عبد الكريم كاظم
(العراق)

عبد الكريم كاظم إن القول بأن النص الشعري يستند بالضرورة على واقع ملموس وان هذا الواقع يشكل مرجعاً له، فإن ذلك يعني افتراض علاقة حقيقية بين النص ـ الواقع الذي يعطي القراءة حق التأويل والتفسير واكتشاف مكامن الجمال والمعنى .
مع امتداد تجربة جواد الحطاب الشعرية إلى آفاق جديدة ومع دخولها في صيغ وأشكال تعبيرية متعددة وتحريكها أفكاراً وصوراً وأحاسيس ومواقف أكثر تنوعاً عن الأفكار الشعرية التي عبرت عنها نصوصه السابقة يمكن تبين خطين متوازين في الكتابة الشعرية في هذه المجموعة الصادرة حديثاً والمعنونة (بروفايل للريح،رسم جانبي للمطر/تنويعات على نصب الحرية): أولهما الخط التخيلي الذي لا يتوسل بالمعنى للنفاذ إلى مخيلة المتلقي وهذا الخط يهدف، في نفس الوقت، لخلق عالم سحري منطلق من عالم الواقع، وأعني التنويعات المتعلقة بنصب الحرية لجواد سليم، ومتحرر منه في الآن الواحد. وثانيهما الخط التفسيري الذي يتوسل بلغة النحت لفهم نزعات الأفراد والجماعات وعلاقة القوى المتقاربة أو المتناحرة داخل فضاء المجتمع العراقي . والخط الأول هو الذي تجلى بهذه العبارات التي وضعت بصورة محطات للخيال مزروعة داخل صراخ الأمهات المقارب للصهيل: (تبرعت الأمهات بصراخهن إلى الحصان فلا سلاسل تقيد الصهيل). أما الخط الثاني فهو الذي يتبدى في النصوص التي تشكل المادة الشعرية الأساسية للتنويعات والتي تتضمن حواراً بين موضوعات نصب الحرية بحيث توصل الشاعر إلى اثبات فكرة أو جملة أفكار يطرحها الأثنان، الشاعر والنحات، أمام ذهن المتلقي في محاولة لإقناعه برؤيتهما لهذا العالم وهذا المجتمع من خلال حركة الزمان/المكان تلك الحركة المحملة بالمعاني، لنقرأ هذا المقطع: (في الزمن التقريبي ل'كعك السيد'/بأخاديد الدبابات تصنع القنصليات بيوضها) .ونود أن نضيف إلى ما ذكرنا سلفاً ملامح أخرى نذكر منها: سرعة دوران التعبير الشعري بين الصور والأفكار وتحاشي الالحاح على الصورة الواحدة أو الفكرة الواحدة أو المعنى التائه، فالسياق الشعري لدى الشاعر يأتي تحويماً ولمحاً وإيماء ويتحاشى ثقل الاجترار بالمعنى، لنتأمل هذا المقطع: (يمعودين/لا تجمعوا اسمين في اجسادكم/يكره العراقيون تزاوج الاسماء/حتى حين صار لهم 'فيصل ثاني' قتلوه) وكذلك في هذا الشطر: (الآن لبغداد بابٌ واحد/باب الآه).
من الخصائص الفنية، في مجموعة (بروفايل للريح/رسم جانبي للمطر) التي تعطي أسلوب الحوارات الشعرية نضارتها ابتعاد الشاعر عن الوصف والتقريرية لكننا نجد لجوءاً للاستعارة في نصوص الحطاب إضافة على تركيزه للحديث عن التفاصيل اليومية أو عن علاقات الناس بالتفاصيل والكائنات التي تحيط بهم فهذه التفاصيل لا تستحضر في نص الشاعر في سياق وصفي تقليدي وإنما تنتظم في سياق هو أقرب إلى سياق الحكاية (الدرامية حيناً والضاحكة حيناً آخر) لنقرأ بعض من هذه الالتقاطات: (امتلأ الاسبوع دماً فمن أين سنستأجر أياماً بيض) (يسير الانبياء على الماء ونسير على اللهب فهل اختارنا الله لتبليغ رسالته الجديدة) (حين أموت أدفنوا معي بطارية ضوئية فأنا أخاف من الظلام). ثمة فقرة اخرى مهمة، في نصوص الديوان، تتعلق بموضوعة الحرب، وسياق هذه الفقرة يأتي إما في صيغة حوار يتحدث فيه الشاعر عن موقفه وإما بصورة كتابة شعرية مغايرة للاحداث يتناوب فيها الخطاب الموجه للاشياء، أعني منحوتات جواد سليم، مع طبيعة الحدث الدرامي المثقل بالخراب إذ تأتي هذه البراعة في تضمين النص الشعري هذه التفاصيل بجمل شعرية بالغة البساطة والتركيز مع القدرة على أن يخلق الشاعر ببضع جمل مناخاً درامياً محملاً بطاقة مدهشة للنفاذ إلى ذهن المتلقي، لنطلع على مثل هذه الجمل الشعرية الموجزة: (أخيراً تمكنت المجندات من أرحام آبائنا) (فتحت الطلقات 'غاراً' له في جسده واعشوشبت وراءه المقدسات) (حبة دمع واحدة من عين أم كافية لتعقيم الملائكة) (نطالبكم بترشيد القتل) (على موائد عمرنا جميع فواكه العبوات ويرسب أولادنا في الدرس/لا يعرفون إعراب المفخخات) (ما فائدة النياشين على ملابس القتلى) (واعين/مفتوحي الأعين نذهب إلى المشرحة).

