(.. شكلت معادلا موضوعيا للأفكار والأحاسيس)

عبد الواحد لؤلؤة
(العراق)

عبد الواحد لؤلؤةاستضافت دارة الفنون ـ مؤسسة خالد شومان في عمان مؤخرا الناقد والأكاديمي والمترجم العراقي المعروف د. عبد الواحد لؤلؤة المقيم منذ سنوات قريبة في الأردن حيث يدرس الأدب الإنجليزي بجامعة فيلادلفيا، و قدم لؤلؤة محاضرته بعنوان مذهب الصورية في الشعر: قصيدة الأرض اليباب نموذجا ومن المعروف أن الناقد لؤلؤة يمتلك رصيدا محترما من الترجمات ومنها قصائد إليوت إلي العربية إضافة إلي العديد من الكتب النقدية والخبرات الأكاديمية الطويلة، وفي مفتتح محاضرته أوضح أن الصُّوَرية وليس التصويرية كما شاع خطأ، هي مذهب في كتابة الشعر يعتمد علي الصوَر التي يقدمها الشاعر لكي توحي بالفكرة، وقد ظهر هذا المذهب أو الأسلوب في كتابة الشعر في أمريكا علي يد عزرا باوند (1885ـ 1972) الذي كان واحداً من الشعراء والأدباء الأمريكان الذين بدءوا منذ أواخر القرن التاسع عشر بالنزوح إلي إنكلترا وفرنسا في الغالب، باحثين في تلك البلاد عن منابع الثقافة، والحضارة الغربية، ساعين للكشف عن عقم القرن التاسع عشر في نتاجهم الأدبي، وبخاصة ما حسبوه موجوداً في شعر الفرد لورد تنسن (1807 - 1892) شاعر البلاط في عهد الملكة فيكتوريا.
وأضاف لؤلؤة موضحا:

يقول باوند إنه جاء ليعيد الحياة إلي فن الشعر الميت وما ذلك إلاّ لأن باوند قد ولد في بلد نصف متوحش متخلف وكان سبيل الشاعر إلي إعادة الحياة إلي فن الشعر الميت عودةً إلي التراث الشعري في لغات عديدة كان من بينها شعر التروبادور الجوالين بلغة بروفنس، والشعر الصيني وشعر هايكو الياباني.

لقد استهوي شكل الهايكو هذا الشاعر الأمريكي بما فيه من صورة قوامها ثلاثة أسطر، إيقاعاتها خمسة ـ سبعة ـ خمسة، صورة تقوم بذاتها وتؤدي الفكرة، في اختصار شديد وحدود مدببة الحواف. من هنا كانت الصوَر هي التي تؤدي الأفكار و تثير الأحاسيس. وقد تأثر بهذا الأسلوب الشاعر الأمريكي ـ الإنكليزي ت.س. إليوت (1888 ـ 1965).
لقد وجدت الصورية الوليدة في الشعر الأنكلوـ أمريكي أسلافاً لها في الرمزية الفرنسية، التي انتعشت بشكل بارز في أواخر القرن التاسع عشر في شعر بودلير، فيرلين، وبقية الرمزيين. فالصورية بهذا المعني تطورت بشكل واضح عن الرمزية الفرنسية وكان من أبرز شعرائها في أمريكا بين 1912ـ1917 باوند نفسه و ت.ي. هيوم و إيمي لوويل وقد ظهرت لهم ثلاث مجموعات من الشعر بعنوان بعض الشعراء الصوريين وذلك بين 1915ـ1917..

وفي عام 1917 أصدرت الشاعرة إيمي لوويل كتاباً نقدياً بعنوان اتجاهات في الشعر الأمريكي الحديث تحدد فيه أهداف الحركة الصورية.
وبعد ذلك بعام، أي في 1918 نشر باوند مقالاً مهماً بعنوان استذكار يصف فيه أهداف الصورية فيقول معالجة الشيء بشكل مباشر سواء كان ذلك الشيء ذاتياً أو موضوعياً، والامتناع عن استخدام أية كلمة لا تساهم في عرض ذلك الشيء أما بخصوص الإيقاع: يجب أن يكون التأليف حسب تتابع الجملة الموسيقية، لا تتابع النبرات في رقاص الإيقاع (مترونوم) ويعرف باوند الصورة بأنها ذلك الشيء الذي يقدم مشتبكاً فكرياً وعاطفياً في لحظة من الزمن . ولتوضيح ذلك يشار عادة إلي قصيدة له من سطرين بعنوان في محطة قطار الأنفاق :

أطياف هذه الوجوه في الزُحام
أوراق وردٍ فوق غصنٍ أسودٍ بليل

في هذه القصيدة نجد التركيز علي أشده في صورة وجوه الناس المنتظرين علي رصيف محطة قطار الأنفاق. ولأن الوجوه أهم ما يري من الجسم من هؤلاء الواقفين علي رصيف محطة قطار الأنفاق، نجد أن الشاعر لا يصف بقية الجسم الإنساني. وهذه الوجوه غير واضحة تماماً، لأن نوافذ الحافلة نصف مضببة، كما هو في الغالب، أو لأن المحطة في قطار الأنفاق ضعيفة الإنارة، أو لأن الطقس مطير، أو لهذه الأسباب مجتمعة مما يجعل صور الوجوه أطياف وجوه غير واضحة المعالم. وهي وجوه في الزحام لأن الجميع في انتظار وتحفز لدخول حافلة القطار. وهي تشبه أوراق ورد متناثرة مختلفة الألوان لاختلاف الملابس وأغطية الرؤوس من قبعات ومناديل. وهي أوراق متناثرة متلاصقة، بألوانها المختلفة فوق غصن أسود بليل.

نلاحظ غياب أدوات التشبيه في هذين السطرين، لم يقل الشاعر الوجوه مثل الأطياف ولم يقل مثل أوراق الورد وهو معني الاختصار الشديد واستبعاد أية كلمة لا تخدم الصورة أو توصل المعني.

مثل هذه الصورية نجدها تتطور في البواكير في شعر إليوت الذي كان يسير علي هدي الصانع الأمهر وهي صفة باوند التي قدم بها إليوت لقصيدته الكبرى الأرض اليباب .

في قصيدة رابسودي في ليلة عاصفة إغريقية الجذر تفيد مجموعة ألحان لا ينتظمها نظام دقيق، لكنها هنا ترتبط بصورة القمر. ونجد مثل ذلك في أربع قصائد قصار بعنوان مقدمات، هذه المقدمات الصورية تشكل مقدمات تتوسع وتتطور في قصيدتين لاحقتين بعنوان أغنية حب ج. ألفريد بروفروك وجيرونشن . لكن التطور الأكبر للصورية نجده في الأرض اليباب، هنا نجد أمثلة المعادل الموضوعي أو الترابط الموضوعي الذي ابتدعه إليوت يتخذ شكل صورة توحي بفكرة أو بإحساس بعينه دون أن يعبر الشاعر عن ذلك بأسلوب التقرير. وهذا المعادل الموضوعي تسبب في وصف شعر إليوت، وبخاصة في الأرض اليباب بصفة الصعوبة، لأنه يعتمد علي إشارات تضمينية إلي أعمال أدبية لا يقع أغلبها في حدود ثقافة متوسط القراء. ومن هنا ضرورة الشرح و التفسير. في الأرض اليباب ثمة فكرة رئيسية واحدة، مؤداها أن الحياة في أوروبا بعد الحرب العالمية الأولي فقدت نضارتها وغدت أشبه بأرض يباب انحبس عنها المطر فغدت لا تنتج زرعاً ولا تثمر، لأن أهل الأرض تخلوا عن تراثهم الحضاري و تنكروا للإيمان. ولكن العودة إلي التراث والإيمان ترسل السماء عليهم مدراراً، فتعود الأرض إلي الحياة و النماء.

لكن الشاعر لا يقول هذا تقريراً، أي كلاماً يحتمل الصدق و الكذب حسب التعبيري البلاغي، بل أنه يسرد سلسلة من الصور تشكل المعادل الموضوعي للفكرة.

وتكون الصور في الغالب مفاجئة، متضادة، شديدة التركيز و الاقتصاد في التعبير، تقوم علي نبرة المحادثة ولا تجافي اللغة المحكية بل العامية أحياناً، كل ذلك من أجل تقديم صورة بارزة، مدببة الحواف، تقوي علي التعبير عن الفكرة أو الإحساس.

في المقطع الأول من القصيدة نجد أمثلة علي ما سبق من أسلوب المعادل الموضوعي والصور المفاجئة المتضادة التي توحي بالفكرة والشعور إيحاءً لا تقريراً:

نيسـان أقـسي الـشهور، يُـخرج
الليلك من الأرض الموات، يمزج
الــذكري بالـرغبــة، يحرك
خـــامل الـــجذور بغـــيث الربيع.
الشـــتــــاء دفـّـــأنــــا، يغطّي
الأرض بثـــلج نسّـــــاء، يغذي
حــياة ضئـــيلة بدرنــات يــابـسة.
الصيف فاجأنا، ينزل علي بحيرة شتارنبركر
بزخة مطر، توقّفنا بذات عُمُد،
ثم واصلنا المسير إذ طلعت الشمس، فبلغنا الهوفكارثن
وشربنا قهوة، ثم تحدثنا الساعة
ما أنا بالروسيّة، بل من ليتوانيا، ألمانية أصيلة
ويوم كنّا أطفالاً، نقيم عند الأرشيدوق
ابن عمي، أخذني علي زلاّقة،
فأصابني الخوف. قال، ماري،
ماري، تمسكي بإحكام، وانحدرنا نزولاً.
في الجبال، يشعر المرء بالحرية.
أقرأ معظم الليل، وأنزل إلي الجنوب في الشتاء.

الصورة الأولي مفاجئة تماماً لأنها تخالف المألوف والمعروف عن نيسان، إنه شهر الربيع وعودة الحياة إلي الزهور والعشب إلي الأرض. فلماذا يوصف نيسان بالقسوة؟

في أول قصيدة مهمة في الشعر الإنكليزي هي حكايات كانتربري أبرز أعمال جوسر (1340 ـ 1400) يبدأ الشاعر بوصف الزخات العذبة من مطر نيسان، التي غسلت محل آذار نزولاً إلي الجذور. نيسان هنا يخرج الليلك من الأرض الموات، أي يخرج الحي من الميت فلماذا يوصف بالقسوة؟ ألأنه يمزج ذكري أيام النعيم بالرغبة في عودتها؟ ألأنه يحرّك خامل الجذور التي وصفها جوسر بغيث الربيع وأوله شهر نيسان؟ وهل هذا شيء رديء؟ علينا أن ننتظر ونواصل القراءة، لعل التفسير آتٍ في الأبيات اللاحقة. لكن الشتاء دفأنّا. كيف والشتاء بارد و يتطلب التدفئة؟ مفاجأة أخري وتضاد مع المألوف عن الشتاء. فهو قد غطّانا، ولكن بالثلج، وليس بدثار صوف، ثم نسينا تحت الثلج، ومن هنا ما يثير من ذكري ماضٍ ورغبة في عودته. والحياة الضئيلة التي نحياها، قياساً إلي الماضي، تتغذي بدرناتٍ يابسة، و ليس بفواكه يانعة وزرع مختلف ألوانه.

وكل هذا نقيض ماضٍ نحنّ إليه، نذكره ونرغب في عودته. الصيف فاجأنا بزخّة مطر غير منتظرة في الصيف، وهو قلب للمألوف مثل قلب المألوف من الشتاء الذي يبعث الدفء والربيع المتصف بالقسوة. وفي مقهى الهوفكارتن القريب من ذلك القصر المنيف ذي الممشى الطويل و السقف المرفوع علي أعمدة رخام، هي كل ما تبقي من ذكري زمان سعيد مضي، بنا رغبة لعودته، نجد جمعاً من الناس غير متجانس، يشربون القهوة و يتحدثون، كما تحدثت ماري لساعة، ولا ندري مع من تحدثت. هذه مدينة ميونخ الألمانية، حيث القصر ذو العمد و المقهى الذي ما يزال قائماً. نتوقع أن يكون روّاد المقهى من أهل البلد الألمان. ولكن الزمان بعد الحرب العالمية الأولي وجموع المهاجرين في أوروبا الشرقية وأمبراطورية النمسا والمجر يتكاثرون هنا فيغدو المقهى وأمثاله بابل الألسن. ومن هنا حديث ماري بالألمانية، كما يورده الشاعر. ما أنا بالروسية وتصّر علي ذلك باللغة الألمانية، فمن تلك الأيام يريد الإعلان عن نفسه روسياً؟ وهي من ليتوانيا علي بحر البلطيق، وقد ضمتها روسيا السوفيتية، لكن ماري تصر علي أنها ألمانية أصيلة . كيف اجتمع هذا التناقض في الصور والتضاد في القوميات؟ هذه صورة الفوضى في أوروبا الشرقية بعد الحرب العالمية الأولي، كما يصفها الكاتب السويسري هيرمن هسه في كتابه نظرة إلي الفوضى وهو بالألمانية، ويشير إليوت إلي ذلك في هوامشه.

هذه الصورة، بما تضمه من متضادات و متناقضات، في مظاهر الطبيعة وأحوال البشر، و تغيّر الأزمان والأماكن، تتظافر جميعاً لتوحي بالقول إن حياة أوروبا الشرقية بعد الحرب العالمية الأولي، كانت فوضي وخليطاً غير متجانس من قوميات ولغات. لكنها لا تقول ذلك تقريراً بل توحي به إيحاءً.
وتتكرر الصور علي امتداد القصيدة، تقول الأشياء بالصورة الموحية، وكل الصور غريبة غير متوقعة، تجافي المألوف وتفاجئ القارئ، وبخاصة في إشارتها إلي كتب ومقتطفات غير مألوفة لدي معظم القراء مما يضاعف الصعوبة.

مجافاة الواقع، والاختلاف عن الحقيقة هي من صفات الحياة المعاصرة كما يصفها إليوت في هذه القصيدة. ابن آدم لا يعرف سوي كومة من مكسّر الأصنام .

تغتني الصور بالإشارات إلي الكتاب المقدس، كما تغتني بالإشارات إلي الآداب العالمية و بسبع لغات. و مكسّر الأصنام و الصور المهشمة والأوراق المتناثرة التي تقذفها العرّافة في وجه ابن آدم السائل عن حقائق الأشياء ومستقبل ما سيجري..... جميعها غامضة، يصعب فهمها، تماماً مثل أوراق التارو التي تقرأ الطالع فيها العرافة مدام سوسوسترس إغريقية الاسم، غريبة الأطوار تتصل بجميع الأزمنة والأمكنة دون أن تنتمي إلي واحد منها.
المرأة العانس في مقدمات 3 تعود صورتها بشكل متطور في المقطع الثاني من الأرض اليباب . هذا التطور مرحلة بعيدة عن صورة المرأة المتشوقة للحب في بواكير شعر إليوت، وتعود للظهور بأشكال عديدة، مما يدعم الرأي النقدي أن جميع الرجال رجل واحد و جميع النساء امرأة واحدة في هذه القصيدة، ولكنها شخصيات دائمة الظهور ولو بهيئات مختلفة. المرأة في هذا المقطع مهووسة بزينتها، تحلم بالحب ولكن لا أمل لها فيه، فالحب غائب عن هذه الأرض اليباب. وحثي صورته الأدنى في ممارسة الجنس قصيرة الأمد، قبيحة إذ تتم في قاع زورق كما في حالة بنات التيمز في أدني طبقات الناس في شرق لندن.

والمرأة في هذا المقطع الثاني خليط من كليوباترا وملكة سبأ، وأوصاف غرفتها تذكر بالمرأتين : كليوباترا كانت تحلم بحب أنتوني، ورحلة ملكة سبأ لمقابلة الملك سليمان لا أحسبها كانت لوجه الله و الدبلوماسية:

الأريكة التي جَلَست عليها، مثل عرش ممّرد
فتوهّج فوق الرخام، حيث المرآة
ترفعها قوائم مشغولة بثمر الكروم
يُطل منها كيوبيدون من ذهب
(وآخر قد حجب عينيه خلف جناحه)
تُضاعفُ الشعلات في شمعدان مُسبّع الفروع
يعكس النور علي المنضدة حيث
ألقُ جواهرها يصّاعد كي يقابله،
في عُلبِ حرير تنداح في وفرٍ غميم
في حقاقٍ من عاج وزجاج ملون
ما عليها سِداد، كانت تكمن طُيوبها الغريبة
دهونُ، مساحيقُ، سوائلً ـ تقلق، تُربكُ،
وتُغرقُ الحسّ في روائح فاغمة يثيرها الهواء
الهَبوب من النافذة، فترتفع
وهي تضخّم لهبات الشمع المتطاولة
وتقذف بدخانها إلي المقرنصات
فتضطرب الزخارف علي السقف ذي التجاويف.

المبالغة في زينة الأريكة التي جلست عليها هذه المرأة تستدعي صورة العرش الممّرد من قوارير، في بهو من رخام يتوهج فحسبتهُ لُجّةً وشمّرت عن ساقيها . والمرآة ترتفع علي منضدة الزينة، تسندها قوائم مشغولة بزخرفة من مثمر الكروم بأعنابها، يطل من بين أوراقها تمثال كيوبيد إله الحب، إلي جانب تمثال آخر قد حجب عينيه خلف جناحه خفراً و حياءً. حتى الحب هنا غير واضح المعالم. وثمة شمعدان بسبعة فروع قد يكون لها مغزى طقوسي، يتضاعف النور من شعلاته السبع إذ ينعكس علي سطح المنضدة التي قد تكون من رخام لامع أو زجاج، مبالغة في مضاعفة زينة ما عليها من علب مبطنة بالحرير تطفح بالجواهر التي يغلب أن تكون زائفة، شديدة اللمعان.

ولكن هل تؤدي كل هذه الزينة إلي الجمال الذي تنشده هذه المرأة المتشبثة بالحب؟ هل أفادت كليوباترا من الاستحمام بالحليب لتبلغ الجمال المنشود ليمهد الطريق إلي الحب؟ المرأة هنا تخاطب زائرها أو حبيبها المفترض، وهي مجهدة الأعصاب هذه الليلة و تتضرع إليه أن ابق معي!! وكليوباترا تضرعت إلي أنتوني أن يبقي معها ولا يعود إلي روما، لأنها هي الأخرى كانت أعصابها مجهدة طوال الوقت، مما أدي بها إلي الانتحار بلسعة أفعى. لكن المرأة في الأرض اليباب لا تنتهي إلي الموت انتحاراً، بل تبقي تعاني من موت بطيء، في انتظار الذي يأتي ولا يأتي، نطبق عيوناً بلا أجفانٍ و ننتظر طرقة علي الباب لعلّها تحمل إلينا الحبيب المنتظر، وبخصوص المثال الأخير من الجماليات الصورية في قصيدة إليوت الأرض اليباب أضاف الناقد . د. لؤلؤة أن له أهمية خاصة في نظري لأنه حديث بعامية لندن كوكني بين امرأتين، مما يبين قدرة العامية علي التعبير البارع والتصوير الجذاب بما لا يقل عن قدرة اللغة الفصيحة كذلك. ولدينا في العربية كثير من أمثلة الإبداع في التعبير الشعري بالعامية والفصيحة لدي الشاعر الواحد، ويختتم المقطع الثاني بمشهد في حانة متواضعة في لندن، يقصدها الفقراء و العاطلون عن العمل والخدم وأمثالهم. هنا ليل وهو اسم تحبّب قد يكون أصله ليليان وهي زوجة ألبرت الجندي الذي غاب عنها في الحرب أربع سنين، وهي تنتظر عودته، رفيقة ليل في الحانة تبدو أكثر منها حكمة وتعقلاً فتقدم لها النصح لتحافظ علي حياتها الزوجية، وما قد يكون فيها من حب، لدي عودة الزوج من الحرب.

لقد تعبتُ في ترجمة هذا المقطع بلغته العامية، إذ لا يجوز ترجمته إلي الفصيحة إطلاقاً، لأن ذلك يفسد القانون البلاغي في مطابقة الكلام لمقتضي الحال مع بلاغته وفي القديم كتب دانته اليفييري أبرز شعراء إيطاليا في عصر الانبعاث كتاباً بعنوان فصاحة العامية وكتبه باللاتينية، لغة الأدب و الشعر في عصره، ولكن بأية عامية أترجم هذا الكوكني إلي العربية، دون تفضيل عامية من العاميات الاثنتين والعشرين؟ وأخيراً، وجدتُ أن أحسن الحلول السيئة أن أصطنع لغة هي منزلة بين المنزلتين، فصيحة ـ عامية، تتجاوز قليلاً علي قواعد النحو والصرف، و لا تغيب طويلاً وراء العامية إلا لتبدي أساسها الفصيح، فكانت هذه النتيجة :

ولما سرّحوا زوج ليل قلت لها ـ
وما اختلقتُ كلماتي، قلت لها بنفسي،
أسرعوا رجاء انتهي الوقت
لأن ألبرت راجع، حسّني حالك حبّة،
حتماً يريد أن يعرف الذي عملتيه بالفلوس التي أعطاك إياها
حتى تعملي لك بها أسنان، أعطاكِ، كنت حاضرة.
اقلعيهم كلهم يا ليل واعملي ضبّة لطيفة،
قال أقسِم أنني لا أتحمل النظر إليكِ.
ولا أنا أتحمل، قلتُ، وتذكري، ألبرت المسكين،
كان في الجيش أربع سنين، ويريد أن يتسلي
وإذا أنت لا تسليّه، هناك غيرك علي استعداد، قلتُ.

هذه الصورة تكاد تكون سينمائية، فهي توحي بوجود عدد من الناس، أخلاطٌ من رجال و نساء أشبه بما وجدناه في الهوفكارتن. الحديث بين ليل وصديقتها يشبه الحديث بين ماري و الآخر الذي تشير إليه بقولها وشربنا القهوة ... وتحدثنا الساعة، لكن الحديث في هذه الحانة أكثر حيوية، لا لأنه متقطع متبادل بين اثنين، بل لأنه يوحي بحركات من اليد وارتفاع وانخفاض في نبرة الصوت للتعبير عن الاندهاش و الاستغراب مثلاً. يمكن وصف المشهد هنا بأنه درامي لأن فيه عناصر الزمان و المكان و الفعل. هنا حوار بين اثنين وحضور شديد لشخص ممثل آخر هو النادل الذي يدور بين الزبائن و يعلن للجميع أسرعوا رجاء انتهي الوقت أي أسرعوا بطلباتكم الأخيرة لأن وقت تقديم الشراب انتهي ولن نقدم شراباً بعد هذه الساعة، وقد تكون العاشرة مساءً. تكرار تنبيه النادل وهو يدور بين الجالسين يوحي بحركة دائمة وفعل، هما أساس الدرامه . إشارة ليل إلي حبوب إسقاط الجنين التي أخذتها حتى أنزّله تكاد تستحضر صورتها أمام القارئ وقد مطت وجهها. وصرخة رفيقتها استنكاراً لنصيحة الصيدلي الذي قال كل شيء سيمضي علي خير سببها أن ليل لم تستشر طبيباً حول أخذ تلك الحبوب الخطرة، بل استشارت الصيدلي وهذا دفعها لأن تصيح أما صحيح مجنونة .

وفي آخر المقطع مشهد درامي آخر إذ يبدأ الزبائن بمغادرة المحل، منهم بل اسم تحبب من وليم ومنهم لو وتذكرون لوسي ومنهم مي وكل منهم يسلم البقشيش إلي النادل الذي يشكرهم بكلمة عامية لا شبيه لها في أية عامية عربية ... فكان لابد من ترجمتها شكراً ... شكراً أما ليلة سعيدة فهي تصحيف لا بد منه لعبارة النادل المصحفة في الأصل.

هذه الحركة في الخمارة، وأنواع الفعل واختلاف الأصوات و النبرات وعدد الشخصيات في المشهد تضفي علي الصورة حيوية، وتجعل من الأسلوب الصوري في الشعر معالجة سينمائية.

(في محاضرته بدارة الفنون)

القدس العربي
2003/09/15


إقرأ أيضاً: