(أمقت الأسلحة
لا أحسن الحرب
وليس لدي جنود ولا سعاة
وحدي....
كلما ارتدت هجمة أسعفت الجرحى،
وبعثت بالأسري مدججين بالهدايا)
قاسم حداد
يتعين عليّ بادئ ذي بدء ان أوضح أمرا أرى في توضيحه ضرورة تقتضيها صرامة القراءة من جهة وفرادة النص من جهة ثانية وهذه المسألة تتلخص في ان القراءة تطمح دائماً لتقول شيئاً في الحيز الذي يخصصه النص فشأنها ليس أكثر من الإشارة الى الجوانب الفنية التي ترغب في إبعاد الشعر عن كل ما ليس له علاقة بالشعر وشفيعي في ذلك ما قاله الشاعر محمد مظلوم ان لا اسم للشعر سوي نفسه ولا للشاعر سوي قصيدته.
دائماً اشعر ان عملية الانفتاح علي النص الشعري لا تتم إلا من خلال التواصل ما بين القارئ والنص عبر استراتيجية فنية يحددها الطرفان كي تتم عملية التجاوب بين حزمة الأفكار والدلالات الفنية المنثورة التي يشكلها النص نفسه بوصفه انجازاً ذا قدرة فائقة علي جذب المتلقي.
الحرب ليست قدراً غيبياً ولكنها ظاهرة من ظواهر النزاعات النفعية التي يذهب نتيجتها الكثير من الأبرياء، وعملية القضاء علي الحرب وكوارثها لاتتم بتوجيه اللعنات والشتائم إليها فقط بل باتخاذ موقف حاسم نتحمل فيه كافة النتائج، فالكتابات الشعرية ـ تحديداً ـ التي تناولت موضوعة الحرب ليست مجرد عرض واع للكثير من جوانب الفهم والاستيعاب الدقيق لنتائجها خصوصاً علي حركة وتطور المجتمعات الانسانية بل لما لهذه الحروب من فظاعات ومآسٍ قد تستمر الى سنوات طويلة، والحرب لا تزول إلا بزوال أسبابها بصورة عملية وبشكل فعال لا بقرار من هذا أو بمؤتمر هناك.
يستعين الشاعر محمد مظلوم بالتراكمات الهائلة التي أفرزتها الحروب في وطنه العراق ومن خلال ذلك تولد لديه أسلوب متميز في تناوله لموضوع الحرب والنص الذي كتبه مؤخراً ونشر على موقع كيكا الثقافي والذي اسماه (وجوه البرابرة) توزع الى عدة مفاصل مرتبة كالآتي:
1 ـ دائماً ثمت برابرة
2 ـ زاد الرحلة
3 ـ نحن برابرة طيبون
4 ـ أين كلكامش يا كولومبس
5 ـ سلالة القرابين
هذه المسميات ليست سوي أنسجة متداخلة أستحضرها الشاعر ببراعة من فسيفساء الحرب لتتقطر من خلال دلالاتها كل المرارات التي أربكت روح الشاعر لتمنحه في نفس الوقت نفساً شعرياً طويلاً لا تهضمه الأزمة بل يهضمها لنمضي معاً الى مايقوله في المفصل الأول المعنون دائماً ثمت برابرة:
يختطفون الليل من هبوبهم
ويهزمون دائماً.
يحتطبون فجرهم
على رحى طبولهم
وفأس موسيقي بعيدة
ويختفون في ظلالهم
ويهزمون دائماً
هذه القدرة علي التنبؤ والإصرار على إدراك الهزيمة لمثل هؤلاء البرابرة لم تأتِ اعتباطاً أو ترفاً شعرياً فقد ذكرت في البداية كيف استطاع الشاعر الاستعانة بحجم وطبيعة التراكمات الهائلة التي أفرزتها الحروب لديه، ثم هل ننسي ان الشاعر سليل هذه الحروب التي وقف ضدها مما اجبره موقفه هذا علي الخروج من وطنه مثل الكثير من أقرانه ومجايليه من المثقفين العراقيين وتحملوا ماتحملوه من عبء المنفي.