المعنى الشعري الذي يحمله شعر جواد الحطاب في هذه المجموعة لا يمكن تحديده في هذه القراءة، ولكن حسبنا أن نقول إنه في غالبيته يدور حول هذه التنويعات المتعلقة بنصب الحرية وقد يأخذ علينا القارئ تغافلنا عن الإشارة إلى أهمية المعنى الشعري الآخر المتواري أو المتناثر في مخلوقات هذا الصرح الفني المتنوعة إذ أن الحدود الفنية لا تمحى بين المعنى الشعري والفني، في هذه التنويعات، الذي نجح الاثنان في خلقه عبر الكلمة الشعرية والحجر، ويمكن القول أيضاً لقد استطاع الاثنان ان يحققا الانجاز الذي يتمنى كل فنان لتحقيقه وأعني أن يحتضن في معادلة واحدة، أزميل النحات وقلم الشاعر، وبضرب من السحر أيضاً أدخلا أشياء هذا الصرح الفني في لعبتنا الإنسانية وجعلاها تتصرف كالكائنات الإنسانية، لقد قاما بعملية 'أنسنة الحجر' كأقرب طريق للوصول إلى المعنى الفني والجمالي واللغوي، ويمكن لنا ملاحظة ذلك من خلال هذه المقاطع الشعرية المختارة: (على صباح النصب/دعاني البرق/ومن حلمة دجلة رضعت روحي) (أنى يكون لي قرين ولم يمسني نحات) (هل احد يُصاب بالجغرافيا؟ ولدنا مصابين بالعراق).
ثمة في نصوص المجموعة معنى آخر يكثر تكراره، وهذا المعنى الذي يكرره الشاعر لغرض وجداني يتصل ببُعْدٍ تاريخي ويشكل أحد الهموم الشاغلة الملازمة للمصير العراقي وللشاعر أيضاً، أعني به جريان الزمن وتلاشي المكان، وقد جاءت عبارة الشاعر هنا تاكيداً لذلك: (لنسدد فاتورة السبي البابلي) أو (على عدد المعابد يستهلك العراقيون آلهة) ومن خلال هذا المعنى نستنتج اللوعة التي يخلقها الإحساس بجريان الزمن الذي يتخذ أشكالاً عدة والموضوع الأكثر استقطاباً لهذا الجريان الزمني يتصل بالحسرة على الحياة العراقية الراهنة وهو بذلك يلتقي مع مجرى ثابت في المحنة والحروب والخراب وحكمة الاسئلة التي لا تنتظر إجابات فقد أشار الشاعر أيضاً لهذه النقطة بعباراته الشعرية المحملة بالكثير من الدلالات: (من يملك الإجابات سيخسر حكمة الأسئلة) أو (فكر كم حكمة خسرتها حين لم تضع علامة استفهام).
ثوابت الرؤية الفكرية التي تعبر عنها نصوص الشاعر العراقي جواد الحطاب تعطي للمعنى نكهة المناخ السحري الذي نراه مبثوثاً في المفردة الشعرية او في التقاطاته المغايرة التي لا يغرقها بالتفخيم البلاغي هذا فضلا عن الاتجاهات الواضحة في تمجيد المعنى الشعري الذي يتضمن، في نفس الوقت، مواقف الشاعر من مسار الأحداث الدراماتيكية التي حصلت بالبلاد ويكفينا ان نشير إلى هذه الالتقاطات الشعرية التي تؤكد ما ذهبنا إليه من تفسير: (تركوا العراق في غرفة الانعاش وانشغلوا بالقسام الشرعي) (من يرقات 'بوكا' يطير قابيل إلى مصحة الغربان/ويتحول الإنسان 'اكسباير' إلى بوق اسرافيل) (من سيحمي عفة الاحلام في القيلولة الوطنية) وكذلك هذه العبارة الشعرية التي يسير بها الشاعر بموازاة فضوله الشعري لاكتشاف حقائق الوجود بواسطة حواسه أو بواسطة اسقاطاتها المخبوءة في تفاصيل المعنى الشعري الذي لا يخلو من الدعابة والسخرية: (يسحب 'مريم' من كرادة الحكومة) أو في هذه العبارة التي تحمل الكثير من معاني المرارة، وحسبنا أن نقول أن المعنى هنا هو من الغزارة في المادة الحوارية التي تتيح لنا الخروج بانطباع بالغ الاتساع ويتسم بالشكل اللغوي المركب الذاهب إلى تفسير معنى المرارة: (حين لا يكون مجد في الانتصار عليكم احترام الهزيمة).
وقبل أن ننهي ملاحظاتنا عن الخصائص الجمالية الفنية للكتابة الشعرية لدى الحطاب، نود ان نؤكد على حقيقة شعرية وهي ان الشاعر لم ينفك عن الاحتفاظ بالكثير من هذه الخصائص لشعره حتى في المقاطع القصيرة أو الجمل المركزة التي تدور حول المعنى خصوصاً في هذه المفردة (صحراء ــ صح/لا) فقد نجح الشاعر في بث الإضاءة الفكرية التي تكوكب عادة في كل عمل شعري داخل اللغة الجديدة والقول المغاير، لقد وسع الشاعر بنصوصه الشعرية هذه حدود المعنى ليقيمها حدوداً لنص شعري بديل يصل بمنتهى البداهة إلى خيال المتلقي .

هامش:

1ـ بروفايل للريح/رسم جانبي للمطر: تنويعات على نصب الحرية/شعر جواد الحطاب/منشورات شرق غرب .
2ـ نصب الحرية لجواد سليم يتكون من 25 شخصا و 14 وحدة.. تم تنفيذ النصب في سنة ونصف، طوله 50 مترا وعلو منحوتاته 8 امتار..هذه الإشارات من دراسة تفصيلية عن نصب الحرية لجبرا ابراهيم جبرا .

القدس العربي- 2013-03-27