظمها «حولا» كاملاً. والشاعر هنا تراثي بامتياز. لكن هذه المغافلة بين الشعر والنثر، والمزج بين الموزون وغير الموزون تغدو أكثر إسعاداً في ديوان مواسم الشرق (1986) حيث نجد تسعة مواسم هي تسع قصائد بارعة في الوزن واللاوزن، بارعة في «تحديث التراث بالأفق الأوروبي »، وبالاتكاء على «التراث» في سبيل تطوير «الموهبة الفردية». هنا كذلك لا وجود لعلامات تنقيط على الإطلاق، جرياً مع «التخلّص من علامات الترقيم» التي يتحدث عنها في المقدمة، وأحسب أن هذه «موهبة فردية» يتميّز بها الشاعر، لا أجدها عند غيره من العرب المعاصرين، أو من أصحاب التراث، على قدر ما أعلم؛ وقد يكون هذا توكيداً على رغبة الشاعرفي القراءة البطيئة المتمعّنة، ليزو؟د القارىءُ، ذهنياً، علاماتِ تنقيط تعين في استيعاب الفكرة أو الصورة. والقصائد جميعها من الأُسلوب الصُوري، وهو من أساليب الحداثة الشعرية التي عرض لها بحماسة واضحة كلٌ من الشاعر الأميركي ( إزرا باوند) (1885 -1972) وخليفته الشاعر الناقد الأنجلو أميركي (ت. س.إليوت). لكن الصُوريّة هنا، على خلاف (باوند) و(إليوت) تؤكد حضور الشاعر/ المتكلم، في حين أنها في الأمثلة الأجنبية تؤكد على الصور وتترك للقارئ تخيّل المتكلِم. وهنا يكون أسلوب الشاعر العربي «تحديثاً للثقافة بالأفق الغربي». في أحسن أمثلة الصُورية في تراثنا، لا يكون الشاعر، في الغالب، حاضراً في الصورة، كما في قول أبي تمام، «مطرٌ يذوب الصَحوُ منه وفوقه / صَحوٌ يكاد من الغضارة يمطر». هذه صورة بارعة ولا شك. ولكن أين هو الشاعر وفي الشعر الجاهلي أمثلة جيّدة من الصورية، لكنها مقتضبة. «وليلٍ كموج البحر أرخى سدولَه/ عليّ بأنواع الهموم ليبتلي» يُشعرنا بأن المتكلم هو امرؤ القيس. لكن هنا تنتهي الصورة. «ودَفَعتُها، فتدافَعَت/ مشيَ القطاة إلى الغدير» صورة حركيّة جميلة ولا شك، لكنها صورة مقتضبة كذلك، والمثالان يقعان في باب التشبيه، وهي صيغة بلاغية تكتفي بمفردة واحدة أو جملة. لكن في الصُورية، كما في قصائد (إليوت) الأولى مثلاً، بعنوان «مقدّمات» نجد كل واحدة من القصائد الأربع القصار صورة شديدة التفصيل، لا تتوقف إلا بنهاية القصيدة. وعند (بنيس) نجد الصبورية في قصيدة «موسم الطريقة» مثلاً تمتد من ص 933 -153 وتتوزع على ستة مقاطع. هنا خليط من قصيدة النثر، الفرنسية المنشأ، التي لا تعترف بالوزن ولا بالقافية، لكنها عند (بنيس) قصيدة نثر موزونة، تمتد سطوراً متلاحقة، تعتمد تفعيلة المتدارك «فَعِلن» وتذكرنا بالقافية في نهاية بعض المقاطع: الكلمات، مرتجفات، والنَجَمات، نَقَرات؛ ثم: تموت، بيوت، صموت، وهكذا. هنا نجد قصيدة النثر التي جاءت من «الأفق الغربي» قد وجدت لها مكاناً في الثقافة الشعرية العربية التي تقوم على الوزن والقافية، وهذا مثال آخر على «تحديث الثقافة» وعلى الموهبة الفردية عند (بنيس). وبقي على مُتصيّدي الأسماء والصفات من أصحاب «الميول النقدية» أن يجدوا لنا اسماً لهذا المولود الجديد.

والشعر الحر، هو الآخر، بمعناه الدقيق يخلو من الوزن والقافية، كما شرّعه الأميركي(والت وتْمَن) (1819 -1892) عام 1855 في مجموعته أوراق العشب، وتبعه في ذلك (باوند) و(إليوت) وغالبية شعراء فرنسا في نهايات القرن التاسع عشر، هذا «الشعر الحر» وجد له مكاناً في أعمال (بنيس) لكنه وضعه في قالب الوزن، ومنحه «زينة مضافة» في شكل القافية أحياناً، إكراماً لشعراء أوروبيين مثل (وردزورث). وقد يتطلب الانتقال من قصيدة النثر الموزونة إلى الشعر الحرّ الموزون تغييراً في التفعيلة بسبب قِصَر الأسطر في الشعر الحر. وهذا قد يتطلب تغيير الايقاع إذا ورد هذا الشعر الحرّ/ الموزون ضمن قصيدة نثر/موزونة. وما يمنع من ذلك إذا اقتضت الصورة والفكرة أو إحداهما مثل هذا الانتقال؟

هذا زمني
وأرابطُ في انساغِ يقيني
ينفر منيّ الصّمتُ
وتبقى حنجرتي حمّالةَ
هذا الصوتِ المسلولِ الصافي الموسومِ
بماء الورد
(ج 1/ ص 347)

كل سطر في قصيدة الشعر الحرّ تتحكم في طوله الفكرة أو الصورة. فالفكرة في السطر الأول تعبّر عنها كلمتان اثنتان، وفي السطر الثاني أربع كلمات... وفي السطر قبل الأخير خمس كلمات، وفي الأخير كلمتان. هذا أساس قصيدة الشعر الحرّ، ونجد في أوراق العشب فكرة أو صورة لم يتمكن (وتمَن) من التعبير عنها إلا بسطرين متواصلين أو أكثر، أحياناً.

وقصيدة النثر قد لا تكون واضحة المعالم عند بعض القرّاء الذين يخلطون بينها وبين قصيدة الشعر الحر، مما يسوّغ لي أن أعرض لشيء من تاريخها وتطورها، حتى استخدمها (بنيس) في سعيه نحو «تحديث الثقافة بالأفق الغربي». يعود هذا الأسلوب في كتابة الشعر إلى الفرنسي (ألويزيوس برتران) (1807-1841) الذي ترك كتاباً واحدا بعنوان جاسبار الليل، نشر عام 1842، بعد وفاته بأكثر من عام، ولم ينتشر بين القرّاء أو الشعراء كما كان يتوقّع مؤلفه، لأنه جاء بتغيير صارخ في مفهوم الشعر معنى وشكلاً. ثم جاء (بودلير) و(مالارميه) و(رامبو) وساروا على نهج (برتران) في الكتابة الشعرية، فاكتسبت قصيدة النثر منزلة بين الأنماط الشعرية السائدة في ذلك الحين. في هذا الكتاب ستة أقسام، في كلّ قسم عدد من القطع النثرية ذات الشحنة الشعرية، وفي القطعة عدد من الفقرات بين الواحدة والأخرى فراغ واسع أبيض، ترك ( برتران) تعليمات للمطبعة أن تحافظ على هذا الفراغ. وكأن (برتران) ومن جاء بعده كانوا يريدون الإيحاء للقارئ أن هذا الفراغ يقصد منه التوقف والعودة إلى تأمل الصور والأفكار، وأغلبها صور سوريالية وغرائبية، ليست من المألوف في الشعر الفرنسي التراثي، ولا في شعر بدايات القرن التاسع عشر في أوروبا، حيث كانت الرومانسية هي السائدة، وبخاصة في الشعر الألماني والفرنسي والإنجليزي.

هذا مثال من (برتران) بعنوان «في سهرة الَسَحَرة»:

كان ثمة اثنا عشر منهم يتناولون حساءً ممذوقاً بالجَعّة، وفي يد كلٍ منهم عظْمة ذراع ميّتٍ يستعملها ملعقة.

كانت المدفأة تتوهج، والشموع من خَلَلِ الدخان تشبه الفطر، ويَفوح من الصحون نَتَن قبرٍ في الربيع.

وإذ يضحك (ماريبا) أو ينتحب، يصدر عنه طنينٌ كأنه قوس كمان تقطعت أوتاره.

وثمة جندي وضيع راح يفتح على المنضدة، بأسلوب شيطاني، تحت ضوء المصباح الكابي، كتابَ طلاسمٍ حطّت فوقه ذبابةٌ محترقة.

كانت هذه الذبابة ما تزال تطنّ إذ خرج من جوفها الضخم الأزغب عنكبوت تسلّق حافات المجلّد السحري.

لكن السَحَرَة والساحرات كانوا قد دَلفوا مسبقاً من خلال المدخنة، بعضهم امتطى عصا المكنسة، وبعضهم ركب ملاقط الحديد، أما (ماريبا) فقد امتطى مقبض المقلاة.

نلاحظ في هذا المثال الإصرار على ترك الفراغ بين فقرة وأخرى في قطعة «قصيدة النثر» هذه، ليتوقف القارئ ويتأمل الصورة في الفقرة التي قرأها للتوّ، استعداداً للفقرة اللاحقة، ليتوقّف ويعيد التأمل. قد يكون هذا نوعاً من «التعذيب» للقارئ الذي اصطدم بصور في غاية السوريالية والغرائبية: حساء ممذوق بالجعّة، عظمة ذراع ميّت/ ملعقة، صحون حساء نتن، سحرة يمتطون عصا مكنسة ويطيرون

يبدو أن (بود لير) كان أول المعجبين بكتاب (برتران) الذي أطلق عليه اسم «قصيدة نثر» poème en prose وحاول أن يسير على نهجه. ففي رسالة بعث بها إلى رئيس تحرير مجلة باريسية، يبدي فيها إعجابه بعمل (برتران)، يصف قصيدة النثر بأنها «عمل لا رأس له ولا ذَنَب» لكنه «نثر شعري فيه موسيقى دون إيقاع أو قافية... يتكيّف مع حركات النفس وتقلّبات أحلام اليقظة...» ولكن، هل يسيغ القارئ العربي شعراً لا رأس له ولا ذَنب، ولو كان من صنع (بود لير) ورهطه؟ قد يكون المصابون بعقدة «الخواجا» ممن يماري في الحق ويشير إلى ما في هذا الشعر من صور غرائبيبة عجائبية سوريالية فيسوّغ إعجابه بأن هذه صور الحضارة المعقدة وازدحام المدن وضياع الإنسان وسط حضارة مادية... إلى ما هنالك من تفسيرات بعض «النقّاد» الأوروبيين. لكن (بنيس) في سعيه نحو «تحديث التراث بالأفق الغربي» أخذ من قصيدة النثر شكلها وحسب، من حيث طول الأسطر التي تتحكم فيها الصورة أو الفكرة، وراح يكتب قصيدة نثر تحترم التراث الشعري العربي من التزام الوزن دائماً، والتركيز بالقافية أحياناً. فكانت صوره وأفكاره واضحة مفهومة، على ما في نزوعه إلى الصور السوريالية من غرابة لم تألفها العين العربية، لكنها صور تثير العجب، وتستدعي الوقوف عندها طويلاً بحلول الفراغ بين المقاطع، كما أراد (برتران) ثم العودة إليها أثناء القراءة، وبعد الفراغ من القصيدة جميعاً.

بحَيْرَةُ رَغْبَةٍ تَمْحو سِوَاهَا فِي الصَبَاحِ أَكَادُ أخْلقُ رَعْشَةً تمْلِي عَلَي شِتَاءهَا

مَطَرٌ مِنَ الْكَلِمَاتِ يَسْقطُ مَائلاً أوْ هَكَذَا يَبْدُو يحَرضُ دَهْشَةً وَأنَا أُقَارِنُ كتْلَةَ الثَلْجِ البَعِيدَةَ بِانْخِفَاضِ الضَوْء ثمّةَ صورةٌ عَصيَتْ تشبّثْ باخْتِلاَلِ تَوَازُنٍ فِي الرُوحِ مدْخَنَةٌ تحَاذِي المَاء تَكْسِرُبِالْهبوبِ بخَاَرَهَا

نَحْوِي غصونٌ تَمْلأ الأصْوَاتَ بِالْحَرَكَاتِ هَلْ لَمَسَتْ جَحِيمَ قَصيدَةِ المَجْنونِ حِينَ رَأْى وَرَاء الثّلْجِ أعْمَى سَيِدَ الإغْرِيقِ ينْشِدُ هَنْدَسَات الْمَوْتِ يمْكِنُ للْعَنَاصِر أنْ ترَدِدَ فِي الرّبَابِ حِيَادَهَا

( ج 2، ص 494)

قد لا يروق هذا للقارئ الذي نشأ على شعر الشطرين التراثي الملتصق بالوزن وحرف الرويّ الواحد. وهذا أمر طبيعي. ولكن القراءة الجادّة من دون تحيّز مسبق، والرغبة في الانفتاح على أنواع جديدة من الكتابة الشعرية تجعل قراءة قصيدة النثر عند (بنيس) ذات متعة خاصة. وهذا يذكّرنا بردود الفعل الأولى على قصيدة التفعيلة التي ازدهرت في خمسينات القرن الماضي إلى درجة أن بعض المتأدّبين عدّ قصيدة التفعيلة من باب الكتابة النثرية. ومثل ذلك حدث مع قصيدة الشعر الحر في العربية التي تطورّت في ستّينات القرن الماضي. هذا مثال من الشعر الحرّ عند (بنيس).

انظرُوا إِلَي أَيهَا العَابِرُونَ جَيِداً
هَذِهِ كسْوَاتِي الثَلاَثُ
خذُوا مِنْهَا وَاحِدةً
وَضَعوهَا عَلَى مَدِينَةِ فَاسْ
ثمَ انظُرُوا إِلَيْهَا
تَذوبُ
أَهْلهَا يَتَلاشوْنَ
بنْيَانهَا
وأَسْوارُهَا
وَمَاؤُهَا
يتلاَشوْنْ

ج 2، ص 81)

وهنا لا بد من الإشارة إلى رأي (إليوت) زعيم الشعر الحرّ في بدايات القرن العشرين، ومؤدّاه «أن من لا يتقن كتابة الشعر الموزون لا يقوى على كتابة الشعر الحر». نجد مصداقاً لهذا القول في شعر (بنيس). ففي الأعمال الشعرية أمثلة كثيرة من دقة الوزن وضبط التفعيلة، سواء في قصيدة التفعيلة، أو في قصيدة النثر الموزونة، على الرغم من غياب القصيدة التراثية ذات الشطرين، التي تجري على أحد البحور الستة عشر وحرف الرويّ الواحد. إلى جانب ذلك، كتب (بنيس) قصيدة الشعر الحر الغنيّة بصورها وأفكارها، كما كتب قصيدة النثر التي تخلو من الوزن والقافية، فتبدو كأنها ترجمة من نص فرنسي.وثمة أمثلة كثيرة من قصائد تجمع بين الأشكال جميعاً. وفي هذا كله يبقى (بنيس) مشدوداً إلى التراث الشعري العربي، قديمه وحديثه. ففي مجموعة/ ديوان ورقة البهاء (1988) نجد قصيدة واحدة طويلة هي قوام هذا الديوان، تخلو من التنقيط على الإطلاق، وتمتد عبر تسعين صفحة، تكاد تحسّ أن الشاعر يودّ لو استطاع القارئ قراءتها بنَفَس واحد! هذه ورقة شجر بهيّ، تلاعبها النَسَمات وأشعة الشمس فتتغيرّ عليها الظلال. هنا قصائد نثر موزونة وأخرى غير موزونة؛ هنا قصائد شعر حرّ يوحي بالموزون؛ هنا تفعيلة تحكم كتابة شعرية تشكّل عموداً قائماً إلى يمين الصفحة، تقابلها كتابة شعرية أخرى تحكمها تفعيلة مشابهة أو مختلفة تشكل عموداً قائماً إلى يسار الصفحة. أرى في هذا التشكيل إيحاءً بشكل القصيدة التراثية ذات الشطرين؛ فالشاعر ما يزال يصدر عن تراثه الشعري العربي. وليس من الإنصاف اقتطاف جزء من هذه القصيدة/ القصائد خارج السياق ولكن هذا ما نقرأ من ورقة البهاء:

لَكِنَ القَرَوِيِينَ قبَائلُ نَازِلةٌ مِنْ صَنْعاء الْيَمَنِ
احْتضنوا صوَرَ الدِّمَنِ
المَمْلوكَةِ للأشْعارِ
فَهَلْ لكَ أَنْ تتسلقَ برْجَ الليلةِ
غَزَالتكَ الصّحراءُ
مفتوناً بَينَ القمرِ البَحْرِي وآخِرةِ
هنَا تَنْشأُ فَاسُ بَرَابِرةٌ
الأَحجارِ عَلَى طلل مِنْ مأْرِب
َ يَهَبونَ الوَافِدَ سِلْهَاماً
فِيكَ طفولةُ مَنْ ينْسَاقُ معَ السُحب
يَفْتتحُ الآفاقَ حروفاً
الزّرْقَاءِ فَوَانِيسُ العَرَباتِ تضجُ بما
تَتَحَوَلُ أَمْدَاحاً تَتفجرُ
يتسرّبُ مِنْ صرخَاتِ دمٍ يتصدَعُ
فِي صحْنِ التَارِيخْ
بيْنَ يَديْكَ الصَلْصَالُ وَمَاءْ

(ج 2، ص 26)

وهذا مثال طريف يوحي بنظام الشطرين الموزون:

يَقْطَعُ شريَان
غَلقْ فدْرِيشَ الشَرْجَبِ ينْهاكَ
الرُكْبَةِ
الحكمَاءُهِيَ الحِكْمَةُ آنيةٌ
مغْتَبِطاً
متَصَدعَةٌ ستبددُ أَحْوَالَ الإِسْراءِ
لِيَنَامً

لِتبْصِرَ منْ جَاءتْ فاسُ بِهن نِسَاءً
النُجٍومُ
يَسْتقْبلنَ بخيْطِ الرَيحِ أُنوثتهن
اللَقَالِقُ
يغنِينَ الغنبازَ رُبَاعِيَةَ العِشْقِ
رَائحَةُ الأُقْحوَان
الشَبقِيِ يصَاحِبْنَ الضَحَكَاتِ
حَمَامْ
بتطرِيزٍ زَهَري في أَنْحاءَ مَنَادِيلِ
الكَرَاسِي
الكَمْخَةِ بيْضَاءَ معَطَرَةً بِرَشَاشِ
نِسَاءُ السُطوح
الوَرْدِ بِها ينْشرْنَ صبَاحَ مَحَبَتهِن
خَرِيرٌ
عَلَى أَعْطَافِ شَبَابٍ يفضَحهمْ
قَدِيم
موالٌ مِنْ أَقْصَى لَيْلٍ
مِخَدَتهُ العجَمِيَةُ
في أقْصَى أغْنِيتَيْنْ
أَلْوِيَة
نَمْنَمَات
غَلِقْ فِدْرِيشَ الشَرْجبْ
خِيَامْ
لاَ يفْضِي النّومُ إلَى مقْصورَةِ مَنْ
قلْ لَهُ
كَانوا كلُ جَحِيمٍ يَسْتَصْغِرُ مِئْذَنةً
إنَهُ لَنْ يَنَامْ
وَصلاةً بَاكيتينْ

ج2، ص95)

وقد يأتي العمود إلى يمين الصفحة كتابة شعرية منثورة إلى يسارها عمود كتابة شعرية موزونة:
فاجَأَتني عندَ النوْمِ
لطخَاتٍ يبقى الصّمتُ
قالتْ لاَ تعدْ جَاءَتْ
يُشَهِينِي هَذا المَلَكُوتُ
بَإِنَاء مِنَ الفخَارِ بِهِ
الطَاِلعُ مِنْ إِشْرَاقَةِ حَضْرَتِهَا
الحنَاءُ وَأَشْتَاتُ حُرُوفٍ
منْهَا اللوزِيُ الأَصْفرُ
فَأُرَممُ عِشْقِيَ عَنْدَ التُرْبَةِ

القرنفُلِي الأَبْيَض
ينْهَضُ بِي قَدَمٌ يَمْتَدُ طَرِيقٌ
العَسْلِي الأَزْرَقُ
تَنْفرُغِزْلاَنٌ تَتَرَامَى صرْخَتُهَا

(ج1، ص 423)

وثمة مثال من قصيدة نثرتخلو من الوزن:
عِنْدَمَا أَمَرَ الأَرْضَ بالانْبِسَاطِ كَانَتِ السَمِاءُ
اكْتَسَتْ بِنَبَاتِهَا الكَثِيفِ وانْفَصَلَتْ عَنْ قِشْرَةِ
الأَرْضِ شَلاَلاَتُ المِيَاهِ تَفتَحَتْ مِنْ بَيْنِ رَائحَةِ
التُرَابِ نُقْطةً فَنُقْطةً شَهِقَتِ الوِدْيَانُ عَايَنَ البحرُ
مِيلاَدَ خُرَافةٍ زَرْقَاءَ هُنَا شُعَلُ النَارِ امتصتْهَا
الحِجَارَةُ فِي السَاعَاتِ الأَخِيرَةِ كانتِ الطيورُ
مُوزَعَةً بِالتَسَاوِي عَلَى الجِهَاتِ الأَرْبَعَةْ
جَمَعَ الرِيَاحَ بِكِلْتَا يديْهِ بِهَا أَلْقَى فِي جوْفِ
المُحِيطَاتِ مِنْهَا فواكِهَ البَحْرِ خلقَ الغِنَاءَ
والأَلْوَانَ تركَ الشمْسَ هائمَةً أَيَاماً سِتَةً ثُمَ ثبتَهَا
فِي دَوْرَقِ النِسْيَانِ يوْم الجُمُعَةِ الحَادِي عَشَرمِنْ
شَعْبَانَ لِلْقَمَرِ أَشْعلَ نَاراً هَادِئة حتَى الَتَفّتْ
بِأَنْحائِه سَوْسَنَةٌ فَتَحَ لِي أَكْيَاساً صَغِيرَةً وَفرغَهَا
مِنْ نُجَيْمَاتٍ مُبَعْثَرةٍ سَقطَتْ فِي بِئْرٍ لا بِدَايَةَ لِي
وَضَعَ لِطَبَقاتِ الأَرْضِ أَدْرَاجاً لِكُلِ دُرْجٍ نغَماً
تَتَعَشقُهُ النُفُوسُ قَبْلَ مَمَاِتَها

(ج2، ص 63)

هنا لغة قريبة الشبه بالإصحاح الأول من سِفر التكوين الذي يصف خلق السماء والأرض، والطيور والوحوش... هنا أيضاً «تحديث للتراث» فالجملة الأولى من الإصحاح الأول تقول «في البدء خلق الله السماوات والأرض». لكن الشاعر حورّها إلى «عندما أمر الأرض بالانبساط كانت السماء اكتست بنباتها...» و«الفاعل » الذي «أمر» مستتر في عبارة الشاعر، تقديره «الله»؛ ومن غيره أحسب أن اللغة التوارتية هنا تتخلّص من وعثائها وتغدو لغة شعرية أنيقة عند ( بنيس). «جمع الرياح بكلتا يديه... خلق الغناء والألوان... ترك الشمس هائمة أياماً ستة... ثم «استراح في اليوم السابع»... الجمعة، الحادي عشر من شعبان.«هذه كتابة شعرية تنسيك ضرورة الوزن والقافية، ونعلم أن الشاعر بارع فيهما من أمثلة أخرى كثيرة في الأعمال الشعرية.

يتحدث (بنيس) في مقدمته (ص71) إضافة إلى مغافلة الحدود بين الشعر والنثر، والموزون وغير الموزون، عن «بداية الانصراف إلى غواية المكان في بناء القصيدة». تنتثر في القصائد أسماء مدن وأنهار كثيرة لا علم لي بوجود ما يشابه كثرتها عند شعراء آخرين. بل، في تراثنا الشعري: توضِحْ، المقراة، سِقط اللِوى، دَخول، حَومل، عَرْدَة، قَفا حِبَرٍ لكنها جميعاً قد «عفا رسمها» أو كاد، أيام من ذكرها من شعراء الجاهلية. لكن «المكان»عند (بنيس) حيّ يوحي بالكثير. وأول هذه الأمكنة الحيّة «فاس» مدينة الشاعر، وريثة الأندلس. ثمة القيروان، بغداد، دمشق، تطوان، سبتة، يافا، عكا، صنعاء، بيروت... وجميعها مدن حيّة، حقيقية، ماثلة في وجدان الشاعر وليست مدائن وهم، «غير حقيقية» مثل المدن التي يذكرها (إليوت) في «الأرض اليباب؛ فهي على حضورها التاريخي لا تشكّل في ذهن (إليوت) سوى مدائن وهم، يريد لنا أن ننساها. نجد (بنيس) يؤكد حضور هذه المدن في مشرق العالم العربي ومغربه. وثمة الأنهار: «سَبو» نهر الشاعر في مدينته فاس «فاء لنسل النخل، سين لأقواس المياه». وثمة النيل ودجلة والفرات وبردى ونهر أبي رقراق الذي قد تكون له صلة نَسب مع «بُوَيب» في «جيكور» السيّاب الذي يسجّل (بنيس) إعجابه بقصائده. إلى جانب أسماء المدن والأنهار ثمة الأسماء المحلية المغربية، مثل: باب المحروق، الزلّيج، الزرابي، الملحون، سهل الشاويّة، الوشم، الحنّاء، فدريش الشّرجب، الغنباز... فاجتماع المدن وحضور الأنهار وتواتر الأسماء المغربية المحلية تجعل من هذه الأعمال الشعرية أعمالاً صُوَرية هي الرسم بالكلمات، بعبارة نزار قبّاني. بلى، إن هذه الصور الشعرية والتوليفات اللغوية قد تبدو صعبة على الاستيعاب لدى القراءة المتعجّلة. لكن الشاعر يكثر الإشارة إلى القراءة البطيئة لهذه القصائد التي كانت كتابتها بطيئة، كما يشير إليها في مقدمته. تتبلور صورية هذه القصائد في عملين بارزين. الأول ديوان باتّجاه صوتك العمودي (1980) وهو ديوان مكتوب بالخط المغربي الجميل. هذا مثال على التعلّق الشديد بالتراث (المغربي في هذه الحالة) إذ نجد كل صفحة لوحة فنيّة في تشكيل الأسطر، وبعدد من الأشكال الهندسية. وقد قادت هذه الصورية المفرطة في زخرفة الخط المغربي إلى العمل الثاني بعنوان كتاب الحب (1995) الذي يعيد إلى الحياة أبرز كتب التراث عن الحب، الروحي والجسدي معاً، تكملها رسوم ضياء العزّاوي، الفنان العراقي المقيم في لندن.

إذا كانت القراءة المتأنيّة لهذه القصائد ضرورية لاستكمال ما فيها من متعة، على غياب علامات التنقيط الضرورية لإيضاح المعنى، حسبما درج عليه تراث الكتابة، فإن الشاعر يعوّض عن ذلك بتحريك الكلمات إلى حدّ الإفراط، حرصاً منه على إعانة القارىء على استيعاب الأفكار والصور. ومن ناحية أخرى نجد بعض القصائد تنتثر فيها النقاط على غير المألوف، وأحسب ذلك إمعاناً من الشاعر في إظهار «صورة» الكلمة أو الكلمات بوضع نقطة بعد الكلمة، ولو أنها جزء من جملة.

ربما كانت أفضل أمثلة «تحديث التراث» ما نجده في كتاب الحب، الذي يقول الشاعر عنه إنّه «تقاطعاتٌ في ضيافة طوق الحمامة لابن حزم الأندلسي» ويقدم له بتصريح عن مصادر هذا الكتاب، مرقومةٍ على شكل مثلث، رأسه إلى الأعلى، إمعاناً في توكيد الصُوَرية في هذا الشعر الذي تدعمه تخطيطات الفنان ضياء العزّاوي العجيبة. «هذا العمل نصوص ورسوم متقاطعة تعيد كتابة 'طوق الحمامة في الأُلفةِ والأُلاّف' لابن حزم الأندلسي(450 -384 ه /1064 -994 م)، وهو رحلةٌ تتصاحب فيها أشواق أعمالٍ أخرى، تتقدّمها » مصارع العشّاق للشيخ السرّاج«و 'الروض العاطر في نزهة الخاطر' للشيخ النفزاوي و'ديوان الصبابة 'لابن أبي حِجْلة، و'الأغاني' لأبي الفرج الأصبهاني.' مغزى إعادة هذا التراث المنسي غالباً، والمسكوت عنه إلا في المجالس الخاصة، أنه تذكير بحب لا نجده في أغاني اليوم ولا في ما تقدمه مناهج التلفزيون الهابطة. هذا حب تحدث عنه «شيوخ» فقهاء وقضاة وعلماء دين وفلسفة وتاريخ. وكتاب ابن حزم الأندلسي الظاهري المذهب، القرطبي الإقامة، «المقيم بين لذائذ الوصل وحشرجات البين» الذي «تربّى بين حجور النساء» وعلم من أسرارهن، يصرّح أن شريعته أن يبوح لأهل الصبابة «في بغداد وفاس وقرطبة والقيروان». الحب شأن الإنسان في جميع الأزمان والأماكن إذن. يصطنع (بنيس) لغة ابن حزم بعبارة حديثة حتى لا تكاد تميّز بين عبارة ابن حزم وعبارة الشاعر المعاصر. هذا تحديث للتراث، ليس بالأفق الأوروبي، بل بالأفق المعاصر.

ففي كتاب ابن حزم نجد أسماء قرطبة و«عَدوات» الأندلس وأسماء الأسواق والشعراء ممن عاصر ابن حزم أو سبقه، وقصصاً عن العشق يؤرخ لها المؤلف مشفوعة بالزمان والمكان فلا تعود قصصُ العشق قصصَ خيال. مثل هذا يفعل (بنيس) في قصيدة 'أوراق بيضاء(' ج2، ص311) إذ يورد خبر عاشق «يدرس الأدب الفرنسي بالرباط... تَمّ تعيينه مدرِساً بثانوية مولاي إدريس بفاس... تعلّق بحب «جارية» هي زميلته في العمل... لم توافق أسرتها على زواجهما، فأصابه النحول ثم الجنون ثم الانتحار شنقاً. حكاية تتكرر في الكتب التي تشكل مصادر كتاب الحب، لكن الأجواء التراثية - الأندلسية غدت أجواء مغربية معاصرة، وحلّ شعراء الحداثة الفرنسية محل شعراء الأندلس مثل ابن حبوس، والرمادي، وولاّدة بنت المستكفي والكثير من شعر ابن حزم نفسه يشير إليه بعبارة «من شعر أهل هذا الزمان». فالحب وشؤونه سلسلة لا تنقطع في عرف التراث الذي يتبنّاه (بنيس). لكن القصيدة الأخيرة «رسالة إلى ابن حزم» ( ج2، ص321) تئن بلحن حزين «لم تَعُد في زمني أُلفَةٌ يا ابن حزم». الحياة المعاصرة سريعة، ماديّة، مصلحيّة «حيث أُممٌ تقتل أمما» و«غرناطة» تسقط كل عشية... وقرطبة في قلعة النسيان تُردد هذيانها». وفي اقتراب القصيدة من نهايتها صور مرعبة عن الموت والدمار تذكّر كثيراً بما توحي به «رؤيا يوحنّا اللاهوتي» عن نهاية العالم. ومع أن هذه القصيدة في كتاب الحب تعود بالتاريخ إلى أواخر القرن العشرين، إلاّ أن صور الرعب والموت بالمجان التي يشهدها عالمنا العربي في بداية القرن الواحد والعشرين تعيد إلى الذهن صفة الشاعر في الأدب اللاتيني بأنه «الرائي» . vates وقبل اللاتين بألوف السنين كان شاعر ملحمة جلجامش «هو الذي رأى».

نزوى- 51