في هذا المقطع تحديداً أربكني الشاعر كثيراً في دعوته هذه التي بدت علي شكل أسئلة حرجة في إطار من الوعي الحاد والتصوير الشعري الفريد الذي دونه الشاعر محاولاً ان يبسط الموقف رغم تعقيداته وتناقضاته مكرساً هيمنته هو في خطابه مع هكذا برابرة فيقول:
فيا ابن خلدون انتظرهم معنا كي يدخلوا المقدمة
بطائراتهم
تهيج الخريف المر في عزلته
والغيمة العجوز في كهوفها
بكاميراتهم
بطيرهم
يمس في الدجى أكتافهم
ويخيط الهواء في رئاتهم
بشهقة حزينة
المراوغة الجمالية الموحية التي يمارسها الشاعر عبر تناصه مع قصيدة الشاعر كافافي أتاحت لنصه بعداً تواصلياً في مجمل النص وعبر مفاصله الخمسة، ولأن المقاربة الجمالية هذه أتاحت للشاعر أيضا فرصة نادرة للسرد المقتضب بمعانيه وإيحاءاته التي جعلت المتلقي في حالة ترابطية متواصلة مع النص انطلاقاً من تجارب الشاعر في كتاباته الشعرية التي اعتبرها امتداداً لمغامراته في التجريب والخوض في الأماكن المليئة بالألغام لنصغي الى مايقوله هنا:
تنام روما كلما توسدوا وباءهم
وتستفيق نملة الخلود
يصطحبون أوجه الطغاة للتاريخ أو لمتحف الشمع
وللغموض أو للوحة الحروب
ويدفنون بيضة الحضارة
في البحر أو في خزائن العبارة
ودائماً ثمت في خاطرنا برابرة.
يمنحك النص في بعض الأحيان عنصر المفاجأة التي تستدعي من القارئ استحضار ما تختزنه الذاكرة من مشاهد ومواقف تتعلق بكل الجوانب التي تركت الحروب المتعاقبة وشمها علي تلك الذاكرة وبهذا تبدو لنا المفاجأة وكأنها حالة متوقعة لا تتخطي متعة الدهشة المصاحبة لها الى ما هو عكس ذلك وفي المقطع المعنون زاد الرحلة مايشير الى ما ذهبت اليه لنقراْ:
ما الفرق إن مكثوا فراعنة بواحات
أو انهمروا حلولاً خصبة في الذاكرة
أو شيدوا أمما من النسيان
أو سكنوا ظلالاً عابرة؟
ولعمري فقد استطاع الشاعر ان يقدم لنا مفاتيح جديدة للدخول في فهم جديد عن برابرة قادمين علي متن سفينة عائدة لهذا المدعو كولومبس فهؤلاء البرابرة هم ليسوا أولئك الذين (كانوا نوعاً من الحل) كما وصفهم كافافي، فيبدو ان مبررات الشاعر اليوناني ليست كأدلة الشاعر العراقي التي جعلته يشكك في نوايا البرابرة الجدد وهنا أورد قول الشاعر في هذا المقطع :
ما كنت في بغداد
إلا جرحها الأعمى يفتش عن ضماد
لم يبق مني إنني ماض كخيط في الحريق
أو ناسك يصف الطريق
جاء الغزاة مضي الطغاة
تري المرايا ما تري
فلأي بهلول سيتسع الطريق
المنظور الجمالي الذي عززته دلالات النص وبمكونات تعبيرية دقيقة شكلت رؤية ذات حساسية عالية في التعاطي مع الكثير من الالتقاطات التي تضمنت في نفس الوقت قدرة الشاعر علي إفراغ الحرب من علاماتها الفارقة وتحويلها بشكل تراكيب مسكونة بهاجس حميمي لا يخلو من فعل الصدمات التي أحدثتها انكسارات الشاعر بحكم تصاعد المأساة التي بقيت حاضرة في فضاءات النص وتفاعلت مع الأحداث لتؤكد قابليته في الإمساك بتلابيب هذه المأساة وإخضاعها ببلاغة لغوية غير مأزومة علي البناء الأسلوبي في النص وسأورد هنا بعض المتفرقات من النص:
سيسألكم نهر عيسي
عن البلم المنكسر في نهر موسى
عن النخل
منعكساً فوق ظلال الجيوش الكثيفة
......
ونحن برابرة طيبون
لنا الشرق كهف
نزينه برسوم بدائية لأنه يساكن روحنا
ونساء نضخم أجسادهن ليشبعن طمي فحولتنا الراكدة
يتقابل في النص خطان متعاكسان ومتقاطعان في الوقت ذاته، هما الموت والحياة ولذا يستحيل الجمع مابين معني الحياة بكل أبعادها الانسانية ومدلول الموت بمضامينه الميتافيزيقية والغيبية الى ان يصل الشاعر تدريجياً الى نقطة اللاعودة التي يحيلها بصورة قسرية لتتقاطع مرة اخري مع منظوره الخاص الذي يتجاوز به الموت الى الحياة علي شكل حوارات وردت في النص تنقلنا الى ان نتحدث بلسان حال الشاعر وبهذا يمنح القارئ وظيفة يشتركان بها معاً في تأسيس رؤية للحياة تسهم في إيجاد طابع واقعي الى حد ما يحرصان من خلاله للعودة اليه بين الفينة والأخرى بوصفه المرجعية الأولي للإنسان، ورغم هذا الحرص الشديد الذي يبديه الشاعر لمعاني الحياة يحاول ـ أحيانا ـ إيهامنا بواقع مربك رغم استخدامه الإشارات الرمزية العابرة في النص ولنقرأ ما جاء في المفصل المعنون أين كلكامش يا كولومبس:
عليك ان تمر من قوس الخديعة وأساطير العنكبوت وتخرج هاذياً:
البصيرة البصيرة
هذا الليل لا يكفي لأري عين هوميروس خرزة الإغريق الضائعة في المدرج الروماني
لا يكفي هذا الليل لإحراق إنجيل بيزنطة وتأنيب أوغسطين علي تفاحة تدحرجت لتصل الحدود كقنبلة متسخة بالجغرافيا.
ويعود مرة اخري الى لعبة الترميز والإشارات البالغة المعني والموغلة في الجمال ويقول:
فهل لكولومبس نار مشتعلة عند ضفة الفرات
هل لدي كلكامش مايعطيه للتائه
هنا استطاع الشاعر ان يتغلب في جعل موضوعة الترميز هذه خالية من التوظيف الشكلي الذي مارسه الكثير من الشعراء مما جعل نصوصهم محملة بأعباء أسطورية وأسماء أشخاص وإشارات بقيت محتفظة بالجانب التقليدي الذي نراه يطفو فوق الكثير من النصوص لكن شاعرنا هنا لجأ الى طريقة متميزة حول من خلالها الرمز الذي استخدمه في القصيدة الى جزء من القصيدة ذاتها يتمثلها تمثيلاً متكاملاً ولنكمل ماكتب في المفصل الخامس المعنون سلالة القرابين:
أنهم آخر لون لهنود الله في هذا السواد
بقعة غامضة في وجه أيامك
فأنقشهم علي جلد الرمال
في هذه المقاطع المتشابهة الى حد ما تضطرم في روح الشاعر حالة من الرفض الى أقصي حد لها ضد كل ما هو ضد الحياة وضد الشعر لذلك يكسر الأعراف التقليدية في نهاية النص من المقطع المعنون سلالة القرابين الذي يقترب كثيراً مما يريد انتزاعه وقلعه من مخلفات الحرب انطلاقاً من وعيه ومعرفته الشاملة بمجرياتها التي تتداخل فيها عوامل عدة كالارتباك والفوضى وعدم التوازن ويريد ان يبرهن بأن الفخ ـ فخ الحرب ـ قد ينصب مرة أخري وأخري من خلال مجيء البربري أو عودة السومري فيقول هنا:
دعها هنا وامش علي الماء أو الغيمة
أو أرنبة الأنف فأسنان الرمال استأثرت بالأثر التائه والنيران
ما عادت هنا، فأخرج إلي العالم منه
ليجيء البربري
أو يعود السومري
يبقي لدينا في نهاية هذه القراءة تلك الكثافة من اليوميات الضاغطة والهواجس المخيفة نتيجة هذا الكم الهائل من التجارب الصعبة والمريرة وعجلة الحروب المخيفة التي لا تتوقف عن التصفيات القاسية سواء المنظور منها وغير المنظور ثم سطوة التحولات الدراماتيكية والمنافي، السجون، الحروب، الحرمان، ومخاوف أخري قادمة، كل هذا يجعل من اللغة ان تصطخب بطريقة مليئة بالتصميم والقدرة علي ان تقدم لنا شهادة وافية تثير انتباهنا بطريقة دقيقة جداً خلال ما أورده الشاعر في قوله:
أيها الميكانيكي انتظر العالم في شاحنة عاطلة
أيها الميكانيكي انتظر العالم كي تخرج منه
ليس من شأنك ان توقظ روح الأرض في الأرض
و تمضي بالأساطير علي دراجة أرسلها الشيطان
أو دبابة تحفر في البيت كوابيس لتبقي معنا
القدس العربي- 2004/08/10
أقرأ أيضاً: