كائنان غريبان يعبران الحديقة بخفة الطير
وليونة الأفعى وخضرة الشجر وشفافية الحب
بعد قرابة أسبوع على انطلاق مهرجان المسرح التجريبي في القاهرة (افتتح في 20 أيلول الجاري)، قدمت أعمال مسرحية عربية وأجنبية عديدة من ضمن البرمجة، وعلى مسارح عديدة، من مجمعات (الأوبرا) و"الحناجر" و"القومي" وفي محيطه "الطليعة" و"العرائس"، "زكي طليمات" الى الأبعد "الجمهورية" و"السلام" و"قاعدة الغد التجريبية" و"العائم النيل" و"البالون" و"محمود المختار" و"الجامعة الأميركية".
ما يلفت أن معظم أو حتى كل صالات المسارح التي تستقبل عروض المهرجان شهدت وتشهد اكتظاظاً وزحمة وإقبالاً شديداً، لا سيما من قبل الأجيال الجديدة. فالشباب إذاً ما زال عصب المهرجان ومتفرجه الأول. وما يلفت في المقابل، شبه غياب للمسرحيين والسينمائيين المحترفين في مجال المسرح والسينما والتلفزيون قلّما لمحت مخرجاً أو كاتباً أو ممثلاً مسرحياً من جيل الخمسينات أو الستينات أو السبعينات ما عدا قلة تشترك بحمية وفاعلية في الندوات (كالمخرج سعد أردش والباحث والمخرج أحمد سخسوخ، والمخرج د. أحمد زكي، و المخرج السيد حافظ... وبالطبع نهاد صليحة).
إذاً المهرجان هو مهرجان يطغى عليه العنصر الشبابي، تماماً هي الحال في مهرجان قرطاج وبعض مهرجانات دول الخليج.
وإذا عدنا الى عروض الأسبوع الأول، نجد أن ثمة توازناً بين الاتجاهات التجريبية "جزء الداخل" (فرنسا) أو "مفقودات" (إنكلترا) و"أوربا" (سويسرا)، وبين الاتجاهات التقليدية والكلاسيكية "سيدان من يرونا" (بولندا)، و"فاطمة" (فلسطين)، و"ناس وحجارة" (المغرب)، و"الفرقة الخالدة" (عمان)... وبين عروض "النصوص" وعروض الحركة والصورة والاداءات والسينوغرافيا وصولاً الى الكوريغرافيا.
نتوقف هنا عند بعض الأعمال التي قدمت:
أوربا
"أوربا" (سويسرا)، انه مسرح قد تجوز تسميته "مسرح البيئة"، أو "الأمكنة"، و"المسرح خارج المسرح". ففي حديقة دار الأوبرا الفسيحة، وعلى امتدادها طولاً وعرضاً، رسم مسار "الشخصيتين" الغريبتين. لا هما إنس ولا حيوان ولا جان ولا أنثى ولا ذكر ولا من سكان الأرض الذين نعرفهم. قد يذكراننا بـ"الأمير الصغير" (أكزوبري) أو بـ"إ.تي" (سبيلبرغ)، أو بتلك الكائنات التي تهبط علينا من عل، أو تطلع علينا ولا نعرف لا من أين، ولا كيف، ولا متى.
فجأة يظهران. واحد في جهة. والآخر في جهة ثانية. لونهما أخضر. شكلهما غريب. بلا نتوءات. أملس. بجلد (من قماش) أملس. بوجهين أملسين. ربما بلا عينين. ولا أذنين. ولا شعر. لون واحد يصبغهما (رأينا مثلهما في العديد من الأفلام). هل هما كائنان جاءا يبشران بعالم آخر. هل هما في زيارة قصيرة يعودان بعدها الى حيث لا ندري. أتيا من المجهول ثم ما لبثا أن عادا الى المجهول. أخذا من القرد خفة قوائمه. ومن الأفعى ليونتها، ومن الضفدع انتباهه. ومن الثعلب حذره، ومن الهر خوفه، ومن الطبيعة حنانها، وحنوها، ومن الماء انسيابه. كائنان جميلان يعبران بحركات متعرجة كل أشياء المكان: يختفيان وراء النبات. يلتفان حول الجذوع وأعمدة الكهرباء، يتغلغلان في فجوات الجدران، يتسلقان التماثيل والنصب، يسيلان على البلاط، يتلونان مع أخضر الشجر. وبين الجذوع. وبياض الجدران. وفراغ الهواء. ليشكلا مع هذه الأمكنة سينوغرافيا طبيعية. متحولة. متغيرة، وليكونا مشهديات مرتجلة مع تلاوين العشب، والورق، والحجر، والماء، والضوء.
والممثلان (عرفنا بعد انتهاء العرض أنهما فتاة وشاب) يتمتعان بقدرة فائقة على المرونة الجسدية. كأنهما من طينة طبيعية، أو من ماء يأخذ شكل الأشياء. مهارة مدربة وخبرة عالية، تمكنا من خلالها، من تقديم عمل ارتجالي بالمعنى المرسوم، أو السيناريو الموضوع في فضاء ارتجالي.
لحظات حنان واستمتاع رافقنا بها الثنائي "الغرائبي" عبر كل هذه الأمكنة المتغيرة. فكأن المكان يُصبح آخر من يزوره من عالم جديد أو مختلف. و الجمهور الذي تبع هذين الكائنين على امتداد 40 دقيقة في مساحة الحديقة وفي زواياها، ونباتها وتماثيلها، كأنما كان يتبع "مجهولاً" جميلاً، جاء من المجهول ثم عاد الى المجهول.
مفقودات
ـ "مفقودات" (إنكلترا). كل منّا في حالة فَقْد. أو يبدو أنه يفقد شيئاً باستمرار. كل الناس يفقدون أشياء باستمرار وناساً وعلاقات وأمكنة. العالم يمشي ونحن نمشي ونفقد. أي نخسر. منهم من يفقد نظاراتيه. منهم ما يفقد ابناً. أو حبيبة. أو عزيزاً. والبحث يجري عن هذه المفقودات في علاقات ومصادفات متصادمة وعنيفة أحياناً حنونة أحياناً أخرى، وغامضة وواضحة وقلقة ومطمئنة وداهمة وواثقة. هذه الحالات من الفقدان، والتي تعبّر عما قد يتجاوز الظاهر والأمتعة والوجوه الى الوجود نفسه. الى الكائن نفسه. في هذه المنافسات تحركت شخصيات تبحث عن مفقوداتها كما يبحث الممثلون عن مخرجهم في مسرحية مرتجلة بلا نص ولا شخصيات محددة.
الفكرة جميلة والممثلون على درجة عالية أحياناً من الأداء. لكن بدا وكأن هناك ارتباكاً في النص، وفي الرؤيا النصية، وحتى في المفهوم الكوريغرافي (الحركة الإيقاعية، الرقص). ونظن أن هذا الخليط من المشاهد الحركية، والنصية، وحتى الإيمائية، لم يجد نقاطاً مشتركة، تبلوره في بناء. ولهذا بدا الإيقاع العام للمسرحية مشوشاً. وبدا أن الوصلات المتداخلة من الرقص التعبيري الحديث والجامع الروك والباليه وسواهما، وإن أعطت زخماً، فإنها بقيت، على أقله في بعضها، تخدم نفسها بمجانية واضحة. أي أن البؤرة الدرامية التي تتجه صوبها كل الحركات والمشاهد والعناصر (من إضاءة وموسيقى وألوان) بدت ضعيفة، بحيث أنها لم تلتقط كل هذه المتفجرات في فضاء جامع وإن مفتوحاً. وهذا ما يقودنا الى القول إن فكرة المسرحية رائعة، ورؤيتها رائعة... لكنها لم تكن ناضجة ما يكفي لتعطينا عملاً منسجماً، ومحبوكاً، ومصوغاً كله بلمسة واحدة. أو بإيقاع واحد. أو بمسحة واحدة. يعني أنها تقدمت كمجموعة اسكتشات وليس كمجموعة مشاهد (أو لوحات) تنتمي الى دمغة أو توقيع مُعيّن.
ناس وحجارة
ـ "ناس وحجارة" (تأليف عبد الكريم برشيد، إخراج يوسف الريحاني، المغرب). نعود هنا الى النص كمصدر أول للعمل، وللإخراج، ولسائر العناصر. النص هذا كتبه المغربي عبد الكريم برشيد في نهاية السبعينات. نص مونودرامي يحمل كل أشكال القلق والفجيعة والهزيمة الداخلية عند إنسان عربي وراء قضبان تلتبس بجدران داره. ووراء جدران تلتبس بقضبان السجن. انه مُقيم وسجين في آن واحد. ينبش في أحواله وأحوال العالم في عزلة مفتوحة على ذاتها، من خلال شاشة فيديو أو صور تبدأ بصورة آينشتاين وتستمر مع صور الإنسان ـ القرد، ومن ثم مع صور من هذا العالم الفاجع.
الحروب، القنبلة الذرية، المذابح، الموتى، القتلى... اذاً هي عزلة تتفجر بمآسي الذات والعالم. وفي نص ملون، متنوع، وقائم الى حد ما على التتابعات أو التوازيات من دون التركيز على تصاعد في الدراما تصاعداً مألوفاً، وإنما على تصاعد متفاعل قد لا يتطور بقدر ما يحفر في علاماته وعلاقاته.
الخشبة متقشفة. وكذلك عناصرها السينوغرافية: شاشة. حبل ممدود في مقدمة المسرح وراء قضبان غير غليظة (لتوحي بأنها قضبان وهمية أو دلالية)، إضاءة مقتصدة، كل ذلك جعل الممثل يسود. (أي النص)، وجعله يستند الى حضوره وأدائه، وليس الى بهرجات سينوغرافية، أو آلات ديكور أو العاب إنارة أو إضاءة أو مؤثرات باذخة. وقد تمكن الممثل المغربي عبد السلام الصحراوي من اختزال كل "مفقودات" المسرح، بحضور قوي، متمكن، متنوع، يعرف كيف ينتقل من حالة الى حالة، من دون فجوات أدائية (أو إيقاعية)، ويبرع في تلوين تحركاته، ونبراته، (ونبره) وإمكانيات صوته من الصرخة (لا الزعيق)، الى الهمهمة فإلى الصمت.
فاطمة
ـ "فاطمة" (إخراج عوني كرومي، فلسطين)، مونودراما أخرى تحكي قصة امرأة فلسطينية تذهب الى ألمانيا من بيروت، حيث تقيم مع أهلها (آتية أو مهجرة من يافا)، وتتخصص وتدرس وتصبح دكتورة. وعندما تعود الى العالم العربي، الى سبع مدن عربية، تقابل بالرفض. أو بالأحرى تصطدم بالواقع المرير، فتصيبها أزمة نفسية، وتعود الى ألمانيا، للعلاج. وفي لحظة خروجها من المستشفى تروي حكايتها وحكاية أهلها والشعب الفلسطيني.
الموضوع مألوف. والنص كذلك. وكان يمكن وضمن هذا المألوف تقديم عرض مقبول، لا سيما وان مخرجه العراقي عوني كرومي قدم أعمالا بارزة كـ "الكرسي الهزاز". لكن بدا العرض مسطحاً، يفتقد الجهد، والرؤيا، والوقت الكافي لنضج عناصره، وأداء الشخصية الوحيدة (الممثلة). عمل كان يمكن أن يستغني كرومي عن تقديمه بهذه العجالة، الى مهرجان دولي. بل انه بدا لي أن هذا العمل لم يستغرق العمل فيه أكثر من أسبوع أو أيام... أو أسبوعين.
سالومي
ـ "سالومي" (اوكرانيا). لا اعرف لماذا قدم هذا العمل المونودراي على المسرح المكشوف العريض، الذي يصلح عادة للأعمال الاستعراضية، أو الإيقاعية، ذات المجاميع والعناصر السينوغرافية والمشهدية الكبيرة. فالممثل بدا، أولا، ضائعاً في وفرة المكان الفسيح. كأنما ابتلعه منذ اللحظة الأولى مكانه. وابتلع معه ديكوره المؤلف من 3 طاولات وبضع كراسي يطغى عليها "اللون الأحمر" (رمز الدم كما فهمت).
الممثل الوحيد يلعب دورين (أو دوراً مزدوجاً). خباز يهيئ عجينة لمأدبة بدا من خلال طاولة الطعام أنها تنتظره. هذه العجينة يتعامل معها طويلاً، مع تخلل بعض الحركات والايماءات والتمثيل الصامت حتى ينتهي منها. وعندما تصبح جاهزة للأكل تكتشف أنها ترمز الى رأس "أبوحنا" (الذي قطع رأسه بسبب الراقصة سالومي). وهذا ما يخيف الجنازة الذي يتحول الى شخصية أخرى، لا سيما وان اللونين الأبيض: (الشراشف)، والأحمر (الكراسي، وأسفل الطاولات) يوحيان ببياض النقاء من جهة، وبالقتل من جهة أخرى. وفجأة (المسرحية من 40 دقيقة أو أقل)، يتماهى ربما الممثل مع شخصية يوحنا... وعندها يترك الدائرة الوسطية الى الجمهور (وهذه هي الذريعة الوحيدة التي يمكن أن تبرر تقديمه عمله على مسرح المكشوف الفسيح)، ليوزع عليه... أو جسد القديس (أو جسده) أو رأسه... مع إطلاق موسيقى مؤثرة ترافق هذه "الأعجوبة"، أو هذا التحول.
فكرة العمل: العجينة ومعالجتها أمام الجمهور، والتمثيل الصامت عموماً، مع بعض النصوص القصيرة، كان يمكن أن تشكل عملاً مميزاً، لو لم تنحصر مفردات العرض بحيزها المحدود والضيق، وارتهانها لرمزية محددة، حالت دون توسعها وتفتحها على عناصر أغنى وأثرى وأعمق.
أما الممثل، فقد أعطى كل ما يستطيع من براعة وتنويع ومهارة وتمكن... ولكن الممثل وحده لا يصنع عملاً ناجحاً دائماً.
سيدان من فيرونا
ـ "سيدان من فيرونا" (شكسبير بولندا) اعتاد جمهور المهرجانات المسرحية العربية وخصوصاً مهرجان القاهرة التجريبي أن ينتظر أعمالا مجترحة وكاسرة، وخطرة، ومتجاوزة من المسرح البولندي (سليل غروتوفسكي). ولهذا احتشد الناس أمام المسرح قبل نصف ساعة من بدء العرض ليتسنى لهم ضمان مقاعد لهم في قاعة محدودة المقاعد. وازداد الأمر تشويقاً عندما عرفنا أن العرض سيبدأ من الخارج (من الباحة) الى الداخل. ومع أن هذه اللعبة معروفة جداً ومستهلكة جداً حتى من المسارح العربية، إلا أننا انتظرنا شيئاً مختلفاً وجريئاً وربما خارقاً. وأخيراً... جاء حنطور (عربة) يحمل في ما يحمل بعض الشخصيات والممثلين على هيصة واحتفالية... عندها بالذات خفت. وقلت لصديقي الممثل المصري الكبير احمد عبد الحليم، "الله يسّتر"!. وكان "الله يسّتر" في مكانها. دخلنا بعد عجقة، وزحمة، الى القاعة التي قدمت خشبتها لتخترق 5 مقاعد المتفرجين من خلال لسان خشبي ينفي أيضا الى خارج الخشبة. وجلسنا وفي المقدمة أيضا، وعادة ما اجلس في المقاعد الخلفية وقرب باب الخروج لكي... أتسلل الى الخارج إذا داهمتني في أي مسرحية "دهماء" مرعبة.
وكان ما كان: نص شكسبير المعروف، أي كوميديا "سيدان من فيرونا" باللغة البولندية. لا مشكلة! خصوصاً وان الحكاية معروفة. ولكن التجريب هنا، إذا كان من تجريب، ثم على نص كلاسيكي. لا بأس. فهذا أيضا معروف ومشغول بمئات الأعمال شرقاً وغرباً. ولكن المخرج اشتغل على النص الكلاسيكي برؤيا كلاسيكية أيضا. عمل كلاسيكي بامتياز: إشعار كل الأدوات الكوميدية القديمة: الكوميديا دي لارتي، المبالغة، التضخيم، الغناء، الموسيقى، لعب السيوف (المبارزة)، كوميديا الحركات، والمواقف الدقيقة اذاً أنت أمام عمل كل عناصره معروفة، فهل ينجح في "أسرك" أو في شوك؟
الواقع أن هذا العمل الخالي من "مدارس" التجريب الحديثة، استطاع أن يكون عملاً كلاسيكياً محترفاً. بالمعنى التمثيلي. والمهني، وحتى التجريدي في استخدام بعض الأدوات السينوغرافية". تجريب "كلاسيكي على نص كلاسيكي نظيف، مشغول، مصقول، مدروس، حي. وقد تمكن الممثلون، ببراعة فائقة، وبليونة، وطواعية، وقوة، وتنوع، ودقة، من تقديم عمل ذي إيقاع مشدود، موصول، جميل، ومؤنس، وممتع...
لكن ماذا نفعل، إذا كنا ننتظر شيئاً آخر من أهل بولندا. وماذا يفعل الجمهور الذي بدأ ينسحب منذ ربع الساعة الأولى فخلت المقاعد الخلفية تقريباً كلها، ماذا يفعل إذا صدم... بعمل انتظر سواه، وإن كان هذا العمل "بهيجاً". فالبهجة لا تكفي أحيانا.
بل ماذا يمكن أن تفعل إن انتظرت غروتوفسكي أو من شابهه... فجاء يوسف وهبي!
المستقبل 27 أيلول 2004
إقرأ أيضاُ